تاریخ فلاسفہ اسلام
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
اصناف
وهاك نموذجا من كلام هذا الحكيم الجليل عند الكلام على القول «بأن الواحد بالعدد البسيط لا يصدر عنه إلا واحد بسيط بالعدد لا واحد بالعدد من جهة وكثرة من جهة، وأن الوحدانية منه هي علة وجود الكثرة». فقد تناول الغزالي أصل هذا القول المنسوب إلى ابن سينا ظنا منه أنه يفحم الفلاسفة في النيل من أحدهم، فقال ابن رشد: «هذه الأقاويل التي هي أقاويل ابن سينا ومن قال بمثل قوله وهي غير صحيحة وليست جارية على أصول الفلاسفة، ولكن ليست تبلغ من عدم الإقناع المبلغ الذي ذكره هذا الرجل (الغزالي)، وليس هذا القول من الشناعة في الصورة التي أراد أن يصورها هذا الرجل حتى ينفر بذلك النفوس عن أقوال الفلاسفة ويبخسهم في أعين النظار، فإن كان الرجل قصد قول الحق في هذه الأشياء فغلط فهو معذور، وإن كان علم التمويه فيها فقصده فإنه لم يكن هنالك ضرورة داعية له فهو غير معذور، وإن كان إنما قصد بهذا ليعرف أنه ليس عنده قول برهاني يعتمد عليه في هذه المسألة، أعني المسألة التي هي «من أين جاءت الكثرة؟» فهو صادق في ذلك إذ لم يبلغ الرجل المرتبة من العلم المحيط بهذه المسألة، وهذا هو الظاهر من حاله فيما بعد، وسبب ذلك أنه لم ينظر الرجل إلا في كتب ابن سينا فلحقه القصور في الحكمة من هذه الجهة.»
وقد خرج الغزالي بأقوال ابن سينا في مسألة علم الباري بذاته وبسائر الموجودات، فإن ابن سينا إنما رام أن يجمع بين القول بأنه لا يعلم إلا ذاته ويعلم سائر الموجودات بعلم أشرف مما يعلمها به الإنسان؛ إذ كان ذلك العلم هو ذاته. وهذا قول جميع الفلاسفة واللازم عن قولهم، وقد أحرجت مكابرة الغزالي صدر ابن رشد في هذه المسألة فقال: «إذا تقرر هذا لك فقد بان لك قبح ما جاء به هذا الرجل من الحمل على الحكماء مع ما يظهر من موافقة الرجل لهم في أكثر آرائهم.» وهذا مصداق لما هو مشهور عن الغزالي من أنه يوافق الفلاسفة في معظم أقوالهم، ولكنه أراد الظهور بمخالفتهم ليحظى بشرف الانتصار للشريعة، أو أنه كان مع الحكماء بعقله ومع الشرع بقلبه، فغلب القلب على العقل في مواطن كثيرة، ولكن اقتناع العقل كان ظاهرا في كل حال.
ثم حمل ابن رشد على الغزالي حملته الكبرى، وهي من أقوى وأبلغ ما كتبه حكيم غضبان للحكمة والحق، ومن سياق الحديث يفهم سبب تلك الحملة:
وأما قوله إن قصده ههنا ليس هو معرفة الحق، وإنما قصده إبطال أقاويلهم وإظهار دعاواهم الباطلة فقصد لا يليق به بل بالذين في غاية الشر، وكيف لا يكون ذلك كذلك ومعظم ما استفاد هذا الرجل من النباهة، وفاق الناس فيما وضع من الكتب التي وضعها، إنما استفادها من كتب الفلاسفة ومن تعاليمهم؟! وهبك إذا أخطئوا في شيء فليس من الواجب أن ينكر فضلهم في النظر وما راضوا به عقولنا، ولو لم يكن لهم إلا صناعة المنطق لكان واجبا عليه وعلى جميع من عرف مقدارها شكرهم عليها، وهو معترف بهذا المعنى وداع إليه وقد وضع فيها التآليف ويقول إنه لا سبيل إلى أن يعلم أحد الحق إلا من هذه الصناعة، وقد بلغ الغلو فيها إلى أن استخرجها من كتاب الله تعالى، أفيجوز لمن استفاد من كتبهم وتعاليمهم مقدار ما استفاد هو منها حتى فاق أهل زمانه وعظم في ملة الإسلام صيته وذكره؛ أن يقول فيهم هذا القول ويصرح بذمهم على الإطلاق وذم علومهم؟
وإن وضعنا أنهم يخطئون في أشياء من العلوم الإلهية، فإنا إنما نحتج على خطئهم من القوانين التي علمونا إياها في علومهم المنطقية، ونقطع أنهم لا يلزموننا على التوقيف على خطأ إن كان في آرائهم، فإن قصدهم إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن إلا هذا القصد لكان ذلك كافيا في مدحهم، مع أنه لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا بأمر خارج عن طبيعة الإنسان، فلا أدري ما حمل هذا الرجل على مثل هذه الأقاويل، أسأل الله العصمة والمغفرة من الزلل!
على أن ابن رشد كان في كتابه حائرا بين أمرين: الأول ضرورة الرد على الغزالي بما يقنع ويفحم ويعجز الخصم، والثاني بغضه التصريح بالحكمة للجمهور خوفا عليهم من الضلال بالقليل الذي لا يشفي الغليل، فهو يقول: «ولذلك كان هذا الكتاب أحق باسم التهافت من الفرقتين جميعا، وهذا كله عندي تعد على الشريعة وفحص عما لم تأمر به شريعة لكون قوى البشر مقصرة عن هذا، وذلك أن ليس كل ما سكت عنه الشرع من العلوم يجب أن يفحص عنه ويصرح به للجمهور، وربما أدى إليه النظر أنه من عقائد الشرع، فإنه يتولد عن ذلك مثل هذا التخليط العقيم فينبغي أن يمسك من هذه المعاني كل ما سكت عنه الشرع، ويعرف الجمهور أن عقول الناس مقصرة عن الخوض في هذه الأشياء، ولا يتعدى التعليم الشرعي المصرح به في الشرع؛ إذ هو التعليم المشترك للجميع الكافي في بلوغ ذلك.»
هذا ابن رشد، أشهر فلاسفة الإسلام، وقد رماه معاصروه بالإلحاد ونسبوا إليه التعطيل، وحاكمه الأمير في مجلس حافل وعاقبه بالنفي، ولو أن ابن رشد عاصر الغزالي لكان أشد خصومة، ولقامت بينهما حرب عقلية أشد من التي أثار الغزالي غبارها بكتابه وحركها الوليد بعد موت خصمه بمائة عام، نقول إن ابن رشد يظهر في كل صفحة من صفحاته أنه أصدق دفاعا عن الشريعة، وأشد مناصرة لأحكامها من ذلك الرجل الذي لقبوه بحجة الإسلام.
فإن ابن رشد في مواضع كثيرة من كتبه ينهى عن بذل الحكمة وعن تأويل ظاهر الشرع، ويتناول تلك المسائل كارها الخوض فيها وناقما على من هتك ستر الحكمة ورفع النقاب عن وجهها وأباح لسائر الأنظار أن تطأها يقول: «فلنرجع إلى ما كنا بسبيله مما دعت إليه الضرورة، وإلا فالله العالم والشاهد والمطلع إنا ما كنا نستجيز أن نتكلم في هذه الأشياء، هذا النحو من التكلم.»
وقد كتب ابن رشد كتاب التهافت إنقاذا للعقول من الضلال؛ أي إنه تدارك الخطر الذي يحدثه الغزالي، فعمله مفهوم لأنه لغاية معلومة، أما الغزالي فقد انتدب نفسه لغير سبب وقصد إلى تشويش الأفكار باعترافه. فأيهما أقرب إلى الصواب؟ وأيهما أكثر ارتباطا بالحق؟ وأيهما أحسن نية وأسلم طوية وأشرف قصدا من صاحبه؟
لقد أجاب ابن رشد على هذا السؤال في عرض الكلام على «الغرض المحرك للسماء، إذ قال الفلاسفة إن السماء حيوان مطيع لله تعالى»، وهي المسألة الخامسة عشرة من مسائل الغزالي، قال ابن رشد ردا عليه: «قد يظن أن هذا الكلام لسخفه يصدر عن أحد رجلين إما رجل جاهل وإما رجل شرير، وأبو حامد مبرأ عن هاتين الصفتين، ولكن قد يصدر من غير الجاهل قول جاهلي، ومن غير الشرير قول شريري على جهة الندور، ولكن يدل هذا على قصور البشر فيما يعرض لهم من التقلبات.»
نامعلوم صفحہ