تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط
تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط
اصناف
وكان أود دوق أكيتانية طول هذه المدة منحرفا عن القتال، متجنبا الانغماس في الحرب؛ لأن غارات العرب كانت واقعة على أطراف بلاده ولم تكن في قلب البلاد مثل ذي قبل، وأما «شارل مارتل» فكان مشغولا بمحاربة «الغريزونيين» و«البافاريين» و«السقسون» الذين كان يخشى أن يعبروا عليه نهر الرين وينازعوه مركز سلطانه، وكان بينه وبين «أود» ما بين النظراء الذين يغص بعضهم بمكان بعض، فأما مؤرخو العرب الذين لم يكن لهم اطلاع على تلك المنافسات الداخلية بين ملوك الإفرنج فعللوا سكوت «شارل مارتل» الذي كانوا يسمونه: «قارله» عن مقارعتهم بالتعليل الآتي. قالوا: إن كثيرا من أمراء الإفرنج فزعوا إلى «قارله» وشكوا له الأضرار التي حلت بهم من عيث المسلمين في البلاد، وأوضحوا له العار الذي يلحق بها من كون جيش كالجيش العربي، مجهز بأسلحة خفيفة، يتغلب على جيوش شائكة بأثقل الأسلحة غائصة في الزرد إلى أعناقها كالجيوش الإفرنجية، فأجابهم قارله: دعوهم الآن يفعلون فإنهم في إبان صولتهم أشبه بالسيل الذي يجرف كل ما يقف في وجهه، وهم اليوم قد اتخذوا من جرأتهم دروعا ومن أقدامهم حصونا، ولكنهم بعد أن تمتلئ أيديهم من الغنائم، وبعد أن يألفوا نعيم الحضر ويستولى الطمع عليهم فينافس بعضهم بعضا ويدخل الشقاق في صفوفهم، حينئذ نزحف إليهم ونتغلب عليهم ونترك جمعهم شريدا وقائمهم حصيدا، وقد نقل هذا الكلام «رينو» عن المقري صاحب النفح، ونحن راجعنا المقري فوجدناه يقول في آخر صفحة 128 من الطبعة الأزهرية المصرية ما يلي:
وقال الحجاري في المسهب: إن موسى بن نصير نصره الله نصرا ما عليه مزيد، وأجفلت ملوك النصارى بين يديه حتى خرج على باب الأندلس الذي في الجبل الحاجز بينها وبين الأرض الكبيرة، فاجتمعت الفرنج إلى ملكها الأعظم قارله - وهذه سمة لملكهم - فقالت له: ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب؟ كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد، بجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم، فقال لهم ما معناه: الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم هذه، فإنهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم في إقبال أمرهم ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيدهم من الغنائم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرئاسة ويستعين بعضهم على بعض فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر. قال: فكان والله كذلك بالفتنة التي طرأت بين الشاميين والبلديين والبربر والعرب والمضرية واليمانية، وصار بعض المسلمين يستعين على بعض بمن يجاورهم من الأعداء. انتهى.
قلت: إن أعظم العوامل التي قضت برجوع بدر العرب كالعرجون القديم، بعد أن كان تماما وأنار المشرق والمغرب، تعود إلى عاملين كبيرين: أحدهما الفتنة التي ذكرها صاحب المسهب بين الشاميين والبلديين، فقد طال بينهما النزاع وتحول إلى فتنة صماء أوقفت سير الإسلام في أوربة بعد أن مشى فيها مشي النار في يابس العرفج، وأهم من فتنة البلديين والشاميين فتنة العرب والبربر، فقد أجمع المؤرخون من العرب والإفرنجة على أن الحرب التي اصطلت بين المسلمين في شمالي إسبانية والتي تغلب فيها البربر على العرب وأخرجوهم بها من تلك الديار كانت هي السبب في انتهاز الإفرنج والإسبانيول تلك الغرة اللائحة لاستئناف دولتهم وصولتهم وطردهم للمسلمين من شمالى إسبانية. وبعد ذلك عندما جمع العرب شملهم وكروا على البربر وأوقعوا بهم، انتقاما عما صدر من البربر من قبل، استفاد الإسبانيول والإفرنج فائدة كالفائدة الأولى، واغتنموا أيضا مثل تلك الفرصة، وقد كان أنكى من الفتنتين المار ذكرهما فتنة القيسية واليمانية وواقعة شقنده المشهورة ووقائع أخرى كانت تشغل العرب بعضهم ببعض، فيستأسد العدو في خلالها وينهض من ورائها فيكر عليهم ويسترجع منهم قلاعا وحصونا وحواضر عامرة، وقد شوهد أنه لما اشتدت الفتنة في قرطبة بين العرب والبربر في أيام الخليفة المستضعف هشام الثاني كان كل فريق من المسلمين يستعين بالإسبانيول، وكان هؤلاء يشترطون للنجدة كذا وكذا من الحصون، وكذا وكذا من المدن، وكان أولو الأمر في قرطبة ينزلون لهم عنها.
153
أما العامل الثاني الذي لم يكن يقل خطرا عن الأول فإنه ولوع العرب بالغنائم وحرصهم عليها إلى الدرجة التي كانت سببا في الهزائم، فإن الواقعة الكبرى التي وقعت بين عبد الرحمن الغافقي و«شارل مارتل» الذي يقول له العرب: «قارله» كان سبب إدبار العرب فيها، وتملص أوربة من أيديهم هو شدة الخوف على الغنائم لا غير، فإنه لما تلاقى الجمعان أراد عبد الرحمن أن يأمر جيشه بترك الغنائم التي كانوا جمعوها حتى لا تبقي قلوبهم مشغولة بها عن القتال، ولكنه توجس خيفة أن يكسر بذلك من قلوبهم، فتفتر عزائمهم وتخبث نفوسهم، فأذن لهم في حفظ غنائمهم وهو كاره، فجعلوها وراء المعسكر وأعينهم فيها، وعلم بذلك الإفرنج ولحظوا شدة حرص العرب عليها، فلما حمي الوطيس زحف جانب من جيش الإفرنج من طريق آخر قاصدا المعكسر الذي فيه الغنائم، فانكفأ العرب عن ميدان القتال راجعين إلى معسكرهم الذي فيه تلك الأسلاب ليدافعوا من دونها، ولم يبق في الميدان قوة كافية لصد السواد الأعظم من الجيش الإفرنجي ، وهكذا كانت تلك الهزيمة الكبرى في المحل الذي يسميه العرب ببلاط الشهداء، ويسميه الإفرنج بمعركة «پواتييه». فأنت ترى أن «قارله» عندما قال للإفرنج قوله ذاك: «دعوا العرب يملأون أيديهم» كان كأنه يقرأ في ظهر الغيب.
نعود إلى سياق التاريخ بحسب رواية «رينو» فنقول:
وفي سنة 730 تولى إمارة الأندلس عبد الرحمن «الغافقي» الذي خلف السمح بن مالك الخولاني في قيادة الجيش المحاصر «لطلوزة» عند مصرع السمح في المعركة، وكان عبد الرحمن هذا رجلا صارما عادلا محببا في جنده، لنزاهته ولعدم رغبته في حطام الدنيا لنفسه، وكان أيضا محل احترام صلحاء المسلمين لمعرفته بالحديث النبوي ومصاحبته لأحد أولاد الخليفة عمر.
154
وقبل أن نكمل ترجمة عبد الرحمن الغافقي التي ستنتهي بواقعة بلاط الشهداء ينبغي لنا أن نكمل الخبر عن الفترة التي وقعت بين إمارة عنبسة بن سحيم الكلبي وإمارة الغافقي، فنقول: قال المؤرخ الإسبانيولي «كوندي»: إن أول عمل قام به عنبسة هو تنظيم الخراج وتقسيم الأراضي بين المسلمين بدون تجاوز على الأراضي التي لها ملاكون أصليون من الأهالي، فكان يستوفي العشر من الذين خضعوا لدولة العرب من أنفسهم، ويستوفي الخمس ممن لم يخضعوا إلا بالسيف، وهو الذي بنى جسر قرطبة.
155
نامعلوم صفحہ