تصوف: روحانی انقلاب
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
اصناف
المسألة إذن ليست مسألة صدق وكذب، أو صواب وخطأ، بل هي مسألة عمق أو ضحالة في درجة الروحانية التي تظهر في فهم الإسلام وتعاليمه كما نراهما مفصلين في التراث العقلي والروحي الذي خلفه المسلمون. •••
ولما كان التصوف في نظري أروع صفحة تتجلى فيها روحانية الإسلام، وتفسيرا عميقا لهذا الدين فيه إشباع للعاطفة وتغذية للقلب، في مقابلة التفسير العقلي الجاف الذي وضعه المتكلمون والفلاسفة، والتفسير الصوري القاصر الذي وضعه الفقهاء، كتبت هذه الصفحات لأبرز فيها بعض معالم الصورة التي يتلخص فيها موقف الصوفية من الدين والله والعالم: ذلك الموقف الذي رضيه الصوفية واطمأنوا إليه وطالبوا به أنفسهم ولم يطالبوا به غيرهم، وسميت هذا الموقف «الثورة الروحية في الإسلام» لأن التصوف كان انقلابا عارما على الأوضاع والمفاهيم الإسلامية كما حددها الفقهاء والمتكلمون والفلاسفة، وهو الذي بث في تعاليم الإسلام روحا جديدة أدرك مغزاها من أدركه، وأساء فهمها من أساءه.
ولست أدعي أنني عالجت في هذه الصفحات التصوف برمته من ناحية موضوعاته أو تاريخه، فإنني لم أتجاوز في العرض متصوفة القرن السابع إلا قليلا، ولم أذكر شيئا عن الطرق الصوفية ومشايخها، وكان معظمهم من كبار الروحانيين، وذلك لأني لا أرى في تصوفهم الكثير مما زادوا فيه على الصوفية السابقين عليهم، ولم أعرض للنواحي التاريخية المتصلة بترجمات الصوفية إلا في أضيق الحدود. أما تفاصيل سيرهم فقد أغفلتها إغفالا تاما.
ولم أذكر من الصوفية إلا من كانت لهم صلة بالمسائل التي أثرتها وناقشتها، ولكني كنت حريصا أن أذكر أكبر عدد من كبار المشايخ في القرنين الثالث والرابع اللذين يمثلان التصوف الإسلامي البحت في أرقى مظاهره وأصفاها؛ ولذا جاء الجزء الأكبر من مادة الكتاب متصلا بتصوف هؤلاء أكثر من اتصاله بغيرهم.
وبعد، فهذه محاولة لفهم التصوف وحياة الصوفية في الإسلام كما استطعت أن أستجلبها من أقوالهم، وعرض عام للصورة التي يظهر فيها اختلافهم عن غيرهم من طوائف طالبي الحقيقة كما يسميهم الغزالي، في فهمهم لهذه الحقيقة ومنهجهم في الوصول إليها، وقد يذهب بعض الباحثين إلى غير ما ذهبت إليه من تأويل لبعض أقوال الصوفية أو تخريج لها أو تعليق عليها أو في استخلاص هذه النظرية أو تلك منها، فقد ذكرت من قبل أن باب الاجتهاد في هذا النحو من البحث لا يزال مفتوحا، وإنني أرحب بالمعارضة ولا أرى فيها بأسا ما دامت حجج المعارض نزيهة قوية سليمة مدعمة بالأسانيد، والتدعيم بالأسانيد المستمدة من القرآن والحديث وأقوال الصوفية أنفسهم كان ألزم ما التزمناه في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.
مقدمة في ماهية التصوف ومنهجه
التصوف ظاهرة عالمية
من الناس أفراد يتمثل فيهم النضج العقلي والروحي في أعلى مراتبه، أو قل تتمثل فيهم الإنسانية في أعلى مراتبها وأطوارها إذا اعتبرنا جوهر الإنسان وحقيقته عقله وروحه، وقد اختلفت الأسماء التي أطلقت على هؤلاء الأفراد في العصور المختلفة، ولكنهم جميعا يدخلون تحت مقولة عامة هي التي نسميها «الإنسان الكامل»، ومهما تكن المظاهر المختلفة التي يظهر فيها نضجهم الروحي، والوسائل المتباينة التي يتخذونها في التعبير عنه، بل مهما يكن من اختلافهم فيما يختلف فيه أفراد الناس عامة من حيث المشارب والنزعات والبيئة واللغة والدين، فإنهم يشتركون جميعا في صفة واحدة عامة تتمثل في موقفهم من الوجود وحقيقته: ذلك أن لكل إنسان - بما هو إنسان - موقفا خاصا من حقيقة الوجود، أو فلسفة خاصة في طبيعة الوجود، أدرك ذلك من نفسه أم لم يدركه، وعرف أن له من أجل ذلك فلسفة في الحياة أم لم يعرف. ذلك الموقف الواحد العام الذي يشترك فيه هؤلاء القوم الذين نتحدث عنهم يتلخص في أنهم ينكرون إنكارا باتا أن «الحقيقة» هي ذلك العالم الواقع المحسوس؛ لأن الواقع المحسوس الذي يتشبث به غيرهم ممن هم أقل منهم نضجا في العقل والروح ويكادون يقدسونه، لا يشبع في طائفتنا نزعاتهم الروحية العالية، ولا يروي فيهم غلة الشوق إلى معرفة «الحقيقة» المجردة التي تصبو نفوسهم إلى معرفتها والاتصال بها. فهم يحاولون - على حد قول خصومهم - أن ينكروا الوجود لكي يصلوا إلى الوجود؛ أي ينكروا الوجود الظاهر لكي يصلوا إلى حقيقة الوجود.
نجد هؤلاء القوم في الشرق والغرب، في العالم القديم والمتوسط والحديث بين أهل الديانات الوثنية القديمة وأهل الديانات السماوية، وكأنهم جميعا صبوا من حيث روحانيتهم في قالب واحد، واستمدوا تلك الروحانية من نبع واحد، بل كأن قبسا من نور غير نور هذا العالم يسري في كيانهم، وينير السبيل أمامهم لنيل مطلبهم، وهذه الظاهرة طالما استرعت أنظار القدماء وأشارت إليها مذاهب اللاهوت بأساليب مختلفة. ففلاسفة اليهود - وعلى رأسهم فيلون الإسكندري - يرون أن مصدر الوحي والنبوة واحد في جميع العصور هو ما أطلقوا عليه اسم «الكلمة الإلهية»، وكلمنت أحد كبار رجال اللاهوت المسيحي يصف «الكلمة الإلهية» (المسيح) بأنها القوة العاقلة التي كانت في الوجود قبل أن تتجسد في الصورة الناسوتية (صورة المسيح) وأنها مصدر الحياة والوجود في الكون، كما أنها مصدر الوحي والإلهام والمعرفة، وأنها هي التي تكلمت بلسان موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء، ونطقت بلسان فلاسفة اليونان وأوحت إليهم بحكمتهم، ويصف بعض متصوفة المسلمين كابن عربي «الحقيقة المحمدية» بمثل ما وصف به فيلون وكلمنت «الكلمة الإلهية»، فيعدها منبع الفيض الروحي والعلم الباطن، وكذلك يتصور الشيعة انتقال العلم الباطن بواسطة نوع من الوراثة الروحية عن أصل واحد.
فإن دلت هذه الآراء على شيء فإنما تدل على اقتناع قائليها بأن ثمة طائفة من الظواهر الروحية فوق الطور البشري العادي، وأنها متفقة في خصائصها ومميزاتها، ثم رد هذه الظواهر إلى أصل واحد يظهر في كل من أفراد «الإنسان الكامل» بحسب ما توحي به بيئته ودينه وثقافته، كأن هؤلاء الأفراد الذي يلهمون ويوحى إليهم ويتصلون بعالم الحقيقة عن طريق الوحي والإلهام، فرد واحد يتجدد ظهوره مع دورات الزمن، أو كأنهم روح واحدة تتقمص في كل زمان صورة جديدة من صور «الإنسان الكامل».
نامعلوم صفحہ