ولم يطأ اليهود سويسرا إلا بعد أن أقاموا زمانا طويلا في ألمانيا، وبدأ اضطهادهم فيها في القرن الرابع عشر، ولم يكد القرن الخامس عشر ينتهي حتى طردوا منها، ولم يلاقوا في بولونيا ولثوانيا من العنف ما لاقوه في غيرهما، فاتخذوا الأولى ملجأ لهم، وكان المهاجرون منهم من ألمانيا وسويسرا يأتونها أفواجا وهم يصادفون من ملوكها كل رعاية وإكرام، أما في روسيا وهنغاريا فأصابهم من الاضطهاد مثل ما أصابهم في الممالك الأخرى، وبعد أن ذاقوا فيهما الأمرين طردوا منهما نحو أواخر القرون الوسطى.
اليهود في إسبانيا
أما البلاد التي لقوا فيها شيئا من الراحة فإسبانيا بعد أن امتلكها العرب، فإن الفاتحين أحسنوا إليهم وأكرموهم وعاملوهم بالتؤدة والمعروف، وتساوى الفريقان في العلم وطلبه والثروة والرغبة في التقدم والتمدن حتى بات يهود إسبانيا أنعم بالا وأحسن حالا من إخوانهم في سائر أوروبا، فاتخذوا الحرف والمهن العلمية والصناعية، ونشأ بينهم الكتاب والشعراء والأطباء والماليون والموظفون وأصحاب الفنون على اختلاف أنواعهم.
ولم ينحصر ذلك من الأندلس في الممالك الإسلامية، فإن ملوك النصارى فيها أكرموهم ورحبوا بهم لما آنسوه فيهم من اللياقة لتعاطي الأعمال والمهن المختلفة، وبراعتهم في العلوم والفنون، وكان الشعب في غاية الراحة كأيام هنائهم في أراضيهم وملكهم على أن ذلك الشعب المضطهد لم تطل مدة هنائه، فإن بذخ الأمراء وتعاظم نفوذ الإكليروس بدلا سعادته بالشقاء، وذلك أن أملاك الفريقين أصبح أكثرها مرهونا عند اليهود فسلبت امتيازاتهم وزيدت الضرائب عليهم.
وفي أواخر القرن الرابع عشر قامت البلاد عليهم في مواضع متفرقة فقتل منهم العدد الغفير، وقد قال أحد المؤرخين: إن ما أصاب اليهود في القرن الخامس عشر في إسبانيا لما يقصر عنه وصف الواصفين، فقد أحرقوا أحياء بالألوف حتى قيل: إن 280 منهم حرقوا في سنة واحدة في إشبيلية، حتى إن كل طاهر ذمة كان يقشعر من فظائع ديوان التفتيش وأفعاله البربرية، فحاولوا أن يلطفوها، ولكن سدى ثم جاء اليوم المخيف، وفيه تم ذلك العمل الذي شوه تاريخ إسبانيا وترك فيه لطخة سوداء لا يمحوها كرور الأيام، وذلك أن فرديناند وإيزابلا زوجته أصدرا منشورا يأمران فيه بطرد جميع اليهود (سنة 1492) من إسبانيا في مدة أربعة أشهر دون أن يؤذن لهم بنقل ذهب أو فضة معهم من المملكة، فنزل الأمر على اليهود نزول الصاعقة وسعوا بإلغائه، وبذلوا القناطير المقنطرة من المال حتى كاد الملكان يحولان عن عزمهما، لكن رئيس ديوان التفتيش الدومينيكي عرقل جميع تلك المساعي وتهدد الملكين، وقال لهما: إذا فعلتما ما يطلبه اليهود كنتما كيهوذا الذي باع سيده، ثم حذرهما سوء العاقبة فخافا منه وثبتا أمرهما، فكان علة خراب وشقاء جماعة كبيرة من أحذق الناس وأمهرهم وأكثرهم مسالمة وعلما في إسبانيا وسببا لانحطاط تلك المملكة نفسها بما خسرته من معونتهم ونجدتهم وعلمهم وغناهم، فضلا عن انتشار نفوذ ديوان التفتيش هذا، وامتداد هيبته في البلاد التي كان من أكبر الضربات عليها، وقد قال أحد الكتاب: إن هذا العمل الوحشي من أحزن ما جاء في التاريخ الحديث ويشبهه اليهود بأكثر من سقوط أورشليم وتبددهم على وجه الأرض، فإن نحو نصف مليون منهم أجبروا على ترك بلاد سكنوها سبعة قرون فصارت لهم وطنا، هذا فضلا عن إجبارهم على التخلي عن أملاكهم ومقتنياتهم وأموالهم وهي شيء كثير ظلما وعدوانا، وحكاية طردهم في إسبانيا تفتت الأكباد (وجميع ذلك مدون في كتب التاريخ العبرية)، فتفرق هؤلاء التعساء في مراكش وإيطاليا وفرنسا وتركيا، وطلب ثمانون ألفا منهم الإذن من ملك البورتغال، حيث كانت الفظائع، كما في إسبانيا بواسطة الإكليروس؛ لكي يبقوا في بلاده ثمانية أشهر ريثما يجدون مكانا يلجئون إليه، ودفعوا عن كل واحد منهم ثمانية دنانير فقبلهم في بلاده على أن يقيموا فيها، لكنه تغير عليهم بعد سنتين وطردهم، وأصدر أمرا سريا إلى جنوده بالقبض على أولادهم من ابن أربع عشرة سنة فما دون وبإبقائهم في البلاد لينشئوا فيها مسيحيين، فلما درى اليهود بذلك حاروا في أمرهم، فكان النساء يطرحن الأولاد في الآبار والأنهار ليخلصنهم من أعدائهم ومضطهديهم، ومن بقي منهم في إسبانيا بيع عبدا، ولم يقف تيار الاضطهاد في إسبانيا حتى أواخر القرن السابع عشر.
اليهود في إيطاليا
وكان نصيبهم في إيطاليا خيرا منه في غيرها، فأحمدوا مقامهم فيها إلا في بعض الأحايين حين ثارت سورة الاضطهاد عليهم، على أن معظم زمانهم فيها كان مقرونا بالراحة والخير، فاشتغلوا في جميع الحرف والصناعات، لا سيما الصرافة حتى ضاهوا صيارفة لمبرديا، وكانت تجارة المشرق في أيديهم، ونالوا حظوة في عيون ملوك نابولي، حتى إن أحدهم عين مستشارا ملكيا لأحد ملوكها.
اليهود في المملكة العثمانية وغيرها
وأحسن إليهم السلاطين العثمانيون وعاملهم الأتراك بالرفق، وكانوا يعتبرونهم أكثر من اليونان فيسمون هؤلاء عبيدا، أما اليهود فكانوا يدعونهم ضيوفا وأذنوا لهم بفتح المدارس وإنشاء الكنائس، وسمحوا لهم بالسكن في جميع مدن الشرق التجارية الواقعة في المملكة العثمانية، وهي الدولة الوحيدة التي شهدوا لها التواريخ العبرانية أنه لم يحصل لليهود اضطهاد فيها.
وقد ظن بعض الكتاب أن اختراع الطباعة والنهضة العلمية في أوروبا والإصلاح أفادت اليهود فائدة كبيرة، فحسنت أحوالهم وخففت ذلك التعصب عليهم، لكن ذلك صحيح من بعض الوجوه، فإنه حالما شرع اليهود باستخدام الطباعة لطبع كتبهم المقدسة حرك بعضهم الإمبراطور مكسيمليان وأقنعه بوجوب حرق كتبهم ولولا مداخلة بعض أولي الفضل لتم ذلك القصد السيئ على ما يريده أولئك المتعصبون وفاز الجهل، ولم يكن لوثير ميالا إلى اليهود والمأثور عنه أنه كان يذهب إلى أخذهم بالقسوة والعنف، في حين أن البابا سكستوس الخامس عاملهم بمثل ما لم يعاملهم به أمير بروتستانتي من الحسنى واللطف، فإنه ألغى أوامر أسلافه القاضية بمعاقبتهم، وأذن لهم بالسكن والاتجار في أملاك الكنيسة الرومانية وجعلهم والمسيحيين سواء في عين الشريعة، وفيما تقدم دليل على أن الإصلاح لم يكن له يد في تحسين أحوالهم؛ لأن زعيم حركة الإصلاح كان خصما لهم بين أن بعض أخصامه كانوا من محبيهم، أضف إلى ذلك أنهم صادفوا من الاضطهاد والأذى على أيدي البروتستانت مثل ما لاقوه من الكاثوليك، إن لم يكن أكثر منه يتضح لك أن التبديل الذي طرأ على شئونهم في القرن الثامن عشر لم يكن ناجما عن هذه الأمور الثانوية، بل نشأ عن هبوب أوروبا في ذلك العصر من سبات الجهل والغباوة، وعن لمعان نور التمدن في أنحائها ذلك النور الذي أنار في سمائها فشق حجاب الجهل والظلم والاستبداد.
نامعلوم صفحہ