ثم أتاح الله لرومة فرصة مناسبة كادت تتخلص بها من استبداد أبيوس وزملائه لولا ضعف عزيمة بعض أعضاء السناتو وعدم ثباتهم، وذلك أن بعض قبائل السابيين والأيك تعدت حدود رومة، فاجتمع السناتو بصفة غير اعتيادية لتقرير ما يلزم لصد الأعداء، وفي الجلسة قام أحد الأشراف الغيورين على حرية وطنه واسمه فلريوس وطعن في هيئة الحكومة التي يرأسها أبيوس وأبان مخالفتها للقوانين وضرورة إبطالها وإعادة الأحكام إلى ما كانت عليه خصوصا، وقد أتمت عملها التشريعي وعلقت الاثني عشر لوحا وختم خطابه قائلا إن أولاد الذين طردوا الملوك لا يخضعون لأوامر غيرهم، فعضده بعض الأعضاء وقاومه آخرون، وبعد مناقشة طويلة تقرر بقاء الهيئة موقتا على ما هي عليه، وأن تسلم لها الجيوش لمحاربة الأعداء فخرجت الجيوش للقتال وعادت بالخيبة لعدم كفاءة قوادها وعدم ثقة الجند بهم.
وبعد ذلك بقليل ارتكب أبيوس امرأ استبداديا يدل على تجرده من الشرف والذمة وكان السبب في نفور الأمة منه، وهو أنه أحب فتاة تدعى (فرجينيا) ابنة أحد الأعيان، فأوعز إلى أحد أتباعه أن يدعيها رقيقة له فيحكم له هو بذلك ويسلمها إليه ثم يردها إليه ليقضي منها أربه، فصدع التابع بأمره ورفع دعواه إليه فحكم بملكيته لها مع قيام الأدلة واتفاق الشهود على أنها حرة النسب.
فلما رأى والدها أن لا بد من تسليمها إليه فضل أن يقتلها ويعدمها الحياة على ما يلحقها ويلحق عائلتها من العار لو سلمها إلى هذا الباغي، فعمد إلى دكان قصاب وأخذ منها سكينا طعن بها ابنته وفلذة كبده طعنة كانت القاضية، ثم حمل جثتها ودمها البريء يسيل في الطريق حتى وصل إلى الفورم، وهناك اجتمع عليه الأهالي فأظهر لهم حقيقة الحال وشرح لهم تدبير هذه المكيدة بمعرفة أبيوس، فاستفزت الغيرة الحضور وهاج الشعب ضد هذا الباغي ومعضديه وانضم إليهم الجيش وطلب الجميع بلسان واحد إسقاط هذه الهيئة وإعادة الأحكام إلى سابق مجراها، فتوقف أبيوس قليلا لمساعدة بعض أعضاء السناتو الذين كانوا يخشون إعادة سلطة نواب الأمة (التريبان)، ثم انصاع خوفا من حصول ثورة أهلية تكون عاقبتها أكثر وخامة عليهم، واستقال هو وباقي أعضاء الحكومة الموقتة في سنة 448، وعاد الموظفون الأصليون إلى مناصبهم، ولنذكر الآن بطريق الإيجاز ملخص ما دونوه من القوانين في الاثنتي عشرة لوحة، وعلى من يريد الوقوف عليها تفصيلا أن يراجع القانون الروماني .
أهم ما جاء بهذه الألواح تقسيم الأملاك إلى عمومية وخصوصية وعدم جواز امتلاك العمومية بالمدة الطويلة مطلقا، وتملك الأراضي الخصوصية بوضع اليد عليها مدة سنتين فقط بشرط أن يكون واضع اليد رومانيا لا أجنبيا، أما الأجانب فلا يمكنهم امتلاك أراضي الرومانيين بالمدة مهما طالت، ولذلك كان الأجانب يسعون دائما في التجنس بالجنسية الرومانية حتى لا ينازعوا في أملاكهم بعد سنتين، والقصد من ذلك أمران: أولهما حمل الأجانب على طلب الدخول ضمن العشيرة الرومانية، وثانيهما - وهو الأهم - عدم إهمال الملاك أراضيهم خوفا من امتلاك الغير لها، فلا تهمل الأرض بل يعتنى بزراعتها واستغلالها فتزداد العمارية وتنمو الثروة، أما المنقولات والعبيد فتملك بوضع اليد مدة سنة واحدة، وأبقت القوانين الجديدة كافة حقوق رب العائلة على زوجته وأولاده وعبيده على ما كانت عليه من الإطلاق وعدم التقييد، ولم تبطل ما كان متبعا من جعل المدين رقا لدائنيه يبيعونه ويقتسمون ثمنه أو يقتلونه ويقتسمون جثته مع ما في هذه العادة من التوحش، وأجازت قتل اللص لو فوجئ ليلا حال تلبسه بالسرقة ونهارا لو حصلت منه مقاومة عند ضبطه، أما في مسائل الجروح والضربات وإتلاف الأعضاء فقررت بمجازاة المثل؛ أي العين بالعين والسن بالسن وهكذا ما لم يرض الجاني المجني عليه بالمال، إلى غير ذلك من الجزاءات.
وأهم ما جاء فيها في صالح الشعب مما كان يسعى وراءه هي المساواة في التقاضي والمحاكمة بين جميع الأفراد سواء في ذلك الرفيع والوضيع والشريف وغيره، فأبطل التمييز في التقاضي وصار القانون واحدا يخضع الجميع أمامه، وأهم من ذلك أنها جعلت جميع الأحكام قابلة للاستئناف أمام الأمة في جمعيتها العمومية، وأنها هي دون غيرها التي تحكم بالإعدام، وأن ما يقرره الشعب يكون قانونا عموميا على جميع الأهالي، وأن شاهد الزور والقاضي الذي يحيد عن الحق ويتبع سبيل الغرض أو يقبل الهدية يلقى من مكان شاهق.
وبذلك تحصلت الأمة على المساواة في الأمور المدنية التي لا يوجد عدل أو إنصاف إلا بها، إلا أنها لم تتحصل هذه الدفعة على المساواة في تقلد المناصب، بل ظلت الوظائف منحصرة في طبقة الأشراف، فمنهم القناصل (رؤساء الجمهورية) وأعضاء السناتو والكهنة والقضاة، وكذلك بقي الزواج ممنوعا بين الأشراف وغيرهم غيرة منهم على عدم الاختلاط مع أفراد الشعب وبقاء المناصب محتكرة في طبقتهم، لكن من يتأمل فيما نالته الأمة من الحقوق تدريجيا بثباتها واتحادها يحكم لأول وهلة أن لا بد من حصولها على جميع حقوقها الطبيعية التي كان منحها لها الملك سرفيوس وسلبها إياها تركان، فإن الحقوق لا بد من الحصول عليها يوما ما مهما اشتدت المعارضات، والنصر ينتهي دائما للحق ضد القوة، ولو فازت القوة بالغلبة فإلى حين إذ الحق يعلو ولا يعلى عليه.
وبعد استقالة الحكومة الاستثنائية كما سبق شرحه توجه عضوان من السناتو محبوبان لدى الأمة وهما فلريوس وهوراسيوس إلى محل اجتماع الأمة ووعداها بإعادة انتخاب نواب الأمة العشرة مع حق استئناف جميع الأحكام أمام الأمة، وبالحصول على العفو المطلق عن جميع من اشترك في الهياج الأخير فانشرحت الأمة لهذه الوعود، لكنها احتلت قلعة الكابيتول ريثما ينفذ السناتو ما وعد به، فاستدعى السناتو الأهالي للاجتماع لانتخاب نوابهم، فاجتمعوا وتم الانتخاب على الطريقة القديمة ثم انتخب فلريوس وهوراسيوس السابق ذكرهما قنصلين وبذلك عادت الأحكام إلى سابق مجراها، ثم استصدر هذان القنصلان عدة قوانين ضامنة حرية الأهالي وعدم مساسها بسوء، أهمها أن كل من يسعى في تعيين حكام مطلقين تكون أحكامهم غير قابلة للاستئناف يجازى بالموت، وكذلك من يتعدى بالإيذاء على أحد نواب الأمة، وأن الحاكم الذي لا يجمع الأمة في آخر السنة لانتخاب نوابها يجازى بالجلد ثم يقتل، وأن جميع قرارات السناتو ينسخ منها صور يصدق عليها نواب الأمة وتحفظ بهيكل (سيريس) منعا لحصول الغش والتزوير فيها.
ولما توطدت الحرية وصار لا يخشى عليها قال فرجينوس والد فرجينيا الذي قتلها تخليصا لها من الوقوع في أيدي من لا يصون عرضها ويحافظ على شرفها، واتهم أبيوس رئيس الحكومة الاستثنائية الملغاة أمام الأمة بتحريض المدعي بملكيتها والتحيز له في الحكم قضاء لغرضه، فسجن أبيوس انتظارا للحكم على ما اقترفه، ولتحققه بما سيحكم به عليه قتل نفسه في السجن فرارا من العدالة، وكذلك أحد رفاقه العشرة، أما الباقون الذين ساعدوا أبيوس على استبداده فخرجوا من المدينة خوفا من المحاكمة وصودروا في أملاكهم.
وفي أثناء ذلك حارب هوراسيوس قبائل السابيين وانتصر عليهم نصرا مبينا أوقع الرعب في قلوبهم حتى لم يقدموا على محاربة الرومانيين مرة أخرى مدة مائة وخمسين سنة، ولما عاد منصورا لم يقبل السناتو أن يعمل له موكب حسب المعتاد انتقاما منه لمساعدة الأهالي في طلباتهم ضد الأشراف، فقررت الأمة ذلك في جمعيتها العمومية خلافا للعادة واحتفل به احتفالا شائقا، واعتبر هذا القرار قاعدة تتبع في المستقبل، وكان هذا الأمر قبل ذلك من حقوق السناتو ليس إلا.
وفي هذه السنة تعدت الأمة على أهم اختصاصات هذا المجلس وهو الإقرار على الحرب الذي كان له دون خلافه حتى في عهد الملوك، وبهذه الطريقة زادت حقوق الأمة كثيرا عن ذي قبل، وكانت كلما تحصلت على حق أو امتياز تنساق بحب التقدم والارتقاء إلى طلب غيره، وتثبت في المطالبة بالطرق السلمية تارة، وبالهياج والثورة أخرى حتى صارت هي صاحبة القول الفصل والسلطة الحقيقية في الحكومة كما يجب أن يكون الأمر في كل حكومة جمهورية.
نامعلوم صفحہ