وحيث كانت أزمة الحكومة في أيدي طبقة الأشراف كان الحيف والظلم دائما على فقراء الأهالي؛ ولذلك اجتمع نواب الأمة (تريبان) واتفقوا على أن يطلبوا من الحكومة تعيين لجنة مؤلفة من عشرة متشرعين يكلفون بتدوين العوائد القديمة وتقنينها وترتيبها بطريقة يسهل فهمها على العموم، فلا يمكن للقضاة التلاعب بالأحكام، ثم ينشر هذا القانون ويعلق في الفورم ليكون معلوما للخاص والعام، واختار النواب أحدهم المسمى ترنتليوس أرسه لعرض هذا الطلب والسعي في الحصول عليه فقام بهذه الدعوة في سنة 461، لكن لم يصادف طلبه قبولا لدى مجلس السناتو، بل رفضه رفضا باتا وتحزب بشأن الأشراف ضد هذا المشروع تحت زعامة (سيزون) ابن سنسناتوس فصاروا يتجمهرون في الفورم ويشوشون على الأهالي في اجتماعاتهم ويمنعون مداولاتهم، فاتهم بعضهم سيزون بضرب أحد نواب الأمة في إحدى هذه المناوشات، واتهمه آخر بإصابة أخ له طاعن في السن بعربته لقتله، وأشاعوا هذه التهم في الفورم فهاج الأهالي وطلبوا محاكمته فهرب إلى جهات إتروريا سنة 460 فرارا من العقاب وهو القتل جزاء تعديه على أحد نواب الأمة حال تقلده منصب النيابة كما كانت تقضي بذلك القوانين.
ولما هاجر أخذ يفكر في الانتقام من أهل وطنه فاستعان بأحد رؤساء السابيين واسمه هرديينيوس، وأغار على رومة ومعه كثير من المطرودين والمبعدين لشرورهم ومفاسدهم فاحتلوا الكابيتول ثم استخلصه الرومانيون وقتلوا كل من به من الأعداء، ولم تشترك الأمة في هذه الحرب إلا بعد أن وعدها القنصل فالريوس بقبول مشروع النائب ترنتليوس السابق ذكره جزاء مساعدته على طرد الأعداء، لكن لسوء الحظ قتل فالريوس في هذه الواقعة، وعين مكانه سنسناتوس والد سيزون الذي فر هربا من المحاكمة (وربما كان ضمن المقتولين في الكابيتول)، فلم يقم بنفاذ ما وعد به القنصل السابق وطلب من السناتو رفض المشروع فرفض.
إلا أن الأهالي داوموا على إصرارهم وثبتوا في طلبهم وأعادوا انتخاب نوابهم المساعدين على هذا المشروع خمس سنين متوالية، ولما لم تر الحكومة بدا من إجابة طلبهم منعا للمشاغب والفتن الداخلية التي تجرئ الأعداء على محاربتها عمدت إلى الحيلة والخديعة، فقررت أن يكون عدد نواب الأمة (التريبان) عشرة حتى يمكنها التفريق بينهم فيكون عدم اتحادهم مضعفا لقوتهم ومقللا من نفوذهم، لكن فطن الأهالي لهذه الحيلة فزادوا اتحادا وتضافرا على المطالبة بحقوقهم.
وفي سنة 484ق.م طلب النائب (إسليوس) أن توزع أراضي الحكومة الكائنة على مرتفع (أفنتان) على فقراء الأهالي، فقررت الأمة هذا الطلب في جمعيتها العمومية وألزم إسليوس القناصل على عرضه على السناتو وتحصل على تصريح خصوصي بحضور الجلسة التي بحث فيها في هذا الطلب (وكان ذلك غير جائز لنواب الأمة) وبقوة بيانه وبلاغة خطابه أقر السناتو عليه خوفا من حصول ثورة داخلية، وكان لحضور إسليوس مجلس السناتو نتيجة عظمى حيث اعتبر هذا التصريح الاستثنائي سابقة تتبع في المستقبل، وصار لنواب الأمة من ذلك التاريخ الحق في حضور جلسات السناتو للدفاع عن مشروعاتهم، بل وفي طلب انعقاده أيضا في جلسات فوق العادة للمداولة في المشروعات المهمة التي يكون في تأخيرها ضرر.
وبعد ذلك عادت الأمة للمطالبة بمشروع ترنتليوس القاضي بتدوين الشرائع وتقنينها، فماطل السناتو مدة، ثم لما رأى أن ضرر التسويف أكثر من نفعه وأن لا بد من الرضوخ لطلبات الأمة يوما طوعا أو كرها؛ قرر قبول هذا المشروع مبدئيا، وتعيين لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء للسفر إلى مدينة أتينة مقر حكومة الهلين الذين اشتهروا في التواريخ العربية باسم الإغريق، وإلى المدن التي أسسها الإغريق في جنوب إيطاليا للبحث في شرائعها وقوانينها وأخذ ما يوافق بلاد الرومانيين منها ووضع قانون كاف شاف بعد عودتهم من هذه الرحلة، وكان قصد السناتو بتعيين هذه اللجنة المماطلة وضياع الوقت في سفرها فتكون أفكار الأهالي قد سكنت وهدأت حركتهم فيتخلص السناتو من تنفيذ هذا المشروع، لكن لم تصب سياستهم ولم تنجح حيلتهم فإن الأعضاء الثلاثة عادوا في أقرب وقت.
فالتزم السناتو بتعيين هيئة حكومية من عشرة متشرعين خول إليهم السلطة المطلقة، وأوقف سير النظام الأصلي وأبطلت وظائف القناصل ونواب الأمة موقتا ريثما تتم الهيئة الجديدة مأموريتها؛ وهي سن قانون جامع ينبي عن العوائد القديمة مع إضافة ما يلائم البلاد من عوائد وقوانين الإغريق التي جمعها المندوبون الثلاثة، وابتدأت الحكومة الجديدة عملها في مايو سنة 450ق.م وكانت الرئاسة لكل منهم مدة أربع وعشرين ساعة فقط، فاشتغلت هذه اللجنة مدة سنة سارت الأمور في أثنائها بغاية الهدوء والسكينة، وفي ختامها أتمت سن ما كلفت به من القوانين وأمرت بنقشها على عشرة ألواح وتعليقها في الفورم ليطلع عليها العموم ويبدي كل إنسان ما يعن له من الملحوظات ويعرضها على اللجنة ، وهي بعد جمع هذه الملحوظات وتنقيح القوانين بمقتضى ما يوجد منها موافقا للصواب تعرضها منقحة على الأمة في اجتماعها العمومي فتقررها أو ترفضها.
ولما انقضت السنة الأولى ووجب تغيير أعضاء اللجنة العشرية حسب العادات الرومانية التي تقضي بتغيير الحكام كل سنة خوفا من طموحهم إلى الاستبداد سعى أحدهم المدعو أبيوس كلوديوس في أن يعاد انتخابه خلافا للعوائد المتبعة، وأن ينتخب الباقون من خاملي الذكر ضعاف العزائم الذين لا يقوون على معارضته، وساعده على ذلك شبان الأشراف انتقاما من الأمة على تحصلها على جملة حقوق وسعيها في الحصول على المساواة بهم، وقد جرأ أبيوس على ذلك نفس أعضاء مجلس السناتو الذين أظهروا له سرورهم من خطته ولم يراعوا واجب الدفاع عن حرية الشعب ناظرين إلى سوء العاقبة التي تعود عليهم من استبداد فرد بالسلطة إذ لا يقتصر ظلمه واستبداده على طبقة من الأمة، بل يتعدى إلى باقي الطبقات عاليها وسافلها، لكن هو الغرض يعمى عن نظر الحقيقة ويصم عن سماعها فتلحق المصيبة العموم، ولا يلتفت إلى عواقبها إلا بعد فوات الوقت، فيندم المتسببون فيها حيث لا ينفع الندم.
وبهذه المساعدات تحصل أبيوس على مرغوبه وأعيد انتخابه وانتخب رفاقه على حسب ما يحب ويهوى حتى صار هو صاحب السلطة المطلقة فعلا إن لم يكن قانونا، وصارت أرواح الأهالي وأموالهم في قبضة يده يتصرف فيها بما يمليه عليه الغرض ويلقنه إليه الطمع، ولا رادع يردعه لتوقيف جميع دواليب الحكومة ونظاماتها موقتا كما ذكر قبل.
واستمرت الحال كذلك إلى انتهاء السنة الثانية من تعيينه، ولما انتهت لم يظهر رغبته في الاستقالة لينتخب غيره كما جرت به العادة، بل ظل قابضا على أزمة الأحكام بصفة غير قانونية والأشراف مساعدون له وأعضاء مجلس السناتو غاضون الطرف عنه.
وفي هذه السنة أتمت لجنة التشريع لوحتين صار نقشهما وتعليقهما في الفورم كالعشرة ألواح السابقة، وسنأتي على ملخصها بعد.
نامعلوم صفحہ