من المشكلات التي لم ترتفع بعد إلى وجدان المثقفين في مصر مشكلة التعليم للمتعلمين، ذلك أن هناك كثيرا من المتعلمين الذين ينقطعون عن الدراسة لأسباب مختلفة، ربما كان من أهمها أن أسلوب الدراسة الذي خضعوا له في المدرسة أو الجامعة كان مرهقا بغيضا، فما هو أن ينال الشاب شهادته ويشرع في كسب عيشه حتى ينسى أو يتناسى عاداته السابقة في اقتناء كتاب أو قراءة مجلة جديدة، وعندئذ يغدو تعليمه أبتر، وهناك آلاف من أمثال هؤلاء «المتعلمين» الذي قد يمضي على أحدهم عشرون سنة لا يقرأ فيها كتابا حسنا، وليس لهم مصدر ثقافي يصدرون عنه ويعتمدون عليه في معارفهم وآرائهم سوى ما سبق أن تعلموه في المدرسة أو الجامعة، وتبقى عقولهم فارغة غير مؤثثة بثقافة عصرية تنير تفكيرهم في المشكلات المتجددة.
وهذا التعليم الأبتر شر من الجهل؛ لأنه يبعث على الزهو السخيف، ولأن المتعلم الناقص يدلي بآراء قديمة لا تتفق والتطورات الجديدة، ويرفض الجهد الذي تتطلبه الدراسة؛ لأنه كف عن الدراسة بل طلقها، في حين أن الجاهل يتواضع ويقبل النصيحة ويرضى ببذل الجهد كي يتعلم.
وقد كنت أعجب وأنا في إنجلترا حين كنت أدخل غرفة الخادمة فأجد بها رفا يحمل خمسين أو ستين كتابا، وحبذا عادة الخدم هذه في إنجلترا تنتقل إلى بعض السادة في مصر حتى يقرءوا ويستنيروا، فإن أشرف ما في الإنسان هو عقله، فيجب أن ننفق على تغذيته مثل ما ننفق على تغذية البطن، ويجب ألا تقتصر هذه التغذية على القراءة للكتب؛ لأن هناك وسائل أخرى كالسياحة، والمحادثة مع المستنيرين الراشدين، وبحث المشكلات الاجتماعية، وزيارة المتاحف، وقراءة الجريدة اليومية ونحو ذلك.
ولكن اقتناء الكتب ودراستها أهم هذه الأشياء.
ويجب أن يسأل الشاب نفسه من وقت لآخر: هل تعليمي أبتر؟ وهل أنا من أبناء 1956 أو 1920؟
الفصل التاسع والعشرون
التوسع في الثقافة
من الأخبار الصغيرة الخطيرة التي يجب أن نوجه النظر إليها؛ ما ذكرته إحدى الصحف الأوروبية من أن شركة شل للبترول في هولندا قد منحت كلا من موظفيها المتخصصين للأبحاث العلمية في مادة البترول مئتي جنيه كل عام فوق رواتبهم، ولكنها شرطت على الموظف أن ينفق هذا المبلغ في أية دراسة أخرى بحيث لا تتصل بموضوع التخصص الذي يقوم به؛ أي: أنه يستطيع أن ينفق هذا المبلغ على دراسة التاريخ أو الفلسفة أو البيولوجية أو الفلك أو غير ذلك.
وقد انتهت الشركة إلى هذا القرار؛ لأنها وجدت أن التفكير الذي يثمر الابتكار والكشف لا يأتي عادة إلا من أولئك الذين يخرجون من المحيط الضيق الذي يقتضيه التخصص إلى الآفاق الواسعة في العلوم الأخرى التي لا تمت بأية علاقة إلى مادة تخصصهم، ذلك أن المتخصص الذي يدرس نقطة معينة يجد في الدراسات الأخرى من الاتجاهات ما يتفاعل مع موضوع بحثه، فتختمر عنده الأفكار وتنضج وتثمر تصورا جديدا لم يكن يصل إليه لولا هذه الدراسات الأخرى.
وما أجدرنا أن نفهم العبرة من هذا الخبر الصغير، فإنه يجب على الطبيب أن يدرس الطب والتاريخ، ولو أن المهندسين الذين أقاموا الخزانات للري في بلادنا وشقوا القنوات، ووفروا الماء للزراعة عرفوا الطب لما تفشت الانكلستوما والبلهارسيا.
نامعلوم صفحہ