تصوف: روحانی انقلاب
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
اصناف
من هذا الصنف الملهم المتصل بالعالم الروحي طائفة الصوفية، لا صوفية الإسلام فحسب، بل صوفية كل دين. أما الهدف الذي يهدفون إليه ويكرسون حياتهم له، فهو الوصول إلى الحقيقة، أو الاتصال بها عن طريق حالة روحية خاصة يدركونها فيها إدراكا ذوقيا مباشرا. في هذا المطلب تتمثل الحياة عندهم ومن أجله يبذلون كل عزيز لديهم بما في ذلك أرواحهم، ولسنا بحاجة إلى ذكر أمثلة من تاريخ الاضطهاد الديني الذي لاقى فيه أولئك الذين حملوا الشعلة المقدسة ضروب العنت والاضطهاد من معاصريهم، بل لاقوا حتفهم شنقا أو صلبا أو إحراقا، فإن تاريخ الإنسانية حافل بالكثير من هذه الأمثلة.
أما الدليل القاطع على صدق نزعتهم فاستمساكهم بمبادئهم وتشبثهم برسالاتهم رغم أساليب الاضطهاد والتعذيب والسخرية، وأمام عواصف الإنذار والتهديد، وإن تلمسنا دليلا آخر على صدقهم، فاتفاقهم في غاياتهم وأساليبهم رغم اختلاف ديارهم وأجناسهم وأديانهم، وفيما أثر عنهم من التجارب الروحية التي تختلف في تفاصيلها وأشكالها وصورها، وتتفق في جوهرها ونتائجها، دليل ثالث لا بد لنا من تقدير وزنه قبل أن نقول الكلمة الفاصلة عن النشاط الروحي عند الإنسان وصلته بذلك العالم غير المادي وغير المحسوس.
والواقع أن كل إنسان قد أحب يوما ما ذلك «الوجود المحجوب» الذي يطلقون عليه اسم «الحقيقة»؛ ذلك لأن الحقيقة شيء أولع الإنسان بالاهتداء إليه منذ أن بدأ يفكر في نفسه وفي العالم المحيط به ليتعرف أسبابه وأسراره ومبدأه ومصيره، ولكن هذا الحب المتأصل في النفس الإنسانية، الذي من شأنه أن يدفع بصاحبه نحو البحث عن الحقيقة لمعرفتها والاتصال بها - كما تدفعه غريزة الجوع دفعا إلى البحث عن الطعام - قد تعوقه العوائق عن الوصول إلى غايته فيضعف أو يموت، ولكنه إن مات في بعض النفوس فقد يظل يضطرب في نفوس أخرى مع اختلاف أصحابها اختلافا بينا في طرق حبهم للحقيقة، وفي المجالي التي يشاهدونها فيها. فقد يرى بعضهم الحقيقة على نحو ما رأى «دانتي» الشاعر الإيطالي محبوبته «بياترس» شيئا يمت إلى هذا العالم بصلة، ولكنه يكشف لنا عن عالم آخر، وقد يراها الشاعر في حلمه الشعري، والمتدين الورع في محرابه، والصوفي في قلبه، ورجل الفن في جمال الكون وهكذا.
ولكن مهما اختلفت الأساليب التي عبر بها طلاب الحقيقة، ومهما تباينت الأسماء التي يسمونها بها، فإن الصوفية وحدهم هم الذين يذكرون صراحة أنهم شاهدوها وجها لوجه واتصلوا بها، وفي دعواهم هذه نغمة من اليقين وصدق الإيمان. أما غيرهم - في نظرهم - فقد أخفقوا وباءوا بالفشل.
والبحث عن حقيقة لا مادية ولا متغيرة، وأزلية غير حادثة، وواحدة غير متكثرة، قديم قدم الفلسفة، بل قدم العقل الإنساني؛ ذلك أن العالم المحسوس حافل بالظواهر المتكثرة المتغيرة، وطالب الحقيقة المطلقة يطلبها واحدة غير متكثرة، وثابتة غير متغيرة، والعالم المحسوس حافل بالأحداث المعلولة، وطالب الحقيقة يطلبها غنية في ذاتها غير معلولة لغيرها، والعالم المحسوس متناه محدود بحدود الزمان والمكان، وطالب الحقيقة يطلبها وجودا لا متناهيا خارجا عن حدود الزمان والمكان؛ لهذا كله تجاوز العقل البشري في طلبه للحقيقة كل مقولات العالم المحسوس، وأخذ نفسه بالبحث عن عالم آخر يستطيع أن يطبق عليه مقولات مضادة، وظهر ذلك التجاوز عن العالم المحسوس في جميع أدوار تطور الفكر البشري من غير استثناء، واتخذ لنفسه صورا شتى كانت بدائية في أول الأمر، ثم رقت وتعقدت بمرور الزمن وتطور الحضارة وتعقدها، وكان منها الفلسفي والديني كما كان منها الصوفي ذو النزعة الدينية.
التصوف والفلسفة
من بين الأساليب المتعددة التي حاولت الإنسانية أن تشبع بها رغبتها في معرفة «الحقيقة» أسلوبان هامان لا يزالان يتنازعان قصب السبق في مضمار الحياة الروحية وما يكتنفها من أسرار، وهما أسلوبا الفلسفة والتصوف.
وإذا كان غرضنا أن نرسم صورة لمعراج النفس نحو هدفها الأعلى ونبين - على الأقل - بعض الطرق التي سلكها رواد الحقيقة للوصول إليها، كان لزاما علينا أن نوضح الفروق الجوهرية التي يتميز بها كل من التصوف والفلسفة، والوسائل التي اصطنعاها في الوصول إلى غايتهما المشتركة، والأدوات النفسية التي اتخذاها عمادا لهما في تحقيق غرضهما، ثم نقدر بعد كل هذا النتائج التي حصلها الفلاسفة والصوفية بهذه الأدوات والوسائل ليتبين لنا مدى قرب كل من الفريقين أو بعده من الهدف الذي نصب نفسه للوصول إليه، ولكن هذه مسائل يحتاج تفصيلها إلى كتاب برمته؛ ولهذا سنلجأ في عرضها هنا إلى الإيجاز وسنقصر همنا على معالجة النواحي التي تكفي في بيان أن المعراج الروحي الحقيقي إلى عالم الحقيقة هو المعراج الصوفي لا الفلسفي.
التصوف في جوهره «حال» أو «تجربة روحية» خاصة يعانيها الصوفي، ولتلك الحال من الصفات والخصائص ما يكفي في تمييزها عن غيرها مما تعانيه النفس الإنسانية من أحوال أخرى، وفي هذا القدر وحده ما يكفي للقول بأن التصوف ليس فلسفة إذا قصدنا بالفلسفة البحث العقلي النظري في طبيعة الوجود بقصد الوصول إلى نظرية عامة خالية من التناقض عن حقيقته أو حقيقة أي جزء من أجزائه، وليس للصوفي - من حيث هو صوفي - أن يتفلسف بأن يتخذ من تجربته الروحية أساسا لنظرية ميتافيزيقية في طبيعة الوجود؛ لأن النظرية الميتافيزيقية «دعوى» يقال لها إنها صادقة أو كاذبة ويطالب صاحبها بالدليل على صدقها وسلامتها من التناقض، فينبغي ألا يكون أساسها «تجربة» شخصية أو «حالا» معينة يعانيها فرد بعينه؛ لأن مثل هذه الحال لا يقال فيها إنها صادقة أو كاذبة ولا يطالب صاحبها بإقامة الدليل عليها، بل الناس في أمره بين شيئين؛ إما أن يصدقوا ما يخبرهم به أو يضربوا بكلامه عرض الحائط.
ولكن بعض الفلاسفة كانوا متصوفة أيضا كأفلاطون وأفلوطين من القدماء وأسبنوزا من المحدثين، وبعض الصوفية كابن عربي والسهروردي الحلبي وابن سبعين، هل نذهب في تعليل ذلك إلى ما ذهب إليه بعض النقاد من أن أمثال هؤلاء الفلاسفة المتصوفين والصوفية المتفلسفين كان لهم بالفطرة «مزاج أفلاطوني»: أي مزاج فلسفي شعري، وأن تصوفهم كان نتيجة لتفاعل ذلك المزاج مع الدين؟ أم نذهب إلى عكس ذلك؛ أي إلى أن مزاجهم - مزاجهم الأفلاطوني - كان نتيجة للتفاعل بين نزعتين فيهم؛ إحداهما عقلية والأخرى صوفية؛ وعلى الرأي الأول يكون تصوفهم نتيجة لعمل فلسفي خاص في الدين، وهو المزاج الذي يسمونه بالمزاج الأفلاطوني، وعلى الثاني تكون فلسفة المتصوفة نتيجة لمحاولة العقل تفسير التجربة الصوفية وما تكشفه لصاحبها من الحقائق، ويلزم من هذا أن التجربة الصوفية سابقة في وجودها على حركة العقل التفسيرية هذه، ونحن أميل إلى الأخذ بالرأي الثاني؛ لأنه تؤيده الوقائع التاريخية المستخلصة من حياة الصوفية أنفسهم: وضع أفلوطين فلسفة عقلية أولا، فلما تصوف تجاوز حدود هذه الفلسفة وحاول أن يخضع فلسفته لتصوفه لا تصوفه لفلسفته؛ أي حاول أن يجعل من تصوفه تأييدا لفلسفته ومن فلسفته تفسيرا لما شاهده في «حاله»، وكذلك فعل ابن عربي، وكذلك رأى الغزالي أن «العلم» وحده لا يجعل من العالم صوفيا، وأن جميع ما حصله من العلوم - بما في ذلك علم التصوف نفسه - لا يغني فتيلا في تحصيل حالات الصوفية والوصول إلى معارفهم، وأنه - لكي يتذوق مذاق القوم - لا بد أن يسلك طريقهم ويجاهد مجاهداتهم، وفي هذا يقول في الصوفية بعد أن درس كتبهم ووقف على أقوالهم:
نامعلوم صفحہ