يجب أن نتوسع في آفاقنا الفكرية كي نزيد فهما للبؤرة الدراسة التي نتخصص فيها، وأيضا كي نستمتع بالاتزان النفسي والذهني الذي يحد التخصص منه.
وكثيرا ما تحدنا الحرفة كما تحد القضبان الحديدية القطار الذي يسير عليها، حتى تعود حرفة الكسب كأنها سيرة الحياة، فلا نعرف من الدنيا غير حرفتنا، فهي مادة تفكيرنا، ومنتهى آمالنا، وطريقة معيشتنا، وعندئذ يؤدي ضيق الحرفة إلى ضيق الحياة.
أي يجب أن نكون موسوعيين نحاول أن نعرف كل شيء، ونتطلع إلى كل أفق، نتعلم للحياة وليس للحرفة فقط.
الفصل الثلاثون
من التعميم إلى التخصيص
نحن البشر في حياتنا المدنية، نولد وننشأ في وسط المدينة أو الريف، فإذا كنا أطفالا تشابهت تقاسيمنا وملامح وجوهنا كما تشابه سلوكنا، إلا القليل النادر جدا الذي تبرره فروق الوراثة، فنحن في الطفولة مواد بشرية خامة لم تتبلور ولم تتجوهر.
ثم ندخل المدارس، ونحترف الحرف، ويؤثر الوسط الخاص أثره في كل منا، فنختلف، هذا تاجر، وهذا محام، وهذا حوذي، وذاك مزارع، وهذا كاتب موظف، وذاك مهندس حر.
وكل من هذه الحرف يطبع طابعه في تقاسيم النفس والجسم، ثم تمضي السنوات، عشرون أو ثلاثون سنة، ونحن نلتزم حرفة بسلوكها وأخلاقها التي تقتضيها، وبمرور هذه السنين، تنكشف كالزهرة، من التعميم إلى التخصيص، ومن الحال الخامة العامة إلى حال التبلور والتجوهر.
وكأن هذه الاختبارات التي تمر بنا تصهرنا وتخرج منا الجوهر الخاص، أجل هو الجوهر، ولكنه جوهر الحرفة، وليس جوهر الشخصية.
لذلك عندما نتأمل أحد الناس الذين التزموا حرفة ما ثلاثين أو أربعين سنة لا نكاد نخطئ في تعيين حرفته دون أن نحتاج إلى سؤاله عنها؛ إذ هي تخبرنا، وهو يتحدث؛ لأن لهجة الحرفة عالية عليه، كما نجد من إيماءاته واختيار كلماته جميع الأمارات التي تعلن عن حرفته.
نامعلوم صفحہ