مقدمة وتمهيد
1 - الكندي
2 - الفارابي
3 - ابن سينا
4 - الغزالي
5 - ابن باجه
6 - ابن طفيل
7 - ابن رشد
8 - ابن خلدون
9 - إخوان الصفاء
10 - ابن الهيثم
11 - محيي الدين ابن العربي
12 - ابن مسكويه
مقدمة وتمهيد
1 - الكندي
2 - الفارابي
3 - ابن سينا
4 - الغزالي
5 - ابن باجه
6 - ابن طفيل
7 - ابن رشد
8 - ابن خلدون
9 - إخوان الصفاء
10 - ابن الهيثم
11 - محيي الدين ابن العربي
12 - ابن مسكويه
تاريخ فلاسفة الإسلام
تاريخ فلاسفة الإسلام
دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
تأليف
محمد لطفي جمعة
مقدمة وتمهيد
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله وبعد ...
ترجع فكرة تأليف هذا الكتاب إلى نحو عشرين عاما مضت، منذ كنت أتلقى العلم في مدرسة ليون الجامعة، وفي تلك المدينة الجميلة المطمئنة، دونت أوائل تلك الفصول، وقد صحبتني الأماني و«الكراسات» في سائر أسفاري بين ليون وجنيف ولندن وفيرنزة (فلورنسا)، ومرت علينا معا فترة الحرب العصيبة وأنا في صحبة هؤلاء الفلاسفة الاثنى عشر، ننهض تارة ونرجو رؤية النور والضياء، وطورا نرقد في مثار النقع نسمع صدى صوت المدافع في الفضاء، إلى أن شاءت الأقدار أن يلبس هؤلاء الحكماء المتقدمون ثياب الظهور في عالم الوجود المادي، فلم أشأ أن أطيل حبسهم، فأسلمت بيدي تلك الأوراق، التي أصبحت في نظري «معتقة صفراء» دقيقة الجسم، ضخمة البخار، وهكذا برز إلى عالم البعث والنشور اثنا عشر فيلسوفا من المشارقة والمغاربة، وقد تدثر كل بالقباء أو المرقعة أو المسوح أو الدراعة أو الجبة التي تليق به لدى مثوله بين أيدي قراء هذا الزمان.
فإلى الأمام أيها السادة الحكماء! ولا تعتبوا على هذا الضعيف، الذي ألجأكم إلى الخروج من كهف الماضي السحيق، ودعاكم إلى الظهور بعد الخفاء في عالم الهدوء والسكون إلى عالم الجلبة والضوضاء، فإن معظم أهل هذا الزمان لم يشرفوا بمعرفتكم، وسوف تقع أسماؤكم وألقابكم وكناكم من أسماعهم وقع الشيء الجديد الغريب، وسوف يجادلون في حقيقة وجودكم، وفي قيمة أفكاركم، وينكرون عليكم آراءكم التي بيضتم سواد ليالي أعماركم في تصورها وتحويرها، وتهذيبها وتحريرها، وسوف يمر البعض بكم متعجبا من هؤلاء الفلاسفة المتقدمين الذين عاشوا وتأملوا وفسروا الكون، وعللوا الحوادث قبل كانت، ونيتشه، وشوبنهور، وسبنسر، وستوارت ميل، وأوجست كونت، ورينان، ولن يخطر ببال هؤلاء القراء المتعجبين أنه لولاكم، أيها الفلاسفة الأعزة! من الكندي إلى ابن رشد، لم يكن لفيلسوف أوروبي حديث أن يظهر في عالم الوجود، وإنكم أنتم الذين حفظتم تلك الشعلة المقدسة التي خلفها سقراط وأفلاطون وأرسطو، في مغاور الماضي السحيق، وزدتموها نارا حتى أسلمتموها مضيئة وهاجة إلى فلاسفة أوروبا المحدثين، وكنتم لتلك الشعلة الإلهية كراما حافظين.
على أن أقداركم لم تخف على علماء أوروبا وكتابها ومؤرخيها؛ فقد عني مئات من مؤلفي تلك القارة السعيدة بالبحث عن آثاركم، وتدوين أخباركم، ونشر أفكاركم التي هي من أغلى وأثمن الحلقات في سلسلة التفكير الإنساني، فحرصوا على مخطوطاتكم وبالغوا في رفع قيمتها، وفي السعي لاقتنائها، ولم يضنوا بالمال والعمر والعلم في سبيل إحياء ذكركم، فاستفادوا من وراء بحثهم وتنقيبهم وربحت تجارتهم! ولكن الذي أنكركم أو، على القليل، شك في وجودكم العقلي، وحط من أقداركم هم أحفادكم وأخلافكم، وورثة حكمتكم وأخلق الناس بالمحافظة على ذكراكم وتمجيد أعمالكم، وهم الذين يقرءون ويكتبون ويفكرون بتلك اللغة العربية التي دونتم بها كتبكم الخالدة في بغداد ودمشق ومصر والمغرب، والأندلس، ويسأل هؤلاء الورثة الذين لا يستحقون تلك التركة الثمينة:
هل لنا حقا أجداد في الفكر والعقل؟
وهل لهؤلاء الأجداد قيمة في ميدان العلم الحديث؟ وأين كتبهم؟
وما مكانتهم بين ظهراني الفلاسفة الذين نقرأ تراجمهم ونرى صورهم، ونعثر بشذور من أقوالهم في الكتب والمجلات والصحف؟
ولأجل الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة ألفت هذا الكتاب؛ للتدليل على فضل هؤلاء المتقدمين، ولتعيين مكانتهم على حقيقتها بين فلاسفة العالم، ليعلم المرتاب والمتردد والمقلد أن تلك المدنية العظيمة التي ظهرت في الوجود منذ أربعة عشر قرنا، لم تكن مدنية حرب وطعن ومادة، بل كانت مدنية عقل وعلم وفكر عميق، وأن تلك المدنية التي نشأت في قلب الصحراء ونشرت أجنحتها إلى أقاصي الصين شرقا وأقاصي أوروبا وأفريقيا غربا، لم تكن مدنية السيف والمدفع بل كانت مدنية القلم والقرطاس والكتاب، وأن عقيدة هؤلاء الفلاسفة لم تمنعهم من الدرس والبحث والتنقيب عن الحقيقة.
بل إن تلك العقيدة نفسها هي التي استحثتهم على السير في جميع دروب الفكر البشري، فكانت الحقيقة ضالة كل منهم ينفق العمر والمال والفكر في اقتفاء أثرها، ويلتقطها أنى وجدها، وإن هؤلاء الأقوياء من أصحاب التيجان والعروش بذلوا أنفس وأعز ما كان لديهم من المال والجاه والنفوذ في إيجاد الفلسفة في بلاد الشرق العربي والغرب الإسلامي، وإن من حث على العلم هو تلك العقيدة التي ظهرت في الصحراء على لسان (محمد) وأول من شجع على نشر الحكمة هم هؤلاء الخلفاء والملوك من الغزاة، والمجاهدين من ذوي قرباه وخلفائه وصحابته والتابعين.
وأجدر الناس بتفهم هذا القول هم الفريق الذي ظهر في الزمن الأخير بمظهر تحقير الفكر الشرقي الإسلامي، والحط من أقدار رجاله المتميزين، والطعن على علومهم وآدابهم وحكمتهم، والانتقاص من آثارهم التي كانوا بها يهتدون؛ فهذا الفريق من الخلق يعمل على هدم آثار السلف الصالح في العقل والفكر بمعول التعصب الذميم والمنفعة المادية، وإلا فكيف يستبيح أديب أو أريب أو عالم أن يقلل من قيمة أسلافه في الثقافة الإنسانية؟ وهل استباح كاتب أوروبي، من الذين يدعي هؤلاء الناس تقليدهم، لنفسه الحط من قدر أسلافه في العلم والفلسفة لمجرد قدمهم ومضي الأجيال الطويلة على اختفائهم من عالم الوجود المادي؟
بل الأمر على النقيض؛ إذ نرى النوابغ من الكتاب والمؤلفين يعملون أبدا على إحياء سير الأقدمين والإشادة بذكرهم، ونشر كتبهم وتزيينها وشرحها وتفسيرها، ومحاولة رد معظم الفضل في الحياة العقلية الحديثة إليهم، ولا يوجد فيلسوف أوروبي لم يكن له «مثل أعلى» من هؤلاء الحكماء الأقدمين يحذو حذوه وينسج على منواله، ويستضيء بنوره، وهم دائما دائبون على إحياء أعياد موالدهم، وتخليد ذكر أيامهم الكبرى بظهور مؤلفاتهم وعرفان جميلهم وفضلهم على الإنسانية.
ومن هؤلاء القوم فريق يدعي أنهم مجددون ويذمون كل قديم لمجرد قدمه، ويتهوسون بعبادة كل جديد لمجرد جدته، على أنهم لو عقلوا لعلموا أن من لا قديم له لا جديد له، وأن الشرف والنبل يرجعان إلى عراقة الأصل، وأن أفخم البنيان يشاد حتما على أمتن أساس، فكيف يكون لهم عماد دون أن يتصلوا بآثار الأجداد والأمة التي لا ماضي لها ليس لها حاضر ولا مستقبل؟
على أننا لا نعتبر «الإسلام» في تسمية هذا الكتاب الضئيل دينا أو عقيدة حسب، بل نعتبره مدنية كاملة شاملة، حافلة بكل معاني الحياة العقلية والثقافة الأدبية، وعلى هذا القياس الصحيح يكون الفلاسفة الإسرائيليون والمسيحيون بل أحرار الفكر ممن نشئوا وترعرعوا في كنف المدنية الإسلامية حكماء إسلاميين بحكم الفكر الوسط والثروة العقلية المشتركة، وعلى هذه الخطة الحكيمة سار الخلفاء العباسيون والأمويون والفاطميون في المشرق والمغرب، فقربوا الكتاب والمفكرين والأدباء من غير المسلمين ودونوا لهم الدواوين، وقلدوهم أسمى مناصب الدولة، وهؤلاء الخلفاء العظماء شرحوا صدورهم وفتحوا قصورهم للفلاسفة من أهل سائر الأديان، بينما كان أباطرة وملوك وأمراء غيرهم في ممالك أخرى يصلبون ويعذبون ويشنقون ويحرقون رجالا ثبتت لهم العبقرية في الفكر والزعامة في العلم فيما تلا من الأيام.
وسوف يجد القارئ بين دفتي هذا الكتاب فصلا مسهبا في الصوفية بمناسبة ترجمة الشيخ «محيي الدين ابن العربي» الذي قد يتردد بعض المؤلفين في وضعه في صف الفلاسفة، على أنهم لا يترددون في عد الغزالي فيلسوفا لمجرد كتابته في الفلسفة، بغض الطرف عن الغاية التي كان يقصد إليها، على أن ابن العربي أحق بوصف الفيلسوف من الغزالي؛ لأن التصوف نوع من الفلسفة إذ هو يرسم خطة للحياة الإنسانية، وصاحبه يبحث عن الحقيقة ويسعى في حل لغز الحياة وتفهم أسمى أسرار الكون، ولا تخرج الفلسفة في أكمل معانيها عن حدود هذه الغايات، فضلا عن أن ابن العربي تفرغ لمباحثه وأخلص فيها ودقق وحقق، وأمعن وتعمق، ووقف حياته ووجوده على غرض واحد لم يتعده، وقد بلغ فيه درجة من أسمى الدرجات، بل إن الكتاب الوحيد الذي اشتهر به سيدنا حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي - وهو «إحياء العلوم» - يعد في نظر الكثيرين من الأخصائيين في الدرجة الثانية بالنسبة لكتاب «الفتوحات المكية» تأليف ابن العربي، وقد كانت لمحيي الدين شخصية مدركة متميزة، سادت تاريخ التصوف الإسلامي الحديث؛ لأنه المحيي غير مدافع، والشيخ الأكبر دون منازع عند أهل السنة من العرب والترك، وعند أهل الإمامة من الفرس.
ولما كان العرب واليهود فرعين لدوحة واحدة هي الدوحة السامية، والشعبان متفقين أصلا ومدنية وتاريخا، ويكاد اللسانان العربي والعبراني يتحدان، ولولا ما امتازت به اللغة العربية من ظهور لهجة قريش وقدرتها على الحياة كانت مناحي الفكر لديهما متحدة.
بيد أن الفرق بين الشريعتين الموسوية والمحمدية، قد ظهر ظهورا جليا في قابلية كل منهما في البحث الفلسفي، وقد ظهر في كل عهد من العهود نوابغ إسرائيليون يعدون في مقدمة الشعوب التي ينتمون إليها وطنا لا عقيدة، وفي عصرنا هذا عبقريون، منهم أحياء ومنهم من قضى نحبه، أمثال: «كارل ماركس» و«أينشتين» و«برجسون» وعشرات لهم في عالم الفكر البشري ذكر باق.
وقد حصر حكماء بني إسرائيل همهم في العصور الأولى لظهور ملتهم في التهديد والوعيد وتعليم الحكمة الربانية، وقالوا بوحدانية الله ووحدة خلقه ووحدة سائر الكائنات، فكان بحثهم قاصرا على الذات، ولم يتعد إلى الصفات التي يعتبرها فلاسفة الإسلام مظاهر للذات، ولم يتجه نظر أحد من هؤلاء الحكماء إلى البحث في علم النفس البشرية وحقيقتها، فكأن فلسفتهم كانت عبارة عن الاعتقاد المطلق بالله بدون بحث علمي أو طريقة فلسفية، مع أن مصادر العلوم الربانية والنفسانية كانت متوافرة لديهم في كتب الهنود والإغريق.
لم يعرف فلاسفة اليهود علم المنطق، ولم يسلكوا سبيل البراهين والأدلة والحجج، أو أنهم عرفوه ولم يلجئوا إليه واكتفوا في تأييد آرائهم بالإسناد إلى الوحي.
أما عن نظرية الخير والشر في الحكمة الإسرائيلية، فقد قال فلاسفة اليهود: «إن الله سبحانه هو خير محض، ولا يصدر عنه إلا الخير.» وأثبتوا ذلك أو حاولوا إثباته بما ورد في الكتاب المقدس. أما الشر فقالوا: «إنه من صنع البشر، وإنه ثمرة لتغلب المادة على العقل أو انتصار مبدأ المادة على مبدأ العقل.» وقد نسبوا الشر للإنسان خشية أن يؤدي بهم الكلام فيه إلى الخروج، وقد أدت بهم نسبة صدور الشر إلى الإنسان إلى القول بأنه حر في إرادته وتصرفاته، ويجب عليه أن يجعل أعماله منطبقة على مبدأ الخير الأسمى؛ لئلا يقهره المبدأ المادي فيصير أسيرا للشر، وهذا هو مبدأ حرية الإرادة المعروف لعهدنا هذا باسم
Libre Arbitre
أو مبدأ الخيار في الحياة، باعتبار الإنسان مخيرا لا مسيرا أن مبدأ الخيار في الحياة لم يظهر في الفلسفة الحديثة إلا بعد تطاحن أجيال في العقائد والأفكار، ولكن اليهود لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث، بل استندوا إلى نصوص من الكتاب المقدس (التوراة)، حيث جاء بقول صريح على لسان الله في مخاطبة الإنسان:
انظر! قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير، والموت والشر.
ومعظم هذه الحال راجع إلى مزاج النفس «السامية»، التي صدق (رينان) كثيرا في وصفها في عرض كلامه في كتابه الممتع في «تاريخ اللغات السامية».
والمشاهد عند حكماء اليهود، الذين لا يمكن أن نطلق عليهم اسم الفلاسفة، أنهم كانوا إذا اقتربوا من النظريات الفلسفية المحضة يرجعونها إلى دائرة الدين، ويجعلون الحكم فيها وعليها فوق مدارك العقل البشري.
ونجد هذه الحال ممثلة أجلى تمثيل في سفر أيوب، من أسفار «العهد القديم»؛ إذ اجتمع الحكماء، وأخذوا يبحثون في مسألة العناية الإلهية والقضاء والقدر، فظهر الله في عاصفة لأيوب وأظهر له قصر المدارك البشرية عن الوقوف على أسرار الطبيعة، ورفع الستار عن وجه الحقيقة، واكتناه حكمة القضاء، ووجوب خضوع الإنسان بعد إقراره بعجزه لله والتسليم بإرادته؛ مما يؤدي بتوجيه القضايا الفلسفية نحو جهات الاعتقاد.
بيد أن امتزاج اليهود بأهل بابل والفرس والكلدان ساعد على تأثر الحكمة الإسرائيلية بأفكار وعقائد هؤلاء الغزاة الذين هم من جنس (آري).
فإن الفرس يقولون بوحدانية الله، ويبغضون الوثنية كما ورد في كتابهم (الزندافستا). على أن الفرس، وإن كانوا من جنس آري، فإن آسيويتهم (نسبتهم إلى آسيا) تغلبت على آريتهم، فلم يبلغوا من الفلسفة شأوا يستفيض منه نور على عقول حكماء بني إسرائيل، فبقيت كتب هؤلاء بعد تقربهم وامتزاجهم بالفرس خالية من المباحث النظرية وما وراء الطبيعة خلوها من ذلك من قبل.
وما زال اليهود على ذلك الجمود الفلسفي والاكتفاء بالبقاء في دائرة الدين إلى أن تغلب اليونان على سوريا، وانتشرت فيها فلسفتهم وآدابهم، فأدركت اليهود الغيرة من علو كعب فاتحي بلادهم في المباحث التي لم يطرقوها، على أنهم لم يجرءوا على البحث الحر الصريح القوي، بل عادوا إلى الكتب المقدسة يشرحونها، معتمدين في ذلك على بعض مبادئ الأفلاطونية المستحدثة التي كانت مزهرة في الإسكندرية، فلم يتعدوا أفكار فيثاغورس وأفلاطون.
وقد أدخل بعض حكمائهم في روعهم أن لعقائد بني إسرائيل أثرا في تكوين آراء أكابر الفلاسفة اليونان أمثال فيثاغورس وأفلاطون وأرسطوطاليس؛ لأنهم في زعمهم مروا في أسفارهم على بلاد بني إسرائيل وأخذوا العلم والحكمة عن حكمائهم.
وكان بين طوائف اليهود طائفة تشبه الصوفية عند المسلمين، وهم الذين نبغوا من الفريسيين، وكان مذهبهم القول بالمبادئ والآداب والفعل بها، كالزهد والعفة والتقشف والتقوى، ونبغت طائفة أخرى، وهي الصدوقية، لكنها شطت وجمحت، فأنكر ذووها خلود النفس، وتدخل العناية الإلهية في أعمال البشر، معتمدين في هذا الإنكار على أنه ينافي نظرية الاختيار الإنساني.
ونشأت من فرقة الصدوقية فئة اسمها الأسينية (من المواساة والطب)، وقد جعلوا فلسفتهم نوعا من الاشتراكية، وعاشوا بمقتضى مبادئهم، كتبادل الحب بين الأفراد، وبغض الملاذ، والتغلب على هوى النفس، واحتقار الغنى، ولا يزال في أرض فلسطين إلى الآن وقبل ظهور «الصهيونية» بمظهرها الأخير في ظلال نظرية «الوطن القومي»؛ مستعمرات إسرائيلية تسير على مبدأ تلك الفرقة، بعد أن عفت آثارها، وانقطعت أخبارها إلا من الكتب.
وقد قاسى اليهود من الظلم والاضطهاد في عهد الرومان والقرون الأول من العصر الديني الأوروبي؛ ما أضعفهم وأطفأ شعلة ذكائهم، فانصرفوا إلى المجادلات الدينية والمجاهدة في سبيل البقاء في أقطار العالم، بعد أن ذهبت دولتهم وتشتت شملهم وفقدوا عاصمة ملكهم؛ لذا تجد (المشنة) و(التلمود) خاليين من الأبحاث الفلسفية أو الكلام فيما وراء الطبيعة.
وما زال اليهود كذلك من الجهة العقلية حتى نزحوا إلى بلاد العرب قبل الإسلام، فطابت لهم الإقامة في الجزيرة العربية في عهد الجاهلية، وتوافرت بينهم وبين تلك القبائل أسباب الألفة لما بين اليهود والعرب من روابط الجنس السامي، واللغتين العربية والعبرانية اللتين هما من فصيلة واحدة. •••
ولما ظهر الإسلام لم تكن وطأته ثقيلة على اليهود فانتعشوا، وانصرف فريق منهم إلى الاشتغال بالعلم والأدب، ثم علا نجمهم في صدر الإسلام؛ إذ أصبح كثير من نابغيهم موضع ثقة الخلفاء وعنايتهم، أمثال سعيد بن يعقوب الفيومي وصموئيل بن حفني.
وكان سعيد بن يعقوب الفيومي المذكور، ويعرفه اليهود باسم سعدية بن يوسف المصري، رئيس مدرسة (سورا) القريبة من بغداد، وهو أول من ألف من اليهود كتابا باللغة العربية ونشره في موضوع العقائد والعقليات، ومحور هذا الكتاب - الذي يعد فتحا جديدا لليهود، كما يعد دستورا لفرقة الربابنة وأصحاب التلمود - وجوب اتباع أحكام العقل في العقائد وجواز فحص القضايا الدينية؛ لأن العقل الصحيح خليق بأن يرشد صاحبه إلى الحقائق التي ينقلها الوحي إلى أصحاب النبوة، وأن تعليل الوحي هو الرغبة في وصول الإنسان بسرعة إلى إدراك الحقائق العليا، التي لو ترك البحث فيها للعقل وحده لاحتاج في الوصول إليها وإدراكها عناء عظيما وزمنا طويلا.
ونحن نعد سعيد بن يعقوب هذا من فلاسفة الدنيا بحق، ولكنه لم يعش حتى يدرك ازدهار الفلسفة العربية في بلاد الأندلس، التي كان من أثرها في يهود إسبانيا أنفسهم، أنهم ثاروا على مدرسة (سورا) وأرادوا أن يستبدلوا بها مدرسة جديدة يجعلونها في قرطبة؛ وطن ابن رشد، ويلقنون فيها، على أيدي رجال من خيار علمائهم، العلوم والفلسفة وفنون الأدب، التي أهملها يهود الشرق.
فقامت تلك المدرسة في قرطبة فعلا، وأمها الطلاب من كل فج عميق، ونبغ منها بعض الأساتذة الذين ألفوا في فلسفة المشائين اليونانية، ولا تزال بعض كتبهم في مكاتب أوروبا، ولخليفة عبد الرحمن الثالث معظم الفضل في نفع هذه المدرسة وتعظيم شأنها.
ومن فطاحل من نبغ في هذه المدرسة، وقد ورد اسمه مرارا في هذا الكتاب، وفي كتاب الأستاذ الإسرائيلي «منك» الحكيم موسى بن ميمون المعروف عند كتاب الإفرنج بميمونيد، وهو من أهل القرن الحادي عشر للمسيح، ويرجع الفضل في تثقيفه وتهذيبه إلى حكماء العرب، بل إنه نسج على منوالهم في رغبته في الجمع بين فلسفة أرسطوطاليس والشريعة الموسوية مع إخضاع النظر لأحكام العقل والمنطق، وقد اضطهد المسيحيون الإسبان هذا الحكيم الإسرائيلي فيمن اضطهدوا من اليهود بعد زوال دولة العرب، فلجأ إلى مصر في عهد السلطان المجاهد فخر الإسلام صلاح الدين الأيوبي، فعرف قدره وقربه وجعله طبيبه الخاص، ولا غرابة فإن هذا الحكيم كان يسمى موسى الثاني أو أفلاطون اليهود.
لقد اعتبر كثير من علماء المشرقيات دين الإسلام مدنية ذات يقظة ونهضة ووثوب، بدأت بظهور الإسلام ونمت في ظل فتوحه واستكملت قوتها بعد أن شملت كثيرا من شعوب الشرق والغرب؛ هذا لأن الكتاب المنزل على أفصح العرب لم يكن كتاب دين حسب، بل إنه كان مصدرا ومرجعا لنحو ثلاثمائة علم في الشرع، واللغة، والتاريخ والأدب، والطبيعة، والفلك، والفلسفة، وغيرها. ومعظم تلك العلوم نشأ من القرآن نفسه واستنبطه العلماء من نصوصه، وكثير منها تولد خدمة للقرآن ويسمي هذا النوع من العلوم «وسائط» أو «وسائل».
وقد كان لذلك الكتاب أثر شديد في أصحابه، وقد شمل شريعة، وقانونا، وأنظمة سياسية واجتماعية ومدنية، وشيء من هذا لم يوجد في كتاب سواه، بل إن غيره من الكتب ينطوي على تعاليم لمصلحة الحياة الآخرة.
وكثير جدا من نصوص الكتاب المنزل على أفصح العرب يحث أصحابه على طلب العلم والنظر والتأمل والتفكير في خلق السماوات والأرض، وأنظمة الكواكب والأجرام العلوية، واختلاف الليل والنهار، وتغير الرياح، وعجائب البحار، ومعجزة خلق الإنسان وتطوره وتميزه بالعقل والإدراك، وتفضيله على سائر الكائنات، وتسخير الجماد والنبات والحيوان لخدمته فيما ينفعه ويرقي شئونه في سائر ناحيات الحياة المادية والأدبية، عدا عما ورد في هذا الكتاب من حوادث التاريخ وأخبار الأمم البائدة والباقية، فكان من المحتم أن تتفتح أذهان تلك الأمم التي انتحلت هذه العقيدة، واهتدت بهدي كتابها.
وفي معترك تلك الحياة الغنية بالفكر والعلم والتأمل وتنازع البقاء بين القديم والجديد؛ ولدت الفلسفة الإسلامية، فكان الفرق بين اليونان والعرب أن اليونان تفلسفوا في وثنيتهم، فلما دانوا بدين منزل - هو المسيحية السمحاء - زالت فلسفتهم وانقرض حكماؤهم؛ لشدة المعارضة بين عقيدتهم الجديدة والفلسفة، أما العرب فقد كانوا في جاهليتهم ووثنيتهم أبعد الناس من الفلسفة مع معاصريهم لليونان من أقدم الأزمنة، فلما جاءهم الكتاب المنزل على أفصح العرب أخرجهم من ظلمات الجاهلية والوثنية ومن دياجير الجمود الفكري أيضا، وحثهم على الدرس والبحث والنظر، ومهد لهم سبيل الفلسفة.
وانقضى القرن الأول وثلث القرن الثاني من صدر الإسلام في الاستعداد والتجهيز إلى أن جاء العصر العباسي الأول، الذي يعد العصر الذهبي للإسلام، وقد دام مائة عام من 132ه إلى 232ه، وفي هذا العصر الذهبي بلغت دولة الإسلام قمة مجدها في المدنية والغنى والسيادة، وفي تلك المائة نشأ معظم العلوم الإسلامية، ونقلت العلوم الأجنبية إلى اللغة العربية، وكانت بغداد في ذلك العهد أشبه بباريس في عهد لويس الرابع عشر، فكانت قصور الخلفاء آهلة بالعلماء والأطباء والأدباء والشعراء، وكانت سيادة العباسيين على العالم الإسلامي شاملة سائر الأقطار، وكانت أوروبا في ذلك الوقت - وهو النصف الأخير من القرن السابع والنصف الأول من القرن الثامن - في غيابة الجهل والوحشية؛ حتى أن مؤرخي أوروبا أنفسهم يسمون هذا العصر وما سبقه وما لحقه بالقرون المظلمة
The Dark Ages .
على أن نهضة الإسلام لم تكن قاصرة على الأمم التي اعتنقت هذا الدين، بل كانت النهضة شاملة للشرق كله، كأن المبعث هز أركان ذلك الجزء من الكرة الأرضية، فهب من سباته الذي مضت عليه الأجيال المتراكمة، وأخذ ينفض عن نفسه غبار خمول الأجيال السابقة، فنهض الفرس والترك والتتار والهنود، حتى أهل الصين واليابان فإنهم هبوا للإصلاح الأدبي في أثناء ذلك العصر العباسي أو بعده بقليل، فكانت حركة الإسلام كهزات الزلازل تسير في مناطق معينة وتنتقل في دوائر محدودة، ولا يزال مؤرخو الآداب الصينية يذكرون نهضة فحول شعرائهم في القرنين التاسع والعاشر للمسيح، في عهد إمبراطورهم ابن السماء «تنغ»، واشتغل اليابانيون في ذلك العصر أيضا بتهذيب اللغة اليابانية وتنظيم الآداب الاجتماعية، وظهرت فيهم عبقرية الفنون، فكان منهم الشعراء والأدباء والمصورون والمثالون.
وهكذا ما فتئ المشرقان الأقصى والأدنى يتأثران بحركة النهضة التي تظهر في أحدهما فيكون لها صدى في الآخر، وما صدق على القرن التاسع المسيحي، صدق أيضا على نهضة القرن التاسع عشر في الشرقين الأقصى والأدنى.
ومن مميزات هذا العصر العباسي اشتغال الخلفاء والأمراء بالعلم والأدب، وأخبار المنصور والرشيد والمأمون وأقاربهم ووزرائهم وشعرائهم تملأ كتب الأدب والتاريخ العربي، فكان من حياتهم أعظم دافع لاشتغال الرعية بطلب العلم والنبوغ فيه.
ومن مفاخر هذا العهد إطلاق الفكر من قيود التقليد، حتى تعددت البدع وتفرقت الفرق وكثرت النحل، وكان أكثر الخلفاء تسامحا في الدين، المأمون الذي بلغ به تسامحه أنه انتصر للمعتزلة في القول بخلق القرآن. وكانت الأفكار، من حيث الدين، مطلقة الحرية لا يكره الرجل على معتقد أو مذهب، وقد اجتمع ستة إخوة «لأبي جعد»: اثنان منهما يتشيعان، واثنان مرجئان، واثنان خارجيان، وكلهم تحت سقف واحد.
أما الخلفاء الذين اهتموا بنقل العلوم الأجنبية أو الدخيلة من اليونانية والفارسية والسريانية والهندية فهم: المنصور وكان اهتمامه بالفلك والطب، والرشيد ونقل في أيامه كتاب «المجسطي» في الرياضيات، ثم المأمون وهو الذي اهتم بنقل الفلسفة والمنطق بصفة خاصة وسائر العلوم بصفة عامة، وقد بلغت الكتب التي نقلت في ذلك العصر مئات، أكثرها من اليونانية منها:
8 في الفلسفة والأدب لأفلاطون.
19 في الفلسفة والمنطق لأرسطو.
10 في الطب لأبقراط.
48 في الطب لجالينوس.
20 (وأكثرها في الرياضيات والفلك) لإقليدس وأرخميدس وبطليموس وغيرهم.
20 من الفارسية في التاريخ والأدب.
30 من اللغة السنسكريتية في الرياضيات والطب والفلك والأدب.
20 عن السريانية والنبطية، في الفلاحة والزراعة والسحر والطلاسم.
20 عن اللاتينية والعبرانية في مختلف العلوم والآداب والفنون.
أما الذين نقلوا تلك العلوم من اللغات الأجنبية إلى العربية فهم: (1)
آل بختيشوع من أولاد جرجيوس بن بختيشوع السرياني النيسطوري، طبيب الخليفة المنصور. (2)
آل حنين، سلالة حنين بن إسحاق العبادي شيخ المترجمين، وهو من نصارى الحيرة. (3)
حبيش الأعسم الدمشقي ابن أخت حنين. (4)
قسطا بن لوقا البعلبكي من نصارى الشام. (5)
آل ماسرجويه اليهودي السرياني. (6)
آل ثابت الحراني من الصائبة. (7)
أبو بشر متى بن يونس. (8)
يحيى بن عدي. (9)
اسطفان بن باسيلي. (10)
موسى بن خالد.
وهؤلاء نقلوا العلوم من اليونانية والسريانية إلى العربية.
أما نقلة العلم من الفارسية إلى العربية فهم: (1)
ابن المقفع. (2)
آل نوبخت، وكبيرهم نوبخت وابنه الفضل. (3)
موسى ويوسف ولدا خالد. (4)
علي بن زياد التميمي. (5)
الحسن بن سهل. (6)
البلاذري أحمد بن يحيى. (7)
إسحاق بن يزيد.
ومن الذين نقلوا عن اللغة السنسكريتية: (1)
منكه الهندي. (2)
ابن دهن الهندي.
ومن الذين نقلوا من اللغة النبطية: (1)
ابن وحشية، نقل كتبا كثيرة أهمها كتاب «الفلاحة النبطية».
وظاهر مما تقدم أن المسلمين في عصرهم الذهبي نقلوا إلى لسانهم معظم ما كان شائعا من العلم والفلسفة والطب والفلك والرياضيات والآداب، واتخذوا عن كل أمة أحسن ما لديها، ولكنهم اختاروا من اليونان فلسفتهم، وتركوا آدابهم وفنونهم، لأسباب يطول شرحها، ووفيناها حقها من البحث في كتابنا «الشهاب الراصد» ص160 وما بعدها، عند الكلام على المقارنة بين العرب واليونان والرومان.
وقد كانت تلك المؤلفات التي نقلت إلى اللغة العربية هي النواة التي نبتت ونمت، ثم أزهرت وأثمرت وأتت بأطيب الفوائد للمسلمين وغيرهم ممن اندمجوا في مدنيتهم خلال الأربعة عشر قرنا منذ ظهر الإسلام إلى الآن.
كان العصر العباسي الأول عصر الغرس وبذر البزور، فجاء العصر الثاني للحصاد وجني الثمار، ويجدر بنا أن نرد الفضل إلى ذويه ونعترف بسرور وعن طيب خاطر بأن الذين اشتغلوا بنقل العلم والفلسفة في العصر العباسي الأول كان معظمهم من أدباء أهل الكتاب من غير المسلمين، فلما تم النقل تقدم المسلمون إلى العمل، فكان أسبقهم يعقوب بن إسحق الكندي، الذي بدأنا بترجمته في مفتتح هذا السفر الضئيل، وهو من أبناء القرن الثالث الهجري.
ومن عجيب الاتفاق أن هذا العصر العباسي الثاني كان زمنه مائة سنة كسابقه، تبدأ بآخر الثلث الأول من القرن الثالث الهجري، وتنتهي بانتهاء الثلث الأول من القرن الرابع الهجري. ثم بدأ العصر العباسي الثالث (334-474ه) وهو عصر ابن سينا وإخوان الصفا والغزالي.
وفي العصر العباسي الرابع انتقلت تلك العلوم الدخيلة إلى بلاد الأندلس، وذلك بعد ظهور رسائل إخوان الصفا بمائة عام، وكان الفضل في ذلك لأبي الحكم عمرو بن عبد الرحمن الكرماني القرطبي، الذي رحل من الأندلس إلى المشرق في طلب العلم وعاد إلى بلاده حاملا نسخة من تلك الرسائل، فتعلق الأندلسيون بالفلسفة وأحبوها، واستغرقوا في درسها وقاسى بعضهم الشدائد في سبيلها، كما هو مفصل في كلامنا على ابن رشد، وفي تلك البلاد ظهر ابن باجه، وابن طفيل، وابن رشد، وابن خلدون، وغيرهم من الفلاسفة والحكماء والأطباء والرياضيين والفلكيين والكيميائيين ممن ملأت شهرتهم الخافقين.
وبانقضاء دولة الإسلام في الأندلس قضي على الفلسفة أيضا، ولم تقم لها بعد في ممالك الإسلام قائمة، إلى أن ظهر محمد جمال الدين الحسيني الأفغاني المتوفى في آخر القرن الماضي.
ومما هو جدير بالذكر أن ظهور الفلسفة ونموها كان تابعا لقوة الدين الإسلامي وشدة بأسه وسعة انتشاره، فلما ضعفت العقائد الدنية ضعفت المباحث العقلية التي كانت تستدعيها تلك العقائد، فكأن دين الإسلام بضد غيره من الأديان، كان يغذي الفلسفة ويقويها ويشد أزرها، وقد لاحظ الأستاذ «رينان» في بعض مؤلفاته هذه الظاهرة العجيبة، وهي هبوط الفلسفة في أوروبا كلما قويت شوكة الدين، وانتعاش الفلسفة بعد ذلك عقيب تدهور العقائد الدينية في أوروبا.
فإن الفلسفة الأوروبية الحديثة لم تر نور الشمس إلا في القرن السابع عشر، ومن بعد أن تحللت قيود المسيحية السمحاء، واندثرت معالم المظالم التي كانت تتحفز للقضاء على كل مفكر حر، وما حدث في إسبانيا عن يد محاكم التفتيش، وفي إيطاليا ضد «جاليله» وأمثاله، بل في سويسرا البروتستانتية؛ حيث أمر «كالفن» الشهير بإحراق وإعدام العالم «ميشيل سرفيه» بعد طول التعذيب والسجن، وكانت جريمته في نظر «كالفن» أنه سبق «هارفي» الإنجليزي إلى اكتشاف الدورة الدموية في جسم الإنسان.
فظن «كالفن» أن في ذلك ما يخالف الدين، فنكل به ما شاء فسامحه (!؟) ولم يجد أبناء الأجيال الحاضرة وسيلة للتكفير عن ذنب إمامهم الورع «كالفن » سوى نصب تمثال من المرمر في قرية (أنماس) على أبواب جنيف، يمثل ذلك العالم الطبيعي «مشيل سرفيه» مقيدا بسلاسل السجن ومتدثرا بثياب بالية وقد دب في كيانه البدني دبيب النحول والهزال، بعد أن أصبح فريسة لليأس والألم ولذعات القمل!
لقد كانت الفلسفة من قديم الزمان مقيدة بالنظم التي وضعها المعلم الأول «أرسطو» وهي: المنطق، والأخلاق، والإلهيات. وما زالت كذلك إلى أن ظهر «ديكارت»، فشاد بناء الفلسفة الحديثة على قاعدة البحث بطريق افتراض الشك للوصول إلى اليقين، ثم توسع في تطبيق تلك القاعدة «هيوم» الإنجليزي و«كانت» الألماني و«سبينوزا» الهولندي.
ومنذ القرن التاسع عشر ظهرت تيارات جديدة للفلسفة في ألمانيا، بدأها «شوبنهور» متأثرا بأفكار أستاذه وصديق أسرته «جوته»، وانتهت «بفردريك نيتشه» الذي خرج بالفلسفة عن الدروب المطروقة وتغلغل بها في سبل حديثة الاكتشاف للفكر البشري، وتلاه في فرنسا «برجسون» صاحب المذهب الافتطاري
Intuition ، ولا تزال الفلسفة الأوروبية الحديثة واقفة عند هذا الحد إلى أن يأتي لها من يأخذ بيدها ويفسح لها مجالا جديدا، بعد أن ينتشلها من وهدة السقوط الذي أدركها في العشرين سنة الأخيرة؛ إذ عدت عليها عوادي المذاهب المادية، واستغرقت شهوات البشر، من طموح إلى السيادة وطمع في السعادة، جميع قوى الإنسان وسدت عليه مسالك الفكر الصحيح، وأنشبت أظفارها بمواهب العقل السليم.
فلا عجب إذا ألحت بنا الحاجة ونحن في القرن الرابع عشر الهجري، وهو شبيه بقرن نهضة إحياء العلوم والآداب بأوروبا بعد انقشاع ظلمات القرون الوسطى، إلى نشر «تاريخ فلاسفة الإسلام» وشرح مبادئهم، لعل في هذا التحريك إيقاظا وإنعاشا بعد الرقاد الطويل الذي استولى على المفكرين في الإسلام من عهد ابن رشد إلى وقتنا هذا.
محمد لطفي جمعة
الفصل الأول
الكندي
أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي، فيلسوف العرب، وأحد أبناء ملوكها، فرع الدوحة الكندية، وسليل أمراء الجزيرة العربية، كان أبوه إسحق بن الصباح أميرا على الكوفة لعهد ثلاثة من خلفاء العباسيين: المهدي والهادي والرشيد، وتنتهي سلسلة أجداده لدى يعرب بن قحطان، وبينهم الأشعث بن قيس من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان قبل ذلك ملكا على كندة كما كان أبوه. ومن أجداد الكندي معدي كرب وكان ملكا في حضرموت كأبيه. ومعظم أجداد الكندي ملوك بالمشعر واليمامة والبحرين.
لم يذكر مؤرخو العرب تاريخ ميلاد الكندي ووفاته بالدقة، ولم يذهبوا إلى أكثر من أنه من أهل القرن الثالث للهجرة، ولكن عالمين غربيين حققا ذلك، فذكر فلوجل أن الكندي عاش في النصف الأول من القرن العاشر للميلاد، ومات بعد عام 861م. وذكر العلامة ناجي الإيطالي - أحد أساتذة الفلسفة بروما، المتوفى في أواخر القرن التاسع عشر وكان ممن عنوا بتاريخ الفلسفة العربية، ونشر كتبا للكندي باللاتينية - أن وفاته كانت عام 258 هجرية؛ أي 873 مسيحية، وثبت أنه كان حيا يرزق عام 198 هجرية فكأنه عمر نحو سبعين عاما.
قال سليمان بن حسان (وهو ابن جلجل الأندلسي) إن الكندي كان بصريا، وكانت له بالبصرة ضيعة نزل بها، ثم انتقل إلى بغداد، وتخرج في مدارسها بعد مدارس البصرة، وكان عالما بالطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق وتأليف اللحون والهندسة وطبائع الأعداد وعلم النجوم، وقيل إنه كان يملك جانبا من علوم الإغريق والفرس، ويعرف حكمة الهنود، وكان كذلك ملما بإحدى اللغتين الأجنبيتين الذائعتين لذاك العهد، وهما اليونانية والسريانية، لأجل هذا ندبه المأمون فيمن ندب من الحكماء إلى ترجمة مؤلفات أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان.
وقال سليمان بن حسان إنه لم يكن في الإسلام فيلسوف غيره! ولعله يقصد بذلك إلى أنه أول فلاسفة الإسلام. ثم إن الكندي احتذى في تآليفه حذو أرسطو، وفسر من كتب الفلسفة الكثير، وأوضح منها المشكل، ولخص المستصعب وبسط العويص، وهذا لعلو كعبه في الترجمة؛ فقد ذكر شاذان في المذكرات عن أبي معشر، المشهور عند المصريين بكتاب في التنجيم: «إن حذاق التراجمة في الإسلام أربعة، بينهم يعقوب بن إسحق الكندي.»
بيد أن بعض معاصريه نقموا عليه إما حسدا وإما غير ذلك، ومنهم القاضي أبوالقاسم صاعد بن أحمد القرطبي، قال في «كتاب طبقات الأمم» عند الكلام على كتب الكندي في المنطق إنها «نفقت عند الناس نفاقا عاما، وقلما ينتفع بها في العلوم؛ لأنها خالية من صناعة التحليل التي لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل في كل مطلوب إلا بها. وأما صناعة التركيب، وهي التي قصد يعقوب في كتبه هذه إليها، فلا ينتفع بها إلا من كانت عنده مقدمات عتيدة فحينئذ يمكن التركيب، ومقدمات كل مطلوب لا توجد إلا بصناعة التحليل، ولا أدري ما حمل يعقوب على الإضراب عن هذه الصناعة الجليلة، هل جهل مقدارها أو ضن على الناس بكشفها؟ وأي هذين كان فهو نقص فيه، وله بعد هذا رسائل كثيرة في علوم جمة، فيها آثار فاسدة ومذاهب بعيدة عن الحقيقة». ا.ه.
وتحامل القاضي القرطبي ظاهر على أن هذا لم يكن رأي علماء الإفرنج في الكندي، فقد عده غليوم كردانو الإيطالي المتوفى سنة 1576، بين الاثني عشر عبقريا الذين ذكر أنهم أهل الطراز الأول في الذكاء والعلم، لم يخرج للناس سواهم منذ بداية العالم إلى نهاية القرن السادس عشر للمسيح. وقال روجر باكون، وهو قس إنجليزي من أهل القرن الثالث عشر للمسيح، ومن مشاهير القرون الوسطى: «إن الكندي والحسن بن الهيثم في الصف الأول مع بطليموس لاشتهاره بما دونه في علم المرئيات، وقد نقل بعض رسائله في هذا الباب جيرار دي كريمونا.»
على أن مؤلفات الكندي الفلسفية، وشروحه لحكمة أرسطو، وهي أول ما دونه العرب في هذا، نادرة الذكر في كتبهم التي وقعت لنا. ونذكر بين مؤلفاته كتابا في قصد أرسطوطاليس في المعقولات، وآخر في ترتيب مصنفات أرسطو. وذكر له ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء رسالة «في كمية كتب أرسطو، وما يحتاج إليه في تحصيل علم الفلسفة، مما لا غنى في ذلك عنه، وفي ترتيبها وأغراضه فيها»، وكتاب في قصد أرسطوطاليس في المقولات، والموضوعة لها رسالته الكبرى في مقياسه العلمي. ومن كتب أرسطو كتاب أتلوجيا، وهو «قول على الربوبية»، تفسير فارفوريوس الصوري، ونقله إلى العربية عبد المسيح بن عبد الله ناعمة الحمصي، وأصلحه لأحمد بن المعتصم بالله أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي، وطبع ببرلين عام 1882.
أسفلنا أن الكندي في طليعة من شرحوا أرسطو، ولكن ابن سينا خلفه وتفوق عليه. وذكر ابن جلجل أنه لم يكن بين فلاسفة الإسلام (كتب هذا بعد وفاة الفارابي) من اقتفى آثار أرسطو بأدق مما اقتفاه الكندي.
أما تآليف الكندي فتكاد تشمل سائر العلوم، فقد دون كتبا في الفلسفة وعلم السياسة والأخلاق، والأرثماطيقي وعلم الكريات والموسيقى، والفلك والجغرافيا والهندسة ونظام الكون والتنجيم، والطب والنفسانيات والأبعاديات والمساكن ألف فيه رسالته الكبرى، ورسالة في الربع المسكون وعلم المعادن، وفيه رسالة في أنواع الجواهر والأشباه، ورسالة في نعت الحجارة والجواهر ومعادنها وجيدها ورديئها وأثمانها، ورسالة في تلويح الزجاج، وأخرى في أنواع الحديد والسيوف وجيدها ومواضع انتسابها. وألف في الكيميا رسالة في العطر وأنواعه، ورسالة في كيمياء العطر. وأخرى في التنبيه على خدع الكيمائيين، ورسالة في الطبيعة، ورسالة في الأجرام الغائصة في الماء، ورسالة في الأجرام الهابطة، ورسالة في عمل المرايا المحرقة. وله كتب خطية في مكاتب أوروبا ذكرها بروكلمان في فهرسته.
بيد أن الناظر في مؤلفات الكندي يرى أنها لم تخرج عن حد العقليات. وأخبرنا العلامة سنتلانا، أستاذ تاريخ الفلسفة بالجامعة المصرية في عام 1911: «إن البينوناجي الذي سلف ذكره نشر في عام 1897 خمس رسائل فلسفية للكندي، أولاها في ماهية العقل، ونشرت ترجمتها باللاتينية.»
وليس بين مؤلفات الكندي شيء في الدين، بل إنه اشتهر برأي خاص في «واجب الوجود»، خالفه فيه المتشددون من أهل عصره، وأخذوا عليه رأيه المذكور الذي أودعه رسالة التوحيد. وقد روى عبد اللطيف البغدادي، أحد أطباء العرب، ومؤلف «كتاب أخبار مصر»، وهو من أهل القرن الثاني عشر ومن الفقهاء المتعصبين؛ أنه كتب رسالة ضمنها بحثا في حقيقة واجب الوجود وما ينبغي نحو ذاته العلية، وأن غايته من تدوينها نقض ما دونه الكندي من قبل في «رسالة التوحيد». وروى كاتب «مقالة الكندي» في دائرة المعارف البريطانية «أنه كان أول الثائرين على الإسلام»؛ يقصد المبتدعين. ولكن في هذا مغالاة، فقد سبقه كثير من المعتزلة، كواصل بن عطاء في أوائل القرن الثانين وعمرو بن عبيد، والنظام تلميذ ابن الهيثم، والجاحظ تلميذه، وكلهم سابقوه. على أن خصوم الكندي لم يأخذوا عليه إلا قوله «بوحدة واجب الوجود وبساطة ذاته العلية»، وإن هذا القول أرسطي محض، ومعناه أن القائلين به لا يعترفون لواجب الوجود بصفة مطلقة، والصفات المطلقة هي المميزة عن الذات، وكان أرسطو حقيقة ينكر الصفات ويقول بأنها والذات شيء واحد، وهذا القصد من قولهم ببساطة واجب الوجود.
على أن المعتزلة والسنيين متفقون في جوهر هذه المسألة. فإن المعتزلة تقول: «إن الله عليم بذاته خبير بذاته قادر بذاته»؛ أي يعلم ويقدر دون الاحتياج إلى صفة. أما الصفاتية، وهم جمهور المسلمين، فيقولون بأن الله عليم بالعلم؛ أي بصفة العالم، وقادر بالقدرة؛ أي بصفة اسمه القادر. وإن هذه الصفات ليست منفصلة عن الذات؛ لأنها لو انفصلت لعادوا إلى رأي المعتزلة، وقد يشركون. وحجة المعتزلة فيما سبق بيانه أن القول بالصفات يثبت ثلاثة عشر قديما (الصفات المشهورة ثلاث عشرة: خمس سلبية وواحدة نفسية وسبع معان). على أن المعتزلة إذا سئلوا قالوا إن الله قادر، فهم متفقون وجمهور المسلمين في الجوهر كما أسفلنا.
أول أعداء الكندي من معاصريه أبو معشر. روى ابن النديم البغدادي الكاتب المعروف بابن أبي يعقوب في كتاب الفهرست «أن أبا معشر، وهو جعفر بن محمد البلخي، من أصحاب الحديث أولا، وكان منزله في الجانب الغربي بباب خراسان ببغداد، وكان يضاغن الكندي ويغري به العامة، ويشنع عليه لأخذه بعلوم الفلاسفة، فلما رأى الكندي منه ذلك أراد أن يقطع عن نفسه شره بما ينفع أبا معشر ولا يضره، فدس عليه من حسن له النظر في علم الحساب والهندسة فاشتغل بهما، ولكنه لم يوفق فيهما فعدل عنهما إلى علم أحكام النجوم، فانقطع شره عن الكندي بنظره في هذا العلم، وقد تعلم علم أحكام النجوم بعد سبع وأربعين سنة من عمره»، وأمسى من تلاميذ الفيلسوف بعد أن كان ألد أعدائه!
روى أبو جعفر ابن يوسف في كتابه «حسن العقبى»، عن أبي كامل شجاع بن الحاسب «أنه كان لعهد المتوكل أخوان شريران: محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر، وكان هذان الشقيان يكيدان لكل من ذكر بالتقدم في علم أو معرفة، فلما ذاع فضل الكندي غاظهما ذلك، وأرادوا الوقيعة به لدى المتوكل، وكان للكندي نصير في بلاط الخليفة، وهو سند بن علي، فباعداه عن المتوكل وأشخصاه إلى مدينة السلام، فلما خلا لهما الجو دبرا على الكندي مكيدة، فضربه المتوكل، ووجها إلى داره فأخذا كتبه بأسرها وأفرداها في خزانة سميت «الكندية».»
وقد ردت له هذه الكتب بخبر غريب، وهو أن الشقيقين الشقيين كانا يعملان للانفراد بالمتوكل وإبعاد أهل الفضل عنه، والحصول على ما يستطيعان من المال، فكشف أمرهما في حفر النهر المعروف بالجعفري؛ فإنهما أسندا حفره إلى مهندس معرفته أوفى من توفيقه، فغلط في فوهة النهر، وأتلفا جملة من مال المتوكل، فأقسم أن يصلبهما على شاطئه إن كان ما بلغه عن الغلط حقا، فتوسلا إلى سند بن علي الذي ما تركا شيئا من سوء القول إلا ذكراه عند المتوكل به، فقال لهما سند بشمم أهل الفضل: «إنكما لتعلمان ما بيني وبين الكندي من العداوة والمباعدة، ولكن الحق أولى ما أتبعه، والله لا ذكرتكما عند المتوكل بصالحة حتى تردا عليه كتبه!» فتقدم محمد بن موسى في حمل الكتب إليه وأخذ خطة باستيفائها، فوردت رقعة الكندي بتسلمها عن آخرها، وقال سند للمتوكل إنهما ما غلطا لينقذهما من العقاب. ومات المتوكل بعد ذلك بشهرين قبل أن يظهر غلط الحفر في النهر.
اعتاد مترجمو الحكماء رواية بعض أقوالهم في الحكمة العامة للاستدلال على آرائهم، ويغلب أن يكون المنقول من الحكم الذائعة على ألسنة الأدباء ذكرت للإسهاب، أو دست على الرواة؛ فقد قرأت حكما نسبت لسقراط، وقرأتها بعينها منسوبة لكونفوشيوس ولقمان وغيرهما، ومثل هذا كثير، ولا أظن أنه يؤخذ به في تقدير المنسوب إليه أو في الحكم عليه.
والأقوال المروية عن الكندي تنقسم، من حيث شكلها، قسمين: نثرا وشعرا. والنثر في ثلاثة أمور: الأول نصيحة للطبيب، والثاني في الحث على التواضع، والثالث في التحذير من الأقارب ، ورويت عن سبعة أبيات من الشعر، رواها العسكري في كتاب الحكم والأمثال وهي:
أناف الذنابي على الأرؤس
فغمض جفونك أو نكس
وضائل سوادك واقبض يديك
وفي عقر بيتك فاستجلس
وعند مليكك فابغ العلو
وبالوحدة اليوم فاستأنس
فإن الغنى في قلوب الرجال
وإن التعزز بالأنفس
وكائن ترى من أخي عسرة
غني وذي ثروة مفلس
ومن قائم شخصه ميت
على أنه بعد لم يرمس
فإن تطعم النفس ما تشتهي
تقيك جميع الذي تحتسي
وعندي أن هذه الأبيات تدل على حالة نفسية حزينة، تدني هذا الفيلسوف العربي القديم من شوبنهور. ولا غرابة إذا كان الحزن ميزة الحكماء؛ فهو كما قال زيلر في كتابه عن تاريخ فلاسفة اليونان «علامة الأمم المفكرة».
قال في وصيته: «ليتق الله تعالى المتطبب ولا يخاطر فليس عن الأنفس عوض!» وقال: «كما يحب أن يقال إنه كان سبب عافية العليل وبرئه، كذلك فليحذر أن يقال إنه كان سبب تلفه وموته.» وكان رحمه الله طبيبا ونصحه صالح لكل زمان! «العاقل يظن أن فوق علمه علما فهو أبدا يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهي فتمقته النفوس لذلك» نقلا عن كتاب المقدمات لابن بختويه.
قال الكندي يوصي ولده: «يا بني، الأب رب والأخ فخ والعم غم والخال وبال والولد كمد والأقارب عقارب.»
وهذا من وصيته لابنه أيضا «قول «لا» يصرف البلا، وقول «نعم» يزيل النعم، وسماع الغناء برسام حاد؛ لأن الإنسان يسمع فيطرب وينفق فيسرف فيفتقر فيغم فيعتل فيموت.» «الدينار محموم فإن صرفته مات! والدرهم محبوس فإن أخرجته فر! والناس سخرة فخذ شيئهم واحفظ شيئك! ولا تقبل من قال اليمين الفاجرة فإنها تدع الديار بلاقع!» (1) إيضاح عن الكندي
1
لا يوجد أدب لغة أغزر مادة من الأدب العربي، ولا أبعد عنه مدى ولا أعمق غورا ولا أشهى ثمرا وأكثر نفعا، ولكنه لسوء حظ عشاقه وهواته والمشتغلين به محدود الفائدة لطلابه، وقد يتعجب القارئ لهذا التناقض ولكن تلك الدهشة تزول إذا علم أن المؤلف أو الباحث قد يصرف أياما في التنقيب عن مبحث يريده وقد يقرأ مائة صفحة قبل أن يعثر بسطرين لهما مساس بمبحثه، فقد منح الله كتاب العرب وأدباءهم من سعة الاطلاع وحب الاستطراد والتعلق بأسباب الإسهاب والتطويل، ما يجعل بعضهم ينتهي من مؤلفه قبل أن يصل إلى بداية الموضوع الذي ندب نفسه لدرسه، أو الكتابة فيه، ولم يسلم من فضلاء الأدباء إلا العدد القليل ممن صحت عقولهم وعزائمهم وتمكنوا من كبح جماح نفوسهم لدى استهواء الاستطراد مثل الجاحظ على أن أمثال الجاحظ قليلون. أما سواهم فيجعلون كتب التاريخ موسوعات لفنون الأدب وعلم النبات والحيوان والطب والتنجيم، ويندر أن لا يفردوا في كل فصل من فصولها بابا للنحو والصرف والبيان!
ومما يعجب له أن الكتاب الذين قطعوا أنفسهم لتدوين تراجم العظماء والفلاسفة والشعراء، لم يعنوا قط بوصف معايشهم وأخلاقهم وأطوارهم وأحوالهم النفسية كما فعل اليونان وكما يفعل الأوروبيون في هذا الزمان. وقد يكتفي بعضهم بذكر مؤلفاتهم، وسنتي ميلادهم ووفاتهم وقد لا يذكر ذلك على التحقيق إلا في بعض الأحوال دون غيرها. ومن غرائب هذا الباب أن لا يذكر مؤرخو حياة المتنبي إلا أنه مدح سيف الدولة وهجا كافورا وقتل بمكان قفر، ولا يوجد في سيرته خاصة إلا رسالة ضئيلة طبعت على هامش شرح العكبري لديوان هذا الفحل، وهو شرح مطول في جزأين ضخمين يبدأ في تفسير كل بيت من أبياته بالإعراب والتحليل والصرف والنحو والغريب من الألفاظ.
ومما ذكره المؤرخون عن ابن تيمية، وهو أعظم أئمة المجتهدين المصلحين أمثال مارتين لوثيروس وكالفين في الغرب، «أنه مات من قطعة هريسة ازدردها» ...
وغنى عن البيان بعد ما تقدم أن من يريد أن يكتب صفحة صحيحة عن عظيم عربي يعرض نفسه لأنواع المشاق والمتاعب. ويحسن بي ذكر ما قاله لي العلامة سانتيلانا أستاذ تاريخ المذاهب الفلسفية في الجامعة المصرية عامة 1911، عند الكلام على تراجم فلاسفة الإسلام، من أنه قد يقرأ الكتاب ذا الصفحات العديدة دون أن يتمكن من تدوين سطر واحد. وروى لي الأستاذ إدوار لامبير أستاذ الحقوق بمدرسة ليون الجامعة، أن جولد زيهر أحد علماء المشرقيات النمسويين قضى أكثر من عشر سنين في تأليف كتابه «في السنة المحمدية»؛ وذلك لتشتت المواد وصعوبة الوصول إلى ما كان يريد جمعه من الأخبار والروايات والأسانيد.
2
لا يمكن تصوير الكندي تصويرا معنويا أو خلقيا ينطبق على الحقيقة انطباقا تاما؛ لأنه لم يترك كتابا ولا رسالة في ترجمة حاله، ولأن المؤرخين لم يذكروا عنه إلا أمورا مبتذلة، ولكن بعض مؤلفاته وبعض أقواله وحال العصر الذي عاش فيه قد تساعد في مجموعها الباحث المدقق، في الوصول إلى الوقوف على ما يقرب من الحقيقة من شئونه.
فمما يذكر عنه وله شأن في هذا المعنى أن الكندي عمر طويلا، ويصح القول بأنه ساير القرن التاسع المسيحي، وهو من أهل المائة الثالثة الهجرية. والفضل في تحقيق ذلك راجع إلى عالمين غربيين هما فلوجل وناجي. أما مؤرخو العرب، وفي مقدمتهم المسعودي، فلم يذكروا عن ميلاده ووفاته شيئا بالتحقيق أو ما يشابهه؛ لأن الكندي توفي بعيدا عن بلاط المتوكل، وقد ردته هذه العزلة إلى الخمول الذي يشمل سائر الأحياء في الأرستقراطيات الشرقية التي لا يظهر فيها إلا كل من له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بولي الأمر في زمنه.
ويستنتج من أقوال هذين العالمين الغربيين فيما سبق أن الكندي عاش نحو سبعين عاما، وهذا يدل على اعتداله في عيشته واستقامته في أمور حياته الدنيوية، وعلى قوة بنيته الأصلية.
ويؤخذ من أخباره أنه نشأ وترعرع في كنف الخلفاء العباسيين، فقد كان أبوه أميرا على الكوفة لعهد ثلاثة من خلفاء العباسيين، فلما نبت يعقوب لجأ إلى قصور الخلفاء، وقد عاش الكندي كأبيه في ظل ثلاثة من الخلفاء العباسيين، وهم المأمون والمعتصم والمتوكل، وأولهم أعظمهم، وقد مرح الكندي في كنفه ونال من حظوته ما ناله أمثاله العلماء، وكان المأمون أوسع الخلفاء العباسيين صدرا للحكماء وأرحبهم جانبا وأقلهم تشددا وتعصبا.
وقد ندب فيمن ندبوا لنقل العلوم من اليونانية والسريانية إلى العربية، وكان كذلك ينتاب الخلفاء في التطبيب ويخدمهم في التوقيعات الفلكية دون التنجيم، فإنه كان يبغضه وينفر الناس منه، وله مع ابن معشر الشهير حديث طويل أتينا عليه قبلا، وقد عاش أبو يوسف معظم أيامه عيشة هنية في ظلال دواوين الحكومة العباسية لعهد المأمون والمعتصم فتفرغ لدرس فلسفة أرسطو، وأخذ في شرحها والتعليق عليها. فصححت تلك الفلسفة الإغريقية نظره في الأشياء وشحذت من ذهنه ووسعت دائرة معارفه وفكره، وكانت المائة الثالثة الهجرية حافلة بفضلاء المعتزلة وأكابر علماء الكلام والمجتهدين وأحرار الفكر، وقد رماهم بعض المغالين بالإلحاد أمثال النظام والجاحظ وواصل بن عطاء وغيرهم ممن حفل بذكرهم كتابا «الملل والنحل» و«الفرق بين الفرق» للشهرستاني والبغدادي وغيرهما، ولم يكن للكندي بد من الاحتكاك بهم والأخذ عنهم والاستنارة بأفكارهم، فأدخل في كتبه ما شاء العقل الراجح والبصيرة المنورة، مما أخذه عليه الجهال والنوكى فوشوا به عند المتوكل، وكان المتوكل متسرعا فنقم على الكندي ولم يرع خدمته له ولأسلافه من قبل ونكبه في حقوقه وكتبه.
3
بيد أن الكندي على عظم علمهن واتساع نطاق معارفه، وغزارة مادته، وتعدد تواليفه وتصانيفه، وسبقه سواه من العرب إلى درس أرسطو وترجمة كتبه؛ لم يكن عبقريا بالمعنى الصحيح على الرغم مما ذكره غليوم كردانو؛ لأنه لم يكن له مبدأ فلسفي خاص به، بل كان مصنفا يعمم العلم وينشره بشرح أمهات الكتب والتعليق عليها وإدخال مذهب أتباع فيثاغورس وأرسطو في كتبه. فكان إذن عالما ذا مواهب جمة لم تبلغ به سمت الذكاء الإنساني، ولم تنزل به إلى مستوى العلماء المتوسطين، وكانت له في الطب والرياضيات عصمة عن الخرافات والتدجيل.
فمن فضائله أنه نهى عن الاشتغال بالكيمياء للحصول على الذهب، وذم ذلك وبين أنه عبث وتضييع للعمر والعقل والمال، وقد سبق ابن سينا في هذا السبيل، وكان أشرف مبدأ وأسمى غرضا لأن ابن سينا ختم كتبه بالكيمياء فاغتر بها غيره، ومنهم عبد اللطيف البغدادي الذي لم يبق لابن سينا كرامة؛ لأنه غرر به واستهواه بكتبه للاشتغال «بالصنعة». وعبد اللطيف أحد أطباء العرب ومؤرخيهم، ساح في أواخر المائة السادسة للهجرة، وألف رسالة في الرد على الكندي في بعض مسائل التوحيد، مع أن الكندي كان أصدق إيمانا وأكبر فضلة وأكثر قناعة وتعففا من ذاك «التيس الملتحي»، الذي وصم الإسلام والمسلمين بإحراق مكتبة الإسكندرية. (راجع كتابه مختصر تاريخ مصر طبع أكسفورد عام 1800 صفحة 114). وقد ثبت كذبه ونفى علماء الإفرنج هذه الوصمة عن العرب والإسلام.
ومما يذكر عن الكندي أنه كان بخيلا إلى درجة الشح، وله في ذلك أقوال مأثورة رواها عنه ابن أبي أصيبعة، وهو مؤرخ مشهور برواية حكم ونبذ مسجوعة عن كل حكيم ترجمه، أما البخل أو التشدد في نفقة المال فسجية معظم الأدباء والعلماء في الشرق والغرب، ولهم في ذلك أخبار ونوادر. وقد ذكر ذلك نزبيت الإنجليزي مؤلف كتاب «العبقرية والجنون»، وقال إن بخل العلماء من الأمراض النفسية اللاصقة بالنبوغ. أما عن انقطاع الكندي عن الناس وانزوائه وزهده فقد تكون من عواقب نكبته التي أصابه بها المتوكل ومما قاساه من الاضطهاد في محنته. (2) بيان مؤلفات الكندي الموجودة إلى الآن في عالم الآداب مخطوطة أو مطبوعة
ذكر صاحب الفهرست كتب الكندي فإذا هي كما يأتي:
فلسفة
22 كتابا
حساب
11 كتابا
نجوم
19 كتابا
هندسة
23 كتابا
فلك
16 كتابا
طب
22 كتابا
جدل
17 كتابا
سياسة
12 كتابا
أحداث
14 كتابا
طبيعيات
33 كتابا
الكريات
8 كتب
منطق
9 كتب
موسيقى
7 كتب
أحكام
10 كتب
نفس
5 كتب
أبعاد
8 كتب
تقدمة المعرفة
5 كتب
المجموع
231 كتابا
أما الباقي من كتب الكندي إلى الآن فثمانية وهي: (1)
كتاب في إلهيات أرسطو أو كلام في الربوبية، مترجم عن فيلسوف اليونان ومنه نسخة خطية ببرلين. (2)
رسالة في الموسيقى. (3)
رسالة في معرفة قوى الأدوية المركبة بمكتبة منشن، وترجمتها اللاتينية مطبوعة. (4)
رسالة في المد والجزر(بمكتبة أكسفورد). (5)
علة اللون اللازوردي الذي يرى في الجو(بمكتبة أكسفورد). (6)
ذات الشعبتين وهي آلة فلكية في ليدن. (7)
اختيارات الأيام. (8)
مقالة تحاويل السنين، في الاسكوريال وغيرها.
الفصل الثاني
الفارابي
هو أبو النصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان ويكتبه القاضي صاعد «أوزلق». وأبوه محمد بن أوزلغ بن طرخان كان قائد جيش، وهو فارسي الأصل، وبلده وسيج بمقاطعة فاراب وهو بلد تركي في خراسان. هذا أجمع عليه المؤرخون، وذكر منك أن بلده اطرار فيما وراء النهر.
والفارابي ككثير غيره من العصاميين لا يعرف تاريخ ولادته. توفي في الثمانين من عمره في رجب سنة 339/ديسمبر 950، فهو من مواليد 260 هجرية، قررنا هذا التاريخ فرضا، ولا نظنه بعيدا عن الحقيقة. (1) تاريخ حياته
ذكر ليون أفريقي ونقل عنه بروكر في تاريخ الفلاسفة في الجزء الثالث ص71-73 أمورا كثيرة عن الفارابي، ولكن معظمها مشكوك فيه، وبعضها من الأساطير الملفقة. وروى ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في ج2 ص134 «أن الفارابي كان ناطورا في بستان في دمشق، وكان دائم الاشتغال بالفلسفة، وكان فقيرا ويستضيء في الليل بالقنديل الذي للحارس، ثم أنه عظم شأنه». وهذه الرواية لا تقلل من قدر الحكيم؛ فقد كان كليانت الفيلسوف الرواقي سقاء يوزع الماء لري البساتين في ضواحي أثينا، وكان سبينوزا يعيش من صنعة الساعات في هولندا، وهكذا الحكماء في كل جيل! (2) الخبر اليقين
والذي يعلم بيقين عن حياة الفارابي، أنه رحل في صباه من مسقط رأسه إلى بغداد، وهي مركز الحضارة والعلم في عهد العباسيين، فتعلم بها. ثم التحق بحاشية الأمير سيف الدولة أمير حلب، وهو بعينه الذي أكرم المتنبي فمدحه في معظم شعره، والمتنبي أحد معاصري الفارابي وهو كثير الحكمة في قصائده. وصحبه إلى دمشق وأقام ببلاطه مدة ثم اعتزل وعاش عيشة الحكماء إلى أن توفي. وليس لدينا علم بشأن آخر من الشئون الشخصية التي عني المؤرخون بتدوينها عن فلاسفة اليونان وفلاسفة أوروبا، وليست العبرة في تاريخ الحكماء بأمورهم الخاصة.
وقد انتقل من بغداد إلى حلب لفتنة حدثت، ووافته المنية في سياحة من حلب إلى دمشق. ولما توفي تزيا سيف الدولة بزي صوفي (وهو الذي اتخذه الفارابي في آخر أيامه) ورثاه على قبره، ويؤيده هذه الرواية ما نقله ابن أبي أصيبعة من «أن سيف الدولة صلى عليه صلاة الجنازة في خمسة عشر رجلا من خاصته»، وروى بعض مؤرخي العرب أنه سافر إلى مصر قبل وفاته بسنة، ولكن هذا لم يثبت. (3) أخلاقه
كان ذكي النفس متجنبا عن الدنيا مقتنعا منها بما يقوم بأوده ، يسير سيرة الحكماء المتقدمين، وكان هادئ الطبع عاكفا على الفلسفة كثير التأمل، ومن قناعته أنه لم يكن يتناول من سيف الدولة من جملة ما ينعم به عليه سوى أربعة دراهم فضة في اليوم يخرجها فيما يحتاجه من ضروري عيشه، ولم يكن معتنيا بهيأته «ولا منزل ولا مكسب له وكان يتغذى بماء قلوب الحملان مع الخمر الريحاني، وكان يخرج إلى الحراس بالليل يستضيء بمصابيحهم فيما يقرؤه» (جمال الدين القفطي ص188). وقد عاش الفارابي في دولة العقل ملكا وفي العالم المادي مفلوكا. (4) تعليمه
أجمع المؤرخون على أن الفارابي تعلم على أستاذ مسيحي اسمه يوحنا بن حيلان، وهذا الأستاذ تلقى العلم مع إبراهيم المروزي عن رجل من أهل مرو، لم يحفظ لنا التاريخ اسمه، وكما تخرج الفارابي على يوحنا، تخرج أبو البشر متى على إبراهيم المروزي.
وكان أبو البشر من الذين اشتغلوا بترجمة كتب أرسطو وشرحها ومعاصرا للفارابي، وكان أسن منه.
وروى السجستاني (تلميذ يحيى بن عدي) في تعاليقه أن يحيى بن عدي، وهو تلميذ الفارابي، أخبره «أن متى أبا البشر قرأ إيساغوجي على أستاذ مسيحي، وقرأ قاطيغورياس (المقولات) وبارمينياس (العبارة) على أستاذ يسمى روبيل، وقرأ كتاب القياس على ابن يحيى المروزي». وهذه الكتب كلها لأرسطو، ويفهم من هذه العبارة أن هؤلاء الأساتذة كانوا يقرءون هذه الكتب ويدرسونها، ولما كان أبو البشر متى معاصرا للفارابي فلا ريب في أنه تلقى العلم عليهم؛ لأن الفارابي لم يكن من الطلاب الذين يقنعون بأستاذ واحد، فقد روي «أنه كان يجتمع بأبي بكر بن السراج فيقرأ عليه صناعة النحو، وابن السراج يقرأ عليه صناعة المنطق». وقالوا إنه أتقن العلوم الحكمية وبرع في العلوم الرياضية، وكانت له قوة في صناعة الطب وعلم بالأمور الكلية منها، ولكنه لم يباشر أعمالها ولا حاول جزئياتها «عن القاضي صاعد»، ونسبوا إليه علم جميع لغات الدنيا وهي سبعون لغة، ولكن المؤكد أنه عرف العربية والفارسية والتركية، والمرجح أنه عرف اليونانية والسريانية، وهذه خمس لغات كانت فيها الكفاية لعهده. (5) مكانته في الفلسفة
انشق حكماء العرب في أواخر القرن الثالث للهجرة فرقتين:
الأولى فرقة المتكلمين، وكان للكندي الفضل الأكبر في تمهيد سبيلها، تخصصت بالإلهيات وما وراء الطبيعة، وكان ظهورها في مرو، وكانت قبل ذلك الانفصال تتبع فيثاغورس، ثم تنحت عنه وعن أتباعه وتعلقت بأرسطو بعد أن ألبست تعاليمه ثوب مبادئ أفلاطون المستحدثة (نيوبلاتونيزم)، وكانت هذه الفرقة تبحث الأشياء في مبادئها وتتحرى المعنى والفكرة والروح. ولا تصف الله بالحكمة في الخلق أو بالعلة الأولى، ولكن بأنه واجب الوجود، وكانت تقدر الأشياء بوجودها، فتسعى في إثبات ذلك أولا.
وكان الفارابي رئيس هذه الفرقة وزعيمها والمقدم فيها وإليه المرجع وعليه الاعتماد. (راجع نيكولسن «تاريخ أدب العرب».)
أما الفرقة الثانية فهي فلاسفة الطبيعة، وكان ظهورها بحران والبصرة، وقصرت بحثها على ظواهر الطبيعة المادية المحسوسة، مثل تخطيط البلدان وأحوال الشعوب، ثم ترقت في البحث، ولكنها لم تتعد النظر في الأثر الذي تحدثه الأشياء في عالم الحس، ثم تجاوزت البحث في ذلك إلى النفس والروح فالقوة الإلهية فعرفتها «بالعلة الأولى» أو «الخالق الحكيم الظاهرة حكمته في مخلوقاته».
وكان أبو بكر محمد بن زكريا الرازي زعيمها، وقد وردت ترجمته في ابن أبي أصيبعة ص309 ج1، وكان طبيبا حاذقا وفيلسوفا طبيعيا. فالفرق ظاهر بين الفرقتين، فالفرقة الثانية التي زعيمها الرازي كانت تبحث فيما هو ظاهر للعيان وملموس بالحس وتقنع بصفاته وقوة أثره في غيره من الموجودات.
أما الفرقة الأولى فرقة المتكلمين، التي كان رئيسها الفارابي فكانت تقدر الأشياء بوجودها فتسعى في إثبات ذلك الوجود أولا، فالفارابي كان إذن زعيم أكبر فرقة فلسفية في عصره. (6) فضله على فلسفة أرسطو
سئل أبو النصر: «من أعلم أنت أو أرسطو؟» فقال: «لو أدركته لكنت أكبر تلاميذه.» وقال: «قرأت السماع لأرسطو أربعين مرة وأرى أني محتاج إلى معاودته.» (القفطي) ويرجع للفارابي الفضل في ضبط وتعيين كتب أرسطو، وتخليصها من غيرها قبل ترجمتها وشرحها. وله الفضل في أن تلاميذه ورفاقه في الدرس وأحبابه هم الذين تصدوا إلى نقل أرسطو إلى اللغة العربية. وقد سار من جاءوا بعده على سننه واتبعوا خططه، وقد بلغتنا كتب أرسطو منقولة إلى اللغات الأوروبية القديمة والحديثة على النسق الذي اختاره الفارابي، وهاك الترتيب الذي وضعه: (1)
كتب المنطق الثمانية وهي: قاطيغورياس (المقولات)، هرمنطقي (فن التفسير)، التحليل الأول (القياس)، التحليل الثاني (البرهان)، طوبيقا (الجدل)، السفسطة، البلاغة، الشعر. هذه هي الكتب التي وضع لها فارفوريوس (وهو أحد حكماء الإسكندرية وتلميذ بونتين) مقدمة إيساغو. (2)
ثم كتب الطبيعيات الثمانية وهي: الطبيعيات، كتاب السماء والعالم، التوليد والفساد، علم الجو، علم النفس، الحس والمحسوس، كتاب النبات، الحيوان، ثم الكتب الثلاثة وهي ما وراء الطبيعة، فالأخلاق، فالسياسة. وكتاب الأخلاق هو الذي نقله إلى العربية عن الفرنسية الأستاذ أحمد لطفي السيد مدير الجامعة المصرية.
هذا هو الوضع الذي عينه الفارابي، بعد طول الإمعان والدرس، وهو الذي سارت عليه الحكماء من عهده إلى وقتنا هذا ففضل الفارابي من هذه الوجهة لا ينكر، ولا عجب إذا سمي «المعلم الثاني» ونحن نسميه أرسطوطاليس العرب. (7) علو كعبه في المنطق
قال القاضي صاعد في التعريف بطبقات الأمم، إن الفارابي «بذ جميع الفلاسفة في صنعة المنطق، وأربى عليهم في التحقيق بها؛ فشرح غامضها، وكشف سرها، وقرب تناولها، وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبهة على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم، وأوضح القول فيها عن مواد المنطق الخمس، وأفاد وجوه الانتفاع بها، وعرف طرق استعمالها وكيف تعرف صورة القياس في كل مادة، فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافية والنهاية الفاضلة». ا.ه. كلام صاعد.
والفضل في نبوغ الفارابي في المنطق يرجع إلى طريقة بحثه، فإنه لم يقتصر على تحليل طريقة الفكر بل بين علاقة ذلك بالنحو وبحث في نظرية المعرفة. وقال إن النحو قاصر على ضبط لسان العرب، وإن المنطق «نحو» يضبط سائر الألسن ويصونها عن الزلل.
وهذا الذي حداه إلى البحث في المنطق بالتدريج: اللفظة، فالجملة المركبة فالخطاب المسهب. وهذه طريقة ابتدعها وإليك بيانها بإيجاز:
قسم الفارابي المنطق إلى قسمين: وهما التصور والتصديق، وأدخل في التصور طائفة الأفكار والتعريفات، وفي التصديق الاستدلال والرأي ، والتصور لا يتحتم فيه الصدق أو الكذب. وفي دائرة الأفكار أبسط الأشكال النفسانية وكذلك الصور التي طبعت في ذهن الطفل مثل الضروري والواقع والممكن. وهذه أمور يمكن لفت عقل الإنسان إليها، ولكن لا يمكن شرحها له لما هي عليه من الظهور بالبداهة. وبالتوفيق بين الصور والأفكار تنتج الآراء، والآراء تحتمل الصدق والكذب، ولأجل الوقوف على أصل الرأي لا بد من الاستدلال والتصديق والفروض المدركة، وهي واضحة بذاتها مباشرة وغير محتاجة إلى تأكيد أو إثبات كالبديهيات في الرياضة. وبعض الأوليات فيما وراء الطبيعة والآداب. ونظرية التصديق تتلخص في الانتقال من المعلوم الثابت إلى معرفة المجهولات المشكوك فيها. (8) كتبه الموجودة باللغة العربية (1)
التوفيق بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، (مطبوع في مصر مع غيره). (2)
فيما ينبغي الاطلاع عليه قبل قراءة أرسطو. مطبوع أيضا. (3)
فصوص المسائل. مطبوع. (4)
رسالة في المنطق، القول في شرائط اليقين. خطية بأوروبا. (5)
رسالة في القياس، فصول يحتاج إليها في صناعة المنطق وهي خمسة فصول، خطية. (6)
رسالة في ماهية الروح. خطية.
وهذه الرسالة ورد ذكرها في ابن أبي أصيبعة، وأثبت فيها الفارابي وجود الروح وأنها جوهر بسيط، وأنها صورة قادرة على الفهم بدون حاجة إلى الاستعانة بالمادة، وأنها ذات مظاهر ووظائف شتى.
ومن مؤلفاته الباقية إلى الآن غير هذه الستة، نحو اثنى عشر كتابا في المنطق متفرقة في مكاتب أوروبا، بعضها منقول إلى اللاتينية أو العبرانية، وأكثرها في الاسكوريال، وبعض الترجمات اللاتينية مطبوع في البندقية وغيرها. وثمانية مؤلفات في السياسة والأدب منها: (1)
مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة. (طبع ليدن سنة 1895). (2)
إحصاء العلوم. خطية في الاسكوريال ولها ترجمة لاتينية وأخرى عبرية. (3)
السياسة المدنية. (بيروت 1902). (4)
تسعة كتب في الرياضيات والكيمياء والموسيقى متفرقة في مكاتب أوروبا والأستانة مع ترجماتها العبرانية أو اللاتينية. (5)
تسعة أخرى، في مواضيع مختلفة. (9) ترتيب مؤلفاته بنوعها
لا يمكن ترتيب مؤلفات الفارابي بحسب تاريخ وضعها، ولكن يمكن ترتيبها من حيث نوعها؛ فمؤلفاته في علم الكلام أو مبادئ الفلسفة الطبيعية قد تكون من وضعه في صباه. أو يكون ألفها حبا منه في انتشار الحكمة بين الجمهور، ولكن مؤلفاته القيمة هي ما كانت خاصة بفلسفة أرسطو شرحا وتفسيرا وتحديا، وقد سمي المعلم الثاني إشارة إلى أنه أفضل الحكماء بعد أرسطو الذي كان يسمى المعلم الأول، ويقول الذين عرفوها وخبروها إن الفارابي لم يحور شيئا من نظريات أرسطو، وإن الذي وصل منها إلينا نادر، وقد ورد ذكر جميع مؤلفاته في القفطي ص182 وفي طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ج2 ص138، وأحصيناها سبعة عشر شرحا وستين كتابا وخمسا وعشرين رسالة، وذكر الحاج خليفة في كشف الظنون أن ندرة كتبه راجعة إلى كثرة ورود ذكرها في كتب ابن سينا.
ومن الكتب المنسوب إليه «إحصاء العلوم»، وهو كتاب يعده كتاب العرب عظيم الفائدة لا غنى لطلاب العلم عنه، قال عنه ابن صاعد إنه كتاب شريف في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه ولا ذهب أحد مذهبه فيه، ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به وتقديم النظر فيه.
وتوجد منه نسخة في مكتبة الاسكوريال بمدريد بإسبانيا وصفه «كما يرى» بموسوعات العلوم، ولكن هذا الوصف مبالغ فيه لأن ما جاء في الكتاب لا ينطبق على ما يقصد في وقتنا هذا من دائرة المعارف، أو «المعلمة» كوضع أحمد تيمور باشا.
ويظن العلامة «منك» أن الرسالة التي نقلت إلى اللاتينية منسوبة إلى الفارابي باسم «تلخيص سائر العلوم» هي ترجمة موجزة لإحصاء العلوم ومنها نسخة في مكتبة «دي روس» في يارم بإيطاليا، ونسخة كاملة بين المخطوطات اللاتينية في المكتبة الوطنية بباريس تحت عدد 49 مجموعة 143ب ملحق لاتيني.
وهذه الرسالة مقسمة إلى خمسة أبواب: الأول في علوم اللغة، والثاني في علم المنطق، والثالث في الرياضيات، والرابع في الطبيعيات، والخامس في الفنون المدنية.
وقد ذكر الفارابي أنواع العلوم المحتوية عليها تلك الأبواب مع تعريفات جلية ببيان موجز في كل فن.
ومن كتبه أغراض: فلسفة أفلاطون، وفلسفة أرسطو، وتحليل بعض ما كتبه هذان الحكيمان. ولم يصل إلينا شيء من هذا الكتاب أو شيء عنه سوى ما ذكره المؤرخان ابن أبي أصيبعة والقفطي، ويظهر مما دوناه أنه كان مقسما إلى ثلاثة أقسام: الأول مقدمة وهي عبارة عن بيان فروع العلوم الفلسفية وعلاقتها الطبيعية ببعضها البعض، وترتيبها الضروري لتفهمها حق الفهم؛ والقسم الثاني عبارة عن بيان لفلسفة أفلاطون وإيضاح لكتبه؛ والقسم الثالث يشمل تحليلا مسهبا لفلسفة أرسطو مع تلخيص موجز لكل كتاب من كتبه وتبيين القصد من وضعه. وقال علماء العرب إنه لا يمكن الطالب أن يفقه معنى كتب أرسطو في القياس إلا منه. قال ابن أبي أصيبعة عن هذا الكتاب ما نصه:
وله كتاب في أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطو يشهد له بالبراعة في صناعة الفلسفة، والتحقق بفنون الحكمة، وهو أكبر عون على تعلم طريق النظر وتعرف وجه الطلب، أطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علما علما، وبين كيف التدرج من بعضها إلى بعض شيئا فشيئا، ثم بدأ بفلسفة أفلاطون فعرف بغرضه منها وسمى تآليفه فيها، ثم أتبع ذلك بفلسفة أرسطوطاليس فقدم له مقدمة جليلة عرف فيها بتدرجه إلى فلسفته، ثم بدأ بوصف أغراضه في تآليفه المنطقية والطبيعية كتابا، حتى انتهى به القول في النسخة الواصلة إلينا إلى أول العلم الإلهي والاستدلال بالعلم الطبيعي عليه، ولا أعلم كتابا أجدى على طالب الفلسفة منه فإنه يعرف بالمعاني المشتركة لجميع العلوم والمعاني المختصة بعلم علم منها، ولا سبيل إلى فهم معاني قاطيغورياس وكيف الأوائل الموضوعة لجميع العلوم إلا منه. ا.ه. كلام ابن أبي أصيبعة.
ومن كتبه كتاب في الآداب اسمه «السيرة الفاضلة». وكتاب في السياسة اسمه «السياسة المدينية». قال مؤرخو العرب عنهما إن الفارابي ألم فيهما بمعظم الآراء النافعة فيما وراء الطبيعة حسبما علمها أرسطو، وذكر «الستة أركان المجردة» واصفا ما تستنبطه المادة الكثيفة من تلك الأركان من الترتيب وطريقة الوصول إلى العلم. وهاك نص كلام القفطي:
ثم له بعد هذا في العلم الإلهي وفي العلم المدني كتابان لا نظير لهما، أحدهما المعروف «بالسياسة المدينية»، والآخر المعروف «بالسيرة الفاضلة». عرف فيهما بجمل عظيمة من العلم الإلهي على مذهب أرسطوطاليس في مبادئ الستة الروحانية، وكيف يؤخذ عنها الجواهر الجسمانية على ما هي عليه من النظام واتصال الحكمة، وعرف فيها بمراتب الإنسان، وقواه النفسانية وفرق بين الوحي والفلسفة، ووصف أصناف المدن الفاضلة وغير الفاضلة واحتياج المدنية إلى السيرة الملكية والنواميس النبوية.
ثم إنه أتى على العناصر المختلفة المكونة للطبيعة البشرية وخواص النفس وبين الفرق بين الوحي والحكمة ووصف الهيئات المنظمة والجماعات غير المنظمة، وأظهر حاجة المدنية إلى حكومة سياسية وإلى شريعة دينية.
هذا ملخص ما ورد في عيون الأنباء وأخبار الحكماء لابن أبي أصيبعة والقفطي، ولا شك عندنا الآن في أنهما يقصدان بكتاب السياسة المدينية كتاب «المدينة الفاضلة»، وقد يكون الفارابي وضع له اسمين كعادته في بعض مؤلفاته. فإن كتاب السياسة يسمى أيضا كتاب الموجودات.
أما مبادئ الموجودات الستة أو «الستة أركان المجردة» أو «مبادئ الستة الروحانية» فهي: (1)
المبدأ الإلهي أو السبب الأول وهو فرد أي واحد لا يتعدد. (2)
الأسباب الثانوية أو عقول الأجرام السماوية. (3)
العقل الفعال. (4)
النفس. (5)
الصورة. (6)
المادة المعنوية.
والمبدأ الأول هو بمفرده الأحدية المطلقة وما عداه متعدد، والثلاثة المبادئ الأولى ليست أجراما وليس لأحدها علاقة مباشرة بالأجرام، والثلاثة الأخيرة ليست بذاتها أجراما ولكنها متعلقة بها. والأجرام على ستة أنواع: أجرام الدوائر الفلكية، والحيوان العاقل، والحيوان غير العاقل، والنبات، والمعادن، وتلحق بها العناصر الأربعة، ومجموع هذه الأنواع يكون الوجود، وبعد أن أبان الفارابي ما ذكرنا تكلم على ما يستنبط من تلك المبادئ الستة، إلى أن وصل إلى الإنسان، ففحص نظام الجماعات البشرية ونسبتها إلى غاية الوجود الإنساني من حيث القرب والبعد من الكمال الذي هو نهاية كل موجود. وقال إنه لا يصل إلى درجة الكمال القصوى إلا ذوو الذكاء التام والقادرون على التأثر من العقل الفعال. (10) الدرجة القصوى في الكمال
ويشترط أن يكون العقل الفعال قد منح الإنسان الدراية الأولية التي يتفاوت الناس (بتفاوت خواصهم الطبيعية والبدنية) في الاستعداد للوقوف عليها والهداية بها. وإن هؤلاء الذين خطوا الخطوة الأولى وملكوا القدر الضروري من العلم يستطيعون بجدهم وبتأثير العقل الفعال، أن يصلوا إلى أرقى درجات الكمال. وينبغي لهم أن يفقهوا معنى درجة الكمال القصوى، وأن يجعلوها غايتهم ومقصدهم، وأن يقفوا عليها كدهم وذكاءهم وسائر أعمالهم، فإذا تيسر لهم ما تقدم وصلوا إلى حالة «العقل بالملكة»، وهي الدرجة السابقة لدرجة العقل المستفاد، فإذا بلغوا تلك الدرجة اتصلوا بالعقل الفعال وأصبحوا على أتم ما يكون من الاستعداد للتلقي والإلهام. وإذا وصل الإنسان إلى تلك الدرجة يحق أن يقال عنه إنه بلغ درجة الوحي الإلهي وإنه عادل الأنبياء. ولا يبلغ الإنسان هذه الدرجة العليا إلا إذا ارتفع كل حجاب بين العقل الفعال وبينه، وهذه هي الحالة الوحيدة التي يعترف فيها الفارابي بالوحي، وقد خالف بها آراء المتكلمين كما هو ظاهر. (11) خلود النفس بالجملة أو وحدة النفوس
يقول الفارابي بعد ذلك من الجلي أن السعادة التي يتمتع بها أهل المدينة تختلف قدرا ونوعا تبعا لدرجة الكمال التي بلغوها في الحياة الاجتماعية التي تتعلق بها درجة السعادة التي ينبغي الوصول إليها. فإذا فازوا بالانفصال عن المادة وروابط الأجسام فقد نجوا من الطوارئ المعرضة لها الأجسام بطبيعتها، بحيث لا يصح أن يطلق عليهم لا وصف الحركة ولا صفة السكون، بل يقال عنهم ما يقال عما لم يخرج من عالم الغيب. وما توصف به الأجسام لا يجب في حق تلك النفوس المفارقة التي لا يمكن تعيينها بقول فاصل. وذلك لصعوبة إحاطة الفكر بالموجودات التي لا هي أجسام ولا علاقة للأجسام بها. وإذا حولت أجسامهم إلى العدم وخلصت نفوسهم وسعدت، يخلفهم رجال غيرهم في المدينة فيسلكون سبيلهم ويقتدون بسيرتهم إلى أن تخلص نفوسهم وتحول أجسامهم إلى العدم كما كان من أمر أسلافهم، ثم ترتقي تلك النفوس المتشابهة وتمتزج بعضها بالبعض. وكلما زاد عدد النفوس الخالصة من أجسادها واندمجت كلها تمت سعادتها بحيث يزداد تمتع النفوس السابقة كلما لحقتها سواها من نوعها؛ لأن كل نفس إذا فكرت في ذاتها وجوهرها ألمت بذوات وجواهر مماثلة لها، وهذه الذوات والجواهر تزداد بكرور الأيام كلما التصقت نفوس حديثة العهد بتلك الوحدة النفسية بالنفوس القديمة. وبذا تزداد سعادة تلك النفوس المتحدة إلى اللانهاية. وهذه السعادة هي بعينها التي تكتسبها الأجيال الواحد بعد الآخر، وهذا هو النعيم الأبدي والذي يقصد إليه العقل الفعال ... هذا ملخص آراء «المدينة الفاضلة»، ويرى اللبيب في تلك النبذة التي قد يغمض فهمها على البعض أن الفارابي لا يقول بخلود النفس إلا شريطة أن تكون قد وصلت في الحياة الدنيوية إلى درجة العقل المستفاد، وقد يفسر قوله بما يوافق رأي القائلين بوحدة النفوس، وهو مبدأ ابن باجه وابن رشد.
وكتاب «المدينة الفاضلة» طبعه في مصر (في مطبعة النيل التي بادت) الشيخ مصطفى القباني الدمشقي الخطاط المتوفى في القضارف بالسودان عام 1914. (12) رأي ابن طفيل في وحدة النفوس
أما ابن طفيل أحد فلاسفة العرب الأشراقيين فلا يأبه لمؤلفات الفارابي فيما وراء الطبيعة. قال: إن معظم ما دونه أبو نصر كان في المنطق، وأما ما اتصل بنا من كتبه في الحكمة الصحيحة مملوء بالريب والتناقض. ثم أشار ابن طفيل إلى شكوك أبي نصر الفارابي في خلود النفس، فقال إن الفارابي ذكر في كتابه «كتاب الملة الفاضلة» أن النفوس الخبيثة تبقى بعد الموت في عذاب أبدي، ثم ذكر في سياسته أن تلك النفوس الخبيثة تتحول إلى العدم ولا تخلد إلا النفوس الكاملة.
ويظهر أن كتاب «الملة الفاضلة» هو بعينه كتاب السيرة الفاضلة، وقد قال الفارابي فيه إن نفوس الدهريين والمنافقين والأشرار التي تفقه معنى الخير الأعلى ولا تحاول بلوغ شأوه تبقى بعد الموت محيطة بما ينقصها لترتقي لدرجة الكمال، ثم لا تستطيع أن تكمل ولا أن تهلك بل تبقى معلقة بين بين وهي تقاسي في ذلك الأمرين، أما النفوس الجاهلة التي لم يصل علمها في الحياة الدنيا إلى معرفة الخير الأسمى فإنها تعود إلى العدم المطلق (نقله إسحق بن لطيف وابن فلكيرة).
يقول ابن طفيل: ثم إن أبا نصر الفارابي ذكر في شرحه لكتاب الأخلاق لأرسطو أن أرقى ما يصل إليه الإنسان هو في هذه الدنيا، وأن الخير الأسمى هو أيضا في هذه الدنيا، وأن كل ما يقال بوجوده بعد هذه الحياة ليس إلا ترهات أشبه بخرافات العجائز.
وقد أشار ابن رشد إلى تلك الفقرة الأخيرة في آخر كتابه في علاقة العقل المادي بالعقل الفعال، إذ ذكر أيضا أن الإنسان لا يتأتى له كمال أرقى من الكمال الذي يستطيع بلوغه بالنظر في العلوم العقلية. وهذا بيان قول ابن رشد فيما يتعلق بهذه القضية، فإنه بعد أن ذكر ما تعترض به طائفة من الفلاسفة على إمكان اتحاد عقولنا بالعقول المفارقة قال: وهذه الاعتراضات التي دعت أبا نصر في شرحه لأخلاق أرسطو إلى القول بأن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى درجة أرقى من التي يصل إليها بالنظر في العلوم العقلية، ثم أضاف إلى ذكر تلك الاستحالة قوله بأن وصول الإنسان إلى حالة الجوهر الفرد المجرد عن المادة ليس إلا من ترهات العجائز. لأن ما يولد ثم يموت ليس من صفاته الخلود. هذا آخر قول ابن رشد (ابن رشد لرينان) وقد ألحقت هذه النبذة بالفارابي أعظم ضرر، وأدت إلى تكفيره في نظر بعض المتشددين من أهل عصره ومن جاء بعده، واتهموه بالقول بالتناسخ وهي تهمة مفتعلة مبتدعة سببها سوء فهم قوله في المدينة الفاضلة ص95 طبع مصر «وإذا مضت طائفة فبطلت أبدانها وخلصت أنفسها وسعدت، فخلفهم ناس آخرون في مرتبتهم بعدهم قاموا مقامهم وفعلوا أفعالهم» هذا؛ لأن الفارابي في مجموع الحكم أنكر التناسخ إنكارا باتا، وما كان ليقول به لأنه لا ينطبق على سلسلة أفكاره ولا يتفق مع آراء أستاذه أرسطو، إنما هو بدعة أفلاطونية استفادها الحكيم اليوناني من المصريين القدماء وكررها في كتبه. (13) الفارابي والخلود
ولا ريب عندنا في أن الفارابي ينكر بتاتا خلود النفس المفردة كما تقول به الأديان، ويقول إن النفس البشرية لا تتلقى ولا تعي من العقل الفعال إلا صور الموجودات وهي الصور التي تخلق وتعدم؛ لأن النفس لا تستطيع أن تتلقى المعقولات المجردة النقية لئلا ينسب إليها التناقض لجمعها بين النقيضين. وهذا رأي ابن رشد في بيان ما تسرب إلى أبي نصر من الشكوك، وحق لنا أن نذكر أن هذه الشكوك بعينها هي التي تسربت إلى ابن رشد ونسبت إليه وعرف بها وكفروه وسبوه وعذبوه في قرطبة بسببها.
بين يدينا غير كتاب «المدينة الفاضلة» كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس، قال الفارابي في مقدمته:
لما رأيت أكثر أهل زماننا قد تحاضوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه، وادعوا أن بين الحكيمين المقدمين المبرزين اختلافا في إثبات المبدع الأول، وفي وجود الأسباب منه، وفي أمر النفس والتعقل وفي المجازات على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية؛ أردت في مقالتي هذه أن أشرع في الجمع بين رأييهما (يقصد أفلاطون وأرسطو) ثم أخذ الفارابي على طريقة أفلاطون المستحدثة (نيوبلاتونيزم) يوفق بين الحكيمين. وليس في استطاعته نقض إلهيات أرسطو ولا التحول عن عقيدته الإسلامية. على أن الممعن في هذه الرسالة يرى أن مقصد الفارابي كان دينيا محضا ولم يكن يقصد إلى فحص رأيي الحكيمين ونقدهما على الطريقة المنطقية، ولكنه يقصد إلى تفسير العالم تفسيرا فلسفيا لا يناقض الدين الإسلامي. فأغفل الفروق الفلسفية بين الحكيمين وهي لم تكن لتخفى عليه، وادعى أن الخلاف بينهما ظاهر من حيث الألفاظ وطريقة النظر. أما تعليمهما الفلسفي فواحدو التوفيق بينهما والانتفاع بآرائهما أفضل من التفاوت، ولكن هذه الرسالة لم تصل به للغاية التي كان يرمي إليها، ونصيبها في نظرنا نصيب رسالة «تهافت الفلاسفة» التي كتبها الغزالي لمثل هذا الغرض، ثم نقضها في كتابه النادر المسمى «المضنون به على غير أهله».
وقد نشر هذا الكتاب باللاتينية في باريس عام 1638، وفيه تقسيم العقول حسب ما ذكره أرسطو ووحدة العقل والعقل والمعقول ووحدة العقول الفعالة ومنها العقل الإلهي الفعال دائما. وقد ذكر أبو نصر في هذا الكتاب أن للفظ العقل ست معان:
الأول:
المعنى المبتذل في قول الجمهور في إنسان أنه عاقل.
الثاني:
المعنى الذي يقصده المتكلمون في قولهم هذا مما يوجبه العقل أو ينفيه.
الثالث:
المعنى الذي يصفه أرسطو بالتمييز بين الصحيح وضده ويذكره في كتاب البرهان.
الرابع:
وهو الذي ذكره أرسطو في الكتاب السادس من الأخلاق، وهو العقل الذي يفرق بين الخير والشر وهو يتزايد مع الإنسان طول عمره.
الخامس:
وهو الذي ذكره أرسطو في كتاب النفس، وقسمه إلى عقل بالقوة وعقل بالفعل وعقل مستفاد وعقل فعال.
السادس:
هو العقل الذي ذكره أرسطو في المقالة السادسة من كتاب النفس وهو العقل الفعال. (14) الفارابي والإلهيات
كل موجود في نظر الفارابي إما ضروري وإما ممكن، وليس هناك ثالث لهذين الاثنين.
وحيث إن كل ممكن يستدعي فرض سبب لوجوده، وإن سلسلة الأسباب لا يمكن أن تكون بغير نهاية، فلا بد من الاعتقاد بوجود كائن موجود بطبيعته بغير سبب، ومالك لأعلى درجات الكمال، وممتلئ بالحقيقة الأزلية، ومكتف بذاته بلا تغيير ولا تبديل، وهو بصفته عقلا مطلقا وخيرا خالصا وفكرا تاما يحب الخير والجمال (القول في واجب الوجود ص6 وما بعدها «المدينة الفاضلة»). ولا يمكن إقامة الدليل على وجود هذا الكائن لأنه هو التصديق والبرهان، ولأنه العلة الأولى لكل الأشياء، وفيه تجتمع الحقيقة والصدق ويلتقيان، ولأنه أكمل الكائنات واحد فرد لا يتعدد وهذا الوجود الأول المتفرد، الحقيقي الوجود هو «الله»، ومن هذا الكائن الأول ينبعث مثاله أو صورته «الكل الثاني» أو الروح المخلوق الأول الذي يحرك الجرم السماوي الخارجي. وبعد هذا الروح تنبعث عن بعضها البعض الأرواح الثمانية الجرمية التي كلها وحيدة في تعدد أنواعها وكاملة وهذه هي خالقة الأجرام السماوية. وهذه التسعة أجرام السماوية تسمى الأفلاك العلوية وتكون الدرجة الثانية للوجود. وفي الدرجة الثالثة يوجد العقل الفعال في الإنسانية المسمى بالروح القدس، وهو الذي يصل السماء بالأرض. وفي الدرجة الرابعة توجد النفس الإنسانية. وهذان الاثنان العقل والنفس لا يبقيان بنفسيهما في وحدتهما الأصلية الدقيقة، ولكنهما يتعددان تعدد بني آدم ثم يكون من ذلك الشكل والمادة، وهما الدرجتان الخامسة والسادسة وبهما يقفل باب الدرجة الروحية.
ومن هذه الدرجات الست، الثلاث الأولى منها أرواح بذاتها، ولكن الثلاث التالية النفس والشكل والمادة وإن كانت غير جرمية إلا أن لها صلة بالجسم الإنساني.
وللجرم الذي أصله في صورة الروح ست درجات، الأجسام السماوية، وبدن الإنسان، وأبدان الحيوانات النازلة ، وأبدان النباتات، والمعادن، والأبدان الأولية.
وإلاهيات الفارابي مستمدة من أرسطو ومكتوبة على طريقته المنطقية كقوله: «الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها، وهو بريء من جميع أنحاء النقص، فوجوده أفضل الوجود وأقدم الوجود، ولذلك لا يمكن أن يشوب وجوده وجوهره عدم أصلا، والعدم والضد لا يكونان إلا فيما دون فلك القمر.» وإلاهيات أرسطو نقلها الكندي إلى العربية. (15) تقسيم قوى النفس
قوى النفس في نظر الفارابي متدرجة، فالقوة السفلى هي مادة للقوة العليا والعليا صورة للسفلى، وأرقى هذه القوى جميعا الفكر وهو غير مادي وهو صورة لجميع الصور السالفة، والنفس ترتفع عن الموجودات المحسوسة إلى الفكر بقوة التصور والتمثيل، وفي كل قوة من قوى النفس يكمن المجهود أو الإرادة.
ولكل نظرية وجه يناقضها في العمل.
ولا يمكن فصل الميل والنفور عن الإدراكات التي تعطيها الحواس، والنفس تقبل أو ترفض بحسب ما يمثل لها بواسطة الحواس.
ثم إن الفكر يحكم على الخير والشر ويعطي للإرادة الأسباب التي تعول عليها ويهيئ الفنون والعلوم، وكل إدراك أو تمثيل أو فكر لا بد له من مجهود ليصل إلى النتيجة الضرورية كما تنبعث الحرارة من النار. والنفس تكمل وجود الجسم، والذي يكمل النفس هو العقل، والعقل هو الإنسان.
العقل موجود في روح الطفل ويصير عقلا فعالا أثناء إدراكه الأشكال الجرمية بالخبرة بطريق الحواس وقوة التمثيل والتصوير.
فتحقيق التجارب والخبرة ليس من فعل الإنسان ولكنه نتيجة عمل الروح الذي فوق الإنسان، فعلم الإنسان صادر من العلي وليس علما متحصلا عليه بمجهود عقلي؛ أي إنه معطي من الله وليس كسبيا بفعله (مذهب الافتطار). (16) فلسفته الأخلاقية
الأخلاقية في نظره أساس السلوك. وهو يوافق أفلاطون حينا وحينا أرسطو، وقد يسبقهما بفضل نقاء النفس الذي اكتسبه من التصوف، ويخالف أهل الدين في قولهم إن الأخلاق تصدر عن العلوم الشرعية، ويثبت في مواطن شتى أن العقل وحده قادر على التمييز بين الخير والشر ، وأن العقل الموهوب للإنسان جدير بأن يبين لنا خطة السلوك المثلي، لا سيما وأن العلم هو أعظم الفضائل، وفي هذا القول الأخير تطبيق لمذهب أفلاطون الذي يعتبر المعرفة رأس الفضيلة.
ومن أمثاله أن الواقف على مبادئ أرسطو وتآليفه ثم لا يسلك سلوكا منطبقا على ما جاء بها أفضل ممن كان جاهلا بها وسلك سلوكا منطبقا عليها؛ ذلك لأن المعرفة أفضل من الفعل الفاضل، وإلا ما استطاعت المعرفة أن تميز بين الفعل الفاضل وضده، فقوة التمييز القائمة بها دليل على فضلها. ويقول بأن النفس بطبيعتها ذات شهوات شتى، وأن إرادتها على قدر إدراكها وتصورها، ومثل الإنسان في ذلك مثل الحيوانات الدنيا. ولكن تمييز الإنسان بالعقل جعل له حرية الخيار؛ فهو يفعل ما يمليه عليه عقله ويسأل عن أفعاله بفضل هذا التمييز. (17) الفارابي والموسيقى
أضاف الفارابي إلى حب الحكمة شغفا زائدا بالموسيقى، ويروى من أخباره أن سيف الدولة كان من المعجبين بتفننه في الأنغام، وقد أفاد العرب صنع آلات الطرب ووضع قواعد التوقيع. وروى ابن أبي أصيبعة أنه صنع آلة إذا وقع عليها أحدثت انفعالا في النفس فيضحك السامع ويبكيه ويستخفه ويستفزه، وقال بعضهم إنها شبيهة بالقانون المعروف لعهدنا هذا أو هي القانون بذاته، ومن مؤلفاته كتابان في الموسيقى: الأول يشمل بيانا كافيا لنظريات علم الأنغام، وقد فحصه العلامة كورسجارتن المستشرق وحلله.
قال أبو نصر في مقدمة كتابه «إنه استنبط طريقة خصيصة به ولم يقلد أحدا»، ثم أخذ يبين طبيعة الأصوات وتوافقها وطبقات الوقف وأنواع الأنغام والأوزان والهزج، وذكر أنه وضع كتابا آخر خصصه بوصف طرائق الأقدمين، وجاء بالنسخة المحفوظة بالاسكوريال أن الفارابي شرح آراء الأقدمين وبين ما أحدثه كل عالم من علماء الموسيقى، وصحح أغلاطهم وملأ الفراغ الذي تركوه في تلك الصناعة.
ولما كان قد اهتدى بالعلوم الطبيعية إلى ما لم يهتد إليه فيثاغورس وتلاميذه، فقد أخذ يبين خطأهم فيما تخيلوه من أصوات الكواكب وألفة الأنغام السماوية، ثم شرح تأثير تموج الهواء في رنات الأوتار معتمدا على التجارب، وأرشد إلى وسائل صنعها بحيث يمكن إخراج الأصوات المرغوبة. وبالجملة «كان في علم صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غايتها وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه» (القاضي صاعد). (18) أسلوبه الكتابي
كان أسلوبه بالعربية دقيقا رشيقا مع أنه كان فارسي الأصل، ويؤخذ عليه حبه للمترادفات مما يؤدي في بعض الأحيان إلى التوسع في المعاني الفلسفية التي تحتاج إلى التحديد والتعيين وتقيد كل معنى بلفظه وكل لفظ بمعناه.
وها نحن ننقل نبذا وجيزة من إنشائه تدل على أسلوبه.
قال في اسم الفلسفة:
اسم الفلسفة يوناني، وهو دخيل في العربية، وهو على مذهب لسانهم فيلسوفيا، ومعناه إيثار الحكمة، والفيلسوف مشتق من الفلسفة، وهو على مذهب لسانهم فيلسوفوس، فإن هذا التغيير هو تغيير كثير من الاشتقاقات عندهم ومعناه المؤثر للحكمة، والمؤثر للحكمة عندهم هو الذي يجعل الوكد من حياته وغرضه من عمره الحكمة.
وقال في تاريخ ظهور الفلسفة ما هذا نصه: «إن أمر الفلسفة اشتهر في أيام ملوك اليونانيين وبعد وفاة أرسطوطاليس بالإسكندرية إلى آخر أيام المرأة، وإنه لما توفي بقي التعليم بحاله فيها إلى أن ملك ثلاثة عشر ملكا، توالى في مدة ملكهم من معلمي الفلسفة اثنا عشر معلما، أحدهم المعروف بأندرونيقوس، وكان آخر هؤلاء الملوك المرأة فغلبها أوغسطوس الملك من أهل رومية وقتلها واستحوذ على الملك، فلما استقر له نظر في خزائن الكتب وصنعها، فوجد فيها نسخا لكتب أرسطوطاليس قد نسخت في أيامه وأيام تاوفرسطس، ووجد المعلمين والفلاسفة قد عملوا كتبا في المعاني التي عمل فيها أرسطو، فأمر أن تنسخ تلك الكتب التي كانت نسخت في أيام أرسطو وتلاميذه، وأن يكون التعليم منها، وأن ينصرف عن الباقي وحكم أندرونيقوس في تدبير ذلك، وأمره أن ينسخ نسخا يحملها معه إلى رومية ونسخا يبقيها في موضع التعليم بالإسكندرية. وأمره أن يستخلف معلما يقوم مقامه بالإسكندرية ويسير معه إلى رومية، فصار التعليم في موضعين وجرى الأمر على ذلك إلى أن جاءت النصرانية، فبطل التعليم من رومية وبقي بالإسكندرية إلى أن نظر ملك النصرانية في ذلك، واجتمعت الأساقفة وتشاوروا فيما يترك من هذا التعليم وما يبطل، فرأوا أن يعلم من كتب المنطق إلى آخر الأشكال الوجودية ولا يعلم ما بعده؛ لأنهم رأوا أن في ذلك ضررا وأن فيما أطلقوا تعليمه ما يستعان به فبقي الظاهر من التعليم هذا المقدار ما ينظر فيه، وصار الباقي مستورا إلى أن كان الإسلام بعده بمدة طويلة، فانتقل التعليم من الإسكندرية إلى أنطاقية، وبقي بها زمنا طويلا إلى أن بقي معلم واحد فتعلم منه رجلان وخرجا ومعهما الكتب، فكان أحدهما من أهل حران والآخر من أهل مرو. فأما الذي من أهل مرو فتعلم منه رجلان أحدهما إبراهيم المروزي والآخر يوحنا بن حيلان. وتعلم من الحراني إسرائيل الأسقف وقويرى وسار إلى بغداد، فتشاغل إبراهيم بالدين وأخذ قويرى في التعليم، وأما يوحنا ابن حيلان فإنه تشاغل أيضا بدينه، وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد فأقام بها وتعلم من المروزي متى بن يونان، وكان الذي يتعلم في ذلك الوقت إلى آخر الأشكال الوجودية» ا.ه. (19) إيضاح لفلسفة الفارابي (ملخص لها ونصوص منها) (19-1) حياته وأخلاقه
كان الفارابي رجلا هادئا عاكفا على حياة الفلسفة والتأمل، محميا بالأقوياء من الأمراء الذين لجأ إليهم، وقد انتهى بأن صار في أخريات أيامه متصوفا.
كان أبوه قائدا فارسيا، وقد ولد بوسيج إحدى قلاع فاراب، في بلاد التركستان. وقد تلقى العلم في بغداد على عالم مسيحي اسمه يوحنا بن جيلان، واشتمل تعليمه على الأدب والرياضيات، واللغات التي عرفها العربية والتركية والفارسية. وهذا ظاهر من مؤلفاته، وقد نسب إليه أهل عصره أنه كان خبيرا بلغات الأرض جميعا، وهي نحو سبعين لغة، ولكن لم يقم على هذا دليل.
وقد عاش طويلا واشتغل بالعلم في بغداد ثم ذهب إلى حلب بسبب اضطرابات سياسية، حيث أقام في ظلال بلاط الأمير سيف الدولة، ولكنه في الأيام الأخيرة من حياته اعتزل خدمة الأمراء وعاش معتكفا. وتوفي في دمشق في أثناء رحلة له، وكان ذلك في شهر ديسمبر من عام 950م. ويقال إن أميره تزيا بزي صوفي وابنه على قبره تشريفا لقدره، ويقال إنه كان عند وفاته في الثمانين من عمره. وقد توفي رفيقه في الدرس أبو بشر متى قبله بعشر سنين. أما تلميذه أبو زكريا يحيى بن عدي فقد توفي عام 971م. في الأولى والثمانين من عمره.
وأهم مؤلفاته ما كان خاصا بفلسفة أرسطو وشرحها والتأليف على نسقها. ومن مؤلفاته كتاب التوفيق بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، وقد حاول في هذه الرسالة التوفيق بين آراء الحكيمين وبين عقائد الإسلام ومبادئه. وهو يقول إن الخلاف الظاهر بين الحكيمين راجع حتما إلى طريقة النظر والتأليف وإلى مسائل الحياة العملية، أما تعاليمهما الخاصة بالحكمة فهي متفقة وهما إماما الفلسفة. وكان الفارابي يفضل صفاء النفس على كل صفة، ويقول إنه ثمرة الفلسفة، وكان يقول بحب الحق ولو كان الرأي المقول به مخالفا لآراء أرسطو. والأمور التي اشتغل بالتأليف فيها هي المنطق، وما وراء الطبيعة والطبيعيات ثم الأخلاق والسياسيات. (19-2) الكلام على منطق الفارابي
يقسم الفارابي المنطق إلى قسمين: وهما التصور والتصديق؛ وقد أدخل في التصور طائفة الأفكار والتعريفات، وفي التصديق الاستدلال والرأي. والتصور لا يتحتم فيه الصدق أو الكذب. ويعتبر الفارابي من الأمور الداخلة في دائرة الأفكار أبسط الأشكال النفسانية، وكذلك الأفكار التي طبعت في ذهن الإنسان منذ البداية، مثل: الضروري والواقع والممكن، وهذه أمور يمكن توجيه عقل الإنسان إليها، ولكن لا يمكن شرحها له؛ لما هي عليه من الظهور والجلاء، وبالتوفيق بين التصور والأفكار تنتج الآراء. والآراء كذلك قد تكون صادقة أو كاذبة، ولأجل الحصول على أساس للآراء لا بد من الرجوع إلى عملية الاستدلال والتصديق، ولبعض الفروض المعقولة للإدراك وهي واضحة بذاتها مباشرة وغير محتاجة إلى تأكيد أو إثبات، كالبديهيات في الرياضة وبعض الأوليات فيما وراء الطبيعة والآداب.
ونظرية التصديق الذي بواسطته ننتقل من المعلوم والثابت إلى معرفة ما كان مجهولا، هي المنطق بعينه في رأي الفارابي. (19-3) الإلهيات (ما وراء الطبيعية)
كل موجود في نظر الفارابي إما ضروري أو ممكن، وليس هناك ثالث لهذين الاثنين، وحيث إن كل ممكن يستدعي فرض سبب لوجوده، وحيث إن سلسلة الأسباب لا يمكن أن تكون بغير نهاية، فلا بد لنا من الاعتقاد بوجود كائن موجود بطبيعته بغير سبب، ومالك لأعلى درجات الكمال، وممتلئ بالحقيقة الأزلية، ومكتف بذاته بلا تغيير ولا تبديل، وهو بصفته عقلا مطلقا وخيرا خالصا وفكرا تاما يحب الخير والجمال. ولا يمكن إقامة الدليل على وجود هذا الكائن؛ لأنه هو التصديق والبرهان ولأنه العلة الأولى لكل الأشياء وفيه تجتمع الحقيقة والصدق ويلتقيان.
ولأنه أكمل الكائنات، فهو أحد فرد لا يتعدد، وهذا الوجود الأول المنفرد الحقيقي الوجود ندعوه الله.
ومن هذا الكائن الأول ينبعث مثاله أو صورته «الكل الثاني» أو الروح المخلوق الأول الذي يحرك الجرم السمائي الخارجي. وبعد هذا الروح تنبعث عن بعضها البعض الأرواح الثمانية الجرمية التي كلها وحيدة في تعدد أنواعها وكاملة. وهذه هي خالقة الأجرام السماوية وتسمى الأفلاك العلوية، وتكون الدرجة الثانية للوجود، وفي الدرجة الثالثة يوجد العقل الفعال في الإنسانية المسمى بالروح القدس، وهو الذي يصل السماء بالأرض، وفي الدرجة الرابعة توجد النفس الإنسانية، وهذان الاثنان العقل والنفس لا يبقيان بنفسهما في وحدتهما الأصلية الدقيقة، ولكنهما يتعددان بتعدد بني آدم، ثم يكون بعد ذلك الشكل والمادة وهما الدرجتان الخامسة والسادسة، وبهما يقفل باب الدرجات الروحية.
ومن هذه الدرجات الست، الثلاثة الأولى منها هي أرواح بذاتها، ولكن الثلاثة التالية النفس والشكل والمادة وإن كانت غير جرمية إلا أن لها صلة بالجسم الإنساني. وللجرمي الذي أصله في خيال الروح ست درجات: الأجسام السماوية، وبدن الإنسان، وأبدان الحيوانات النازلة، وأبدان النباتات، والمعادن، والأبدان الأولية. (19-4) تقسيم قوى النفس أو بسيكولوجيا
قوى النفس في نظر الفارابي متدرجة؛ فالقوة السفلى هي مادة للقوة العليا، والعليا شكل للسفلى، وأرقى هذه القوى جميعا الفكر، وهو غير مادي وهو شكل لكل الأشكال السابقة.
وحياة النفس ترتفع من الإحساس بالأشياء إلى الفكر بقوة التصور والتمثيل، وفي كل القوى يوجد المجهود أو الإرادة، ولكل نظرية وجه يناقضها في العمل ولا يمكن فصل الميل والنفور عن الإدراكات التي تعطيها الحواس والنفس تقبل أو ترفض بحسب ما يمثل لها بواسطة الحواس.
ثم إن الفكر يحكم على الخير والشر ويعطي للإرادة الأسباب التي تعول عليها ويكون الفنون والعلوم.
وكل إدراك أو تمثيل أو فكر لا بد له من مجهود ليصل إلى النتيجة الضرورية كما تنبعث الحرارة من النار. والنفس تكمل وجود الجسم، والذي يكمل النفس هو العقل، والعقل هو الإنسان.
العقل موجود في روح الطفل ويصير عقلا فعالا أثناء إدراكه الأشكال الجرمية بالخبرة بطريق الحواس وقوة التمثيل والتصوير.
فتحقيق التجارب والخبرة ليس من فعل الإنسان ولكنه نتيجة عمل الروح الذي فوق الإنسان. فعلم الإنسان ناشئ من فوق وليس علما متحصلا عليه بمجهود عقلي؛ أي إنه معطى من الله وليس كسبيا بفعل بني آدم. (19-5) رأيه في الأخلاق
الأخلاق تبحث في أساس السلوك، ويتفق الفارابي بعض الأحيان مع أفلاطون وبعض الأحيان مع أرسطو، وقد يسبقها في بعض الأحيان.
وهو يخالف علماء الدين القائلين بأن الأخلاق الدينية تنبعث عن العلوم الدينية، ويقول بقوة في عدة مواضع من مؤلفاته إن العقل وحده يفصل بين الخير والشر، ويميز بينهما، فلماذا لا يحدد لنا هذا العقل، الذي أعطي لنا من العلي، السلوك الذي يجب علينا اتباعه، لا سيما وأن العلم (المعرفة) هو أعظم الفضائل!
ويقول بصراحة إنه لو وجد رجلان: أحدهما واقف على مبادئ وتآليف أرسطو ولكنه لا يسلك سلوكا منطبقا على ما جاء في هذه المؤلفات، والآخر يسلك سلوكا منطبقا على مبادئ هذا الفيلسوف ولكنه جاهل بمؤلفاته، فإن الفارابي يفضل الأول على الثاني؛ لأن المعرفة أفضل من الفعل الفاضل، وإلا ما استطاعت المعرفة أن تميز بين الفعل الفاضل وغيره.
إن النفس بطبيعتها تشتهي ولها إرادة على قدر إدراكها وتصورها، وهي في ذلك كالحيوانات النازلة، ولكن الإنسان وحده له حرية الخيار. (19-6) سياسيات الفارابي
المثل الأعلى للحكومة في نظر الفارابي هو الذي يكون الحاكم فيه فيلسوفا. وإن الناس اجتمعوا بضرورة الاجتماع ويضعون أنفسهم تحت إرادة فرد يمثل الحكومة.
وأفضل الحكومات ما كانت متصلة بهيئة دينية؛ أي أن تكون الحكومة مسيطرة على أمور الأمة الدينية والدنيوية . (راجع آراء المدينة الفاضلة).
وكانت فلسفة الفارابي روحانية محضة، فعاش ملكا في عالم العقل، متسولا في عالم الحياة المادية . وكانت فلسفته لا تعطي شيئا مما تتطلبه الحواس. (19-7) تلاميذه
تلاميذه هم زكريا يحيى بن عدي مسيحي يعقوبي اشتهر بترجمة مؤلفات أرسطو، وقد تلقى عليه العلم أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني الذي التف حوله علماء عصره، وهو النصف الأخير من القرن العاشر، ببغداد. وقد وصلت فلسفة الفارابي مع تلاميذه إلى علم الكلام وانتهت الحال بهم كما انتهت بإخوان الصفاء إلى فلسفة صوفية. (19-8) القول في أجزاء النفس الإنسانية وقواها
إذا حدث الإنسان فأول ما يحدث فيه القوة التي بها يتغذى، وهي القوة الغاذية، ثم من بعد ذلك القوة التي بها يحس الملموس، مثل الحرارة والبرودة وسائرها، التي بها يحس الطعومة والتي بها يحس الروائح، والتي بها يحس الأصوات، والتي بها يحس الألوان، والمبصرات، وكلها مثل الشعاعات؛ ويحدث مع الحواس بها نزاع إلى ما يحسه، فيشتاقه أو يكرهه، ثم يحدث فيه بعد ذلك قوة أخرى يحفظ بها ما رسم في نفسه من المحسوسات بعد غيبتها عن مشاهدة الحواس لها. وهذه هي القوة المتخيلة، فهذه تركب المحسوسات بعضها إلى بعض، وتفصل بعضها عن بعض؛ تركيبات وتفصيلات مختلفة، بعضها كاذبة وبعضها صادقة، ويقترن بها نزوع نحو ما يتخيله، ثم من بعد ذلك يحدث فيه القوة الناطقة التي بها يمكن أن يعقل المعقولات، وبها يميز بين الجميل والقبيح، وبها يحوز الصناعات والعلوم، وبها أيضا نزوع نحو ما يعقله، فالقوة الغاذية منها قوة واحدة رئيسة، ومنها قوى هي رواضخ لها وخدم: فالقوة الغاذية الرئيسة هي من أعضاء البدن في الفم، والرواضخ والخدم متفرقة في سائر الأعضاء، وكل قوة من الرواضخ والخدم فهي في عضو ما من سائر أعضاء البدن، والرئيسة منها هي بالطبع مدبرة لسائر القوى، وسائر القوى يتشبه بها ويحتذي بأفعالها حذوا هو بالطبع غرض رئيسها الذي في القلب. وذلك مثل المعدة والكبد والطحال.
والأعضاء الخادمة هذه والأعضاء التي تخدم هذه الخادمة والتي تخدم هذه أيضا ؛ فإن الكبد عضو يرأس ويرأس، فإنه يرأس بالقلب ويرأس المرارة والكلية، وأشباههما من الأعضاء، والمثانة تخدم الكلية، والكلية تخدم الدم والكبد، والكبد يخدم الكلية، وعلى هذا توجد سائر القوى.
والقوة الحاسة فيها رئيس، وفيها رواضخ، ورواضخها هي هذه الحواس الخمس المشهورة عند الجميع، المتفرقة في العينين والأذنين وسائرها، وكل واحدة من هذه الخمس تدرك حسا ما يخصها، والرئيسة منها هي التي اجتمع فيها جميع ما تدركه الخمس بأسرها، وكأن هذه الخمس هي منذرات تلك، وكأن هؤلاء أصحاب أخبار كل واحد منهم موكل بجنس من الأخبار وبأخبار ناحية ما من نواحي المملكة.
والرئيسة كأنها هي الملك الذي يجتمع عنده أخبار نواحي مملكته من أصحاب أخباره. والرئيسة من هذه أيضا هي في القلب.
والقوة المتخيلة ليس لها رواضخ متفرقة في أعضاء أخر، بل هي واحدة وهي أيضا في القلب، وهي تحفظ المحسوسات ومتحكمة عليها، وذلك أنها تفرد بعضها عن بعض، وتركب بعضها إلى بعض تركيبات مختلفة يتفق في بعضها أن تكون موافقة لما حس، وفي بعضها أن تكون مخالفة للمحسوس.
وأما القوة الناطقة فلا رواضخ ولا خدم لها من نوعها في سائر الأعضاء؛ بل إنما رئاستها على سائر القوى المتخيلة. والرئيسة من كل جنس فيه رئيس ومرءوس، فهي رئيسة القوى المتخيلة ورئيسة القوى الحاسة والرئيسة منها. ورئيسة القوى الغاذية الرئيسة منها، والقوى النزوعية وهي التي تشتاق إلى الشيء وتكرهه فهي رئيسة ولها خدم. وهذه القوة هي التي بها تكون الإرادة. فالإرادة هي نزوع إلى ما أدرك وعما أدرك: إما بالحس، وإما بالتخييل، وإما بالقوة الناطقة، وحكم فيها أنه ينبغي أن يؤخذ أو يترك.
والنزوع قد يكون إلى علم شيء ما، وقد يكون إلى عمل شيء ما، إما بالبدن بأسره وإما بعضو ما منه. والنزوع إنما يكون بالقوة النزوعية الرئيسة، والأعمال بالبدن تكون بالقوة تخدم بالقوة النزوعية؛ وتلك القوة متفرقة في أعضاء أعدت لأن يكون بها تلك الأفعال، منها أعصاب ومنها عضل سارية في الأعضاء التي تكون لها الأفعال التي يكون نزوع الحيوان والإنسان إليها، وتلك الأعضاء مثل اليدين والرجلين وسائر الأعضاء التي يمكن أن تتحرك بالإرادة.
فهذه القوى التي في أمثال هذه الأعضاء هي كلها آلات جسمانية وخادمة للقوى النزوعية الرئيسة التي في القلب، وعلم الشيء قد يكون بالقوة الناطقة، وقد يكون بالمتخيلة، وقد يكون بالإحساس، فإذا كان النزوع إلى علم شيء شأنه أن يدرك بالقوة الناطقة، فإن الفعل الذي ينال به ما تشوق من ذلك يكون قوة ما أخرى في الناطقة، وهي القوة الفكرية، وهي التي بها الفكرة والروية والتأمل والاستنباط.
وإذا كان النزوع إلى علم شيء ما يدرك بإحساس، كان الذي ينال به فعل مركب من فعل بدني ومن فعل نفساني في مثل الشيء الذي نتشوق رؤيته، فإنه يكون برفع الأجفان، وبأن نحاذي أبصارنا نحو الشيء الذي نتشوق رؤيته. فإن كان الشيء بعيدا مشينا إليه. وإن كان دونه حاجز أزلنا بأيدينا ذلك الحاجز، فهذه كلها أفعال بدنية. والإحساس بنفسه فعل نفساني وذلك في سائر الحواس، وإذا تشوق تخييل شيء ما نيل ذلك من وجوه: أحدها يفعل بالقوة المتخيلة مثل تخييل الشيء الذي يرجى ويتوقع، أو تخييل شيء مضى، أو تمني شيء ما تركته القوة المتخيلة.
والثاني ما يروج على القوة المتخيلة من إحساس شيء ما، فيتخيل إليه من ذلك أمر ما أنه مخوف أو مأمول أو ما يرد عليه من فعل القوة الناطقة فهذه هي القوى النفسانية. (19-9) القول في القوة الناطقة كيف تعقل وما سبب ذلك
ويبقى بعد ذلك أن نرسم في الناطقة رسوم أصناف المعقولات، والمعقولات التي شأنها أن ترسم في القوة الناطقة، منها المعقولات التي هي في جواهرها عقول بالفعل، ومعقولات بالفعل وهي الأشياء البريئة من المادة. ومنها المعقولات التي ليست بجواهرها معقولة بالفعل مثل الحجارة والنبات.
وبالجملة كل ما هو جسم أو في جسم ذي مادة، والمادة نفسها وكل شيء قوامه بها؛ فإن هذه ليست عقولا بالفعل ولا معقولات بالفعل، وأما العقل الإنساني الذي يحصل له الطبع في أول أمره؛ فإن ما في هيئته مادة معدة لأن تقبل رسوم المعقولات فهي بالقوة عقل وعقل هيولاني. وهي أيضا بالقوة معقولة، وسائر الأشياء التي في مادة. أو هي مادة أو ذوات مادة، فليست هي عقولا لا بالفعل ولا بالقوة، ولكنها معقولات بالقوة، ويمكن أن تصير معقولات بالفعل وليس في جواهرها كفاية في أن تصير من تلقاء أنفسها معقولات بالفعل ولا أيضا في القوة الناطقة ولا فيما أعطى الطبع كفاية في أن تصير من تلقاء نفسها عقلا بالفعل، بل تحتاج أن تصير عقلا بالفعل إلى شيء آخر ينقلها من القوة إلى الفعل، وإنما تصير عقلا بالفعل إذا حصلت فيها المعقولات وتصير المعقولات التي بالقوة معقولات بالفعل إذا حصلت معقولة للعقل بالفعل، وهي تحتاج إلى شيء آخر ينقلها من قوة إلى أن يصيرها بالفعل، والفاعل الذي ينقلها من القوة إلى الفعل هو ذات ما جوهره عقل ما بالفعل، ومفارق المادة، فإن ذلك العقل يعطي العقل الهيولاني الذي هو بالقوة عقل، شيئا ما بمنزلة الضوء الذي تعطيه الشمس البصر، لأن منزلته من العقل الهيولاني منزلة الشمس من البصر، فإن البصر هو قوة وهيئة ما في مادة وهو من قبل أن يبصر فيه بصر بالقوة والألوان من قبل أن تبصر مبصرة مرئية بالقوة.
وليس في جوهر القوة الباصرة التي في العين كفاية في أن تصير بصرا بالفعل، ولا في جواهر الألوان كفاية في أن تصير مرئية مبصرة بالفعل.
فإن الشمس تعطي البصر ضوءا يضاء به وتعطي الألوان ضوءا تضاء بها، فيصير البصر بالضوء الذي استفاده من الشمس مبصرا بالفعل وبصيرا بالفعل، وتصير الألوان بذلك الضوء مبصرة مرئية بالفعل بعد أن كانت مبصرة مرئية بالقوة. كذلك هذا العقل الذي بالفعل يفيد العقل الهيولاني شيئا ما يرسمه فيه، فمنزلة ذلك الشيء من العقل الهيولاني منزلة الضوء من البصر، وكما أن البصر بالضوء نفسه يبصر الضوء الذي هو سبب إبصاره، ويبصر الشمس التي هي سبب الضوء فيه بعينه ويبصر الأشياء التي هي بالقوة مبصرة فتصير مبصرة بالفعل، كذلك العقل الهيولاني كذلك، فإنه بذلك الشيء الذي منزلته منه منزلة الضوء من البصر، يعقل ذلك الشيء نفسه وبه يعقل العقل الهيولاني العقل بالفعل الذي هو سبب ارتسام ذلك الشيء في العقل الهيولاني وبه تصير الأشياء التي كانت معقولة بالقوة معقولة بالفعل، ويصير هو أيضا عقلا بالفعل بعد أن كان عقلا بالقوة.
وفعل هذا العقل المفارق في العقل الهيولاني يشبه فعل الشمس في البصر؛ فلذلك سمي العقل الفعال، ومرتبته في الأشياء المفارقة التي ذكرت من دون السبب الأول المرتبة العاشرة، ويسمى العقل الهيولاني العقل المنفعل.
وإذا حصل في القوة الناطقة عن العقل الفعال ذلك الشيء الذي منزلته منها بمنزلة الضوء من البصر حصلت المحسوسات حينئذ عن التي هي محفوظة في القوة المتخيلة معقولة في القوة الناطقة وتلك هي المعقولات الأولى التي هي مشتركة لجميع الناس: مثل أن الكل أعظم من الجزء، وأن المقادير المساوية للشيء الواحد متساوية، والمعقولات الأولى المشتركة ثلاثة أصناف: صنف أوائل للهندسة العلمية، وصنف أوائل يوقف بها على الجميل والقبيح مما شأنه أن يعمله الإنسان، وصنف أوائل يستعمل في أن يعلم بها أحوال الموجودات التي ليس شأنها أن يعقلها الإنسان ومباديها ومراتبها مثل السماوات والسبب الأول وسائر المبادئ الأخر وما شأنه أن يحدث عن تلك المبادي. (19-10) القول في الفرق بين الإرادة والاختيار وفي السعادة
فعندما تحصل هذه المعقولات للإنسان، يحدث له بالطبع تأمل وروية وذكر وتشوق إلى الاستنباط، ونزوع إلى بعض ما عقله وتشوق إليه، وإلى بعض ما يستنبطه أو كراهته، والنزوع إلى ما أدركه بالجملة هو الإرادة. فإن كان ذلك عن إحساس أو تخيل سمي بالاسم العام وهو الإرادة، وإن كان ذلك عن روية أو عن نطق في الجملة سمي الاختيار، وهذا يوجد في الإنسان خاصة. وأما النزوع عن إحساس أو تخيل، فهو أيضا في سائر الحيوان، وحصول المعقولات الأولى للإنسان هو استكماله الأول وهذه المعقولات إنما جعلت له ليستعملها في أن يصير إلى استكماله الأخير.
وذلك هو السعادة، وهي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام، وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائما أبدا، إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال.
وإنما تبلغ ذلك بأفعال ما إرادية: بعضها أفعال فكرية، وبعضها أفعال بدنية، وليست بأي أفعال اتفقت، بل بأفعال ما محدودة مقدرة تحصل عن هيئات ما، وملكات ما مقدرة محدودة.
وذلك أن من الأفعال الإرادية ما يعوق عن السعادة، والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليست تطلب أصلا ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيء آخر، وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها.
والأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة، والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل. وهذه هي خيرات لا لأجل ذواتها بل إنما هي خيرات لأجل السعادة.
والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور، وهي الأفعال القبيحة، والهيئات والملكات التي عنها تكون هذه الأفعال هي النقائص والرذائل والخسائس.
فالقوة الغاذية التي في الإنسان إنما جعلت لتخدم البدن، وجعلت الحاسة والمتخيلة لتخدما البدن ولتخدما القوة الناطقة، وخدمة هذه الثلاثة للبدن راجعة إلى خدمة القوة الناطقة، إذ كان قوام الناطقة أولا بالبدن، والناطقة منها عملية ومنها نظرية: والعملية جعلت لتخدم النظرية والنظرية لا تخدم شيئا آخر بل ليتوصل بها إلى السعادة؛ وهذه كلها مقرونة بالقوة النزوعية، والنزوعية تخدم الحاسة وتخدم المتخيلة وتخدم الناطقة، والقوى الخادمة المدركة ليس يمكنها أن توفي الخدمة والعمل إلا بالقوة النزوعية.
فإن الإحساس والتخيل والروية ليست كافية في أن تفعل دون أن يقترن إلى ذلك تشوق إلى ما أحس أو تخيل أو تروى فيه وعلم؛ لأن الإرادة هي أن تنزع بالقوة النزوعية إلى ما أدركت، فإذا علمت بالقوة النظرية، السعادة، ونصبت غايتها وتشوقت بالنزوعية واستنبطت بالقوة المروية ما ينبغي أن تعمل حتى تقبل بمعاونة المتخيلة، والحواس على ذلك، ثم فعلت بآلات القوة النزوعية تلك الأفعال؛ كانت أفعال الإنسان كلها خيرات وجميلة، فإذا لم تعلم السعادة أو علمت ولم تنصب غايتها بتشوق، بل نصبت الغاية شيئا آخر سواها وتشوقت بالنزوعية واستنبطت بالقوة المروية ما ينبغي أن تعمل حتى تنال بمعاونة الحواس والمتخيلة، ثم فعلت تلك الأفعال بآلات القوة النزوعية كانت أفعال ذلك الإنسان كلها غير جميلة. (19-11) القول في الوحي ورؤية الملك
وذلك أن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاء يستغرقها بأسرها، ولا أخدمتها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضا أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منها في وقت النوم.
وكثير من هذه التي يعطيها العقل الفعال، فتتخيلها القوة المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية، فإن تلك المتخيلة تعود فترتسم في القوة الحاسة، فإذا حصلت رسومها في الحاسة المشتركة، انفعلت عن تلك الرسوم القوة الباصرة، فارتسمت فيها تلك، فيحصل عما في القوة الباصرة منها رسوم تلك في الهواء المضيء المواصل للبصر المنحاز بشعاع البصر، فإذا حصلت تلك الرسوم في الهواء عاد ما في الهواء فيرتسم من رأس في القوة الباصرة التي في العين، وينعكس ذلك إلى الحاس المشترك وإلى القوة المتخيلة، ولأن هذه كلها متصلة بعضها ببعض فيصير ما أعطاه العقل الفعال من ذلك مرئيا لهذا الإنسان، فإذا اتفقت المحاكيات التي حاكت بها القوة المتخيلة تلك الأشياء مع محسوسات في نهاية الجمال والكمال قال الذي يرى ذلك إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود شيء منها في سائر الموجودات أصلا، ولا يمتنع أن يكون الإنسان إذا بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال، فيقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، أو محاكياتها من المحسوسات ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها. فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية، فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة، وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة.
ودون هذا من يرى جميع هذه، بعضها في يقظته وبعضها في نومه، ومن يتخيل في نفسه هذه الأشياء كلها ولكن لا يراها ببصره. ودون هذا من يرى جميع هذه في نومه فقط، وهؤلاء تكون أقاويلهم التي يعبرون بها أقاويل محاكيه، ورموزا وألغازا، وإبدالات وتشبيهات، ثم يتفاوت هؤلاء تفاوتا كثيرا: فمنهم من يقبل الجزئيات ويراها في اليقظة فقط ولا يقبل المعقولات؛ ومنهم من يقبل المعقولات ويراها في اليقظة فقط ولا يقبل الجزئيات؛ ومنهم من يقبل بعضها ويراها دون بعض؛ ومنهم من يرى شيئا في يقظته ولا يقبل بعض هذه في نومه؛ ومنهم من لا يقبل شيئا في يقظته، بل إنما يقبل ما يقبل في نومه فقط، فيقبل في نومه الجزئيات ولا يقبل المعقولات؛ ومنهم من يقبل شيئا من هذه وشيئا من هذه؛ ومنهم من يقبل شيئا من الجزئيات فقط، وعلى هذا يوجد الأكثر، والناس أيضا يتفاضلون في هذا، وكل هذه معاونة للقوة الناطقة.
وقد تعرض عوارض يتغير بها مزاج الإنسان فيصير بذلك معدا لأن يقبل عن العقل الفعال بعض هذه في وقت اليقظة أحيانا وفي النوم أحيانا؛ فبعضهم يبقى ذلك فيهم زمنا، وبعضهم إلى وقت ما ثم يزول.
وقد تعرض أيضا للإنسان عوارض فيفسد بها مزاجه وتفسد تخاييله، فيرى أشياء مما تركبه القوة المتخيلة على تلك الوجوه مما ليس لها وجود ولا هي محاكايات لوجود وهؤلاء الممرورون والمجانين وأشباههم. (19-12) القول في احتياج الإنسان إلى الاجتماع والتعاون
وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه، وكل واحد من كل واحد بهذه الحال، فلذلك لا يمكن الإنسان أن ينال الكمال الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية، إلا باجتماعات جماعة كثيرين متعاونين يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه، وفي أن يبلغ الكمال. ولهذا كثرت أشخاص الإنسان فحصلوا في المعمورة من الأرض، فحدث منها الاجتماعات الإنسانية، فمنها الكاملة ومنها غير الكاملة، والكاملة ثلاث: عظمى، ووسطى، وصغرى.
فالعظمى اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة، والوسطى اجتماع أمة في جزء من المعمورة، والصغرى اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة. وغير الكاملة: أهل القرية، واجتماع أهل المحلة، ثم اجتماع في سكة، ثم اجتماع في منزل، وأصغرها المنزلة والمحلة والقرية ثم هي جميعا لأهل المدينة، إلا أن القرية للمدينة على أنها خادمة للمدينة، والمحلة للمدينة على أنها جزؤها، والسكة جزء المحلة، والمنزل جزء السكة، والمدينة جزء مسكن أمة، والأمة جزء جملة أهل المعمورة.
فالخير الأفضل والكمال الأقصى، إنما ينالان أولا بالمدينة لا بالاجتماع الذي هو أنقص، ولما كان شأن الخير في الحقيقة أن يكون ينال بالاختيار، أمكن أن تجعل المدينة للتعاون على بلوغ بعض الحاجات التي هي شرور؛ فلذلك كل مدينة يمكن أن ينال بها السعادة.
فالمدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة هي المدينة الفاضلة، والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل، والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة، وكذلك المعمورة الفاضلة إنما تكون إذا كانت الأمة التي فيها يتعاونون على بلوغ السعادة، والمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان، وعلى حفظها عليه.
وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى، وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب، وأعضاء تقرب مراتبها من ذلك الرئيس، وكل واحد منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعل بها فعله ابتغاء لما هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيس، وأعضاء أخر فيها قوى تفعل أفعالها على حسب أغراض هذه التي ليس بينها وبين الرئيس واسطة، فهذه في الرتبة الثانية؛ وأعضاء أخر تفعل الأفعال على حسب غرض هؤلاء الذين في هذه المرتبة الثانية، ثم هكذا إلى أن تنتهي إلى أعضاء تخدم ولا ترأس أصلا؛ وكذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرات متفاضلة الهيئات، وفيها إنسان هو رئيس، وأخر يقرب مراتبها من الرئيس وفي كل واحد منها هيئة وملكة يفعل بها فعلا يقتضي به ما هو مقصود ذلك الرئيس، وهؤلاء هم أولو المراتب الأول، ودون هؤلاء قوم يفعلون الأفعال على حسب أغراض هؤلاء، وهؤلاء هم في الرتبة الثانية، ودون هؤلاء أيضا من يفعل الأفعال على حسب أغراض هؤلاء، ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن تنتهي إلى أخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم، فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون ولا يخدمون، ويكونون في أدنى المراتب، ويكونون هم الأسفلون، غير أن أعضاء البدن طبيعية، وأجزاء المدينة - وإن كانوا طبيعيين - فإن الهيئات والملكات التي يفعلون بها أفعالهم للمدينة ليست طبيعية بل إرادية، على أن أجزاء المدينة مفطورون بالطبع بفطر متفاضلة يصلح بها إنسان لإنسان لشيء دون شيء، غير أنهم ليسوا أجزاء المدينة بالفطر التي لهم وحدها، بل بالملكات الإرادية التي تحصل لها وهي الصناعات وما شاكلها والقوى التي هي أعضاء البدن بالطبع، فإن نظائرها في أجزاء المدينة ملكات وهيئات إرادية. (19-13) القول في العضو الرئيس
وكما أن العضو الرئيس في البدن هو بالطبع أكمل أعضائه، وأتمها في نفسه وفيما يخصه وله من كل ما يشارك فيه عضو آخر أفضلها، ودونه أيضا أعضاء أخرى رئيسة لما دونها، ورياستها دون رياسة الأول، وهي تحت رياسة الأول ترؤس وترأس؛ ذلك رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما يخصه، وله كل ما شارك فيه غيره أفضله، ودون قوم مرءوسون منه ويرأسون آخرين. وكما أن القلب يتكون أولا ثم يكون هو السبب في أن يكون سائر أعضاء البدن، والسبب في أن يحصل لها قواها وأن تترتب مراتبها، فإذا اختل منها عضو كان هو المرفد منه بما يزيل عنه ذلك الاختلال. كذلك رئيس هذه المدينة ينبغي أن يكون هو أولا، ثم يكون هو السبب في أن تحصل المدينة وأجزاؤها والسبب في أن يحصل الملكات الإرادية التي لأجزائها في أن تترتب مراتبها وأن اختل منها جزء كان هو المرفد له بما يزيل عنه اختلاله، وكما أن الأعضاء التي تقرب من العضو الرئيس تقوم في الأفعال الطبيعية التي هي على حسب غرض الرئيس الأول بالطبع بما هو شرف، وما هو دونها من الأعضاء يقوم في الأفعال؛ بما هو دون ذلك في الشرف إلى أن ينتهي إلى الأعضاء التي تقوم بها من الأفعال أخس، كذلك التي تقرب في الرياسة من رئيس المدينة تقوم من الأفعال الإرادية بما هو أشرف، ومن دونهم بما هو دون ذلك في الشرف إلى أن ينتهي إلى الأجزاء التي تقوم من الأفعال بأخسها.
وخسة الأفعال ربما كانت بخسة موضوعاتها، فإن كانت الأفعال عظيمة الغناء مثل فعل المثانة وفعل الأمعاء السفلى في البدن، وربما كانت لقلة غنائها، وربما كانت لأجل أنها كانت سهلة جدا، كذلك في المدينة، وكذلك كل جملة كانت أجزاؤها مؤتلفة منتظمة مرتبطة بالطبع، فإن لها رئيسا حاله من سائر الأجزاء هذه الحال، وتلك أيضا حال الموجودات؛ فإن السبب الأول نسبته إلى سائر الموجودات كنسبة ملك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائها، فإن البرئة من المادة تقرب من الأول ودونها الأجسام السماوية، ودون السماوية الأجسام الهيولانية، وكل هذه تحتذي حذو السبب الأول وتأمه وتقتفيه، ويفعل ذلك كل موجود بحسب قوته، إلا أنها إنما تقتفي الغرض بمراتب؛ وذلك إن الأخس يقتفي غرض ما هو فوقه قليلا، وذلك يقتفي غرض ما هو فوقه، وأيضا كذلك للثالث غرض ما هو فوقا، إلى أن تنتهي إلى التي ليس بينها وبين الأول واسطة أصلا.
فعلى هذا الترتيب تكون الموجودات كلها تقتفي غرض السبب الأول، فالتي أعطيت كل ما به وجودها من أول الأمر فقد احتذى بها من أول أمرها حذو الأول ومقصده، فعادت وصارت فيه في المراتب العالية؛ وأما التي لم تعط من أول الأمر كل ما به وجودها فقد أعطيت قوة تتحرك بها نحو ذلك الذي يتوقع على نيله ويقتفي في ذلك ما هو غرض الأول، وكذلك ينبغي أن تكون المدينة الفاضلة، فإن أجزاءها كل ما ينبغي أن تحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول على الترتيب، ورئيس المدينة الفاضلة ليس يمكن أن يكون أي إنسان اتفق، لأن الرئاسة إنما تكون بشيئين: أحدهما إنما يكون بالفطرة والطبع معدا لها، والثاني بالهيئة والملكة الإرادية.
والرئاسة التي تحصل لمن فطر بالطبع معدا لها، فليس كل صناعة يمكن أن يرأس بها، بل أكثر الصنائع صنائع يخدم بها في المدينة، وأكثر الفطر هي فطر الخدمة، وفي الصنائع صنائع يرأس بها ويخدم صنائع أخر، وفيها صنائع يخدم بها فقط ولا يرأس بها أصلا؛ فكذلك ليس يمكن أن تكون الصناعة رآسة المدينة الفاضلة أي صناعة ما اتفقت ولا يمكن أي مملكة ما اتفقت.
وكما أن الرئيس الأول في جنس لا يمكن أن يرأسه شيء من ذلك الجنس، مثل رئيس الأعضاء، فإنه هو الذي لا يمكن أن يكون عضوا آخر رئيسا عليه، وكذلك في كل رئيس في الجملة، كذلك رئيس الأول للمدينة الفاضلة ينبغي أن يكون صناعته صناعة نحو غرضها تام الصناعات كلها وإياهم يقصد بجميع أفعال المدينة الفاضلة، ويكون ذلك الإنسان إنسانا لا يكون يرأسه إنسان أصلا، وإنما يكون ذلك الإنسان إنسانا قد استكمل، فصار عقلا ومعقولا بالعقل قد استكملت قوته المتخيلة بالطبع غاية الكمال على ذلك الوجه الذي قلنا، وتكون هذه القوة منه معدة بالطبع لتقبل إما في وقت اليقظة، أو في وقت النوم عن العقل الفعال الجزئيات إما بنفسها، وإما بما يحاكيها، ثم المعقولات بما يحاكيها، وأن يكون عقله المنفعل قد استكمل بالمعقولات كلها، حتى لا يكون تبقى منها شيء وصار عقلا بالفعل.
فأي إنسان استكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلها صار عقلا بالفعل، ومعقولا بالفعل، وصار المعقول منه هو الذي يعقل حصل له حينئذ عقل ما بالفعل رتبته فوق العقل المنفعل أتم، وأشد مفارقة للمادة ومقاربة من العقل الفعال ويسمى العقل المستفاد، ويصير متوسطا بين العقل المنفعل وبين العقل الفعال، ولا يكون بينه وبين العقل الفعال شيء آخر، فيكون العقل المنفعل كالمادة، والموضوع للعقل المستفاد والعقل المستفادة كالمادة، والموضوع للعقل الفعال والقوة الناطقة التي هي هيئة طبيعية تكون مادة موضوعة للعقل المنفعل الذي هو بالفعل عقل.
وأول رتبة التي بها الإنسان إنسان هي أن تحصل الهيئة الطبيعية القابلة المعدة لأن يصير عقلا بالفعل، وهذه هي المشتركة للجميع، فبينها وبين العقل الفعال رتبتان: أن يحصل العقل المنفعل بالفعل، وأن يحصل العقل المستفاد، وبين هذا الإنسان الذي بلغ هذا المبلغ من أول رتبة الإنسانية وبين العقل الفعال رتبتان، وإذا جعل العقل المنفعل الكامل والهيئة الطبيعية كشيء واحد على مثال ما يكون المؤتلف من المادة والصورة شيئا واحدا.
وإذا أخذ هذا الإنسان صورة إنسانية هو العقل المنفعل الحاصل بالفعل، كان بينه وبين العقل الفعال رتبة واحدة فقط، وإذا جعلت الهيئة الطبيعية مادة العقل المنفعل الذي صار عقلا بالفعل، والمنفعل مادة المستفاد، والمستفاد مادة العقل الفعال، وأخذت جملة ذلك كشيء واحد. كان هذا الإنسان هو الإنسان الذي حل فيه العقل الفعال، وإذا حصل ذلك في كلا جزئي قوته الناطقة - وهما النظرية والعملية - ثم في قوته المتخيلة، كان هذا الإنسان هو الذي يوحى إليه؛ فيكون الله عز وجل يوحي إليه بتوسط العقل الفعال، فيكون ما يفيض من الله تبارك وتعالى إلى العقل الفعال يفيضه العقل الفعال إلى عقله المنفعل لتوسط العقل المستفاد ثم إلى قوته المتخيلة، فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيما فيلسوفا، ومقبلا على التمام، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيا منذرا بما سيكون، ومخبرا بما هو الآن من الجزئيات بوجود يعقل فيه الإلهيات.
وهذا الإنسان في أكمل مراتب الإنسانية، وفي أعلى درجات السعادة، وتكون نفسه كاملة متحدة بالعقل الفعال على الوجه الذي قلناه.
وهذا الإنسان هو الذي يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة، فهذا أول شرائط الرئيس ثم أن يكون له مع ذلك قوة بلسانه على جودة التخيل بالقول لكل ما يعلمه، وقدرة على جودة الإرشاد إلى السعادة، وإلى الأعمال التي بها يبلغ السعادة، وأن يكون له مع ذلك جودة ثبات ببدنه لمباشرة أعمال الجزئيات. (19-14) القول كيف تصير هذه القوى والأجزاء نفسا واحدة
فالغاذية الرئيسة شبه المادة للقوة الحاسة الرئيسة. والحاسة صورة في الغاذية، والحاسة الرئيسة شبه مادة للناطقة الرئيسة، والناطقة صورة في المتخيلة، وليست مادة لقوى أخرى ، فهي صورة لكل صورة تقدمتها. وأما النزوعية فإنها تابعة للحاسة الرئيسة، والمتخيلة، والناطقة، على جهة ما توجد الحرارة في النار تابعة لما تتجوهر به النار. فالقلب هو العضو الرئيس الذي لا يرأسه من البدن عضو آخر، ويليه الدماغ فإنه أيضا عضو ما رئيس، ورئاسته ليست رئاسة أولية لكن رئاسة ثانية: وذلك لأنه يرأس سائر الأعضاء، فإنه يخدم القلب في نفسه، وتخدمه سائر الأعضاء بحسب ما هو مقصود القلب بالطبع، وذلك مثل صاحب دار الإنسان؛ فإنه يخدم الإنسان في نفسه وتخدمه سائر أهل داره بحسب ما هو مقصود الإنسان في الأمرين، كأنه يخلفه ويقوم مقامه وينوب عنه، ويبدل فيما ليس يمكن أن يبدله الرئيس، وهو المستولي على خدمة القلب في الشريف من أفعاله.
من ذلك أن القلب ينبوع الحرارة الغريزية، فمنه تنبث في سائر الأعضاء، ومنه تسترفد وذلك بما ينبث فيها عنه من الروح الحيواني الغريزي في العروق الضوارب، ومما يرفدها القلب من الحرارة إنما تبقى الحرارة الغريزية محفوظة على الأعضاء والدماغ هو الذي يعدل الحرارة التي شأنها أن تنفذ إليه من القلب، حتى يكون ما يصل إلى كل عضو من الحرارة معتدلا ملائما له، وهذا أول أفعال الدماغ، وأول شيء يخدم به وأعمها للأعضاء، ومن ذلك أن في الأعصاب صنفين: أحدهما آلات لرواضخ القوة الحاسة الرئيسة التي في القلب في أن يحس كل واحد منها الحس الخاص به، والآخر آلات الأعضاء التي تخدم القوة النزوعية التي في القلب بها يتأتى لها أن تتحرك الحركة الإرادية.
والدماغ يخدم القلب في أن يرفد أعصاب الحس ما يبقي به قواها التي بها يتأتى للرواضخ أن تحس. والدماغ أيضا يخدم القلب في أن يرفد أعصاب الحركة الإرادية ما يبقي بها قواها التي بها يتأتى للأعضاء الآلية الحركة الإرادية التي بها القوة النزوعية التي في القلب، فإن كثيرا من هذه الأعصاب مراكزها التي منها يسترفد ما يحفظ به قواها في الدماغ نفسه؛ وكثيرا منها مفارزها في النخاع النافذ، والنخاع من أعلاه متصل بالدماغ، فإن الدماغ يرفدها بمشاركة النخاع لها في الأرفاد. ومن ذلك أن تخيل القوة المتخيلة إنما يكون متى كانت حرارة القلب على مقدار محدود. وكذلك فكر القوة الناطقة إنما يكون متى كانت حرارته على ضرب ما من التقدير، وكذلك حفظها وتذكرها للشيء.
فالدماغ أيضا يخدم القلب بأن يجعل حرارته على الاعتدال الذي يجود به تخيله وعلى الاعتدال الذي يجود به فكره ورويته، وعلى الاعتدال الذي يجود به حفظه وتذكره، فبجزء منه يعدل به ما يصلح به التخيل، وبجزء آخر منه يعدل به ما يصلح به الفكر، وبجزء ثالث يعدل به ما يصلح الحفظ والذكر. وذلك أن القلب لما كان ينبوع الحرارة الغريزية لم يمكن أن يجعل الحرارة التي فيه إلا قوية مفرطة ليفضل منه ما يفيض إلى سائر الأعضاء، ولئلا يقصر أو يجود فلم تكن كذلك في نفسها إلا لغاية تغلبه. فلما كان كذلك وجب أن يعدل حرارته التي تنفذ إلى الأعضاء، ولا تكون حرارته في نفسها على الاعتدال الذي يجود به أفعاله التي تخصه. فجعل الدماغ لأجل ذلك بالطبع باردا رطبا حتى في الملمس بالإضافة إلى سائر الأعضاء، وجعلت فيه قوة نفسانية تصير بها حرارة القلب على اعتدال محدود محصل، والأعصاب التي للحس والتي للحركة، لما كانت أرضية بالطبع سريعة القبول للجفاف، كانت تحتاج إلى أن تبقى رطبة إلى لدان مؤاتية للتمدد والتقاصر. وكانت أعصاب الحس محتاجة مع ذلك إلى الروح الغريزي الذي ليست فيه دخانية أصلا. وكان الروح الغريزي السالك في أجزاء الدماغ هذه حاله، ولما كان القلب مفرط الحرارة ناريها لم يجعل مفارزها التي بها يسترفد ما يحفظ قواها في القلب؛ لئلا يسرع الجفاف إليها فتتحلل وتبطل قواها. وأفعالها جعلت مفارزها في الدماغ وفي النخاع لأنهما رطبان جدا لتنفذ من كل واحد منهما في الأعصاب رطوبة تبقيها على اللدونة، ويستبقي بها قواها النفسانية، فبعض الأعصاب يحتاج فيها إلى أن تكون الرطوبة النافذة فيها مائية لطيفة غير لزجة أصلا، وبعضها محتاج فيها إلى لزوجة ما. فما كان منها محتاجا إلى مائية لطيفة غير لزجة جعلت مفارزها في الدماغ، وما كان منها محتاجا فيها مع ذلك إلى أن تكون رطوبتها فيها لزوجة جعلت مفارزها في النخاع، وما كان منها محتاجا فيها إلى أن تكون رطوبتها قليلة جعلت مفارزها أسفل الفقار والعصعص. ثم بعد الدماغ الكبد، وبعده الطحال، وبعد ذلك أعضاء التوليد، وكل قوة في عضو كان شأنها أن تفعل فعلا جسمانيا ينفصل به من ذلك العضو جسم ما ويصير إلى آخره، فإنه يلزم ضرورة، إما أن يكون ذلك الآخر متصلا بالأول مثل اتصال كثير من الأعصاب بالدماغ، وكثير منها بالنخاع، أو أن يكون له طريق ومسيل متصل لذلك العضو يجري فيه ذلك الجسم، وكانت تلك القوة خادمة له، أو رئيسة مثل الفم والرئة والكلية والكبد والطحال، وغير ذلك. وكلما احتاجت أو كان شأنها أن تفعل فعلا نفسانيا في غيره، ثم يلزم ضرورة أن يكون بينهما مسيل جسماني مثل فعل الدماغ في القلب، فأول ما يتكون من الأعضاء القلب ثم الدماغ ثم الكبد ثم الطحال ثم تتبعها سائر الأعضاء.
وأعضاء التوليد متأخرة الفعل من جميعها، ورياستها في البدن يسيرة مثل ما يتبين من فعل الأنثيين وحفظهما الحرارة الذكرية والروح الذكري السابقين من القلب في الحيوان الذكر الذي له أنثيان، والقوة التي يكون بها التوليد أنثيان إحداهما تعد المادة التي يتكون عنها الحيوان الذي له تلك القوة، والأخرى تعطي صورة ذلك النوع من الحيوان وتحرك المادة إلى أن تحصل لها تلك الصورة التي لذلك النوع. والقوة التي تعد المادة هي قوة الأنثى والتي تعطي الصورة هي قوة الذكر الذي هو ذكر بالقوة التي تعطى تلك المادة صورة ذلك النوع الذي له تلك القوة، والعضو الذي يخدم القلب في أن يعطي مادة الحيوان هو الرحم، والذي يخدمه في أن يعطي الصورة إما في الإنسان وإما في غيره من الحيوان هو العضو الذي يكون المني، فإن المني إذا ورد على رحم الأنثى فصادف هناك دما قد أعده الرحم لقبول صورة الإنسان، أعطى المني ذلك الدم قوة تتحرك بها إلى أن يحصل من ذلك الدم أعضاء الإنسان، وصورة كل عضو وبالجملة صورة الإنسان. فالدم المعد في الرحم هو مادة الإنسان. والمني هو المحرك لتلك المادة إلى أن تحصل فيها الصورة.
ومنزلة المني من الدم المعد في الرحم منزلة الأنفحة التي ينعقد عنها اللبن. وكما أن الأنفحة هي الفاعلة للانعقاد في اللبن وليست هي جزءا من المنعقد ولا مادة. كذلك المني ليس هو جزءا من المنعقد في الرحم ولا مادة، والجنين يتكون عن المني كما يتكون الرائب من الأنفحة. ويتكون عن دم الرحم كما يتكون الرائب عن اللبن الحليب والإبريق عن النحاس، والذي يكون المني في الإنسان هي الأوعية التي يوجد فيها المني. وهي العروق التي تحت جلد العانة. يرفدها في ذلك بعض الإرفاد الأنثيان. وهذه العروق نافذة إلى المجرى الذي في القضيب ليسيل من تلك العروق إلى مجرى القضيب، ويجري في ذلك المجرى إلى أن ينصب في الرحم ويعطي الدم الذي فيه مبدأ قوة يتغير بها إلى أن تحصل به الأعضاء.
وصورة كل عضو، وصورة جملة البدن، والمني آلة الذكر، والآلات منها مواصلة ومنها مفارقة من ذلك؛ مثل الطبيب فإن اليد آلة للطبيب يعالج بها، والمبضع آلة له يعالج بها، والدواء آلة له يعالج بها، فالدواء آلة مفارقة وإنما يواصله الطبيب حينما يفعله ويصنعه ويعطيه قوة يحرك بها بدن العليل إلى الصحة، فإذا حصلت فيه تلك القوة ألقاها في جوف بدن العليل مثلا فتحرك بدنه نحو الصحة. والطبيب الذي ألقاها غائب أو ميت مثلا.
وكذلك منزلة المني والمبضع لا تفعل فعلها إلا بمواصلة الطبيب المستعمل له. واليد أشد مواصلة له من المبضع. وأما الدواء فإنه يفعل بالقوة التي فيه من غير أن يكون الطبيب مواصلا له.
كذلك المني فإنه آلة للقوة المولدة الذكرية وتفعل مفارقة وأوعية المني والأنثيان آلة للتوليد مواصلة للبدن.
فمنزلة العروق التي تكون آلات المني من القوة الرئيسية التي في القلب منزلة يد الطبيب التي يعمل بها الدواء ويعطيه قوة محركة ويحرك بها بدن العليل إلى الصحة فإن تلك العروق التي يستعملها القلب بالطبع، هي آلات في أن يعطي المني القوة التي يحرك بها الدم المعد في الرحم إلى صورة ذلك النوع من الحيوان. فإذا أخذ الدم عن المني القوة التي يتحرك بها إلى الصورة، فأول ما يتكون القلب وينتظر بتكوينه تكوين سائر الأعضاء وما يتفق أن يحصل في القلب من القوى، فإن حصلت فيه مع القوة الغاذية القوة التي بها تعد المادة تكون سائر الأعضاء على أنها أعضاء أنثى. فإن حصلت فيه القوة التي تعطي الصورة تكون سائر الأعضاء على أنها أعضاء ذكر، فتحصل من تلك الأعضاء المولدة التي للذكر، ثم سائر القوى النفسانية الباقية تحدث في الأنثى على مثال ما هي في الذكر.
وهاتان القوتان - أعني الذكرية والأنثوية - هما في الإنسان مفترقتان في شخصين، وأما في كثير من النبات فإنهما مقترنتان على التمام في شخص واحد، مثل كثير من النبات الذي يتكون عن البزر؛ فإن النبات يعطي المادة وهي البزر، ويعطي بها مع ذلك قوة يتحرك بها نحو الصورة. فإن البزر في استعداد لقبول الصورة وقوة يتحرك بها نحو الصورة، فالذي أعطاه الاستعداد لقبول الصورة هي القوة الأنثوية، والذي أعطاه مبدأ يتحرك به نحو الصورة هو القوة الذكرية.
وقد يوجد أيضا في الحيوان ما سبيله هذا السبيل، ويوجد أيضا ما القوة الأنثوية فيه نامية وتقترن إليها قوة ما ذكرية ناقصة تفعل فعلها إلى مقدار ما، ثم تجوز فتحتاج إلى معين من خارج مثل الذي يبيض بيض الريح، ومثل كثير من أجناس السمك التي تبيض ثم تودع بيضها فيتبعها ذكورتها فتلقي رطوبة؛ فأية بيضة أصابها من تلك الرطوبة شيء كان عنها حيوان، وما لم يصبها ذلك فسدت.
وأما الإنسان فليس كذلك، بل هاتان القوتان متميزتان في شخصين، ولكل واحد منهما أعضاء تخصه وهي الأعضاء المعروفة وسائر الأعضاء فيهما مشتركات، وكذلك يشتركان في قوى النفس كلها سوى هاتين، وما يشتركان فيه من أعضاء فإنه في الذكر أسخن، وما كان منها فعله الحركة والتحريك فإنه في الذكر أقوى حركة وتحريكا. والعوارض النفسانية، فما كان منها مائلا إلى القوة مثل الغضب والقسوة، فإنها في الأنثى أضعف وفي الذكر أقوى.
وما كان من العوارض مائلا إلى الضعف مثل الرأفة والرحمة فإنه في الأنثى أقوى، على أنه لا يمتنع أن يكون في ذكورة الإنسان من توجد العوارض فيه شبيهة بما في الإناث. وفي الإناث من توجد فيه هذه شبيهة بما هو في الذكور، فبهذه تفترق الإناث والذكور في الإنسان، وأما في القوة الحاسة وفي المتخيلة وفي الناطقة فليس يختلفان، فيحدث عن الأشياء الخارجة رسوم المحسوسات المختلفة الأجناس المدركة بأنواع الحواس الخمس في القوى الحاسة الرئيسية، ويحدث عن المحسوسات الحاصلة في هذه القوى رسوم المتخيلات في القوى المتخيلة، فتبقى هناك محفوظة بعد غيبتها عن مباشرة الحواس لها، فيتحكم فيها فيعرض بعضها عن بعض أحيانا، ويركب بعضها إلى بعض أصنافا من التركيبات كثيرة بلا نهاية بعضها كاذبة وبعضها صادقة.
الفصل الثالث
ابن سينا
هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سيناء، الملقب بالشيخ الرئيس، أشهر أطباء العرب، ومن أعظم فلاسفتهم، فارسي الأصل، نشأ في ولاية ما وراء الأنهر.
كان أبوه من أهل بلخ، طاب له المقام في بخارى لعهد نوح بن منصور، أحد أمراء الأسرة السامانية، عين واليا لخرميتان إحدى عواصم بخارى. تزوج عبد الله والد علي من امرأة من أفشنا، وهو بلد صغير على مقربة من خرميتان، فأنجبت له عليا في شهر صفر عام 370 للهجرة/أغسطس سنة 980، وبعد ميلاده ببضع سنين عاد به أبوه إلى بخارى وعني بتربيته.
ذكر ابن سينا عن تهذيبه أنه في العاشرة من عمره كان قد استظهر القرآن وألم بجزء صالح من العلوم الدينية، ومبادئ الشريعة الغراء، وعلم النحو. وكان الناس يعجبون بحفظه وبذكائه السابق لأوانه، وكان أبوه يضيف في منزله عالما اسمه عبد الله ناتيلي، فوكل إليه تهذيب ولده، ففاق التلميذ أستاذه وانقطع على للدرس بمفرده، فخاض غمار الرياضيات والطبيعيات والمنطق وما وراء الطبيعة، ثم أكب بعد ذلك على درس فن الطب على أستاذ مسيحي اسمه عيسى بن يحيى.
ولم يبلغ علي السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره حتى طبقت شهرته الخافقين لحذقه في الطب، وحتى دعاه نوح بن منصور أمير بخارى لعيادته في مرض ألم به، وأعيا حيل الأطباء، فعالجه إلى أن عوفي، فانبسط له وأسبغ عليه ذيل الرضى وأسبل عليه ثوب النعمة، وفتح له خزانة كتبه فوجد بها الطبيب الحكيم خير مجال لرغبة الدرس وأرحب ميدان لطلب العلم، واستقى من تلك الينابيع العذبة ما شاء إقباله عليها.
وقد حدث أن أحرقت الكتب، فاتهم ابن سينا بأنه محرقها، رغبة في أن يتفرد بما وعته من الحكمة، وخشية أن ينتفع بما حوته سواه!
وقد مات الأمير نوح بعد ذلك بقليل في شهر رجب عام 387 هجرية/يوليو سنة 997 وقد هوى بموته نجم أسرته أو كاد.
قضى والد علي وهو في الثانية والعشرين من عمره، وكان يعينه في أعمال الدولة حتى إذا فرغ منها عكف على تأليف بعض الكتب والرسائل، كان يسأله في وضعها لفيف من الأكابر والأعيان، فلما أن نكب في والده ثقلت عليه الإقامة في بخارى فرحل عنها، وسكن جرجان وبعض مدن خوارزم وخراسان وداغستان وهي إحدى البلاد الدانية من بحر قزوين. وقد أصابه في تلك البلاد داء عضال، ثم عاد إلى جرجان فتعرف برجل كبير القدر اسمه أبو محمد الشيرازي، فأهدى إليه دارا فانتفع بها لإلقاء الدروس للطلاب. وإذ ذاك بدأ ابن سينا بوضع كتاب قانون الطب، وهو المؤلف الذي خلد ذكره، وأكسبه صيتا بعيدا في أوروبا، حيث بقي قانون ابن سينا هو أساس العلوم الطبية وعمدة الطالبين لها خلال قرون متتالية.
وكانت المشاغب السياسية تلجئه إلى تغيير موطنه، وفي هذا من قطع العمل والتشويش على العلم ما فيه، إلى أن استوزره شمس الدولة أمير همذان، بيد أن وزارته لم ترض الجند فأسروه وطلبوا قتله، فأغضب صنعهم شمس الدولة وأنقذ ابن سينا من أيديهم بعد جهد جهيد. وقد اختفى ابن سينا عن الأعين حينا ثم عاد إلى حاشية الأمير يتعهده منذ أصابه داء في الأحشاء وشرع يدون أجزاء شتى من كتاب الشفاء.
وكان في كل عشية يلقي على تلاميذه دروسا في الفلسفة والطب. ويحكى عنه أنه كان يحب الأنس والأطعمة الفاخرة، فكان كل ليلة بعد نهاية الدرس يستقدم العازفين، ويمد الموائد الممتعة، ويقضي كذلك هزيعا من الليل مع تلاميذه وأحبابه.
ولما مات شمس الدولة وتولى الإمارة ابنه بعده لم ترقه حال ابن سينا فأعرض عنه، فحقد عليه الشيخ الرئيس وكاتب في السر عدوه ومناظره علاء الدين أمير أصبهان فكشف أمره، وعوقب على فعلته بالسجن في حصن، وبعد سنين كذلك فاز في الفرار إلى أصبهان فرحب به علاء الدولة، وكان يصحبه في معظم غزواته وأسفاره.
وقد أفنت تلك المتاعب بنيته وزادته ضعفا على الذي لحقه من الإفراط في العمل واللهو، فأصابه داء في الأحشاء فتناول دواء شديدا سريع الأثر، فاشتدت علته وقد بلغت آلامه نهايتها في غزوة اصطحبه فيها علاء الدولة إلى همذان.
ولما أن رأي ابن سينا دنو أجله تاب إلى الله توبة نصوحا وتصدق بأغلى وأثمن ما كان يملك، وانقطع إلى العبادة وأعد للقاء الله عدته وقضى إلى رحمة الله في شهر رمضان المبارك عام 428 للهجرة/يوليو سنة 1037 وهو يبلغ سبعة وخمسين عاما. وقد دون تلميذه الجرجاني ترجمته وهو المعروف عند الإفرنج باسم (جورجوروس)، ونقلت هذه الترجمة إلى اللغة اللاتينية وافتتحت بها عدة من مؤلفات الشيخ الرئيس التي نشرت في أوروبا.
كان ابن سينا من أعجب العبقريين، وأبلغ الكتاب؛ فإنه خلال قيامه بأعباء المناصب وشد الرحال إلى البلاد القصية، في مثار الحروب وثنايا الفتن الأهلية تمكن من وضع كتب كثيرة ممتعة، يكفي أحدها لتأسيس مجده ووضعه في مصاف كبار حكماء المشرق. وقد دون أكثر من مائة كتاب تتباين في الإتقان ولكنها تشهد بفضله وبإلمامه بسائر علوم عصره، وإكبابه على العمل في أحرج الأحوال. ومعظم مؤلفاته لا تزال محفوظة إلى يومنا هذا، وكثير من كتبه الكبرى كالقانون والشفاء ترجمت إلى اللاتينية وطبعت عدة مرات، وسنقصر الكلام بإسهاب في هذه العجالة على الشفاء والنجدة.
كتاب الشفاء وهو من موسوعات العلوم ودوائر المعارف في ثمانية عشر مجلدا، محفوظة منها نسخة كاملة بمدرسة أكسفورد الجامعة. والنجدة موجز الشفاء، وضعه الرئيس رغبة في إرضاء بعض أصفيائه، وقد طبع الأصل العربي بعد القانون في رومة عام 1593، وهو في ثلاثة أقسام: المنطق والطبيعيات وما وراء الطبيعة، وليس يوجد فيه القسم الخاص بالعلوم الرياضية التي أشار إليها المؤلف في فاتحة الكتاب، وقال بضرورة ذكرها في الوسط بين الطبيعيات وعلم ما وراء الطبيعة، وقد طبع هذان الكتابان كاملين ومتفرقين عدة مرات باللغة اللاتينية، منها مجموعة طبعت في البندقية عام 1495 تشمل: (1)
المنطق. (2)
الطبيعيات (مقتبسة من كتاب الشفاء). (3)
السماء والعالم. (4)
الروح. (5)
حياة الحيوان. (6)
على العقل. (7)
فلسفة الفارابي على العقل. (8)
الفلسفة الأولى.
ونقل «نافيه» منطق ابن سينا إلى الفرنسوية ونشره بباريس عام 1658، كذلك طبع العلامة سمولدرز أرجوزة منطقية لابن سينا في «مجموعة الفلسفة العربية»، أما فلسفة ابن سينا فهي بالضرورة كفلسفة غيره من أتباع أرسطو دع عنك ما تحويه، عدا مبادئ المعلم الإغريقي، من التعاليم الأخرى التي لم تخل منها حكمة سواه من فلاسفة العرب.
ذكر ابن طفيل في كتابه «حي بن يقظان» أن ابن سينا قال في فاتحة الشفاء إن الحقيقة في رأيه ليست في هذا التصنيف، وإن من يريدها فليلتمسها في كتاب الحكمة المشرقية. بيد أن هذا الكتاب لم يصل إلينا، وقد عرفنا ممن وقع لهم أن موضوعه ربما كان في تعليم رأي وحدة الوجود على الطريقة الشرقية. ولذا يجب علينا أن نقنع بما وصل إلينا من كتبه الأخرى، التي ظهر فيها بمظهر الاستقلال الفكري حينا وحينا بمظهر المقلدين الناقلين. على أنه اعترف بأنه اعتمد في منطقه كثيرا على مؤلفات الفارابي، فإن من يقرأ كتب ابن سينا يرى رابطة متينة في التأليف ويرى رغبة الشيخ ظاهرة في تنسيق العلوم الفلسفية وترتيبها بدقة شديدة وردها إلى سلسلة واحدة لا بد منها. (راجع كتاب الملل والنحل للشهرستاني النسخة العربية ص348 و429).
وقد قسم العلوم في الشفاء إلى ثلاثة أقسام: (1)
العلوم العالية أي التي لا علاقة لها بالمادة، وهي الحكمة الأولى أو ما وراء الطبيعة. (2)
العلوم الدنيا وهي الخاصة بالمادة وهي الطبيعيات وما يتبعها ، وهي العلوم الخاصة بكل ما كان له مادة ظاهرة وما ينشأ عنها. (3)
العلوم الوسطى وهي التي تتعلق تارة بما وراء الطبيعة وطورا بالمادة وهي الرياضيات.
وقد عدها كذلك لأنها بين بين، فإن علم الحساب مثلا خاص بما لا علاقة له بالمادة بطبيعته ولكنه يتصل بها بمقتضى الحال. وعلم الهندسة خاص بالموجودات التي يمكن تخيلها بدون اتصالها بالمادة، ومع أنها لا وجود لها في الحس فإنها لا قوام لها إلا بالأشياء المرئية.
أما الموسيقى وفنون الآلات والعلوم البصرية فإن علاقتها بالمادة قريبة، إلا أن نسبة رفعة بعضها عن البعض راجعة إلى دنوها من الطبيعيات. وقد تكون العلوم في بعض الأحوال مشتبكة لا يمكن فصلها كما هي الحال في علم الفلك، فإنه علم رياضي ولكنه خاص بأرقى طبقة من طبقات العلم الطبيعي.
وإن هذا التقسيم لدليل قاطع على مقدار ما استفاده ابن سينا من كتب أرسطو، ويرى الخبير من الإمعان في مؤلفات ابن سينا أن التلميذ فاق أستاذه في فحص العلوم وتبيينها.
فإن أرسطو قسم الفلسفة النظرية إلى ثلاثة أقسام: الرياضيات، والطبيعيات، وعلم اللاهوت. وبذا جعل الرياضيات نوعا من الفلسفة ونسب إلى الرياضيات فنونا تبحث في غير المادة (فيما ليس متحركا ومنفصلا عن المادة)، ثم ذكر علوما أخرى كالفلك وعلم المرئيات وفن الانسجام ونسبها إلى الطبيعيات، ولكنه لم يحط بتقسيم بلغ من الدقة والجلاء ما بلغه تقسيم ابن سينا للعلوم. (راجع كتاب ما وراء الطبيعة لأرسطو الكتاب السادس الفصل الأول، والطبيعيات له أيضا الكتاب 2 فصل 2). ولم تكن زيادة البيان التي امتاز بها ابن سينا قاصرة على تقسيم العلوم، بل كان ذلك يشمل النظريات الفلسفية، فإن ابن سينا قال كسابقيه في نظرية الكائن بالممكن والضروري، ثم أضاف إلى ذلك آراء خاصة بها ينبغي الوقوف عليها؛ فإنه قسم الكائن إلى ثلاثة أقسام: ما كان ممكنا فقط، وفي هذا القسم أدخل سائر الكائنات التي تولد وتموت؛ القسم الثاني ما كان ممكنا بذاته وضروريا بسبب خارج عنه، أو بعبارة أخرى كل كائن قابل للتولد والفناء (ما عدا السبب الأول مثل الدوائر والأفلاك) والعقول التي هي بذاتها كائنات ممكنة ولا تصير واجبة إلا باتصالها بالسبب الأول؛ أما القسم الثالث فهو قاصر على ما كان واجبا بذاته وهو الله. يقول ابن سينا وتقرر هذا الكائن الفرد وحده باتحاد الوجود والوحدة والروح. أما في الكائنات التي سبق ذكرها في القسمين الأولين فإن الوحدة والوجود هما حادثان طرآ على روح الأشياء واتصلا بها.
وقد عارض ابن رشد هذا التقسيم في أماكن شتى من مؤلفاته وانتقده وأفرد له رسالة على حدة، لا يوجد منها الآن إلا نسخة عبرية بالمكتبة الوطنية بباريس. يقول ابن رشد إن ما كان واجبا بسبب خارج عنه لا يمكن أن يكون ممكنا بذاته إلا إذا هلك السبب الخارج، وهذا مستحيل فيما فرضه ابن سينا؛ لأن السبب الأول واجب الوجود وليس عرضة للهلاك، ثم إن ابن رشد يرد بشدة على ما زعمه ابن سينا من أن الوجود والوحدة ليسا سوى عارضين يطرآن على حقيقة الأشياء.
ويقول إن ابن سينا خلط الوحدة العددية، التي هي لا شك طارئة بالوحدة المطلقة التي هي وروح الأشياء واحد لا يتعدد، وبذا لا تنفصل عنه (أي عن ذلك الروح)، ثم ذكر ابن رشد أن ابن سينا قد قال في ذلك بآراء المتكلمين الذين يعتبرون الكون الأرضي بما فيه في دائرة الكائنات الممكنة، ويعتقدون أنها قابلة للتغير. إنما تفوق ابن سينا عليهم في التمييز بين الممكن والواجب لإثبات وجود كائن روحي (هيولاني).
وبعد أن أظهر ابن رشد خطأ ابن سينا في تقسيمه قال: «وقد رأينا في هذا الزمن كثيرين من أتباع ابن سينا يفسرون رأيه ليحوروه، فيقولون إن ابن سينا لم يقل بوجود مادة منفصلة بذاتها، وهذا في زعمهم ناشئ عن كيفية الشرح التي استعملها ابن سينا في عدة مواضع في الكلام على واجب الوجود. وهذا أيضا هو أساس فلسفته التي وضعها في كتاب الحكمة المشرقية، وقد أطلق عليها هذا الاسم لأنه استعارها من المشارقة الذين يوحدون بين الله وبين الدوائر السماوية (الأفلاك) وهذا الرأي منطبق على رأي ابن سينا.» ا.ه. كلام ابن رشد.
إن فكرة وحدة الوجود الشرقية هذه لم تترك أثرا في كتابات ابن سينا التي تربطه بالمشائين وهي غاية بحثنا في هذه الرسالة.
تساهل ابن سينا مع المتكلمين كما رأيت، ولكنه لم يتردد في القول مع الفلاسفة بأزلية العالم التي تختلف عن أزلية الله بأن لها سببا خاصا وقائما بها (وهذا السبب لا يقع في الزمان) أما الله فأزلي الوجود بذاته.
إن ابن سينا يقول وغيره من الفلاسفة إن السبب الأول لكونه الوحدة المطلقة لا يمكن أن يكون له أثر مباشر سوى الوحدة، ويقول في البرهان على ذلك إنه ثبت أن الكائن الواجب الوجود بذاته هو واحد في كل صفاته فلا يمكن أن يصدر عنه إلا كائن واحد؛ لأنه إذا صدر عنه كائنان مختلفان حقيقة فإنهما لا يصدران إلا عن جهتين مختلفتين من روحه. فإذا كانت هاتان الجهتان متصلتين بروحه ينتج عن ذلك أن ذلك الروح قابل للانقسام، وقد أثبتنا استحالة ذلك وخطأه. (راجع ما وراء الطبيعة لابن سينا الكتاب التاسع الفصل الرابع، والشهرستاني ص830، والغزالي مقاصد الفلاسفة).
نقول وإذا صدق قول ابن سينا في أنه لا يصدر عن الواحد إلا ما كانت صفته الأولية الوحدة، فكيف نعلل صدور العالم عن الله وهو مجموع كائنات متعددة؟! للجواب على هذا فرض ابن سينا أن حركة الدوائر لم تصدر عن الله مباشرة، ومن المعلوم عن رأي المشائين أن أثر علة العلل في الكون الأرضي ظاهر في الحركة التي تشكل المادة. إنما يصدر عن الله العقل الأول، أي عقل الدائرة المحيطة التي تسبب حركة الدائرة الثانية، وهذه الدائرة المحيطة الأولى وإن كانت صادرة عن الكائن الفرد فإنها مركبة لأن بعقلها غايتين: العقل الأول والدائرة ذاتها. يقول ابن رشد: وهذا خطأ في رأي المشائين أنفسهم؛ لأن العاقل والمعقول هما واحد في العقل الإنساني ، وهما كذلك بقوة أشد في العقول المنفصلة (عن المادة). ثم يقول ابن رشد إن هذا الرأي ليس لأرسطو، إنما استفاده الفارابي وابن سينا من بعض الحكماء الأقدمين الذين قالوا بأن الخير والشر خاصة والأضداد عامة لا تصدر عن سبب واحد.
وإذا عممنا هذا الفرض وصلنا إلى وضع قاعدة منفردة، وهي أنه لا يصدر مباشرة وبلا وسيط عن السبب البسيط المفرد إلا أثر فرد. وقد أظهر ابن رشد أنهم أخطئوا في نسبة هذا الرأي إلى أرسطو، وقد نشأ ذلك عن سوء فهم المعنى المراد لفكرة الوحدة في قول هذا الحكيم عندما وصف الكون بأنه وحدة أو مجموع حيوي صادر عن سبب أول مفرد.
ولم يتردد ميمونيد، الذي يرجع سائر نظريات ابن سينا إلى آراء المعلم أرسطو، في نسبة هذا الفرض إلى سواه. (راجع كتاب مرشد الحيران تأليف ميمونيد القسم الثاني الباب الثاني والعشرين). وقد انتشرت هذه الهفوة في المدارس المسيحية خلال القرون الوسطى، ومن أثر ذلك أن نسب ألبرت الكبير هذا الفرض إلى أرسطو وسائر تلاميذه، واتباع تعليمه ما عدا حكيما واحدا قال إنه يعتقد بصدور شيئين من وحدة بسيطة، هما المادة العامة والشكل العام.
وكان ابن سينا يقول كغيره من الفلاسفة بامتداد إحاطة علم الله بالموجودات العامة لا بالأشياء الخاصة، والحوادث التي تقع مصادفة، وينسب إلى نفوس الدوائر العلم بالجزئيات، وإنه بواسطة تلك النفوس يتصل علم الله بالموجودات الأرضية، ويفرض ابن سينا أن لنفوس الدوائر خاصة التخيل التي تلم بأشياء لا حد لها، لأنه لا يقدر أن لا ينسب العلم بالحوادث التي تقع مصادفة، والأشياء المفردة إما إلى عقول الدوائر، وإما إلى العقل الإلهي. إن الأشياء الخاصة المفردة الأرضية لها رد فعل على علتها القريبة وتخترق صورها الدوائر بالتدريج، فتتصل شيئا فشيئا من علة إلى علة إلى أن تصل إلى السبب الأول، وقد أثبت لنا ابن رشد أن هذا الفرض خاص بابن سينا، وقد رد ابن رشد عليه.
يقول ابن رشد إن الخيال متصل بالحواس ومعتمد عليها، وحيث إن الحواس لا يمكن نسبتها إلى الأجرام السماوية حينئذ لا تمكن نسبة الخيال إليها، وهو يبيح أن ينسب الإدراك للأجرام السماوية، وطبيعة هذا الإدراك كطبيعة إدراك المتفنن الذي يبدع تأليفا أو صورة أو عمارة أو تمثالا قبل إبرازها من حيز الفكر إلى حيز الوجود.
ولكن هذا الإدراك أو الخيال يلم بالأمر المقصود إنجازه إلماما عاما أو نوعيا لا إلماما تفصيليا، لذا لو فرضنا أن للأجرام السماوية خيالا، فلا يمكن أن يكون لهذا الخيال علاقة بالموجودات الخاصة الأرضية، ويظهر مما سبق في الأمثال والإيضاح، أن ابن سينا أراد بفرضه أن يقرب بين السبب الأول وبين الموجودات الأرضية، وقد حاول هذا التقريب بإيجاد حلقات متتابعة يمكن بواسطتها اتصال القوة المجردة بسائر الموجودات المادية، ولا يخفى أن ابن سينا حاول في مواطن شتى أن يحيد عن اتباع آراء أرسطو، ولكن ابن رشد كان على العكس لا يريد إلا تثبيت سلطة أرسطو الفلسفية ومناصرة آرائه ومبادئه وتحقيق فكره؛ لذا لم يعلق أهمية كبرى على ما كان خاصا بابن سينا من النظريات، وكثيرا ما اشتهر امتهانه لها. (راجع مرشد الحيران الجزء 1 ص231 ملحوظة 10 تأليف ميمويند). أما نظرية النفس فقد عالجها ابن سينا بعناية فائقة، وقد نقل بالدقة تقسيم أرسطو للمواهب النفسية ونظرية العقل المؤثر والعقل المتأثر، وأضاف إلى آراء أرسطو ونظرياته شروحا وملحوظات ذات قيمة، فقد تبعه حكماء العرب في التقسيم القياسي لمواهب النفس البشرية الذي وضعه وسار على سننهم فلاسفة القرون الوسطى المدرسيون وبعض الحكماء المحدثين وهذا هو التقسيم القياسي الذي وضعه ابن سينا. (1)
الخواص الظاهرة أو الحواس الخمس. (2)
الخواص الباطنة. (3)
الخواص المحركة. (4)
الخواص العاقلة.
وقد قسم كل خاصة منها إلى أقسام أدق، فذكر القوة الوهمية في الفصل الثالث من القسم الثاني، وبها يكون الحيوان حكمه كما يفعل الإنسان بقوة الفكر أو التأمل، فإنه بالوهم تعلم الشاة أن صغارها في حاجة إلى حنانها وأنهن في خطر من الذئب.
وكان الفلاسفة السابقون على ابن سينا يخلطون بين تلك القوة وبين القوة المخيلة، ومن خواص ابن سينا أنه جعل مقر خواص النفس في تجاويف المخ الثلاثة.
أما فيما يتعلق بصلة العقل المؤثر بالنفس البشرية فلم يحاول ابن سينا أن يقر رأيا وهو كسائر حكماء العرب يرى في تلك الصلة أسمى ما تتطلع إليه النفس البشرية؛ لذا ينصح للنفوس بالمساعي ولكنه يفضل قهر المادة وتطهير النفس من أدرانها حتى تصير وعاء نقيا جديرا بتلقي الإلهام الإلهي. (راجع كتاب ما وراء الطبيعة الكتاب التاسع الفصل السابع).
يقول ابن سينا: «أما النفس العاقلة فكمالها الحقيقي خفي ومصيرها أن تكون عالما عقليا تنبسط فيه صور الموجودات وترتيبها والخير العام الذي يخترق الأشياء عامة وهو قاعدة الكون الأولى، ثم المواد الروحية العالية، ثم النفوس المتصلة بالأجساد، ثم الأجرام السامية، وما لها من الخواص والحركات، وهكذا إلى أن تصير النفس عالما عاقلا مماثلا للعالم العقلي بأجمعه عارفة بأتم الأشياء: كالجمال التام، والخير التام، والمجد التام، فتتصل به وتصير كما ذكرت مادة. ولكنا ما دمنا في هذا العالم الأرضي وفي هذه الأجساد فلا نستطيع أن نشعر بتلك السعادة لما يحيط بنا من الشهوات، فنحن لا نبحث عن تلك السعادة الكاملة ولا نشعر بأننا قادرون أن نحصل عليها إلا إذا تخلصنا مما يعلقنا بالشهوات وأنواع الفتنة والهوى. حينئذ نستطيع أن نتخيل شيئا من تلك السعادة في نفوسنا، شريطة أن تتبدد الشكوك وأن تستنير بصائرنا ويظهر أن الإنسان لا يقدر على الخلاص من هذا العالم وما يحيط به إلا إذا تعلق بأهداب العالم العقلي الذي ذكرت، فتجذبه رغبته إليه وتصونه عن النظر إلى ما وراءه، وهذه السعادة لا تنال إلا بممارسة الفضائل والكمالات.» ويقول في مكان آخر: «يوجد رجال ذوو طبيعة طاهرة، اكتسبت نفوسهم قوة بالطهر وبتعلقها بقوانين العالم العقلي؛ لذا هم ينالون الإلهام ويوحي إليهم العقل المؤثر في سائر الشئون، ويوجد غيرهم لا حاجة بهم إلى الدرس للاتصال بالعقل المؤثر؛ لأنهم يعلمون كل شيء بدون واسطة. هؤلاء هم أصحاب العقل المقدس، وإن هذا العقل لمن السمو بحيث لا يمكن لكل البشر أن ينالهم منه نصيب.» (راجع الشهرستاني ص428 نسخة ألمانية جزء 2 ص331-332 في آخر تحليل طبيعيات ابن سينا).
ويرى القارئ مما تقدم من قول الرئيس أنه يقصد بأصحاب العقل المقدس الأنبياء الذين يحظون بالوحي الرباني، وهو قائل به البتة ما دام يعترف بأن بين النفس البشرية والعقل الأول علاقة طبيعية، وما دام الإنسان ليس أبدا في حاجة إلى الحصول على العقل المكتسب بالدرس.
يتبين لك مما سبق أن الشرائع السماوية والقوانين الأدبية تشغل مكانا فسيحا في مبادئ ابن سينا، وأنه بعيد بمراحل في لغته الطاهرة عن المبادئ الحرة المخالفة للدين التي شرحها وقال بها ابن رشد. وسيرى القارئ فيما يلي مقدار انقياد ابن رشد إلى رأيه في العقل. ويقول ابن سينا ببقاء وجدة النفس البشرية التي لها مادة منفصلة عن الجسد، وأن هذه المادة محافظة على ذاتها، ولكنها غير متعلقة بالمكان، أو الزمان. (راجع مرشد الحيران جزء 1 ص433 ملحوظة 2).
إن في كل فرع من فروع العلوم الفلسفية آراء جديدة أضافها ابن سينا إلى فلسفة أرسطو، ولكن هذه الفلسفة لم تتغير في مجموعها بما أضافه الرئيس تغيرا كبيرا.
وبالجملة فإن ابن سينا أخرج سائر أجزاء فلسفة أرسطو بنظام تام، وتسلسل محكم، ووسع نطاقها بمذهب الأفلاطونية الحديثة (نيوبلاتونيزم).
وهو لا ريب معدود أكبر أساتذة فلسفة أرسطو في القرون الوسطى، ومع أنه تساهل كثيرا إكراما لمبادئ الإسلام، فإنه لم يحدث تغييرا كبيرا في مجموع فلسفة أرسطو التي لا يمكن اتفاقها مع الدين الحنيف. ولا ريب في أن الغزالي قصد إليه بكتابه «تهافت الفلاسفة». (1) إيضاح عن ابن سينا
إن ما ذكرناه بالإيجاز عن حياة الشيخ الرئيس، من الشئون العادية يدل دلالة سطحية على حياته، ويحار المؤرخ إذا حاول الوصول إلى علم يقيني عن نفسية ابن سينا وأخلاقه، ويظهر للواقف على أخباره أن أبا عبيد الجرجاني، وهو صاحبه الذي نقل عنه، لم يدون ما يلقي شعاعا من النور على تلك الناحية من حياة الرئيس، ولكن المدقق قد يصل بعد طول الإمعان إلى بصيص من الضياء. وقد جاءت النبذ الدالة على خلقه وعقله عرضا لا قصدا، من ذلك أنه نشأ منذ نعومة أظفاره مستقلا برأيه، وترعرع ونما وهو يحافظ على ذلك الاستقلال بالرأي الذي هو الجوهر في أخلاق الرجال.
فقد حكى أن أباه وأخاه كانا من الإسماعيلية، وأنه سمع منهما كلاما في النفس والعقل على طريقة يرضاها أبوه وأخوه ولا يقبلها عقله ولا ترتاح إليها نفسه، فلم يقبل عليها ونبا عنها. وهذا الاستقلال في الرأي والاعتداد بالنفس دليل قوة الفكر والإرادة. حقا أن الاعتداد بالنفس من أدلة الإعجاب بها، وفي الإعجاب بالنفس عيوب ومحاسن، ويظهر لنا أن ابن سينا استفاد بإعجابه بنفسه سموا في خلقه وعلوا في مقاصده واقترابا من المثل الأعلى، ولم يخف علينا ذلك؛ فقد وصف نفسه بالتقدم في العلم والبراعة فيه بكلام ملؤه الإعجاب بالذات.
ويظهر من أخباره أنه كان عبقريا ممتازا قادرا على الإلمام بالعلوم والمعارف واستنباط الأفكار القوية ببساطة وبدون تكليف ظاهر أو خفي، فكان عقله مخلوقا للفلسفة. فقد سبقه في كل الأمم فلاسفة وصلوا إلى الحقيقة بعد الجهد والتعب وبعد التألم والمعاناة في سبيل البحث عنها، ولكن ابن سينا كان فذا في عبقريته حقا، وكان ذكاؤه من النوع الذي يظهر قبل أوان ظهوره عند أشباهه في السن والمواهب، فقد أتم ابن سينا تعليمه ودراسته في أواخر العقد الثاني من عمره الحافل بالعجائب، وكان على قمة الفتوة مالكا زمام العلوم المعروفة لعهده، يعيها ويحفظها ويحللها، ثم اندمجت تلك العلوم في نفسه فنضجت النفس وتجلت معرفتها أجمل تجل، وليس لدينا دليل على أنه راد على علمه شيئا بكر السنين ومرها، ولكنه أحسن استعمال الأدوات التي حباه الله إياها، فلما فرغ من تحصيل العلوم بأسرها في مقتبل الشباب لم يزد عليها شيئا ولم يتجدد له علم، ولكن فطرته السليمة وبصيرته المنورة وعقله الجبار وإرادته القوية تضافرت كلها وتآزرت على المحافظة فيما بقي من عمره على الأسس العلمية التي ركزت في نفسه عنفوان الفتوة، والتي صرف جهده في صقلها وتهذيبها.
ومما يؤيد قولنا بأن عقل ابن سينا كان مخلوقا للفلسفة ، وأن ممارسة العقليات كانت لديه أسهل منها لدى غيره؛ أنه بعد تفوقه في سرعة إحراز العلوم، وامتلاك ناصيتها بقليل عناء، صار التأليف والتصنيف من أبسط الأمور وأسهلها وأسرعها لديه، فلم يكن من الحكماء الذين يطيلون النظر فيما يكتبون، ثم إذا هم دونوا شيئا يصرفون وقتا في تحويره وتبديله بعد نقده وتمحيصه، بل كان ابن سينا فياضا بحكمته وفلسفته يثبتها، ولا يمحو ما أثبت، ولا يتردد في تنقيح أو تصحيح، ولا يشك في صحة ما كتب. ودليلنا على ذلك كثرة الكتب التي ألفها ابن سينا، وكلها قيمة ممتعة، وقد ألف بعضها وهو في نضارة العمر يترقرق في وجهه ماء الشباب، على أنه لم يبلغ أكثر من ثلاث وخمسين سنة على الأقل أو ثمان وخمسين سنة على الأكثر.
ينتج مما تقدم أن الشيخ كان من أظهر صفاته كثرة العمل وسهولته وسرعة إتمامه، وكان يشبه جوته الفيلسوف الألماني من بعض وجوه، فإن جوته ألف رواية «فوست» في جزأين، بين الأول والثاني منهما نحو ستين عاما، كذلك ابن سينا ألف الجزء الأول من الشفاء مذ كان في معية الأمير شمس الدولة، وما زال يوالي التأليف فيه في فترات متباعدة حتى أتمه وهو في معية الأمير علاء الدولة. وهذا دليل على أنه رضي عما ألفه في شبابه بعد أن بلغ أشده، وثبتت في الحكمة قدمه. كذلك كانت حال «جوته» وكتابه الخالد «فوست»، وكذلك كان كتاب الشفاء للرئيس أوسع وأمتع ما وضعه في الحكمة.
أما عن عقيدة ابن سينا فقد وردت نصوص تدعو للتقول والظن، ولكن الأخبار الصادقة الصحيحة المروية عن الجرجاني الثقة وغيره، مجمعة على أن الشيخ الرئيس كان إذا أشكلت عليه معضلة، توضأ وقصد المسجد الجامع وصلى ودعا الله أن يسهلها عليه، ويفتح مغلقها بين يديه، وهذا دليل على العاطفة الدينية القوية في نفس ابن سينا. ويصح لنا أن نقول إن إيمانه كان جزءا من عبقريته، وإن اعتقاده بواجب الوجود كان من أقوى أسباب ظهور عبقريته.
أما ما رواه الجرجاني من أن الرئيس كان شديد القوى كلها، وأن قوة الحب كانت لديه أقوى وأغلب، وأن مظاهر تلك القوة المعنوية والمادية جذبت الشيخ إليها، واستدعت منه جهودا أثرت في مزاجه، وكانت من أسباب علته واشتداد وطأتها عليه، فقد كان هذا صحيحا، وكانت هذه الصفات موضع العجب لدى الباحثين، ولكن منذ ظهر العلامة «فرويد» واستوفى النظر فيما بين قوة الحب الجنسي والمواهب العقلية، فقد أصبحت دراسة تلك العاطفة القوية لدي العبقريين، من أهم الوسائل للوقوف على كثير من خفايا نفوسهم وأسرار حياتهم العقلية والقلبية، وهذه الأشياء التي ذكرت تلميحا في تاريخ الفلاسفة، أصبحت ذات شأن كبير في نظر علماء النفس وتحليل قواها ومواهبها. وصار هذا البحث نفسه علما قائما بذاته اسمه
.
الفصل الرابع
الغزالي
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، كان يدعوه العامة بالغزال، أكبر علماء الكلام لعهده وأحد أئمة المذهب الشافعي. ولد في طوس إحدى مدن خراسان عام 450 للهجرة/1058 للمسيح ودرس العلوم في بلده، ثم رحل في طلب العلم إلى نيسابور، وظهرت عليه منذ صباه علامات الذكاء الخارق والنجابة النادرة، وكان علمه الواسع بعلوم الكلام، ووقوفه على فنون الفلسفة، سببا في إقبال نظام الملك وزير السلطان ملك شاه السلجوقي عليه، فوكل إليه إدارة المدرسة النظامية التي أسسها ببغداد.
وكان الغزالي حينئذ في الثالثة والثلاثين وله بين العلماء مرتبة رفيعة. وبعد سنين قليلة ترك المدرسة النظامية، وقصد إلى أداء فريضة الحج في مكة، ولما أتم هذا الفرض المقدس، ألقى دروسا في جوامع دمشق وبيت المقدس والإسكندرية، وإذ كان بالإسكندرية أوشك أن يرحل إلى المغرب ليقدم على يوسف بن تاشفين أمير مراكش أحد أمراء المرابطين فأتاها نعي يوسف، فعاد إلى طوس وانقطع إلى حياة الفكر، وعاش عيش المتصوفة وانكب على تأليف الكتب، وكانت غايته من وضعها تقرير امتياز دين الإسلام على غيره من الأديان وعلى الفلسفة؛ ولذا سمي حجة الإسلام وزين الدين.
وأشهر كتبه إحياء علوم الدين، وهو كتاب في علم الكلام والآداب مقسم إلى أربعة أقسام: الأول في الشعائر والاحتفالات الدينية، والثاني في القوانين الخاصة بأحوال الحياة الدنيوية، والثالث فيما يهلك، والرابع فيما ينقذ، أي في الرذائل والفضائل.
ثم هجر التأليف وعاد إلى نيسابور، ليدير المدرسة النظامية، ثم عاد إلى طوس وأسس ملجأ للصوفيين (تكية) وقضى بقية أيامه في العبادة والتأمل، وقضى إلى رحمة الله عام 505 للهجرة/1111 للمسيح.
أما المعلومات الكاملة عن حياته، فقد أعطاها الموسيو دي هامير في مقدمة كتاب «أيها الولد» في الترجمة العربية الألمانية، وهو كتاب في الأخلاق من كتب الغزالي.
إنما الذي يهمنا في هذا الباب هو تاريخ حياة الغزالي الفكرية، وسير دراسته والدرجة التي تنبغي له بين فلاسفة الإسلام، وتأثيره في فلسفة عصره، وقد هدانا إلى حل تلك المسائل الغزالي ذاته في كتاب اسمه «المنقذ من الضلال»، وقد شرح فيه حقائق الموجودات وحلل هذا الكتاب تحليلا كاملا المسيو باليا والمسيو شمولدرز في مقالة على «مبادئ الفلسفة عند العرب»، وقد نشر شمولدرز نص رسالة الغزالي العربي وترجمة فرنسية فيها بعض أغلاط ولكنها لا شك كافية.
وهذه رسالة هي في شكل جوابات على أسئلة وجهها إليه صديق، فتكلم أولا في الصعوبة التي لقيها في التمييز بين المبادئ والتعاليم الفلسفية المختلفة، وفي معرفة الخطأ من الصواب، وتكلم عن المساعي التي لم ينته من بذلها منذ سن العشرين في سبيل الوقوف على الحق. قال وبعد أن درس مبادئ الفلاسفة الدينية والحكمية وتعمق فيها أخذ يشك في كل شيء، وسقط في هوة الجحود المطلق، وارتاب فيما يهديه إليه الحس، الذي طالما يرشدنا إلى أحكام يناقضها العقل، كذلك لم يكن العقل كافيا لإقناع الغزالي، لأنه لا شيء يثبت صحة مبادئه، وأن الذي نعتقده صوابا في اليقظة بواسطة الحس أو العقل ليس كذلك إلا لعلاقته بالحال التي نحن عليها، ولكن هل نحن متحققون من أن حالا أخرى لا تتلو تلك وتكون بالنسبة لليقظة كنسبة اليقظة للنوم، بحيث نعرف في تلك الحال الحادثة أن كل ما حسبناه صحيحا بواسطة العقل، لم يكن إلا حلما لا حقيقة له. وفي الواقع رجع الغزالي عن جحوده، ولكن هذا لم يكن بقوة العقل إنما في أثناء بحثه عن الحقيقة، انقطع للتعمق في مبادئ المتكلمين والباطنية والفلاسفة والمتصوفين، ولم تجد نفسه هداها إلا في التصوف والتأمل والانجذاب الذي يعرفه الصوفيون . بيد أنه ليس للغزالي أثر ظاهر في مبادئ الصوفيين، ولكن أثره الأعظم هو في تاريخ الفلسفة العربية، فإن جحوده الذي لم يظهره في كتبه بشكل مبدأ، خدمه ليطعن المبادئ الفلسفية طعنة مشئومة.
بين مؤلفات الغزالي التي عددها الموسيو هامر في رسالته كتابان جديران بالنظر: الكتاب الأول «مقاصد الفلاسفة» والثاني «تهافت الفلاسفة»، أما كتاب المقاصد فهو تلخيص للعلوم الفلسفية، شرح فيه المؤلف علم المنطق، وما وراء الطبيعة، والطبيعيات. ولم يبتعد في شرحه عن مبادئ أرسطو، التي شرحها الفارابي وابن سينا، وقد نقل هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية في أواخر القرن الثاني عشر بواسطة «دومينيك جندسالفي» وطبع في البندقية عام 1506م. بواسطة «برتوس ليشتنشتين دي كولوني» تحت اسم «منطق العرب وحكمتهم للغزالي».
وقد يدهش من يرى الغزالي في المقاصد يشرح مبادئ الفلاسفة التي يهدمها في كتاب التهافت، وقد ظن الموسيو ريتر في كتابه
Geschichte der Philosophie (تاريخ الفلاسفة ج8 ص59) أن الغزالي كتب المقاصد لما كان لا يزال قائلا بمبادئ أرسطو، ولكن الحقيقة هي أن الغزالي لم يرد بالمقاصد إلا الاستعداد لهدم المبادئ التي شرحها شرحا وافيا، كما بين ذلك في المقدمة التي لم تنشر في كل النسخ الخطية اللاتينية وفي طبعة فنيس (البندقية)، ولكنها موجودة في نسختين خطيتين باللغة العبرية وفي نسخة لاتينية في مكتبة السربون. وهذا ما قاله الغزالي في المقدمة ردا على من سأله رد حجة الفلاسفة: «تسألني يا أخي تأليف كتاب كامل واضح للرد على الفلاسفة وتبيين خطأ مبادئهم لتتقي بذلك الوقوع في الخطأ، ولكن هذا عبث قبل أن تعرف مبادئهم وتعاليمهم تمام المعرفة؛ لأن الرغبة في الوقوف على خطأ بعض الآراء قبل الوقوف عليها تمام الوقوف تعد خطأ ينتهي بالعمى والخلط. فظهر لي من الضروري قبل الشروع في نقض آراء الفلاسفة أن أضع كتابا أشرح فيه ميول علومهم المنطقية والطبيعية والإلهية دون التمييز بين الخطأ والصواب في مبادئهم، لأن غايتي هي شرح نتائج أقوالهم دون الإسهاب في أمور زائدة عن الحاجة ولا علاقة لها بالبحث، فسأكتفي بشرح مبادئهم مضيفا إليها الأدلة التي يثبتون بها أقوالهم، فغاية هذا الكتاب هي شرح مقاصد الفلاسفة، ولهذا اخترت له ذلك الاسم.» ثم ذكر الغزالي أنه سيترك العلوم الإلهية جانبا لاتفاق العامة على صحة مبادئها، وأن ليس بها ما يحتاج إلى النقض، وكذلك مبادئ المنطق هي على العموم صحيحة والخطأ فيها نادر، أما الطبيعيات فالحق فيها ممتزج بالباطل.
وهذا ختام الكتاب في الأصل العربي والنسختين العبريتين: «فهذا ما أردنا أن نحكيه من علومهم المنطقية والإلهية والطبيعية من غير اشتغال بتمييز الغث من السمين والحق من الباطل، ولنفتتح بعد هذا الكتاب تهافت الفلاسفة حتى يتضح برهان ما هو باطل من هذه الجملة.»
وبعد هذا البيان الشافي، ليس مكان للعجب من شرح مبادئ الفلاسفة في كتاب المقاصد. أما كتاب التهافت فغاية الغزالي منه هي نقض تعاليم الفلاسفة، بنقد عام يظهر ما فيها من التناقض، ويوضح مخالفتها للعقل، وهذا نص ختام كتاب التهافت: «وإذا اعترض علينا بأن انتقادنا لا يخلو من الريب، نقول إن بالنقد يتضح برهان ما هو صحيح وما هو باطل، فإذا عرضت صعوبة أمكن حلها بفحص النقد والاعتراض. إنما الذي نرمي إليه في هذا الكتاب هو أن نشرح مبادئهم وأن نقابلها بما ينقضها من الأدلة، ولا نريد أن نكون على مبدأ منها، وليس مقصدنا أن نذكر أدلة على حدوث العالم، إنما هدم ما ذكروه من الأدلة تأييدا للقول بقدم المادة. وبعد الفراغ من هذه الرسالة سنشرع في تأليف غيرها لإثبات الرأي الصحيح الذي غايته تشييد الحق، كما أن غايتنا من هذا الكتاب هي هدم الباطل.»
وبدأ الغزالي مقدمة الكتاب بنقد آراء القائلين بآراء الفلاسفة، المعرضين عن حكمة الدين؛ ليثبت أن كل ما يقولون به مما يخالف قواعد الدين ليس له أساس.
ثم أسهب في القواعد الأربع، التي اهتدى بها في تأليف هذا الكتاب، وبعد المقدمة شرع الغزالي في نقض حجج الفلاسفة في عشرين نقطة، ست عشرة منها في الإلهيات وأربع في الطبيعيات.
وأهم ما في هذه النقط هو الفصل المتعلق بالمسببات، وملخص قوله في هذا الباب يرجع إلى مسألتين: الأولى: أنه إذا اجتمع أمران معا فليس فيه دليل قاطع على أن الأول علة الثاني، الثانية: إذا فرضنا صحة فعل بعض الظروف (تعلق أمر بأمر) بناء على قانون طبيعي، فليس ينتج من ذلك أن الأثر يكون بذاته في ظروف متماثلة حتى ولو كانت الأشياء متماثلة.
فإن القطن يمكن بإرادة الله أن يتخذ شكلا يقيه الحريق، وبعبارة أخرى أن ما يسميه الفلاسفة بقوانين الطبيعة أو قاعدة العلل، هو أمر يقع تبعا لإرادة الله، ونحن نقبله كأمر واقع محقق، لأن الله سبحانه وتعالى في سابق علمه علم مصير الأمور فعلمنا إياه، فليس هناك، والأمر كذلك، قانون طبيعي ثابت يقيد إرادة الخالق جل وعلا.
نقول إن بعض الفلاسفة، مثل ابن رشد كانوا يعتقدون أن الغزالي لم يكن مخلصا في قوله، وإن الخلاف بينه وبين الفلاسفة، كان على نقط محدودة، إنما أراد الطعن عليهم في سائر النقط لتزداد به ثقة أهل السنة. وذكر موسى بن ناربون، بعد أن ذكر رأي ابن رشد السابق في بداية شرحه على المقاصد، أن الغزالي كتب بعد الفراغ من تأليف التهافت، رسالة صغيرة لم يعلم بها إلا بعض المقربين، وفيها ردود على ما وجهه من النقد إلى مبادئ الفلاسفة، وإن هذا الكتيب يسمى «رسالة وضعها أبو حامد بعد التهافت ليكشف عن فكره للحكماء وفيها مقاصد المقاصد واللبيب تكفيه الإشارة».
وفي هذا الكتاب أبحاث إلهية ذات أهمية كبرى، ولكن لغتها عويصة الفهم على العامة، وقد بدأ هذه الرسالة بالكلام في الدوائر العليا وحركاتها ونفوسها، ثم تكلم في المحرك الأول وفي صفاته، ثم تكلم في النفس، وليس في هذه الرسالة أثر لاحتقار الفلسفة كما في التهافت، إنما يقيم الأدلة كأنه بعض الحكماء لا كالمتكلمين، ويثبت بالحجة العقلية أمورا في الإلهيات، حاول نقضها في التهافت. فإنه يقول في هذه الرسالة مع الفلاسفة بأزلية الزمان وحركة الدوائر السماوية، وفي ختام هذه الرسالة حرم الغزالي الاطلاع عليها إلا على أهل النفوس القويمة، والعقول السليمة، عملا بقول النبي
صلى الله عليه وسلم «خاطبوا الناس على قدر عقولهم.»
كتب ابن طفيل رغم احترامه للغزالي، يوضح اضطرابه وتردده في مبادئه (نقلا عن كتاب حي بن يقظان صفحة 19-21) نبذة، أولها «أما عن كتابات الإمام الغزالي ... الخ.» ثم ذكر ابن طفيل نبذة من كتب الغزالي، مؤداها أنه ألف كتبا باطنية، لا يطلع عليها إلا فريق من الخاصة المقربين، وأن هذه الكتب ليست فيما وجد في مكاتب الأندلس، وأهمها كتاب المضنون به وهو موجود بصحبة أربع رسائل للغزالي في المكتبة الوطنية بباريس (المكتبة الإمبراطورية سابقا) تحت عدد 884 نسخ خطية، وذكره العلامة شمولدرز في مقالته ص213 مذكرة أ بالهامش، وفي هذا الكتاب «المضنون به» أظهر الغزالي اتفاقه مع الفلاسفة على قدم العالم، ويقول كقولهم بأن الذات العلية تعلم الأمور إجمالا لا تفصيلا أي تحيط بالكليات لا بالجزئيات، وأنها مجردة عن الصفات، ولكن بعض المؤلفين نفى نسبة مثل هذا الكتاب للغزالي، لبعده عما كان يقول به حجة الإسلام في أمهات كتبه. (يراجع فهرست الحاج خليفة طبعة الموسيو فلوجل ج5 ص590).
وجملة القول أن الغزالي إذا كان له مبدأ خاص به فإنه لم يهتد إليه إلا بالتأمل وبالانجذاب الذي حل به منذ تصوف، ولا تكون نتيجة الانجذاب في الواقع مبدأ فلسفيا. ثم أن الغزالي يعلق أهمية كبرى على العمل وهو يمثله في كتابه «أيها الولد» بالثمرة والعلم بالشجرة. ومن أهم كتبه في الأخلاق والحث على الفضيلة كتاب «ميزان الأعمال» طبع له تفسير عبري في ليبزيج عام 1839 وناقله عن العربية المعلم إبراهيم بن حسد أي الإسرائيلي الأندلسي.
وأهمية الغزالي عند الإفرنج هي في جحوده العلوم الفلسفية، ويقول علماؤهم إنه طعن الفلسفة في الشرق العربي طعنة قاضية، وكاد يكون نصيبها في الغرب كذلك لو لم تلق في ابن رشد حاميا لها أحياها قرنا من الزمان.
إيضاح عن الغزالي
1
لا شك في أن هذا الفيلسوف الحكيم ، يعد من أعظم أعلام الفكر العربي الإسلامي، ومن أئمة أهل البحث والنظر في علوم الدنيا والدين، وقد عده كثيرون من مؤرخي الفلسفة والأدب من نوادر الدهر نبوغا ونورا، وقد كان من الفطاحل الذين زانوا القرن الخامس الهجري بعد نهاية الصدر الأول، وقد شاء أن كون من تأليفه ذلك الكتاب الذي فيه إحياء وانتعاش لأثمن آثار السلف الصالح، فلقبوه بحجة الإسلام بحق دون مغالاة أو مجاملة.
أما عن اسمه فقد اختلفوا في هل كان الغزالي بتخفيف الزاي أو تشديدها، وقد بحثت هذه المسألة في «شذرات الذهب» والعبر لشمس الدين الذهبي و«طبقات الشافعية» لعبد الرحيم الإسنوي، فقرروا أن اسمه كان بتشديد الزاي، فقالوا الغزالي كالعطاري والخبازي بتشديد الزاي والطاء والباء، وهذه لهجة أهل خراسان في غزال وعطار وخباز بتشديد الحروف الوسطى. وجاء في «طبقات الشافعية» أن أباه كان يغزل الصوف فلقبه مستفاد من صناعة أبيه، ولكن السمعاني قال: «إن لقبه مستفاد من نسبته إلى غزالة وهي إحدى ضواحي طوس.» ونحن نميل إلى تعليل السمعاني وإطلاق اللقب بتخفيف الزاي.
وسواء أكان الوالد يغزل الصوف ويبيعه في حانوته أم لم يكن، فقد توفي تاركا ولديه محمدا (وهو أبو حامد) وأحمد في غضاضة الطفولة، وكان بلا ريب رقيق الحال، فأوصى بهما صديقا متصوفا قام على تهذيبهما حتى استنفد تركة أبيهما، وقد شاءت الأقدار للغزالي أن يسافر ويرحل في طلب العلم ككل الفلاسفة والحكماء والأنبياء والمصلحين، الذين لا تتكون نفوسهم إلا بالآلام في أوطانهم وفي اغترابهم. وقد صار الغزالي أنظر أهل زمانه، واستطاع أن يؤلف ويدرس ويفيد الناس في حياء أستاذه، وهو في مقتبل عمره، وهو شبيه في ذلك بابن سينا.
2
وما شاهدناه في اتصال الفلسفة السابقين، وهم الكندي والفارابي وابن سينا بالخلفاء والوزراء، وما اتخذوه من ذلك وسيلة لنشر أفكارهم وترويج مبادئهم، نشاهده أيضا في حياة الغزالي، فقد اتصل بنظام الملك وفخر الملك وعاش في ظلال آل سلجوق، فكأن الفلسفة المسكينة كانت أبدا في حاجة للاحتماء بقوة الدولة منذ بداية التاريخ، وهذا أرسطوطاليس اليوناني والمعلم الأول كان يعيش في ظل فيليبس المقدوني وابنه الإسكندر، وكان فولتير في الأزمان الحديثة يعيش في بلاط فردريك الأكبر، وكان جوته الألماني العظيم في بلاط أمير فيمار، ولم تتحرر الفلسفة وأصحابها إلا في حالتين: حالة الفيلسوف القانع الذي يعيش من عمله الضئيل ليغذي الحكمة، مثل سبينوزا الذي قضى حياته في صناعة الساعات والتأليف؛ والحالة الثانية حالة الفيلسوف الممول، إما بميراث مثل أرثور شوبنهور، وإما بثمرات مؤلفاته مثل جون ستيوارت ميل، وهذا أندر ما يكون بين الحكماء، فمعظم هؤلاء القوم فقراء يعيشون من ثمرة أفكارهم بالتدريس والكتابة، مثل فردريك نيتشه وبرجسون وغيرهما.
3
بين كتب أبي حامد التي ذكرناها في ترجمته كتاب «المضنون به على غير أهله»، وقد وصفه بعض كتاب الإفرنج بأنه اعتراف الغزالي تشبيها له باعتراف جان جاك روسو، على أن هناك فرقا جوهريا بين الكتابين، فجان جاك روسو دون اعترافه شاملا لجميع شئون حياته المادية والمعنوية والعقلية، ولكن الشيخ الغزالي جعل هذا الاعتراف قاصرا على حياته العقلية والقلبية، وهو رسالة إلى صديق له وصفه بأنه أخوه وجعل هذا الكتاب جوابا على سؤال توجه إليه من هذا الأخ، فقال في استهلاله: «فقد سألتني أيها الأخ أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرق، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاستبصار، وما احتويته ثانيا من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثا من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخرا من طريق التصوف، وما انحل إلي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق من لباب الحق، وما صرفني عن نشر العلم ببغداد مع كثرة الطلبة، وما دعاني إلى معاودتي بنيسابور بعد طول المدة.»
والظاهر من هذه النبذة الافتتاحية أن الغزالي قاسى كثيرا في استخلاص الحق، وأنه ازدرى الفلسفة وارتضى التصوف وهذا هو مفتاح حياته العقلية، وظاهر من اعتراف الغزالي أنه كان في عنفوان شبابه منذ راهق البلوغ قبل بلوغ العشرين، إلى أن أناف على الخمسين أي قبيل موته بخمس سنين، لأنه توفي في نصف العقد السادس، يحاول أن يستكشف أسرار كل طائفة بحرية مطلقة لا فرق في ذلك بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع ، فجمع في بحثه بين درس الفيلسوف ليقف على كنه فلسفته، والمتكلم ليجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، والصوفي ليحرص على العثور على سر صفوته، وأيضا الزنديق المعطل والملحد الجاحد ليتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.
4
وهذه حرية في البحث واستقصاء في الدرس يدلان على سعة صدره وسمو فكره، إذ لا يمكن للمحقق أن يستوعب سبل الحقيقة بغير الجمع بين سائر مظاهرها مما يقال للشيء وعليه، كما كان شأن «قانت» في كتابه الجليل «نقد العقل الصحيح أو العقل الصراح».
وقد كان هذا الشيخ الجليل الغزالي في تعطش إلى درك حقائق الأمور من أول أمره وريعان عمره، وكان البحث وراء الحقيقة غريزة وفطرة وضعتا في جبلته. ومما يجدر بالنظر في نفسية هذا الفيلسوف أنه ما زال هذا دأبه وديدنه حتى انحلت عنه رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة، لأن مطلوبه كان العلم بحقائق الأمور، ومن أمثاله التي ضربها في رفعة قدر العلم في نظره أنه إذا علم أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال له قائل: لا بل الثلاثة أكثر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا. وقلبها وشاهد ذلك منه، لن يشك بسبب هذه المعجزة أو الكرامة أو الحيلة السحرية في معرفته أن العشرة أكثر من الثلاثة، ولم يحصل له منه إلا التعجب من قدرة هذا الذي قلب العصا ثعبانا، فأما الشك فيما علم فلا، ثم ثبت له أن كل ما لا يعلمه على هذا الوجه ولا يتأكده على هذا النوع اليقيني فهو علم لا ثقة له به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني.
5
والغريب في أمر هذا الفيلسوف أنه سلك سبيل الفلسفة الحسية قبل (دافيد هيوم) الإنجليزي بستة أو سبعة قرون، وإذا علمنا أن دافيد هيوم كان له أعظم فضل في تنمية فكر «عمانوائيل قانت» الألماني الذي أقر في كتابه بأن هيوم هو الذي أيقظه من غفلته، لعلمنا مقدار عقل الفيلسوف الغزالي بالنسبة لهؤلاء المحدثين الأمجاد من أهل أوروبا، فإن الغزالي فتش عن العلوم فوجد نفسه عاطلا من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات، فقال الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من إحكامها أولا ليتبين أن ثقته بالمحسوسات وأمانه من الغلط في الضروريات من جنس أمانه الذي كان من قبل في التقليديات.
6
ولما وصل إلى الفلسفة، قال إن الدهريين أول الفلاسفة الأقدمين، وإنهم جحدوا الصانع المدبر العالم القادر، وزعموا أن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه لا بصانع ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان كذلك كان وكذلك يكون أبدا.
والصنف الثاني الطبيعيون وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات، فزعموا أن النفس تموت ولا تعود، وجحدوا الآخرة، وأنكروا الجنة والنار، والقيامة والحساب، فانحل عنهم اللجام وانهمكوا في الشهوات انهماك الانعدام، والصنف الثالث وقد وصفهم الغزالي بأنهم الإلهيون وهم المتأخرون، منهم سقراط وهو أستاذ أفلاطون، وأفلاطون أستاذ أرسطوطاليس، وأرسطوطاليس هو الذي رتب لهم المنطق وهذب العلوم وخمر لهم ما لم يكن مخمرا من قبل، وأنضج لهم ما كان فجا من علومهم، وهؤلاء الإلهيون ردوا على الصنفين السابقين وهم الدهريون والطبيعيون، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم، ثم رد أرسطوطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلهيين ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ عنهم جميعا.
ومن العجيب أن الإمام الغزالي مع اعترافه بفضل فلاسفة الإغريق لا سيما أرسطو، فإنه عاب على الفلاسفة الإسلاميين اتباعهم إياه، وذكر أن ابن سينا والفارابي لم يقم بنقل أرسطو من فلاسفة الإسلام أحد كقيام هذين الرجلين. وكان هذا بالطبع قبل ظهور ابن رشد ولو أدركه الغزالي لفضله عليهما وإن كان لهما فضل السبق والتقدم.
7
ولما فرغ الغزالي من النظر في العلوم الفلسفية، وقبل منها ما قبل، وزيف ما زيف شعر بأن علومهم غير وافية بكمال الغرض، فاتجه نظره إلى البحث في مذهب التعليم وغائلته، ولكنه قبل الشروع في درس هذا المذهب وصل إلى ما وصل إليه «عمانوائيل قانت» من أن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفا للغطاء عن جميع المعضلات وبهذه العقيدة الجديدة التي تعد المرحلة الثانية في تكوين عقل الغزالي، فإن المرحلة الأولى كانت التقليد، والثانية كانت البحث في أقوال المتكلمين والفلاسفة، أخذ يدرس مبادئ الطائفة التعليمية فابتدأ بطلب كتبهم كما فعل في كتب الفلسفة، وترتيب كلامهم ورتبه ترتيبا محكما مقارنا للتحقيق، واستوفى الجواب عنه حتى أنكر بعض أهل زمانه من العلماء عليه مبالغته في تقرير حجتهم، وقالوا إن هذا سعي لهم أي لطائفة التعليمية، وإنهم كانوا يعجزون عن نصرة طائفتهم لولا تحقيق الغزالي وترتيبه.
8
وليس هذا الاعتراض بين علماء الإسلام حديثا، فقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارس المحاسبي كتابه في الرد على المعتزلة، فأجابه الحارث بأن الرد على البدعة فرض، فقال ابن حنبل: «نعم ولكنك حكيت شبهتهم أولا، ثم أجبت عنها فلم تأمن أن يطالع الشبهة من تعلق ذلك بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب أو ينظر إليه ولا يفهم كنهه.»
وما ذكره ابن حنبل حق ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب إلا بعد حكاية الشبهات على حقيقتها كما فعلنا في كتاب «الشهاب الراصد» الذي جعلناه ردا على موضوع الشعر الجاهلي.
ويظهر لنا أن الغزالي لم يكن مدفوعا إلى الرد على مذهب التعليم من تلقاء نفسه فقط، بل كان هناك دافع سياسي، لأنه بانتشار مذهب التعليمية شاع بين الناس تحدي هذه الطائفة بمعرفة معني الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق، ويظهر أن الخليفة فطن إلى ما يتهدد مركز الخلافة من شيوع هذا المذهب فكلف الغزالي بالرد عليهم، فقال الغزالي في حكاية هذا التكليف ما نصه: «ثم اتفق أن ورد علي أمر حازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم فلم يسعني مدافعته، وصار ذلك مستحثا من خارج ضميمة للباعث الأصلي من الباطن.» وهذا ألطف ما يقال في حسن التعليل؛ إذ الظاهر من مذهب التعليمية أنه مزيج من السياسة والشريعة، والسياسة فيه أظهر، وقليل من الفلسفة اتخذه أربابه ترويجا لمذهبهم ليصبغوه بصبغة الحكمة فاقتدوا ببعض أقوال فيثاغورس.
فلم يكن هذا البحث يخلو من رائحة الفلسفة؛ لأن التعليميين لما عرضت لهم إشكالات لم يفهموها ولم يحلوها، وأحالوها على الإمام الغائب، قالوا إنه لا بد من السفر إليه وضيعوا عمرهم في طلب المعلم وفي التنجع بالظفر به.
9
وعلى كل حال فإن هذا البحث الأخير وجه الغزالي إلى ما كان مخلوقا له حقا، وهو طريق الصوفية، فأقبل عليه بهمته، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله، وكان العلم أيسر من العمل فقرأ كتبهم وطالع رسائلهم وأهمها: كتب أبي طالب المكي، والحارث المحاسبي والمأثور عن الجنيد والشبلي والبسطامي. وحصل الغزالي كل ما يمكن تحصيله من طريقتهم بالتعلم والسماع، إلى أن ظهر له أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، فكم من الفرق بين أن يعلم الإنسان حد الصحة وحد الشبع وحد السكر وأسبابها وشروطها، وبين أن يكون صحيحا وشبعان وسكران.
وكل باحث في حقيقة المتصوفين يعلم يقينا أنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال.
10
على أن الغزالي الذي رأيناه يعجب بمعجزة قلب العصا ثعبانا ولا يجعلها دليلا أو وسيلة لإنكار ما ثبت في نفسه من طريق العلم اليقيني، نراه عند ولوجه باب التصوف يقول إنه قد حصل له من العلوم التي مارسها والمسالك التي سلكها في التفتيش عن العلوم العقلية والشرعية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر، وإن هذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت رسخت في نفسه لا بدليل معين مجرد أي كما رسخ في نفسه أن العشرة أكثر من الثلاثة، بل بأسباب وقرائن وتجاريب لا تدخل تفاصيلها تحت الحصر، وكان بحكم السن وانقضاء العمر في مكارم الأخلاق وفضائل المجاهدات ظهر عنده أن لا مطمع له في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال والهرب عن الشواغل.
11
وقد عرضت تلك المشكلة للغزالي وهو في قمة مجده منغمس في العلائق، وقد أحدقت به من الجوانب، وأهم أعماله إذ ذاك التدريس والتعليم، والباعث عليهما طلب الجاه وانتشار الصيت، فلم يزل يفكر في العزم على الخروج من بغداد لمفارقة تلك الأحوال ستة أشهر؛ من رجب سنة 488 هجرية إلى آخر تلك السنة، حتى مرض ويئس الأطباء من شفائه، فخرج مرغما مضطرا وهو يظهر أنه مسافر إلى الشام حذرا من أن يطلع الخليفة وأصحابه على عزمه؛ وهو أن لا يعود إلى بغداد أبدا، ثم دخل الشام وأقام بها سنتين في العزلة والخلوة والرياضة، ثم دخل إلى بيت المقدس واختلى في الصخرة، ثم سار إلى الحجاز، ثم جذبته دعوات الأطفال إلى الوطن، ودام على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت له في أثنائها أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، وخلاصتها التي يجوز الانتفاع بها هي أنه علم يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق.
12
وظاهر من هذا أن الغزالي لم يكن فيلسوفا عقليا، إنما كان حكيما دينيا بالفطرة، وأنه اتخذ العلم والعقل والشرع ذاته وسيلة للوصول إلى الحال التي هيأته لها الطبيعة، على أن هذا لا يمنعنا من القول بأن عقله النادر المثال لدى مروره بالفلسفة اليونانية والعربية أفادها واستفاد منها، وهذا ظاهر من مؤلفاته التي ذكرناها، لا سيما «مقاصد الفلاسفة» و«إحياء علوم الدين» و«تهافت الفلاسفة» الذي سيرد الكلام عليه بالتفصيل في عرض الكلام على ابن رشد، وهو الفيلسوف الإسلامي الوحيد الذي رد عليه بكتاب مثله .
الفصل الخامس
ابن باجه
هو أبو بكر محمد بن يحيى الملقب بابن الصائغ أو ابن باجه، ويعرفه علماء الغرب في القرون الوسطى باسم افمباس. من أشهر علماء العرب في الأندلس، وكان مشهورا بالطب والرياضيات والفلك، ويشبه الفارابي في تفوقه في الموسيقى، لا سيما التوقيع على العود. وقد ولد بسرقصة في أواخر القرن الحادي عشر للمسيح. ولما شب تحول إلى أشبيلية عام 1118 للمسيح، حيث أقام وانقطع لتأليف كتب في المنطق وأحد تلك الكتب موجود بمكتبة الاسكوريال تحت عدد 609. وقد فرغ الحكيم من وضعه يوم 4 شوال عام 512.
أما سبب تحوله إلى أشبيلية فغير معلوم بالدقة، وقد يكون اضطر إلى الهجرة إلى أشبيلية بعد أن فتح ألفونس الأول مدينة سرقصة عام 512 للهجرة، فهجرها ابن باجه فيمن هجرها من العرب، وكان اشتغل بها أمدا ثم سافر إلى غرناطة وأقام بها حينا ثم رحل إلى المغرب، فكان موضع الإجلال والإكبار لدى أمراء المرابطين. وقد ورد في تاريخ الحكماء، وفي حياة ابن الخطيب (للمكاري) أن ابن باجه كان وزير يحيى بن أبي بكر حفيد يوسف بن تاشفين، ولكن هذه الرواية مرتاب في صحتها؛ لأن يحيى الذي كان أمير فاس لعهد جده يوسف فر من فاس عام 1107 بعد وفاة جده؛ لأنه ثار على عمه علي بن يوسف صاحب الإمارة بعد يوسف.
وقد قضى ابن باجه ولم يبلغ مبلغ الكهول عام 533 للهجرة/1138ميلادية. وروى بعض مؤرخي العرب أنه مات مسموما، قضت عليه غيرة قرنائه في الطب. وقد أطنب ابن أبي أصيبعة في حياة الحكيم ابن باجه في كتابه عيون الأنباء، وذكر أن أبا الحسن علي الغرناطي كان تلميذ ابن الصائغ وصديقه. وقد جمع نصيبا من مؤلفاته وكتب لهذه المجموعة مقدمة ذكر فيها أن ابن الصائغ أول من انتفع بحكمة المشارقة من العرب (فلاسفة الشرق هكذا يسمى ابن سينا والفارابي والغزالي لتمييزهم عن فلاسفة الغرب من العرب كابن طفيل وابن باجه وابن رشد) وهذه الرواية لا ريب فيها؛ لأن مؤلفات هؤلاء الحكماء انتشرت في الأندلس منذ ولاية الحكم الثاني 961-971 فيكون ابن باجه أول من أشاع العلوم الفلسفية في الأندلس بغير نزاع. وقد اعترف بفضله ابن طفيل الذي لم يعرفه بالذات، إنما خلفه بعد بضع سنين. وذكر ابن طفيل ما كان عليه ابن باجه من توقد الذكاء وسعة الفكر، وأنه فاق أهل عصره وأسف عليه لأن مشاغل الحياة الدنيا ووفاته قبل الأوان عاقتاه عن فتح كنوز علمه؛ لأن أهم ما خلفه من الكتب غير تام ولم ينجز سوى أبحاث صغيرة مكتوبة على عجل، بيد أن ثناء أفاضل أهل عصره لم يصن ابن الصائغ من ذم البعض ممن أعماهم الحسد والجهل؛ فقد كتب الفتح بن خاقان في قلائد العقيان:
إن الأديب أبا بكر بن الصائغ هو قذى في عين الدين وعذاب لأهل الهدى. وقد اشتهر بين أهل عصره بهوسه وجحوده واشتغاله بسفاسف الأمور، ولم يشتغل بغير الرياضيات وعلم النجوم، واحتقر كتاب الله الحكيم وأعرض عنه. وكان يقول بأن الدهر في تغير مستمر، وأن لا شيء يدوم على حال، وأن الإنسان كبعض النبات أو الحيوان، وأن الموت نهاية كل شيء ... الخ.
وقد ذكر ابن الخطيب في كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة» سبب العداء الذي استحكم بين ابن الصائغ وابن خاقان، فقال إن الفتح افتخر يوما بمجلس بما ناله من رضى أمراء الأندلس فكذبه ابن الصائغ واحتقره.
أما مؤلفات ابن باجه فقد ذكرها ابن أبي أصيبعة. فمنها كتب في الطب والرياضيات والحكمة وشروح لبعض كتب أرسطو في الطبيعيات وحوادث الجو وكتب في البداية والنهاية، وكتاب في الحيوان، أما الكتب التي لم ينجزها وذكرها ابن طفيل فكثيرة منها ما هو في المنطق ومحفوظة في مكتبة الاسكوريال وكتاب في النفس ورسالته في تدبير المتوحد، ورسالة الاتصال، ورسالة الوداع. وقد تكلم في هذه الرسالة على العوامل التي تؤثر في الإنسان وتدفع العقل على التفكير، وشرح غاية الوجود الإنساني وغاية العلم وهما التقرب من الله والاتصال بالعقل الفعال الصادر عنه جل وعلا. ثم أضاف المؤلف جملا مبهمة في خلود النفس وغرس بذور المذهب الذي توسع فيه ابن رشد وهو مبدأ وحدة النفوس، وكان له من الشأن لدى علماء النصرانية ما كان حتى حاول تفنيده القديس توما وألبرت الكبير.
ويظهر أنه كتب رسالة الوداع قبيل رحلة طويلة، وبعث بها إلى أحد تلاميذه وأصدقائه ليكون على بينة من آراء الحكيم فيما يتعلق بأهم المسائل إذا لم يلتقيا بعد، وأول ما يظهر لقارئ رسالة الوداع رغبة المؤلف في إحياء معالم العلم والفلسفة؛ لأنهما في رأيه جديران بإرشاد الإنسان إلى الإحاطة بالطبيعة، وبهدايته بعون الله إلى معرفة ذاته، وبالاتصال بينه وبين العقل الفعال. وقد لام الغزالي الذي أضل نفسه وأضل سواه بزعمه في «المنقذ» أن الخلوة تفتح للذهن عالم المعقولات وتظهر للمتأمل أمورا إلهية ليس وراء رؤيتها لذة، وأنها هي الغاية التي يسعى إليها المتأملون.
أما الرسالة التي دعاها ابن باجه «تدبير المتوحد» فهي أهم وأنفع كتبه، وقد ذكرها ابن رشد في آخر كتابه على العقل الهيولاني بما يأتي: «أراد أبو بكر بن الصائغ أن يختط خطة لتدبير المتوحد في هذه الأمة، ولكنه لم ينجزها، وكثير منها غامض، وسنحاول في غير هذا المكان شرح غاية المؤلف من هذه الرسالة؛ لأنه أول من سار في هذا المضمار، ولم يسبقه فيه أحد.»
بيد أن رسالة ابن الصائغ لا أثر لها، وليس في مؤلفات ابن رشد إنجاز لما وعد من الكلام عليها، والفضل فيما تعلمه منها راجع إلى أحد فلاسفة اليهود في القرن الرابع عشر وهو موسى الزبوني شارح رسالة حي بن يقظان.
ويظهر أن غاية ابن باجه من رسالة تدبير المتوحد أن يثبت قدرة الإنسان المتوحد المنتفع بحسنات الحياة البعيد عن مفاسدها على الاتصال بالعقل الفعال بمجرد نمو قواه الفكرية، ولكن ابن باجه لا يوصي بالخلوة أو الوحدة المطلقة، إنما يرشد الإنسان المشتغل بشئون الحياة إلى سبل الوصول إلى الكمال وهو يشير إلى إمكان ذلك لرجل بمفرده أو لعدة رجال في درجة واحدة من الفكر وهم ذوو مقصد واحد، وقد يستطيع ذلك أهل بلد بأسره لو كانت حياتهم تابعة لشروط الكمال. ولم تخف على ابن باجه صعوبة هذا الأمر فأوصى المتوحد بالعيش في أغزر المدن علما، أي في أقرب المدن إلى الكمال وأجمعها لأهل الفضل والحكمة، وهو يسميها أفضل الدول ورسالة التدبير مقسمة إلى ثمانية فصول . (1) ملخص رسالة تدبير المتوحد
الفصل الأول
غاية الرسالة شرح تدبير المتوحد بين أهل المدينة، فشرع المؤلف في الكلام على لفظ «تدبير» قال: إن هذا اللفظ يدل في أكبر معانيه على مجموعة من الأعمال ترمي إلى مقصد معلوم، فلا يمكن أن يستدل بها على عمل مفرد، إنما على جملة أعمال تنجز على وتيرة واحدة بناء على خطة مرسومة للوصول إلى غرض معلوم كالتدبير السياسي والتدبير الحربي، ويقال في هذا المعنى إن الله يدبر الكون لأن تدبيره جل وعلا - على زعم العامة - يشبه تدبير الحكومات، وإن كان هذا التدبير في رأي الحكماء، ليس مشابها إلا في اللفظ دون المعنى؛ لأن تنظيم جملة من الأعمال على خطة معلومة والتفكير فيها قبل إنجازها هو من خواص البشر.
ينبغي أن يكون تدبير المتوحد على مثال تدبير الحكومة الكاملة، لذا شرع المؤلف يتكلم في التدبير السياسي، قال: ومن علامات الحكومة الكاملة أن لا يكون بها أطباء أو قضاة، فإن أهل المدينة الكاملة ليسوا في حاجة إلى المداواة؛ لأنهم لا يتناولون من الغذاء إلا ما يوافقهم، وبذا تختفي الأمراض الصادرة عن الغذاء. أما الأدواء الخارجة عن الإنسان، أي التي تصيبه بدون تفريط أو إفراط منه، فإنها تزول بذاتها. أما الاستغناء عن القضاة فلأن العلاقات بين أبناء البلد يكون أساسها المحبة فلا يقع الخلاف بين الأصدقاء. ثم إن الحكومة الكاملة كفيلة بأن يبلغ الفرد فيها أرقى ما يمكن بلوغ الفرد إليه من مراتب الكمال؛ لأن الكل يفكرون بأعدل وسائل التفكير، وينظرون إلى الأمور أدق نظر، ويطيع كل فرد ما تأمر به القوانين؛ لأن الفرد يكون عالما بما يجوز وما لا يجوز. كذلك تخلص الأعمال من الخطأ والهذر والختل، فتصفو الطباع وتكرم الأخلاق، بحيث لا تكون بالناس حاجة إلى طب النفوس، وهو ما لا غنى للجمهوريات الناقصة عنه مثل الأرستقراطية والأوليجارقية والديمقراطية والمونارقية.
فالمتوحدون في حكومة غير كاملة ينبغي لهم أن يعيشوا كأنهم أفراد في حكومة كاملة، فهم كالنبات الذي ينمو بذاته وبالطبيعة بين ظهراني أمثالهم، الذين هم كالنبات الذي ينمو نموا صناعيا.
يقول ابن باجه: وغايتنا من هذا الكتاب أن نشرح تدبير تلك النباتات التي ينبغي لها أن تسترشد بقواعد الجمهورية الكاملة، بحيث لا تحتاج إلى أنواع الطب الثلاثة (طب النفس وطب الخلق وطب البدن) لأن الله وحده هو شافيها، والمتوحد قد يكون فردا أو جماعة ما لم تتبع الأمة بأسرها خطتهم وطريقهم؛ لأنهم يكونون متميزين عن البقية بالسعي إلى الكمال، وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم المتصوفون اسم الغرباء؛ لأنهم بما فطروا عليه من الفضائل وما اكتسبوه من الحكمة غرباء في أوطانهم يشذ عنهم الأهل وينأى عنهم الأصدقاء، ثم إنهم ينتقلون بفكرهم من الوسط الذي هم فيه إلى الجمهورية الكاملة التي هي لهم بمثابة الوطن والمستقر.
ملحوظة: راجع ما كتبناه عن الفارابي؛ فإنه في السيرة الفاضلة ذكر مثل هذا القول في كلامه على خلاصة المنورين من الخاصة
Les ames bien nées .
الفصل الثاني
شرع ابن باجه في الكلام على أعمال الإنسان، ففصل أنواعها للتمييز بين الأعمال التي تنتهي به إلى غرض، وبين الأعمال الإنسانية المحضة فقال: إن بين الإنسان والحيوان رابطة كالتي بين الحيوان والنبات والتي بين النبات والمعادن الجامدة. أما الأعمال البشرية المحضة والخاصة بالإنسان دون سواه فهي الناشئة عن الإرادة المطلقة أي عن إرادة صادرة عن التفكير لا عن غريزة ثابتة في البشر ثبوتها في الحيوان، فلو أن رجلا كسر حجرا لأنه جرح به فإنه يعمل عملا حيوانيا، أما من يكسر حجرا لئلا يجرح به سواه فعمله هذا يعد عملا إنسانيا، ومن يأكل خيار شنبر لينقي بدنه بحيث لا يكون الطعم اللذيذ الذي يستوعبه إلا عارضا إنما يأتي عملا إنسانية بغايته، حيوانيا عرضا.
وزبدة القول هي أن العمل الحيواني تدفعنا إليه الغريزة الثابتة في الروح الحيواني. أما العمل الإنساني فيدفعنا إليه الرأي أو الاعتقاد، بقطع النظر عما إذا كان الفكر مسبوقا أو غير مسبوق في الوقت ذاته بمؤثر غريزي. وأغلب أعمال البشر الدخلة في نطاق الأنواع الأربعة التي سبق الكلام عليها مركبة من عناصر حيوانية وأخرى إنسانية، ويندر أن تكون أعمال الإنسان حيوانية على الإطلاق، إنما يغلب أن تكون إنسانية وهذا ما ينبغي للمتوحد. ومن لا يعمل إلا متأثرا بالفكر والعدل بدون اكتراث للروح الحيواني فعمله جدير بأن يسمى عملا إلهيا لا إنسانيا، وهو موضع عنايتنا في هذه الرسالة، وينبغي لمن يرمي إلى هذا المقصد أن يسمو بفضائله، بحيث إذا عزمت النفس العاقلة على إنجاز شيء انقاد إليها الروح الحيواني دون أن يخالفها، ما دام الفكر يريد ذلك، وبذلك يصل الروح الحيواني ذاته إلى فضائل الخلق؛ لأن تلك الفضائل إنما هي «إبراز الوجود للروح الحيواني».
لهذا ينبغي للمتوحد أن يتميز بالفضائل. هذه هي القاعدة الأولى لتدبير المتوحد؛ لأنه إن لم يتميز في تلك الصفات وكانت النفس الحيوانية تضع له عقبات في وقت العمل تكون هذه ناقصة وبدون غاية، وإن لم تكن كذلك يضجر المتوحد بسرعة ويجد صعوبة. وفي الواقع إنه من طبيعة النفس الحيوانية أن تطيع النفس العاقلة، ما عدا حال الرجل الذي ليس في حاله الطبيعية، كما هي حال الرجل ذي الطباع المتقلبة غير الثابتة، أو الرجل الذي ينقاد للغضب.
وهذا الرجل الذي تفوز لديه النفس الحيوانية على النفس العاقلة بحيث ينقاد إلى شهواته، والذي يحارب فكره ويخالفه، هذا وإن كان إنسانا فهو يتبع الطبيعة الحيوانية ولا يعرف طريق الهدى من الضلال، أقول إن الحيوان أفضل منه لأن الحيوان يطيع طبيعته الذاتية، وفي الواقع يمكننا أن ندعو حيوانا بالمعنى المطلق ذاك الذي يملك الفكر الإنساني الذي يمكنه من أن يحسن الفعل وهو مع ذلك لا يحسن؛ لأنه حينئذ لا يكون إنسانا، والحيوان أرقى منه، بل هو حيوان على الإطلاق؛ لأنه مع وقوفه بذكائه على المعلومات وتمييز الخير من الشر تراه يتبع طبيعة الحيوان.
في مثل هذه الأحوال يكون العقل البشري وسيلة لزيادة الشر، أي عندما يزعم علمه بالخير تتغلب الطبيعة الحيوانية على الذكاء، ومثل الذكاء كمثل الغذاء الطيب الفاخر يعطي لبدن معتل، ويقول بقراط: «إن هذا الغذاء يزيد الداء.» إن سقوط الجماد يتم بالطبيعة والصعود يتم بمجهود، ولا شك في أن هذه الأعمال تتم للضرورة، ولا يوجد للجماد حرية القصد. ولا يمكننا أن نمتنع عنها لأن الحركة في مثل هذا العمل لا تأتي منا. كذلك العمل الحيواني في النفس الغذائي والمعيد القوي والمزيد يتم بدون قصد؛ أي إنه يتم بالطبيعة، وحيث إنه يصدر عنا ففي قوتنا أن نقف ذاتنا وأن نمتنع عنه. أما العمل الإنساني فهو يصدر على الدوام عن قوتنا وبقصد منها، ولذا في قوتنا أن نمتنع عندما نريد. وينتج من هذا أن النهايات أو العلل النهائية لا تعين ولا تحدد إلا بالأعمال الإنسانية.
الفصل الثالث
ثم دخل الفيلسوف في الكلام على الأعراض العقلية وأنواعها ليوضح آخر غايات المتوحد. فبدأ ببيان أعمال الرجل الإنسانية، وأنها تصدر عن القوة العاقلة، وأن هذه القوة موجودة لقصد أو لغاية، وهذه الغاية هي النوع الثاني من الأعراض العقلية.
إن كلمة «العقل» يستعملها العامة استعمال كلمة النفس، ويستعملها الفلاسفة كمترادف، وبعض الأحيان يقصدون بذلك الحرارة الطبيعية التي هي أول عناصر النفس، لأجل هذا يقول الأطباء إن الأرواح على ثلاثة أنواع: الروح الطبيعية والروح العاقلة والروح المحركة. ويقصدون بذلك النفس، لا من حيث هي نفس على الإطلاق، إنما من حيث هي قوة محركة، وفي هذا المعنى تكون كلمة عقل ونفس مترادفتان. وكلمة روح تطلق خاصة على الروح ذات الدرجة الثانية أي الروح العاقلة أو الحيوية، وبعض الأحيان هم يقصدون بكلمة روح المواد الجامدة المنفصلة التي تحرك مواد أخرى، والتي ليست أجساما إنما هي أعراض للأجسام. ومع ذلك فإن الفلاسفة لا يطلقون على هذه المواد كلمة روح كما هي عادة لغويي العرب، إنما يقولون غالبا «روحاني» كلمة مركبة ومشتقة من روح كما تشتق كلمة جسماني من جسم، ونفساني من نفس. وكلما بعدت مادة عن الجسمانية كلما وجب أن تطلق عليها كلمة روحاني ، لذا كان العقل الفعال أحق المواد بهذه التسمية وكذلك المواد التي تحرك الأجرام والدوائر الفلكية.
إن الأعراض الروحانية أربعة أنواع مختلفة: الأول الأجسام الفلكية أو النجوم، الثاني العقل العام والعقل الصادر، والثالث العقل الهيولاني أو المادي أي الأعراض المعقولة أو الأفكار العقلية القائمة بالأشياء، والرابع الأفكار التي توجد في قوى النفس أو في الذوق العادي أي في الخيال وفي الذاكرة.
أما النوع الأول فلا علاقة له على الإطلاق بالمادة. والثاني ليس في ذاته هيولانيا إنما له علاقة بالمادة؛ لأنه يكمل الأشكال الهيولانية كالعقل الصادر الذي يعمل الأشكال كالعقل الفعال. أما النوع الثالث فهو في علاقة مباشرة مع المادة، ويسمونه هيولانيا؛ لأنه يشمل الأشياء المادية المعقولة أي التي ليست روحانية بروحها، لها وجودها في المادة وخارج عن الجسمانية. وهي بعض الأشكال التي تبقى في قوة النفس العاقلة عندما تنتهي العلاقة الخاصة التي بين القوة العاقلة والشيء المفرد؛ لأنه ما دامت هذه العلاقة تبقى القوة العاقلة متأثرة بأثر جسماني تجعل العلاقة جسمانية، فلما تنتهي الجسمانية وتنتهي العلاقة وتصير القوة العقلية روحانية، لا تحفظ إلا العلاقة العامة أي العلاقة التي تربطها بسائر الأفراد. والنوع الرابع متوسط بين المعقولات الهيولانية وبين الأعراض المادية المحضة.
الفصل الرابع
توجد أعمال ليس لها غاية سوى الشكل البدني كالشرب والأكل واللبس والسكن، وهذه الأعمال لا غاية لها إلا التمتع المادي وغايتها إتمام الشكل الجسماني ولا ينبغي إهمالها.
ثم أعمال غايتها الأشكال الروحانية الخاصة، وهي تختلف باختلاف طبيعة الأشياء التي تقصد إليها نبلا وخسة. (أ) مثل ذلك غرور بعض الناس بلبس الملابس الجميلة في الظاهر وهم يهملون الملابس الباطنية، إن اللذة التي تعود عليهم ليست شهوانية، إنما راجعة إلى حاسة باطنية فيها شيء روحاني. (ب) الأعمال الموجهة نحو العرض الروحاني الكامن في الخيال، كأن يتسلح الإنسان في غير وقت الحرب. (ج) الأعمال التي غايتها التسلية والسرور، كاجتماع الأحباب والألعاب وعلاقات الرجل بالمرأة لغير التناسل والترفه في السكن واقتناء الأثاث والبلاغة والشعر. (د) الأعمال التي غايتها التكمل في العقل والفكر ، كأن يدرس رجل علما لذاته ليكمل عقله لا ليعود عليه بنفع مادي، أو كأن يعمل عمل كرم أو شرف بدون انتظار نتيجة مقصودة أو منفعة، كل هذه الأعمال ينبغي أن تتم لذاتها، وأن لا تكون لها غاية أخرى سوى تكميل الشكل الروحاني للإنسان. ومع ذلك يوجد أشخاص يقصدون بهذه الأعمال الشهرة والمجد، ويظنون أن أعظم سعادة للرجل أن يبقى اسمه على مر الدهور، والعرب يعلقون على الذكر أهمية كبرى ويقول شاعرهم: الذكر للإنسان عمر ثان.
الأعمال التي يقصد بها الأشكال الروحانية العامة، وهي أكمل أعمال الرجل، والأعراض المقصودة هنا هي متوسطة بين الأعمال السابقة التي هي ممتزجة بالجسمانية والروحانية المطلقة، وهي الغاية النهائية لمن يبحث عن السعادة أو غاية المتوحد الكبرى.
الفصل الخامس
بعد أن قسم الأعمال الإنسانية تبعا للأعراض المقصودة بها، أخذ الحكيم يعين غايات هذه الأعمال لكل شكل خاصة، فقال إن الأغراض على ثلاثة أقسام: أغراض متعلقة إما بالأعراض الجسمانية. وإما بالأعراض الروحانية الخاصة. وإما بالأعراض الروحانية العامة.
أما الأعمال الجسمانية المحضة التي يشترك فيها الإنسان والحيوان فلا محل لها هنا.
أما الروحانية العامة فهي تحرك الإنسان إلى الصفات الخلقية والعقلية، وإن بعض أخلاق الإنسان توجد أيضا في الحيوان كالشجاعة في الأسد والعجب في الطاووس والتيقظ في الكلب. ولكن هذه الصفات ليست خاصة ببعض الأفراد من النوع، إنما هي صفات غريزية راكزة في كل الجنس، ولا توجد فردية إلا في الإنسان، فكل الكلاب يقظة ولكن اليقظين من الرجال قليل، ولذا فهي تسمى في الرجال فضائل إذا استعملها الرجل بمقدار معتدل وعلى الدوام كلما اقتضتها الحال.
أما الصفات العقلية فتكون في الأعراض الروحانية الإنسانية قسما خاصا ليس له بالصفات الأخرى علاقة. فإن الأعمال العقلية والعلوم في حقيقتها كلها كمالات مطلقة تعطي للإنسان الوجود الحقيقي التام، أما العرض الروحاني الفردي فيعطي وجودا محدود الزمن، مثل العرض الروحاني الذي ينتج عن الشهرة، فإنه ليس بينه وبين ذاك الذي يحصل عليه بواسطة الصفات العقلية مقارنة.
إن من يقتصر على الأعراض الجسمانية يضع نفسه في صفوف الحيوان، كذلك يكون إهمال الوجود الجسماني ضد الطبيعة، وهذا لا يباح إلا في بعض الظروف المستثناة، حيث يكون احتقار الحياة فرضا على الإنسان مثل وجوب موت الإنسان في سبيل الدفاع عن الوطن أو الدين، ولا يمكن لأي رجل مادي أن يصل إلى السعادة، إنما لا يصل الرجل إلى السعادة إلا إذا كان روحانيا محضا وإلهيا حقيقة. إن الرجل الروحاني ينبغي له أن يعمل أعمالا جسمانية للضرورة لا لذاتها، أما الأعمال الروحانية فيعملها لذاتها، كذلك ينبغي للفيلسوف أن يعمل أعمالا روحانية كثيرة بدون أن يكون فعلها لذاتها. أما المعقولة فهو يعملها لذاتها. فلا يتناول من الأعمال الجسمانية إلا ما كان أداة في مد أجله، ولن يقدم الشيء الجسماني مطلقا على الروحاني، ولا يأخذ من أرفع درجات الروحاني إلا ما كان ضروريا للمعقول، ثم يتعلق في النهاية بالمعقول المطلق؛ لأنه بواسطة الجسماني يكون مخلوقا إنسانيا، وبالروحاني يكون مخلوقا أرفع، وبالمعقول يصير مخلوقا ساميا إلهيا.
فالفيلسوف هو بطبيعة الحال إنسان سام إلهيا، على شرط أن يختار في كل نوع من الأعمال ما كان أرفعها، وأن يختلط بأهل كل طبقة من الناس لأجل أسمى ما في كل واحد منهم من الصفات، وأن يمتاز عنهم جميعا بأرفع الأعمال وأكثرها مجدا. فإذا وصل إلى الغرض النهائي أي عندما يفقه العقول البسيطة في كل معانيها والمواد المنفصلة، يصير واحدا منها ويمكن أن يسمي موجودا إلهيا. فتبعد عنه صفات الجسمانية الغير الكاملة كذلك الصفات الروحانية السامية، ويجدر أن يكون له صفة الإلهي بدون أن يكون به شيء جسماني أو روحاني. كل هذه هي صفات المتوحد ابن الجمهورية الكاملة.
الفصل السادس
الأعراض الروحانية الفردية على أربعة أنواع: النوع الأول: هو العامي ومقره الحواس أو الإحساس. والنوع الثاني: في الطبيعة أو الشهوة، لأن من به ظمأ يجد في ذاته عرضا روحانيا يدفعه للبحث عن الماء، ومن به جوع يجده لأجل البحث عن الغذاء، وعلى العموم كل من يشتهي مدفوع للبحث عما يشتهي بعرض روحاني، وهذا العرض الصادر عن الطبيعة لا ينصب على جسم خاص، لأن من به ظمأ لا يتطلب نوعا خاصا من الماء إنما يطلب ماء ما من الجنس الذي يشتهيه. النوع الثالث: هو العرض الروحاني الذي ينشأ عن الفكر أو العرض الذي يصدر عن التأمل أو الدليل والإيضاح.
والنوع الرابع: يشمل الأعراض التي تولد بواسطة تأثير العقل الفعال بدون تعضيد الفكر أو الدليل، وفي هذا النوع يدخل الوحي النبوي، والأحلام الصادقة التي هي صادقة بالضرورة، وليست صادقة بالمصادفة. والنوعان الأولان مشتركان بين الإنسان والحيوان، والأعراض الضرورية للحيوان لكماله الطبيعي تعطيها الطبيعة لكل الحيوانات، ولكن توجد أعراض تعطيها الطبيعة تكرما ولا توجد إلا في بعض الحيوانات. وهذه الحال قاصرة على الحيوانات التي ليس لها دم كالنحل والنمل. والنوعان الأخيران من الأعراض الروحانية خاصان بالإنسان، وهما وسط بين الأعراض الروحانية الفردية والأعراض المعقولة؛ لأنهما ليسا أعراضا فردية لأجل الأجسام، ولا أعراضا روحانية فردية كالأعراض الحساسة، وليسا خالصين عن المادة بالمرة حتى يصح وصفهما بالعموم كالأعراض المعقولة، ومن الممكن للمراقب أن يعرف من حدة النظر درجة الروحانية والذكاء التي وصل إليها الإنسان.
الفصل السابع
لا ينبغي للمتوحد أن يعمل لأجل الأعراض الروحانية لذاتها؛ لأنها ليست نهايته وإن كانت وسيلة للوصول إلى الغاية القصوى، وينبغي له أن لا يخالط الذين لا يملكون إلا تلك الأعراض الروحانية؛ لأنهم قد يتركون في نفسه آثارا تعوقه عن الوصول إلى السعادة الأبدية.
ولنفترض الآن أن رجلا فاضلا بالمرة كالمهدي وآخر فاجرا كأبي دلامة، كل واحد منهما يملك العرض الخاص بالآخر، وكل عرض روحاني محرك للجسم الذي يوجد العرض به. فعرض أبي دلامة يحمل المهدي على السرور والهذر تبعا لإدراك الأول للرذائل، وعرض المهدي يحمل أبا دلامة على التواضع والحياء؛ لأن أبا دلامة يذل بإدراك الطبيعة السامية التي هي طبيعة المهدي وبعرضها الشريف، ومن المحقق أن التواضع والحياء هما من الصفات التي هي أرقى من الخفة والباطل، فحينئذ بعرض الرجل الراقي أي بإدراك هذا العرض يمكن للرجل المنحط أن يشرف ويرتقي، وكذلك بعرض الرجل المنحط يمكن سقوط الرجل الراقي. فينبغي علينا والأمر كذلك أن نتوحد وبهذه الوسيلة ينقي أخس الناس نفسه ويعلن عن مجد الرجل السامي والسامي يخلص من التأثير الذي يمكن أن يتلقاه من الخسيس ولا يفكر إلا في الوحدة، وكذلك يجد كل واحد من كان قريبا منه إلى جانبه. وهكذا المتوحد سيبقى نقيا من الاختلاط بالناس؛ لأن من واجبه أن لا يرتبط بالرجل المادي ولا بالرجل الذي ليس له غاية إلا الروحاني المطلق. وواجبه أن يرتبط بأهل العلم، وحيث إن أهل العلم لا يوجدون في كل مكان فينبغي للمتوحد أن يبتعد عن الناس على قدر الإمكان، وأن لا يمتزج بهم إلا لأجل الضروريات. ينبغي له أن يبتعد عنهم لأنهم ليسوا من جنسه، فلا يختلط بهم ولا يسمع لغطهم؛ لأجل أن لا يحتاج لتكذيب أكاذيبهم، وأن لا يقضي وقته في بغضهم وفي الحكم عليهم وهم أعداء الله. والأفضل للمتوحد أن لا يقضي وقته في الحكم على الناس الذين يعيش بينهم، إنما يعطي نفسه لتعليمه الإلهي، وأن يلقي بعيدا عنه ذلك العبء الثقيل، وأن يكمل نفسه، وأن يضيء لمن حوله كالنور، وفي السر يعطي نفسه لتعلم علم الخالق كما لو كان ذلك أمرا معيبا، وبذلك يكمل نفسه في العلم وفي الدين الذي يرتضيه له، أو يذهب إلى الأماكن التي يوجد فيها العلماء، فيرتبط بهم وبالمتقدمين في السن الممتازين بذكائهم وعلمهم وصدق حكمهم وبفضائلهم العقلية، وأن يجتنب الشبان القليلي الخبرة، وإن ما نقوله هنا لا يناقض العلوم السياسية التي تقول بأن مجانبة الناس خطأ، ولا العلوم الطبيعية التي تقول بأن الإنسان مدني بالطبع؛ لأن هذين المبدأين صحيحان نظريا حال تملك الرجال كمالاتهم الطبيعية، ولكن قد يحدث أن يكون الخير في الابتعاد عن المجتمع، فإن اللحوم والنبيذ أغذية نافعة للإنسان، كما أن الأفيون والحنظل قاتلان، ومع ذلك فإنه يحدث أن هذين الأخيرين يكونان في بعض الأحيان نافعين والغذاء العادي الطبيعي قد يحدث أن يكون قاتلا. ولكن هذا نادر ولا يحدث إلا مصادفة، وهذا أيضا ينطبق على تدبير النفوس.
الفصل الثامن
إن غاية المتوحد النهائية هي في الأعراض المعقولة والأعمال التي تؤدي إليها كلها في حيز العقل، ولا يصل المتوحد إلى تلك الأعراض إلا بالتأمل والدرس، وهذه الأعراض لها في ذاتها تأكيد لوجودها، وهي بعبارة أخرى أفكار الأفكار وأرقاها العقل المكتسب الصادر عن العقل الفعال، الذي بواسطته يتوصل الإنسان لأن يفهم ذاته كموجود عقلي.
ثم أسهب ابن باجه في الكلام على العقل المكتسب وطريقة الوصول إلى فهم ذاته، ثم قال: «إن العقل الفعال لا ينقسم أي لا يتجزأ، وحيث إن الأعراض الخاصة به جميعا ليست فيه إلا واحدة أو على الأقل كل أرواحها هي أشياء لا تتجزأ؛ أي إن كل عرض خاص يوجد فيه؛ أي في العقل الفعال كوحدة، فعلم هذا العقل المنفصل كذلك واحد، وإن كانت أغراضه متعددة كتعدد الأنواع. وإذا كانت الأعراض التي تصدر عنه متعددة، فما ذلك إلا لأنها تظهر في مواد مختلفة. وفي الواقع إن الأعراض الموجودة في بعض المواد هي في العقل الفعال عرض واحد، وليس المقصود من ذلك أنها كانت بالمعنى بعد أن كانت في المواد كما يحدث هذا لأجل العقل في الفعل. وليس هناك ما يعوق العقل في الفعل عن عمل مجهود لتقريب هذه الأعراض المنفصلة منه إلى أن يصل إلى الإدراك المعقول أو العقل المكتسب، لأجل هذا كان الإنسان بروحه أقرب الموجودات للعقل الفعال، وليس هناك ما يعوق العقل المكتسب عن أن يعطي ما تعطيه العقول الأخرى؛ أي الحركة لأجل أن يتأمل في ذاته. وعند ذلك يصل إلى الإدراك المعقول الحقيقي؛ أي إحساس المخلوق الذي بطبيعته هو عقل يعمل بدون أن يحتاج حالا أو سابقا إلى شيء يخرجه من حالة القوة. هذا هو إدراك العقل المنفصل أي العقل الفعال كما يدرك ذاته، وهذا هو آخر الحركات.»
ويرى القارئ مما تقدم أن ابن باجه لا يوضح بجلاء الطريق التي تتم بها تلك الحركة العظمى، وكيف يتم الاتصال بين العقل الإنساني والعقل الفعال العام، وقد رأينا في رسالة الوداع أنه مضطر إلى إدخال قوة فوق الطبيعة لإتمام هذا الاتصال، ثم لنذكر أن الكتاب الذي فرغنا من تلخيصه قد وجده ابن رشد غامضا، وقد وضعه ابن طفيل بين الكتب التي لم يتمها ابن باجه ووصفها بأنها مجزومة من أواخرها. ولكن الذي تهمنا معرفته هو أن ابن باجه أعطى للفلسفة العربية في الأندلس حركة ضد الميول التصوفية التي ابتدعها الغزالي وقال ابن باجه: إن العلم النظري وحده قادر على الوصول بالإنسان إلى فهم ذاته وفهم العقل الفعال، كما أوضح ذلك في رسالة الوداع وكما علمنا ابن طفيل، وبذا اختط السبيل الذي سار عليه ابن رشد. (2) إيضاح لفلسفة ابن باجه (2-1) تحريف اسمه واضطهاده
يطلق عليه بعض الإفرنج اسم
Avenpace
وبعضهم
Avimpace
وهي محرفة عن ابن باجه، كما حرفوا
Avicenna
عن ابن سينا و
Averroes
عن ابن رشد، وقد ولد في أواخر القرن الخامس للهجرة وتوفي في أوائل السادس (533ه) ومات هذا الفيلسوف شابا في مقتبل العمر، ولا نعلم الشأو الذي كان يبلغه لو مد في أجله حتى كمال مواهبه الفطرية.
على أن حياته مع قصرها كانت مثالا لحياة الفيلسوف، فقد بلي بمحن كثيرة وشناعات من العوام وقصدوا هلاكه مرات، ولكنه نجا من بطشهم. وكان هذا الاضطهاد بسبب فكره وما نسبوه إليه من الخروج عن حدود العقائد الدينية، فكان سابقا لابن رشد في تلك المحن التي سببتها جهالة السوقة والمتنطعين. (2-2) تلاميذه ومكان قبره
كان من جملة تلاميذ أبي بكر محمد بن يحيى بن الصائغ القاضي؛ أبو الوليد محمد بن رشد، ومن جملتهم أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الإمام الغرناطي، وكان كاتبا فاضلا متميزا في العلوم والآداب، وقد صحب أستاذه ابن باجه مدة ودرس معه واشتغل عليه وحضر وفاة ابن باجه ودفنه في فاس سنة 533ه. وعندنا شهادة القاضي أبي مروان الأشبيلي بأنه رأى قبر ابن باجه بمدينة فاس بجوار قبر أبي بكر ابن العربي الفقيه. أما أبو الحسن علي تلميذ ابن باجه فقد نزح عن المغرب وتوفي بقوص بصعيد مصر في النصف الثاني من القرن السادس للهجرة . (2-3) أحد تلاميذه يصف علمه وذكاءه
نقل أبو الحسن بن علي ابن الإمام الغرناطي تلميذ ابن باجه مجموعا من أقوال ابن باجه وهو ما يطلق عليه الفرنسيون لفظ
Cours
وكتب في صدره مقدمة جاء فيها:
هذا مجموع ما قيد من أقوال أبي بكر بن الصائغ رحمه الله في العلوم الفلسفية. وكان في ثقابة الذهن ولطف الغوص على تلك المعاني الجليلة الشريفة الدقيقة أعجوبة دهره ونادرة الفلك في زمانه، فإن هذه الكتب الفلسفية كانت متداولة بالأندلس من عهد «الحكم»، وهو الخليفة الذي استجلبها وهو مستجلب غرائب ما صنف بالمشرق. ونقل من كتب الأوائل وغيرها (نضر الله وجهه)، وتردد النظر في تلك الكتب فما انتهج فيها الناظر قبل ابن باجه سبيلا. وما تقيد عن الناظرين في تلك الكتب قبل ابن باجه إلا ضلالات وتبديل كما تبدد عن ابن حزم الأشبيلي. وكان من أجل نظار زمانه وأكثرهم لمن تقدم على إثبات شيء من خواطره، وكان أحسن منه نظرا واثقب لنفسه تمييزا.
وإنما انتهجت سبل النظر في هذه العلوم بهذا الحبر وبمالك بن وهيب الأشبيلي، فإنهما كانا متعاصرين، غير أن مالكا لم يقيد عنه إلا قليل نزر في أول الصناعة الذهنية (المعقولات)، ثم أضرب الرجل عن النظر ظاهرا في هذه العلوم وعن التكلم فيها لما لحقه من المطالبات في دمه لسببها، ولقصده الغلبة في جميع محاوراته في فوز المعارف.
وظاهر من هذه النبذة أن المطالبات في دم ابن وهيب الأشبيلي (الاضطهادات) لم تكن بسبب اشتغاله بهذه العلوم العقلية والفلسفية فقط، بل كانت بسبب خلقه؛ فقد كان يقصد الغلبة في جميع محاوراته في فوز المعارف، وربما كان هذا السبب الثاني أدعى إلى الاضطهاد وإلى غيظ العوام منه وحملتهم عليه. على أن ابن وهيب لم يكن فيلسوفا بحق؛ وذلك لأنه لم تكن تلوح على أقواله ضياء هذه المعارف الفلسفية ولا قيد فيها باطنا شيئا عثر عليه بعد موته. ثم إن ابن وهيب أعرض عن الفلسفة وأقبل على العلوم الشرعية فظهر فيها.
أما ابن باجه فقد نهضت به فطرته الفائقة، ولم يهجر النظر والاستنتاج والتقييد لكل ما ارتسمت حقيقته في نفسه على أطوار أحواله وكيفما تصرف به زمنه. (2-4) العلوم التي أتقنها ابن باجه
لقد أثبت ابن باجه في الصناعة الذهنية (المعقولات) وفي أجزاء العلم الطبيعي ما يدل على حصول هاتين الصناعتين في نفسه، صورة ينطق عنها ويفصل ويركب فيها فعل المستولي على أمرها والمتمكن منها غاية التمكن.
وله تعاليق في الهندسة وعلم الهيئة تدل على براعته في هذا الفن.
وأما العلم الإلهي فلم يوجد في تعاليقه شيء مخصوص به اختصاصا تاما، إلا نزعات تستقرأ وتستنتج من قوله في رسالة الوداع التي سبق ذكرها واتصال الإنسان بالعقل الفعال وإشارات مبعثرة في أثناء أقاويله، لكنها في غاية القوة والدلالة على نزوعه في ذلك العلم الشريف الذي هو غاية العلوم ومنتهاها، وكل ما قبله من المعارف فهو من أجله وتوطئة له، ومن المستحيل أن ينزع في التوطئات وتنفصل له أنواع الوجود على كمالها، ويكون مقصرا في العلم الذي هو الغاية وإليه كان التشوق بالطبع لكل ذي فطرة بارعة، وذي موهبة إلهية ترقيه عن أهل عصره وتخرجه من الظلمات إلى النور كما كان ابن باجه رحمه الله. (2-5) المقارنة بينه وبين أكابر فلاسفة المشرق
وقد وردت في صدر المجموع الذي نقله أبو الحسن علي بن عبد العزيز أقوال لابن باجه في الغاية الإنسانية على نهاية من الإيجاز، ولكنها تعرب عما سبقت الإشارة إليه من سعة إدراك ابن باجه في العلم الإلهي وفيما قبله من العلوم الموطئة، ويظن المؤرخون أن ابن باجه قد دون وعلق في العلم الإلهي ما لم يعثروا عليه. ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم؛ فإنه إذا قرنت أقاويله فيها وعورضت بأقاويل ابن سينا والغزالي - وهما اللذان فتح عليهما بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم ودونا فيها - بان لك الرجحان في أقاويل ابن باجه وفي حسن فهمه لأقاويل أرسطو والثلاثة أئمة دون ريب، وقد أتوا بما جاء به من قبلهم من بارع الحكمة عن يقين تمتاز به أقاويلهم ويتواردون فيها مع السلف الكريم. (2-6) بيان المؤلفات ابن باجه (1)
شرح كتاب السماع الطبيعي لأرسطوطاليس. (2)
قول على بعض كتاب الآثار العلوية لأرسطوطاليس. (3)
قول على بعض كتاب الكون والفساد لأرسطوطاليس. (4)
قول على بعض المقالات الأخيرة من كتاب الحيوان لأرسطوطاليس. (5)
كلام على بعض كتاب النبات لأرسطوطاليس. (6)
قول ذكر فيه التشوق الطبيعي وماهيته. (7)
رسالة الوداع وقول يتلوها. (8)
كتاب اتصال العقل بالإنسان. (9)
كتاب تدبير المتوحد. (10)
تعاليق على كتاب أبي نصر في الصناعة الذهنية. (11)
فصول قليلة
fratgments
في السياسة المدنية وكيفية المدن وحال المتوحد فيها. (12)
كلام في الأمور التي بها يمكن الوقوف على العقل الفعال. (13)
نبذ يسيرة على الهندسة والهيئة. (14)
رسالة كتب بها إلى صديقه أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسداي (بعد قدومه إلى مصر). (15)
تعاليق حكمية وجدت متفرقة. (16)
جوابه لما سئل عن هندسة ابن سيد المهندس وطرقه. (17)
كلام على شيء من كتاب الأدوية المفردة لجالنيوس. (18)
كتاب التجربتين على أدوية ابن وافد وقد اشترك معه في تأليفه أبو الحسن سفيان. (19)
كتاب اختصار الحاوي للرازي. (20)
كلام في الغاية الإنسانية. (21)
كلام في الأمور التي بها يمكن الوقوف على العقل الفعال. (22)
كلام في الاسم والمسمى. (23)
كلام في البرهان. (24)
كلام في الاسطقسات. (25)
كلام في الفحص عن النفس النزوعية وكيف هي ولم تنزع وبماذا تنزع. (26)
كلام في المزاج بما هو طبي.
ولم يصلنا من هذه الكتب جميعها سوى كتابين: (1)
مجموعة في الفلسفة والطب والطبيعيات ومنها نسخة في برلين وأخرى في أكسفورد. (2)
رسالة الوداع مفسرة بالعبرانية.
الفصل السادس
ابن طفيل
أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي، أحد أكابر حكماء العرب بالأندلس، ولد في أوائل القرن الثاني عشر للمسيح (القرن السادس للهجرة) بوادي آش إحدى مدن ولاية غرناطة، واشتهر بالطب والرياضيات والحكمة والشعر. شغل منصب كاتم أسرار حاكم غرناطة زمنا يسيرا، ثم صار وزيرا وطبيبا للأمير يوسف أبي يعقوب ابن عبد المؤمن، ثاني أمراء أسرة المهدي المتوفى سنة 580ه.
ذكر ابن الخطيب أن ابن طفيل علم الطب في غرناطة وألف فيه كتابين. وروى عبد الواحد المراكشي، وهو ممن اتصلوا بأولاد ابن طفيل، أن المودة كانت بين الحكيم والأمير عظيمة جدا، وأنه رأى بنفسه كتبا في الفلسفة وفي علم النفس وكثيرا من شعره بخط الفيلسوف، وقد انتهز ابن طفيل فرصة تقربه من الأمير فجلب إلى القصر مشاهير حكماء عصره، وهو الذي قدم إلى الأمير، حكيم الأندلس ابن رشد، وكان الأمير طلب منه يوما أن يرشده إلى عالم خبير بمؤلفات أرسطو ليطلب إليه تفسيرها وتحليلها تحليلا جليا، فطلب ابن طفيل إلى ابن رشد أن يقوم بهذا العمل، واعتذر للأمير عن إنجازه بكبر سنه، فلبى ابن رشد هذا الطلب وقام بتحليل كتب أرسطو.
وقد توفي ابن طفيل في مراكش عام 1185 وسار المنصور في جنازته.
ولم يبق لنا من مؤلفات ابن طفيل إلا كتاب واحد هو كتاب «حي بن يقظان»، وذكر كازيري كتابا اسمه «أسرار الحكمة المشرقية» وهو كتاب «حي بن يقظان» نفسه، وذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة ابن رشد، أن ابن رشد ذكر لابن طفيل كتابا «في البقع المسكونة والغير المسكونة». وقال ابن رشد أيضا في الإلهيات (الكتاب الثاني عشر) إنه كانت لابن طفيل آراء ثمينة في الأجرام الداخلة والخارجة.
وهذا يدل على أنه كان لابن طفيل علم واسع بالفلك، وذكر أبو إسحق البتروجي الفلكي الشهير في مقدمة كتابه في الفلك، وهو الذي أراد أن يستبدل نظريات بطليموس به: «تعلم يا أخي أن أستاذنا القاضي أبا بكر ابن طفيل قال إنه وفقا لنظام فلكي لتلك الحركات، كان يتبعه غير النظام الذي ابتعه بطليموس، وأنه في غنى عن الدوائر الداخلة والخارجة، وأن نظامه يحقق حركات الأجرام بدون وقوع في الخطأ، ووعدنا بالتأليف في هذا الباب، ولا عجب فإن علمه غني عن الأطناب.»
أما الكتاب الوحيد الذي يثبت فضل ابن طفيل فهو الذي يتضمن فلسفة وقته في شكل قصة خيالية.
ويظهر من هذا الكتاب أن ابن طفيل كان من الإشراقيين، وقد حاول بطريق التأمل أن يحل معضلة كبرى شغلت حكماء وقته، وهي علاقة النفس البشرية بالعقل لأول، فإنه لم يقنع برأي الغزالي الذي اكتفى في الاتصال بالتصوف، إنما اتبع رأي ابن باجه وأظهر نمو الفكر الإنساني درجة فدرجة في شخص إنسان منقطع بعيد عن مشاغل الحياة سليم من آثارها وأدرانها، واختار ابن طفيل مخلوقا لم يعلم من الحياة شيئا، وقد نما عقله في الانفراد المطلق بذاته، وتنبه فكره بقوته وبدافع من العقل الفعال، فأحاط بفهم أسرار الطبيعة وحل أعضل المسائل الإلهية: هذا ما أراده ابن طفيل من كتابه «حي بن يقظان» وسيأتي الكلام عليه عند تحليل فلسفته.
فكان ابن طفيل فلكيا، رياضيا وطبيبا وشاعرا، ناثرا رشيق الأسلوب رقيق العبارة، والفضل في إظهار مواهبه والاحتفاظ بها إلى الأمير يوسف بن عبد المؤمن، فقد كان عبد المؤمن عهد في حياته إلى أكبر أولاده وهو محمد بالإمارة وبايعه الناس وكتب ببيعته إلى البلاد، فلما مات عبد المؤمن لم يتم لابنه محمد الأمر وخلع. وكان الذي سعى في خلعه أخواه يوسف وعمر ابنا عبد المؤمن. ولما تم خلعه دار الأمر بين الأخوين المذكورين، وهما من نجباء أولاد عبد المؤمن ومن ذوي الرأي، فتأخر منهما أبو حفص عمر وأسلم الأمر إلى أخيه يوسف، وهو أبو يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي صاحب المغرب، فبايعه الناس واتفقت عليه الكلمة.
كان الأمير يوسف المذكور أعرف الناس كيف تكلمت العرب، وأحفظهم لأيامها في الجاهلية والإسلام، وقد صرف عنايته إلى ذلك ولقي فضلاء أشبيلية أيام ولايته، ويقال إنه كان يحفظ صحيح البخاري وكان يحفظ القرآن الكريم مع جملة من الفقه، ثم طمح إلى علم الحكمة وبدأ من ذلك بعلم الطب، وجمع من كتب الحكمة شيئا كثيرا.
وكان ممن صحبه من العلماء بهذا الشأن أبو بكر محمد بن طفيل، وكان متحققا بجميع أجزاء الحكمة، قرأ على جماعة من أهلها، ويحسب ابن خلكان في ج2 ص374 أن أبا بكر بن الصائغ، وهو المعروف بابن باجه السابقة ترجمته في هذا الكتاب، كان من أساتذة ابن طفيل وهذا غير صحيح، بنص صريح من قول ابن طفيل نفسه في كتبه سيأتي ذكره في هذا الفصل وكان ابن طفيل حريصا على الجمع بين علم الشريعة والحكمة وكان مفننا، ولم يزل بجمع إليه العلماء في كل فن من جميع الأقطار، ومن جملتهم أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، كما سيأتي ذكره بالتفصيل في ترجمة ابن رشد.
جعل ابن طفيل فلسفته في شكل جواب على سؤال توجه إليه من أحد إخوانه، وهذا بالطبع تقليد لابن سينا والغزالي قال:
سألت أيها الكريم الأخ الصفي الحميم، منحك الله البقاء الأبدي، وأسعدك السعد السرمدي، أن أبث إليك ما أمكنني بثه من أسرار الحكمة المشرقية، التي ذكرها الشيخ الإمام الرئيس أبو علي ابن سينا. فاعلم أن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بطلبها والجد في اقتنائها. (1) وصف الحال التي شعر بها ابن طفيل
ولقد حرك مني سؤالك خاطرا شريفا، أفضى بي والحمد لله إلى مشاهدة حال لم أشهدها قبل، وانتهى بي إلى مبلغ هو من الغرابة بحيث لا يصفه لسان، ولا يقوم به بيان؛ لأنه من طور غير طورها وعالم غير عالمها. غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور، واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها، أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط، والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم، قال فيها بغير تحصيل، حتى أن بعضهم قال في هذا الحال: س. ب. ح. ا. ن. ي. م. ا. أ. ع. ظ. م. ش. ا. ن. ي! وقال غيره: أ. ن. ا. ا. ل. ح. ق! وقال غيره ليس في الثوب إلا. ا. ل. ل. ه!
وأما الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله فقال متمثلا عند وصوله إلى هذه الحال.
فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر (2) فلسفة ابن باجه في رأي ابن طفيل
وانظر إلى قول أبي بكر بن الصائغ المتصل بكلامه في صفة الاتصال، فإنه يقول: «إذا فهم المعنى المقصود من كتابة ذلك، ظهر عند ذلك أنه لا يمكن أن يكون معلوم من العلوم المتعاطاة في رتبة، وحصل متصوره بفهم ذلك المعنى في رتبة يرى نفسه فيها مباينا لجميع ما تقدم مع اعتقادات أخر ليست هيولانية، وهي أجل من أن تنسب إلى الحياة الطبيعية، بل هي أحوال من أحوال السعداء، منزهة عن تركيب الحياة الطبيعية، بل هي أحوال من أحوال السعداء خليقة أن يقال لها أحوال إلهية يهبها الله سبحانه وتعالى لمن يشاء من عباده.» وهذه الرتبة التي أشار إليها أبو بكر ينتهي إليها بطريق العلم النظري والبحث الفكري، ولا شك أنه بلغها ولم يتخطها ... (3) الذي يعنيه ابن طفيل بإدراك أهل النظر والطعن في ابن باجه
الذي نعنيه بإدراك أهل النظر هو ما يدركونه مما بعد الطبيعة، مثل ما أدركه أبو بكر، ويشترط في إدراكهم هذا أن يكون حقا صحيحا، وحينئذ يقع النظر بينه وبين إدراك أهل الولاية الذين يعتنون بتلك الأشياء بعينها مع زيادة وضوح وعظيم التذاذ. وقد عاب أبو بكر ذكر هذا الالتذاذ على القوم، وذكر أنه للقوة الخيالية، ووعد بأن يصف ما ينبغي أن يكون حال السعداء عند ذلك بقول مفسر مبين. وينبغي أن يقال له: «لا تستحل طعم شيء لم تذق، ولا تتخط رقاب الصديقين!» ولم يفعل الرجل شيئا من ذلك ولا وفى بهذه العدة (الوعد)، وقد يشبه أن منعه عن ذلك ما ذكره من ضيق الوقت واشتغاله بالنزول إلى وهران، أو راعى أنه إن وصف تلك الحال اضطره القول إلى أشياء فيها قدح عليه في سيرته وتكذيب لما أثبته من الحث على الاستكثار من المال والجمع له وصرف وجوه الحيل في اكتسابه (كذا).
ولم يكن في المتأخرين أثقب ذهنا ولا أصح نظرا ولا أصدق رؤية من أبي بكر ابن الصائغ، غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبث خفايا حكمته. وأكثر ما يوجد له من التآليف إنما هي غير كاملة ومجزومة من أواخرها، ككتابه في النفس وتدبير المتوحد وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة. وأما كتبه الكاملة فهي كتب وجيزة ورسائل مختلفة، وقد صرح هو نفسه بذلك وذكر أن المعنى المقصود برهانه في «رسالة الاتصال» ليس يعطيه ذلك القول عطاء بينا إلا بعد عسر واستكراه شديد، وأن ترتيب عبارته في بعض المواضع على غير الطريق الأكمل، ولو اتسع له الوقت مال لتبديلها. فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل ونحن لم نلق شخصه، وأما من كان معاصرا له ممن لم يوصف بأنه في مثل درجته فلم نر له تأليفا. (4) نقد فلسفة الفارابي وغيره من المتقدمين بقلم ابن طفيل
وأما من جاء بعدهم من المعاصرين لنا، فهم بعد في حد التزايد أو الوقوف على غير كمال، أو ممن لم تصل إلينا حقيقة أمره.
وأما ما وصل إلينا من كتب أبي نصر فأكثرها في المنطق، وما ورد منها في الفلسفة فهي كثيرة الشكوك، فقد أثبت في كتاب «الملة الفاضلة» بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها بقاء لا نهاية له، ثم صرح في السياسة المدنية بأنها منحلة وصائرة إلى العدم، وأنه لا بقاء إلا للنفوس الكاملة. ثم وصف في كتاب الأخلاق شيئا من أمر السعادة الإنسانية، وأنها إنما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار. ثم قال عقب ذلك كلاما هذا معناه: «وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز.» فهذا قد أيأس الخلق جميعا من رحمة الله تعالى، وصير الفاضل والشرير في رتبة واحدة؛ إذ جعل مصير الكل إلى العدم، وهذه زلة لا تقال وعثرة ليس بعدها جبر! هذا ما صرح به من سوء معتقده في النبوة، وأنها بزعمه للقوة الخيالية خاصة، وتفضيله الفلسفة عليها إلى أشياء ليس بنا حاجة إلى إيرادها. (راجع ما أوردناه عن هذه المسألة الدقيقة في [فصل الفارابي]). (5) نقد فلسفة ابن سينا
وأما كتب أرسطوطاليس فقد تكفل الشيخ أبو علي! بالتعبير عما فيها، وجرى على مذهبه وسلك طريق فلسفته في كتاب الشفاء، وصرح في أول الكتاب بأن الحق عنده غير ذلك، وأنه إنما ألف ذلك الكتاب على مذهب المشائين، وأن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بكتابه في الفلسفة المشرقية، ومن عني بقراءة كتاب الشفاء وبقراءة كتب أرسطوطاليس ظهر له في أكثر الأمور أنها تتفق، وإن كان في كتاب الشفاء أشياء لم تبلغ إلينا عن أرسطو، وإذا أخذ جميع ما تعطيه كتب أرسطو وكتاب الشفاء على ظاهره دون أن يتفطن لسره وباطنه، لم يصل به إلى الكمال حسبما نبه عليه الشيخ أبو علي في كتاب الشفاء. (6) نقد فلسفة الغزالي
وأما كتب الشيخ أبي حامد الغزالي فهو بحسب مخاطبته للجمهور يربط في موضع ويحل في موضع آخر، ويكفر بأشياء ثم يتحللها، ثم إن من جملة ما كفر به الفلاسفة في كتاب التهافت إنكارهم لحشر الأجساد وإثباتهم الثواب والعقاب للنفوس خاصة، ثم قال في أول كتاب «الميزان» إن هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع. ثم قال في كتاب «المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال» إن اعتقاده هو كاعتقاد الصوفية، وإن أمره إنما وقف على ذلك بعد طول البحث. وفي كتبه من هذا النوع كثير يراه من تصفحها وأمعن النظر فيها، وقد اعتذر عن هذا الفعل في آخر كتاب «ميزان العمل»، حيث وصف أن الآراء ثلاثة أقسام: رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه، ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد، ورأي يكون بين الإنسان ونفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده. ثم قال بعد ذلك: «ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لكفى بذلك نفعا، فإن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة.» ثم تمثل بهذا البيت:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
فهذه صفة تعليمه وأكثره إنما هو رمز وإشارة لا ينتفع به إلا من وقف عليها ببصيرة نفسه أولا ثم سمعها منه ثانيا، أو من كان معدا لفهمها فائق الفطرة يكتفي بأيسر إشارة. وقد ذكر في كتاب «الجواهر» أن له كتبا مضنونا بها على غير أهلها، وأنه ضمنها صريح الحق، ولم يصل إلى الأندلس في علمنا منها شيء، بل وصلت كتب يزعم بعض الناس أنها هي تلك المضنون بها، وليس الأمر كذلك، وتلك الكتب هي «كتاب المعارف العقلية» وكتاب «النفخ والتسوية» و«مسائل مجموعة» وسواها، وهذه الكتب وإن كانت فيها إشارات فإنها لا تتضمن عظيم زيادة في الكشف على ما هو مثبوت في كتبه المشهورة، وقد يوجد في كتاب «المقصد الأسنى» ما هو أغمض مما في تلك، وقد صرح هو بأن كتاب «المقصد الأسنى» ليس مضنونا به، فيلزم من ذلك أن هذه الكتب الواصلة ليست هي الكتب المضنون بها، وقد توهم بعض المتأخرين من كلامه الواقع في آخر كتاب المشكاة أمرا عظيما أوقعه في مهواة لا مخلص له منها، وهو قوله بعد ذكر أصناف المحجوبين بالأنوار ثم انتقاله إلى ذكر الواصلين: «إنهم وقفوا على أن هذا الموجود العظيم متصف بصفة تنافي الوحدانية المحضة.» فأراد أن يلزمه من ذلك أنه يعتقد أن الحق سبحانه في ذاته كثرة ما، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا! ولا شك عندنا في أن الشيخ أبا حامد ممن سعد السعادة القصوى ووصل تلك المواصل الشريفة المقدسة، لكن كتبه المضنون بها المشتملة على علم المكاشفة لم تصل إلينا. (7) تمهيد لفلسفة ابن طفيل التي أفرغها في قالب رسالته «أسرار الحكمة المشرقية»
ولم يتخلص لنا نحن الحق الذي انتهينا إليه، وكان مبلغنا من العلم بتتبع كلام الغزالي وكلام الشيخ أبي علي، وصرف بعضهما إلى بعض، وإضافة ذلك إلى الآراء التي نبغت في زماننا هذا، ولهج بها قوم من منتحلي الفلسفة حتى استقام لنا الحق أولا بطريق البحث والنظر، ثم وجدنا منه الآن هذا الذوق اليسير بالمشاهدة، وحينئذ رأينا أنفسنا أهلا لوضع كلام يؤثر عنا، وتعين علينا أن تكون أيها السائل أول من أتحفناه بما عندنا، وأطلعناه على ما لدينا لصحيح ولائك وزكاء صفائك، غير أنا إن ألقينا إليك بغايات ما انتهينا إليه من ذلك من قبل أن تحكم مباديها معك، لم يفدك ذلك شيئا أكثر من أمر تقليدي مجمل، هذا إن أنت حسنت ظنك بنا بحسب المودة والمؤالفة، لا بمعنى أنا نستحق أن يقبل قولنا، ونحن لا نقنع لك بهذه الرتبة ولا نرضى لك إلا ما هو أعلى منها، إذ هي غير كفيلة بالنجاة فضلا عن الفوز بأعلى الدرجات، وإنما نريد أن نحملك على المسالك التي تقدم عليها سلوكنا، ونسبح بك في البحر الذي قد عبرناه أولا حتى يفضي بك إلى ما أفضى بنا إليه، فتشاهد من ذلك ما شاهدناه، وتتحقق ببصيرة نفسك كل ما تحققناه، وتستغني عن ربط معرفتك بما عرفناه. وهذا يحتاج إلى مقدار معلوم من الزمان غير يسير، وفراغ من الشواغل وإقبال بالهمة كلها على هذا الفن، فإن صدق منك هذا العزم وصحت نيتك للتشمير في هذا المطلب فستحمد عند الصباح مسراك وتنال بركة مسعاك، وتكون قد أرضيت ربك وأرضاك، وأنالك حيث تريده من أملك وتطمح إليه بهمتك وكليتك، وأرجو أن أصل من السلوك بك على أقصد الطريق وآمنها من الغوائل والآفات، وإن عرضت الآن إلى لمحة يسيرة على التشويق والحث على دخول الطريق فأنا واصف لك قصة «حي بن يقظان وأبسال وسلامان»، ففي قصصهم عبرة لأولي الألباب وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. (8) إيضاح لفلسفة ابن طفيل
1
فلسفة ابن طفيل الباقية لنا موجودة في كتابه الوحيد الذي سماه «أسرار الحكمة المشرقية»، وهو بنفسه رسالة «حي بن يقظان»، ويظن الذين اطلعوا عليها أن ابن طفيل استخلصها من فلسفة ابن سينا، وهذا خطأ لأنها فلسفة قائمة بذاتها، وقد فرغنا فيما ترجمنا له من عرض آرائه في فلسفة الأئمة السابقين كالفارابي والغزالي وابن سينا وابن باجه، ورأينا هذا الفيلسوف الأندلسي يختط لنفسه خطة قائمة بذاتها مستقلة عن أفكار الجميع، وقد مهد لها بتمهيد بليغ، أقر فيه بأنه وقف على آراء الجميع واستخلص لنفسه مذهبا، وهو أول فيلسوف إسلامي صب فلسفته في قالب قصصي وجعل بطل قصته شخصا متوحدا، يكون نفسه وأفكاره بالاحتكاك بالطبيعة وبالكائنات التي هي أقل منه درجات من جماد ونبات وحيوان إلى أن يصل إلى نقطة الإدراك والاتصال ، فهذه القصة الخيالية تعد بحق نوعا من الطوبى العقلية التي قلدها ونسج على منوالها كثيرون من كتاب الإفرنج ومفكريهم.
2
وقد ذكر هذا الفيلسوف أنه علم عن السلف الصالح أن جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من غير أم ولا أب، وبها شجر يثمر نساء. ولا يخفى ما في هذا القول من مفارقة بينه وبين تاريخ نشوء الإنسان من آدم وحواء، فإن جميع الأديان اتفقت على أن أصل الإنسان من رجل وامرأة خلقهما الله، ولم يقل أحد من علماء الدين أن الإنسان يخلق من الأرض لاعتدال جوها وخصب تربتها، فهذا القول من ابن طفيل يعد غريبا بوصف كونه حكيما مسلما نشأ في القرن السادس للهجرة، يقول ابن طفيل بعد أن تكلم على تكون الحرارة بسبب الحركة وملاقاة الأجسام الحارة والإضاءة، وأن بقاع الأرض التي على خط الاستواء لا تسامت الشمس رءوس أهلها سوى مرتين في العام: عند حلولها برأس الحمل، وعند حلولها برأس الميزان. وهي في سائر العام ستة أشهر جنوبا وستة أشهر شمالا منهم، فليس عندهم حر مفرط ولا برد مفرط، وأحوالها بسبب ذلك متشابهة. وهذا القول يحتاج إلى بيان أكثر من هذا لا يليق بما نحن بسبيله، وإنما نبهناك عليه لأنه من الأمور التي تشهد بصحة ما ذكر من تجويز تولد الإنسان بتلك البقعة من غير أم ولا أب، فمنهم (أي من علماء السلف الصالح) من بت الحكم وجزم القضية بأن حي بن يقظان من جملة من تكون في تلك البقعة من غير أم ولا أب، ومنهم من أنكر ذلك وروى من أمره خبرا نقصه عليك:
ثم اندفع ابن طفيل يروي قصة خيالية عن زواج سري بين يقظان وأخت ملك تلك الجزيرة، وأن هذا الزواج السري أثمر طفلا وضعته أمه في تابوت وألقته في البحر، كما حدث لموسى عليه السلام.
وأن الذي كفل الطفل، الذي خاله ملك تلك الجزيرة وأبوه يقظان، ظبية حنت عليه ورئمت به وألقمته حلمة ثديها وأروته لبنا سائغا، وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى.
على أن ابن طفيل لم ترضه تلك القصة فعاد إلى رواية التكوين الطبيعي بغير أم ولا أب فقال: وأما الذين زعموا أنه تولد من الأرض فإنهم قالوا إن بطنا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مر السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد والرطب باليابس امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى، وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جدا، وكان بعضها يفضل بعضا في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون الأمشاج. وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج الإنسان، فتمخضت تلك الطينة وحدث فيها شبه نفاخات الغليان لشدة لزوجتها وحدث للوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدا منقسمة بقسمين بينهما: حجاب رقيق ممتلئ بجسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى وتشبث به تشبثا يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل!
3
ويستمر ابن طفيل في سرد قصة هذا الطفل، الذي هو أشبه الناس بروبنصون كروزو إسلامي أندلسي يتميز عن ذاك الملاح المتوحد بأنه نشأ فريدا لم يعرف بشرا، ولم يألف إنسا، ولم يقف على شيء من شئون الحياة المادية والمعنوية. ولم يفت ابن طفيل بعد أن مس مذهب النشوء والارتقاء عن بعد، أن يلم بمبدأ تنازع البقاء بين الإنسان والحيوان فقال:
واتخذ من أغصان الشجر عصيا سوى أطرافها وعدل متنها، وكان يهش بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها ويقاوم القوى منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نبالة، وعلم أن ليده فضلا كثيرا على أيديها إذ أمكن له بها من ستر عورته، واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته ما استغنى به عما أراده من الذنب والسلاح الطبيعي!
4
ولما كان ابن طفيل طبيبا وعالما بالطبيعة والفلك والرياضيات، فقد جعل بطل قصته الفلسفية على صورته وصورة من سبقه من الفلاسفة. «فبعد أن ماتت الظبية التي كانت تغذيه بلبنها، تتبع ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء والأموات، ولم يزل ينعم النظر فيها ويجيد الفكرة حتى بلغ في ذلك كله مبلغ كبار الطبيعيين فتبين له أن كل شخص من أشخاص الحيوان، وإن كان كثيرا بأعضائه وتفنن حواسه وحركاته، فإنه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد».
وكان حي بن يقظان ينازع الحيوان البقاء في سن سبع سنين. فلما بلغ واحدا وعشرين عاما كان قطع مرحلتين في الحياة الأولى: إتقانه التشريح ووقوفه على سر الحياة المادية، والثانية استعماله بعض الجماد والنبات أدوات للمحاربة والتغلب، واتخاذه بعض الحيوان بالحيلة أو بالقوة لإخضاع البعض الآخر مما هو في حاجة إلى استخدامه.
هذا ما أردنا إيراده من تلخيص تلك الفلسفة وسنذكر الآن بعض نصوص من قلم ابن طفيل نفسه في وصف الترقي الروحاني، ووصف الطريق التي سلكها حي بن يقظان إلى أن وصل إلى الغاية التي يرمي إليها ابن طفيل، وقد قسمنا موضوع الاقتباس إلى ستة أقسام:
القسم الأول:
في كيفية علم حي بن يقظان أن كل حادث لا بد له من محدث.
القسم الثاني:
في نظر حي بن يقظان في الشمس والقمر والكواكب وبقية الأجرام السماوية.
القسم الثالث:
في أن كان الذات ولذتها إنما هو بمشاهدة واجب الوجود.
القسم الرابع:
في أنه نوع كسائر أنواع الحيوان وأنه إنما خلق لغاية أخرى.
القسم الخامس:
في أن السعادة والفوز من الشقاء إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود والواجب الوجود.
القسم السادس:
في الفناء والوصول. (8-1) القسم الأول
في كيفية علم حي بن يقظان أن كل حادث لا بد له من محدث:
فعلم بالضرورة أن كل حادث لا بد له من محدث فارتسم في نفسه بهذا الاعتبار فاعل للصورة ارتساما على العموم دون تفصيل، ثم إنه تبع الصور التي كان قد علمها قبل ذلك صورة صورة، فرأى أنها كلها حادثة ، وأنها لا بد لها من فاعل، ثم إنه نظر إلى ذوات الصور فلم ير أنها شيء أكثر من استعداد الجسم لأن يصدر عنه ذلك الفعل، مثل الماء؛ فإنه إذا أفرط عليه التسخين استعد للحركة إلى فوق، وصلح لها فذلك الاستعداد هو صورته، إذ ليس ههنا إلا جسم وأشياء تحس عنه، بعد أن لم تكن مثل الكيفيات والحركات وفاعل يحدثها بعد أن لم تكن، فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض هو استعداده بصورته، ولاح له مثل ذلك في جميع الصورة، فتبين له أن الأفعال الصادرة عنها ليست في الحقيقة لها، وإنما هي لفاعل يفعل بها الأفعال المنسوبة إليها، وهذا المعنى الذي لاح له هو قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به.» وفي محكم التنزيل
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
فلما لاح له من أمر هذا الفاعل ما لاح على الإجمال دون تفصيل، حدث له شوق حثيث إلى معرفته على التفصيل، وهو بعد لم يكن فارق عالم الحس، فجعل يطلب هذا الفاعل المختار من جهة المحسوسات. (8-2) القسم الثاني
في نظر حي بن يقظان في الشمس والقمر والكواكب وبقية الإجرام السماوية:
فنظر أولا إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب فرآها كلها تطلع من جهة المشرق وتغرب من جهة المغرب، فما كان منها يمر على سمت رأسه رآه يقطع دائرة عظمى، وما مال عن سمت رأسه إلى الشمال أو إلى الجنوب رآه يقطع دائرة أصغر من تلك، وما كان أبعد عن سمت الرأس إلى أحد الجانبين كانت دائرته أصغر من دائرة ما هو أقرب، حتى كانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب دائرتين اثنتين، إحداهما حول القطب الجنوبي، وهي مدار سهيل، والأخرى حول القطب الشمالي وهي مدار الفرقدين، ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه أولا، كانت هذه الدوائر كلها قائمة على سطح أفقه ومتشابهة الأحوال في الجنوب والشمال، وكان القطبان معا ظاهرين له، وكان يترقب إذا طلع كوكب من الكواكب على دائرة كبيرة، وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة، وكان طلوعهما معا فكان يرى غروبهما معا، وأطرد له ذلك في جميع الكواكب وفي جميع الأوقات فتبين له بذلك أن الفلك على شكل الكرة، وقوى ذلك في اعتقاده ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواكب إلى المشرق بعد مغيبها بالمغرب، وما رآه أيضا من أنها تظهر لبصره على قدر واحد من العظم في حال طلوعها وتوسطها وغروبها، وأنها لو كانت حركتها على غير شكل الكرة لكانت لا محالة في بعض الأوقات أقرب إلى بصره منها في وقت آخر. (8-3) القسم الثالث
في أن كمال الذات ولذتها إنما هو بمشاهدة واجب الوجود:
فلما تبين له أن كمال ذاته ولذتها إنما هو بمشاهدة ذلك الموجود الواجب الوجود على الدوام مشاهدة بالفعل أبدا، حتى لا يعرض عنه طرفة عين، لكي توافيه منيته وهو في حال المشاهدة بالفعل، فتتصل لذته دون أن يتخللها ألم، وإليه أشار الجنيد شيخ الصوفية وإمامهم عند موته بقوه لأصحابه: «هذا وقت يؤخذ منه الله أكبر وأحرم الصلاة.» ثم جعل يتفكر كيف يتأتى له دوام هذه المشاهدة بالفعل حتى لا يقع منه أعراض، فكان يلازم الفكرة في ذلك الموجود كل ساعة كما هو، إلا أن يسنح لبصره محسوس ما من المحسوسات، أو يخرق سمعه صوت بعض الحيوان، أو يعترضه خيال من الخيالات، أو يناله ألم في بعض أعضائه، أو يصيبه الجوع أو العطش، أو البرد أو الحر، أو يحتاج إلى القيام لدفع فضوله، فتختل فكرته ويزول عما كان فيه، ويتعذر عليه الرجوع إلى ما كان عليه من حال المشاهدة إلا بعد جهد، وكان يخاف أن تفجأه منيته وهو في حال الإعراض فيفضي إلى الشقاء الدائم وألم الحجاب، فساءه حاله ذلك وأعياه الدواء. (8-4) القسم الرابع
في أنه نوع كسائر أنواع الحيوان وأنه إنما خلق لغاية أخرى:
قطع بذلك على أنه هو الحيوان المعتدل الروح الشبيه بالأجسام السماوية كلها، وتبين له أنه نوع كسائر أنواع الحيوان، وأنه إنما خلق لغاية أخرى وأعد لأمر عظيم لم يعد له شيء من أنواع الحيوان، وكفى به شرفا أن يكون أخس جزأيه، وهو الجسماني، أشبه الأشياء بالجواهر السماوية الخارجة عن عالم الكون والفساد المنزهة عن حوادث النقص والاستحالة والتغير، وأما أشرف جزأيه فهو الشيء الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، وهذا الشيء العارف أمر رباني إلهي لا يستحيل ولا يلحقه الفساد، ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يدرك بشيء من الحواس ولا يتخيل ولا يتوصل إلى معرفته بالة سواه، بل وصل إليه به فهو العارف والمعروف والمعرفة، وهو العالم والمعلم والمعلوم لا تباين في شيء من ذلك، إذ التباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها، ولا جسم هناك ولا صفة جسم ولا لاحق بجسم. (8-5) القسم الخامس
في أن السعادة والفوز من الشقاء إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود:
وقد وقف على أن سعادته وفوزه من الشقاء إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، حتى يكون بحيث لا يعرض عنه طرفة، عين ثم إنه نظر في الوجه الذي يتأتي له به هذا الدوام، فأخرج له النظر أنه يجب عليه الاعتماد في هذه الأقسام الثلاثة من التشبيهات: أما التشبه الأول فلا يحصل له به شيء من هذه المشاهدة، بل هو صارف عنها وعائق دونها، إذ هو تصرف في الأمور المحسوسة والأمور المحسوسة كلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة، وإنما احتيج إلى هذا التشبه لاستدامة هذا الروح الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني بالأجسام السماوية، فالضرورة تدعو إليه من هذا الطريق، ولو كان لا يخلو من تلك المضرة. وأما التشبه الثاني فيحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام، فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليها حسبما يتبين بعد هذا. وأما التشبه الثالث فتحصل به المشاهدة الصرفة والاستغراق المحض الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه إلا إلى الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت، وكذلك سائر الذوات كثيرة كانت أو قليلة ، إلا ذات الواحد الحق الواجب الوجود جل وتعالى وعز! (8-6) القسم السادس
في الفناء والوصول:
فأصغ الآن بسمع قلبك، وأحدق ببصر عقلك إلى ما أشير إليه، لعلك تجد منه هديا يلقيك على جادة الطريق! وشرطي عليك أن لا تطلب مني في هذا الوقت مزيد بيان بالمشافهة على ما أودعه هذا الأوراق، فإن المجال ضيق والتحكم بالألفاظ على أمر ليس من شأنه أن يلفظ به خطر. فأقول إنه لما فني عن ذاته وعن جميع الذوات، ولم ير في الوجود إلا الواحد الحي القيوم، وشاهد ما شاهد ثم عاد إلى ملاحظة الأغيار عندما أفاق من حاله تلك، التي هي شبيهة بالسكر، خطر بباله أنه لا ذات له يغاير بها ذات الحق تعالى وإن حقيقة ذاته هي ذات الحق، وإن الشيء الذي كان يظن أولا أنه ذاته المغايرة لذات الحق ليس شيئا في الحقيقة، بل ليس ثم شيء إلا ذات الحق، وإن ذلك بمنزلة نور الشمس الذي يقع على الأجسام الكثيفة فتراه يظهر فيها، فإنه وإن نسب إلى الجسم الذي ظهر فيه فليس هو في الحقيقة شيئا سوى نور الشمس، وإن زال ذلك الجسم زال نوره وبقي نور الشمس بحاله لم ينقص عند حضور ذلك الجسم ولم يزد عند مغيبه، ومتى حدث جسم يصلح لقبول ذلك النور قبله فإذا عدم الجسم عدم ذلك القبول ولم يكن له معنى.
وتقوى عنده هذا الظن بما كان بأن له من أن ذات الحق عز وجل لا تتكثر بوجه من الوجوه، وأن علمه بذاته هو ذاته بعينها، فلزم عنده من هذا أن من حصل عنده العلم بذاته فقد حصل عنده ذاته، فقد كان حصل عنده العلم فحصل عنده الذات، وهذه الذات لا تحصل إلا عند ذاتها ونفس حصولها هو الذات، فإذن هو الذات بعينها، وكذلك جميع الذوات المفارقة للمادة العارفة بتلك الذات الحقة التي كان يراها أولا كثيرة، وصارت عنده بهذا الظن شيئا واحدا، وكادت هذه الشبهة ترسخ في نفسه لولا أن تداركه الله برحمته وتلافاه بهدايته، فعلم أن هذه الشبهة إنما ثارت عنده من بقايا ظلمة الأجسام وكدورة المحسوسات، فإن الكثير والقليل والواحد والوحدة والجمع والاجتماع والافتراق؛ هي كلها من صفات الأجسام.
الفصل السابع
ابن رشد
(1) كلمة افتتاح
يعجب بعض الناس للمشتغلين بدرس آراء الأقدمين . وبحث مناهج المتقدمين، والوقوف على أخبارهم، والأخذ بالصحيح من تراجمهم، وسبب هذا العجب ظنهم أن كل قديم قد عفت آثاره، وانقطعت علاقته بهذا الزمن وأهله، فلا فائدة في تضييع العمر في التحري عن العتيق ما دامت الحاجة بالجديد ماسة والنفع به مؤكدا، وجوابنا على هذا هو: أن البحث في القديم ضروري لمعرفة الجديد وتفهمه. وأن حياة الفكر الإنساني منذ فجر الإدراك إلى آخر الدهر (إن كان لهذا الدهر آخر) سلسلة واحدة متصل أولها بوسطها ووسطها بآخرها. وقد يكون آخرها كأولها!
لأجل هذا اتجه نظرنا إلى درس فلاسفة العرب؛ لأنهم عنوا أشد عناية بفلسفة اليونان، وتفرغوا لها، ونقلوها إلى لغتهم، وشرحوها وفسروها، وعلقوا عليها ووضحوا غامضها وأبانوا مبهمها.
وقد وصلنا لدرس حياة ابن رشد وفلسفته وهو من أكبر وجوه التاريخ. وله ثلاث ميزات ليست لغيره من فلاسفة الإسلام: الأولى أن أكبر فلاسفة العرب وأشهر فلاسفة الإسلام. والثانية أنه من أعظم حكماء القرون الوسطى عامة، وهو مؤسس مذهب الفكر الحر، فكان له قدر عظيم في نظر أهل أوروبا، فجعلوه في مصاف فلاسفتهم المعادين للعقائد الدينية، ولم يبخل عليه ميخائيل أنجلو بمكان في جحيمه الخيالي الذي صوره في سقف معبد سيكتين بالفاتيكان، لا باعتباره مسلما بل بوصف كونه فيلسوفا معطلا، كذلك ذكره دانتي في قصيدته في النشد الثالث، كما أنه لا يخلو كتاب فلسفي من ذكره وشرح مبدئه.
الميزة الثالثة أنه أندلسي. وللأندلس بذاتها وآفاقها وتاريخها وآثارها مكانة خاصة في تاريخ العالم، دع عنك ما تستنتجه من قوة تأثير الوسط في عقل شرقي النزعة والعقيدة غربي النشوء والمنبت.
كان الفلاسفة في الأزمنة السالفة لا يستطيعون الحياة والظهور إلا إذا عاشوا في ظلال الأمراء والملوك؛ لأن الفلسفة لا تطعم خادمها ولا تكسوه ولا تجري عليه رزقا ، وإن كان هو ينفق في خدمتها عمره وماله ويفقد في سبيلها حياته وولده وحريته، فلم يكن لمحب الحكمة بد من أن يلتمس العيش في أكناف أحد الملوك يؤلف الكتب ويهديها إليه ويحليها باسمه.
ثم إن الفلاسفة كانوا ولا يزالون موضع ارتياب العامة، وحسد الخاصة، فالعامة ينظرون إليهم بعين الشدة ويسيئون بهم الظنون، ويتقولون عليهم، وينسبون إليهم أمورا إن صدق بعضها فمعظمها مختلق أو مبالغ فيه، أما الخاصة ممن لم يبلغوا شأوهم، فإما يغارون منهم وإما يحسدونهم على نعمة الحكمة التي هي نقمة على الفلاسفة أنفسهم، لأجل هذا كانت حاجة الفيلسوف إلى أمير يلجأ إليه كحاجة الغرباء في بلاد الشرق إلى الاحتماء بسفراء الدول الأجنبية.
ولا عجب فإن الفيلسوف غريب في وطنه أجنبي بين قربائه وأهله، على أن الالتجاء إلى الأمراء والاحتماء بهم لم يكن منقذا في كال حال، فقديما كانت علاقة الفلاسفة بالأمراء سبب نكبتهم ومصدر بلواهم وشقوتهم، وما هذا إلا لتقلب الأمراء في الود وسهولة انقيادهم للقوي من الزعماء أو اضطرارهم لمجاراة تيار الفكر الشائع، وطاعتهم صوت الخلق وقول الجماعة، حتى ولو كان هذا وذاك على خلاف ما يرغبون وعكس ما يضمرون، وهذا الذي وقع لابن رشد في محنته الأليمة.
أما أحوال هذا الزمن فقد تغيرت وتبدلت وأصبح الفيلسوف في الغرب قادرا على العيش في كنف الحكمة دون الالتجاء إلى نفوذ الملوك وظلال الأمراء، بل أصبح الفيلسوف بقوة عبقريته أميرا على العقول، يخضع له الناس في مشارق الأرض ومغاربها بفضل ما وصلت إليه الإنسانية من الحرية المحدودة، وأصبح صوت الفيلسوف إذا أرسله يهز عروض القياصرة ويزعزع من قوائمها، وليس العهد بعيدا بآثار ليو تولستوي في نهضة شعب روسيا، فطالما كتب أسطرا في صحيفة سيارة هلعت لها قلوب الذين استعبدوا الأمم واستباحوا ظلمها، واستندوا في استبقاء سلطتهم إلى الجهال والمشعوذين وأرباب المطامع النازلة والمقاصد الوضيعة، وهاهم قد دالت دولتهم ومحي من الوجود ذكرهم ودولة العقل والفكر باقية.
كذلك من يذكر اسم أوجست كومت وهربرت سبنسر وشوبنهور، يذكر أعلاما مضيئة استنارت بها الإنسانية، والتفت حولها الأمم مستنجدة بها في دياجي الحيرة.
حقا إن اضطهاد الفيلسوف وتعذيبه في سبيل فكره والتنكيل به لشذوذه واعتزاله، تلك أمور لا تزال مشاهدة في بعض الأوساط والأماكن لعهدنا هذا.
ولكن أين الشرارة الصغيرة من النار العظيمة المتأججة وأين اللوم والتقريع في جريدة أو مجلة من الحكم بالإعدام شنقا أو إحراقا فضلا عن النفي والتعذيب، كذلك لا ننسى أن الإنسانية لا تزال في أدوارها الأولى على الرغم من التبجح ببلوغها سن الرشد. (2) تاريخ ابن رشد وفلسفته
اسمه وكنيته:
محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ويكنى أبا الوليد، وهي كنية انتحلها أجداده من قبله فلزمته.
مولده:
ولد عام 520ه/1126م. وقيل ولد قبل وفاة جده بأشهر.
وفاته:
عام 595ه في مساء الخميس 9 صفر الموافق 10 دجنبر 1198.
حياته:
عمر اثنتين وسبعين سنة شمسية أو خمسا وسبعين سنة هلالية تمتد طوال القرن الثاني عشر المسيحي، والقرن السادس الإسلامي.
مكان ولادته:
قرطبة بالأندلس.
مكانه وفاته:
مراكش.
أسرته:
نشأ في بيت فقهاء وقضاة، وكانت أسرته من أكبر الأسر وأشهرها في الأندلس، وأباؤه من أئمة المذهب المالكي، وكان هو وأبوه وجده قضاة قرطبة، وانفرد حينا بقضاء أشبيلية.
كان جده محمد بن رشد من أهل العلم والفقه، وكانت له مباحث فلسفية وشرعية وله مجموعة فتاوى رتبها ونقحها أحد مريديه وأتباعه، ابن الوران، إمام مسجد قرطبة لعهده (وهي بمكتبة باريس الوطنية تحت عدد 398 ملحقات عربية).
ولا ريب في أن أبا الوليد ورث كثيرا من مواهب جده واستعداده الفكري.
أما والده فلا يمتاز إلا بمنصب القضاء، وليس له بين أيدينا أثر معروف، ولكن رجلا كأحمد بن محمد بن رشد يكفيه فخرا أن كان ابنا لأبيه ووالدا لولده، فله نصيب عظيم في تربية ابنه وتهذيبه وتوجيه مواهبه.
هذا فيما يتعلق بالنسب من جهة الوالد، أما من جهة الأم فليس لدينا معلومات يركن إليها، وهذه حال معظم مشاهير الإسلام؛ لأن النساء بحكم الآداب الدينية والعرفية لا يذكرن ولا يكون لأشخاصهن شأن يعرف في تربية أولادهن، ولعل هذا الحال هي التي حدت ابن رشد إلى مناصرة النساء والمطالبة بتحريرهن، وقد رأى بعينه الفرق بين حياة الإسبانية المسيحية والأندلسية المسلمة. (3) علاقته باليهود
ذكر المؤرخون عند الكلام على نكبته أنه عوقب بالنفي في «اليسانة»، وهي بلد صغير كان آهلا باليهود. وأنه نفي إليه وحده، أما بقية أصحابه وتلاميذه فأمروا أن يكونوا في موضع آخر، وربما كان نفيه إليه نوعا من النكاية وزيادة في التنكيل؛ لأن الخليفة المنصور الذي نفاه كان يبغض اليهود ويضطهدهم، ولكن بعض أعداء ابن رشد انتهزوا فرصة غضب الأمير عليه ونفيه إلى ذلك البلد، وأشاعوا أن المنصور قد رد الفيلسوف إلى أصله ونفاه في بلد قومه لأنه ينسب في بني إسرائيل ولا تعرف له نسبة في قبائل الأندلس!
ويجدر بالذكر أن ابن رشد كان ذا شأن عظيم في نظر اليهود، وأن كثيرين من فلاسفتهم أمثال ميمونيد وغيره نقلوا مؤلفاته إلى اللغة العبرية، ومنها نقلت إلى اللاتينية والعربية، والفضل يرجع إليهم في الاحتفاظ بتلك المؤلفات إلى أن بلغت أبناء الأجيال الحديثة. فهل جاءت تلك الحوادث عفوا ومصادفة أم كان لها سبب خفي قوي وهو صحة انتساب ابن رشد إلى بني إسرائيل وتسلسل جده من أهل تلك الملة؟ أما نحن فنحسبها مصادفة. (4) نشأته وتربيته
درس ابن الرشد الشريعة الإسلامية على طريقة الأشعرية، وتخرج في الفقه على مذهب الإمام مالك، ولهذا يوجد شبه بين آرائه الشرعية والفقهية وبين ميوله الفلسفية، أما الطريقة الأشعرية فقد اختارها أهله وأولياؤه، والمذهب الشرعي يلزم باتباعه على ما كان أبوه، أما المبدأ الفلسفي الذي خدمه فهو الذي اختطه لنفسه بإرادة حرة، وقد يكون للطريقة التي درس بها الفقه والمذهب الذي تبعه أثر في أفكاره الفلسفية لا يمكن تحديده.
وسيرى القارئ فيما يلي أنه تصدي في كثير من كتبه للطعن على الأشعرية وانتقاد طرقهم ومبادئهم انتقادا مرا، وذلك بعد أن اتسع نطاق فكره وامتدت أشعة بصيرته إلى أبعد مدى، فانتصر المنطق الصحيح والرأي الراجح على الفروض الوهمية والتخمين الخيالي. (5) تاريخ حياته
لما بلغ ابن رشد الثامنة والعشرين من عمره سافر إلى مراكش، وقصد إلى بلاط الخليفة عبد المؤمن ثاني أمراء الموحدين، ولما توفي عبد المؤمن وخلفه ولده يوسف تفضل ابن طفيل الفيلسوف الشهير فقدم ابن رشد لعظمته، وكان يوسف يحب العلم والعلماء ويعظم الحكمة ويكرم الحكماء، وكانت لابن طفيل عنده حظوة كبرى، وروى عبد الواحد المراكشي عن ابن رشد نفسه وصف المقابلة الأولى بين الحكيم والأمير، وفيها أن ابن طفيل أسر إلى ابن رشد رغبة الخليفة يوسف في نقل حكمة أرسطو. ولعله كان يرمي بذلك لأن يكون في الغرب كما كان المأمون في الشرق.
ويظهر أن ابن طفيل كان من أكرم الناس خلقا وأوسعهم صدرا وأخلصهم حبا للحكمة، فإنه شمل ابن رشد بعطفه، فذكره في رسالة «حي بن يقظان» تلميحا عند ذكر ابن باجه وأتباعه ومن خلفهم من الفلاسفة، فضلا عن أنه قدمه ليوسف وأوصاه به، فلما توفي ابن طفيل عينه الأمير طبيبا لنفسه. ولما خلا منصب القضاء في قرطبة عينه مكان أبيه، ولما توفي يوسف وخلفه ولده يعقوب المنصور بالله كانت حظوة ابن رشد عنده عظيمة، فقربه ورفع الكلفة بينهما إلى درجة أن ابن رشد كان يخاطبه أثناء الحديث قائلا: اسمع يا أخي!
ولما كانت صداقة الملوك أسرع تقلبا من الجو، وأقصر عمرا من لذيذ الرؤى، وأقرب إلى الفناء من أزهار الربيع؛ فقد انقلب يعقوب على ابن رشد في حديثه طويل. أما سبب النكبة فمختلف فيه، وقد عللها المؤرخون بعلل شتى، ولكن السبب الحقيقي واحد، وهو أن كل حكيم ذي مكانة يكثر أعداؤه وحساده الذين يغارون من شهرته وينقمون عليه علو كعبه وترفعه، وهؤلاء الحساد والمقاومون يظهرون تارة باسم الدين، وطورا باسم الأخلاق والفضيلة، وتارة باسم السياسة. والحقيقة أنهم أعداء شخصيون للرجل العظيم.
وكل ما حدث في نكبة ابن رشد أن أعداءه لبسوا ثياب الدين، ودسوا عليه دسيسة في بلاط الخليفة ونجحوا فيها، فتمكنوا بها من التغلب على حزب الفلاسفة الذي كان سائدا مسموع الكلمة لدى الخليفة بفضل ابن رشد، ومما يؤيد هذا الرأي أن ابن رشد لم يكن وحيدا في الإهانة والأذى والنفي والاعتقال، بل كان معه كثير من أتباعه وأمثاله العلماء، وكان ذنبهم في نظر الخليفة وحزبه انقطاعهم للفلسفة ودرس كتب الأقدمين.
والمحنة في ذاتها تقع في كل زمان ومكان، وتاريخ العالم حافل بفظائع الاضطهاد والتنكيل، وتاريخ أوروبا مملوء بوقائع التعصب والاضطهاد، وإلحاق الأذى بالعلماء والمصلحين الدينيين والمخترعين والمكتشفين.
على أن الخليفة بعد أن أطاع مشير السوء عاد فندم على ما فرط منه في حق الحكمة والحكماء، فرجع إلى مراكش ونسخ المنشور الذي أذاعه في حق ابن رشد وصحبه، ومحا أثره واشتغل بالفلسفة واسترضى ابن رشد ورفاقه، ودعاهم إلى حضرته وقربهم من حظيرته، وقدمهم واستمع لهم وأطاع رأيهم، ونبذ حزب التعصب والجهل الذي كان سببا في نكبتهم.
غير أن حياة ابن رشد لم تطل بعد محنته عاما، فلما توفي نقل رفاته إلى قرطبة ودفن في مدفن أجداده بمقبرة ابن عباس. ويروى أن جثته نقلت على بعير، وأصدق الأخبار عن وفاته أنه توفي بمراكش يوم الخميس التاسع من صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة، قبل وفاة المنصور الذي نكبه بشهر أو نحوه ودفن بخارجها، ثم سيق إلى قرطبة فدفن بها مع سلفه. وذكر ابن فرقد أنه توفي بعد النكبة الحادثة عليه المشتهرة الذكر ودفن بجبانة باب تاغزوت خارج مراكش ثلاثة أشهر، وذلك في أول دولة الناصر. (6) أساتذته
روى عن أبيه أبي القاسم واستظهر عليه الموطأ حفظا، وأخذ يسيرا عن أبي القاسم ابن بشكوال وعن أبي مروان بن مسرة، وعن أبي بكر بن سمحون وعن أبي جعفر ابن عبد العزيز، وأجاز له أبو جعفر هذا وأبو عبد الله المازري الطب عن أبي مروان ابن جربول البلنسي، واشتغل على الفقيه الحافظ أبي محمد بن رزق، واشتغل بالتعاليم وبالطب على أبي جعفر هرون، ولازمه مدة وأخذ عنه كثيرا من العلوم الحكمية. (7) الرجال الذين تعلم عليهم والعلوم التي درسها
الفقه: تلقاه على أئمة عهده. الطب: على أبي جعفر هرون. الفلسفة: قيل إنه تلقى علوم الحكمة على ابن باجه، ولكن هذا قول ضعيف؛ لأن وفاة ابن باجه توافق بلوغ ابن رشد الثانية عشرة من عمره، فقد ولد ابن رشد في سنة 1126 وتوفي ابن باجه في سنة 1138، وهذه سن لا تسمح بتلقي علوم الفلسفة، قد يكون ابن رشد من النوابغ الذين تظهر نجابتهم في العقد الأول من أعمارهم، وقد يكون حظي بالتلقي عن ابن باجه، ولكن هذا في مجال الافتراض والظنون، والمؤكد أن ابن باجه كان يختلف حتما إلى بيت ابن رشد زائرا، فلا يبعد أن يكون قد حادث الصبي وناقشه أو استمع له نبذة محفوظة أو قصيدة مروية، فصارت هذه الحادثة وما يكون تكرر من نوعها سببا لانتساب ابن رشد إليه.
ولعل الذي دعا بعض المؤرخين كابن أبي أصيبعة إلى هذا القول تسلسل مذهب ابن رشد من مذهب ابن باجه، على أن هذا التسلسل طبيعي لأسباب كثيرة، أهمها اتجاه الفكر في الأندلس وفي العالم في القرن الثاني عشر وتأثير الوسط والمبادئ، وكانت تربطه بابن طفيل أواصر المودة، وهو الذي فتح له سبل التقدم في بلاط الخليفة، وكانت بينه وبين آل زهر الذين اشتهروا بالعلم والفضل والأدب في الأندلس في القرن السادس للهجرة؛ مودة عظيمة، ومنهم أبو بكر بن زهر طبيب الخليفة وأبو مروان بن زهر مؤلف كتاب «التيسير»، وكانا من أوفى أصدقائه، ومنهم أبو بكر ابن العربي الفقيه صاحب التصانيف. وبالجملة كان ابن رشد مختلطا بأشهر وأعلم وأفضل أهل عصره.
ومن غرائب المصادفات أن ابن بيطار وعبد الملك بن زهر ماتا وابن رشد في سنة واحدة، وكان قد سبقهم إلى دار الفناء ابن طفيل وأبو مروان بن زهر، وقد توفيت الحكمة في أرض أندلس بوفاة هؤلاء العظماء الذين كانوا كالنقش الجميل، إطاره تلك البقعة المباركة، أشرقت شموسهم في بداية القرن السادس الهجري وغابت بنهايته وهكذا عمر الحكمة كعمر زهر البنفسج يتنفس من الربيع ثم لا يلبث أن يذبل، ولكنه محبوب لعطره ومعزز لأنه رمز الأمل الذي لا يموت! فمن آثار هؤلاء الحكماء نستفيد، ومن بحر فضلهم نغترف، ومن إرثهم المقدس الذي تركوه لنا نبني حكمة جديدة، أساسها الحب العام وغايتها التسامح الشامل. (8) أصدقاؤه
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفقيه وقاضي بجاية، وأبو جعفر الذهبي والفقيه أبو الرابع الكفيف وأبو العباس الحافظ الشاعر القراي.
وقد نكبوا معه لشدة اتصالهم به، وامتزاج فكره بأفكارهم. ومن أصدقائه أبو محمد عبد الكبير، وكان مقربا لدى ابن رشد فاستكتبه واستقضاه أيام قضائه بقرطبة، وأبو جعفر ابن هارون الترجالي، وهو شيخ أبي الوليد ابن رشد في التعاليم والطب، وأصله من ترجالة من ثغور الأندلس. (9) تلاميذه
أبو عبد الله الندرومي، ولد ونشأ بقرطبة ثم انتقل إلى أشبيلية، وكان قد لحق القاضي أبا الوليد ابن رشد واشتغل عليه بصناعة الطب.
وأبو جعفر أحمد بن سابق أصله من قرطبة، وكان من طلبة القاضي أبي الوليد ابن رشد، ومن جملة المشتغلين عليه بصناعة الطب. وأبو القاسم الطيلسان وقد روى عن ابن رشد أنه كان يعرف شعر حبيب والمتنبي، ومنهم أبو محمد بن حوط الله وأبو الحسن سهل ابن مالك وأبو الربيع ابن سالم وأبو بكر بن جهور وغيرهم. (10) نسله
وقد خلف ابن رشد ولدا هو أبو محمد بن عبد الله ابن أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، وكان فاضلا في صناعة الطب عالما بها مشكورا في أفعالها، وكان يقصد الخليفة الناصر ويعالجه. وخلف ابن رشد غير هذا أولادا اشتغلوا بالفقه واستخدموا في قضاء الكور. (11) المنطق والقرآن
كان متهوسا بمنطق أرسطو، وقال عنه إنه مصدر السعادة للناس، وإن سعادة الإنسان تقاس بعلمه بالمنطق، وهو يرى عدم نفع «إيساغوجي» لفورفوريوس، وكان يهتم بالنحو بصفة كونه قانونا لجميع اللغات، وأرسطو أوجد قانونا لها في كتابي هرمنطيقي والبلاغة.
والمنطق أداة تسهل الطريق الشاقة في الوصول إلى الحقيقة التي لا يصل إليها العامة، بل بعض الخاصة بفضل المنطق. وقد اتفق أنه وصل إلى الحقيقة واكتشف الحق المطلق وذلك بدرس أرسطو، ويعتقد أن للدين حقيقة قائمة به ولكنه يبغض علم الكلام؛ لأنه يسعى لإثبات ما لا يمكن إثباته بالعقل؛ لأن الغرض الذي من أجله نزل القرآن ليس تعليم الناس ولكن تحسين أحوالهم، فليس المطلوب العلم إنما المطلوب الطاعة والاستقامة واتباع الطريق السوي، وهذه هي غاية الشارع الذي يعلم أن سعادة الإنسان لا تتم إلا بالمعيشة الاجتماعية. (12) سيرته في القضاء
ولي قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث، فحمدت سيرته وتأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة لم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة ومنافع أهل الأندلس عامة.
وكان قد قضى في أشبيلية قبل قرطبة وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا.
وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا، وعني بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حكي عنه أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله! وروي أنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحوا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الأوائل فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره، وكان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب، وكان يحفظ شعر حبيب وشعر المتنبي، ويكثر التمثيل بهما في محله ويورد ذلك أحسن إيراد. وكان مشهورا بالفضل معتنيا بتحصيل العلوم، وكان أوحد دهره في علم الفقه والخلاف، وكان متميزا في عالم الطب وجيد التصنيف، حسن المعاني.
حدث القاضي أبو مروان الباجي قال: «كان القاضي أبو الوليد ابن رشد حسن الرأي ذكيا رث البزة قوي النفس، وأقبل على علم الكلام والفلسفة وعلوم الأوائل حتى صار يضرب به المثل فيها.» ومن كلامه المأثور: «إن من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانا بالله تعالى.» (13) عن الأمير الذي نكب ابن رشد في عهده
ويظهر أن يعقوب انتخب لإمارة المؤمنين انتخابا، فقد روى ابن الأثير وابن خلكان أن يوسف مات من غير وصية بالملك لأحد من أولاده، فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده يعقوب، فملكوه في الوقت الذي مات فيه أبوه. فهذا التقديم في ذاته دليل على اعتراف شيوخ الأمة بفضله، وقام بالأمر أحسن قيام. وهو الذي أظهر أبهة ملكهم، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع، ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات. (14) استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية
ومن نوادر عدله أن الأمير الشيخ أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص عمر ولد الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد صاحب إفريقية؛ كان قد تزوج أخت الأمير يعقوب وأقامت عنده، ثم جرت بينهما منافرة فجاءت إلى بيت أخيها يعقوب، فسير زوجها في طلبها فامتنعت عليه، فشكا إلى قاضي الجماعة بمراكش وهو أبو عبد الله محمد بن علي بن مروان، فاجتمع القاضي المذكور بالأمير وقال له إن الشيخ أبا محمد عبد الواحد يطلب أهله. فسكت يعقوب وتكرر اللقاء والطلب والسكوت ثلاث مرات، وفي الثالثة قال القاضي للأمير: «فإما أن تسير إليه أهله وإلا فاعزلني عن القضاء.» فسكت يعقوب ثم استدعى خادما وقال له في السر: «تحمل أهل الشيخ عبد الواحد إليه.» فحملت في ذلك النهار، ولم يتغير على القاضي ولا قال له شيئا يكرهه. وهذه حسنة تعد له وللقاضي.
وقتل في بعض الأحيان على شرب الخمر وقتل العمال الذين تشكو الرعايا منهم.
أرسل إليه صلاح الدين رسولا من بني منقذ، وهو شمس الدولة عبد الرحمن بن مرشد، في سنة 587 ليستنجده على الفرنج الواصلين من بلاد المغرب إلى الديار المصرية وساحل الشام، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين بل خاطبه بأمير المسلمين، فعز ذلك عليه ولم يجبه إلى ما طلبه منه. (15) علاقة ابن رشد بالخليفة يوسف بن عبد المؤمن وهو والد الخليفة يعقوب المنصور وكيف اتصل ابن رشد بالخلفاء بفضل ابن طفيل وفيه دليل على حب الخليفة يوسف العلم والعلماء
لما تولى أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي طمح به علو همته إلى تعلم الفلسفة، فجمع كثيرا من كتبها وبدأ بالطب، فاستظهر بعض كتبه مما يتعلق بالعلم دون العمل، ثم تخطى إلى الفلسفة وأمر بجمع كتبها فاجتمع له كثير منها، ولم يزل يبحث عن العلماء ويقربهم، وكان بلغ به حبه العلم والكتب حتى استباح مصادرتها في بيوت أربابها وحملها إليه اغتصابا مع مكافأة أهلها بعد ذلك، كما حدث ليوسف أبي الحجاج المراني، فإنه بعد أن صادر كتبه ولاه ولاية حسنة، وكان ممن صحب هذا الخليفة من العلماء أبو بكر محمد بن طفيل أحد فلاسفة المسلمين بالأندلس، وكان يجلب إلى الخليفة العلماء من جميع الأقطار ويحضه على إكرامهم، وهو الذي نبهه على أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، فمن حينئذ عرفوه ونبه قدره عندهم. (راجع الفصل السادس من هذا الكتاب). (16) أول مجلس بين الخليفة يوسف وابن رشد وكيف استدرجه للتكلم في الفلسفة
روى محيي الدين في كتابه «المعجب» عن الفقيه الأستاذ أبي بكر بندود بن يحيى القرطبي تلميذ ابن رشد قال: «سمعت الحكيم أبا الوليد يقول أكثر من مرة لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبا بكر بن طفيل، فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي، أن قال لي: «ما رأيهم في السماء؟ (يعني الفلاسفة) أقديمة هي أم حادثة؟» فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بالفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها ويذكر ما قاله أرسطو وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين في هذا الشأن المتفرعين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.» (17) اقتراح الخليفة يوسف على ابن رشد ترجمة أرسطو وتوسيط ابن طفيل في ذلك
ثم استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما، فقال لي: سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكي من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه. ويذكر غموض أغراضه ويقول: «لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس»، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة، وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبر سني واشتغالي بالخدمة وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه.
قال أبو الوليد: «فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.» قال محيي الدين من عنده: «وقد رأيت أنا لأبي الوليد هذا تلخيص كتب الحكيم في جزء واحد في نحو مائة وخمسين ورقة ترجمه بكتاب الجوامع، لخص فيه كتاب الحكيم المعروف بسمع الكيان وكتاب السماء والعالم ورسالة الكون والفساد وكتاب الآثار العلوية وكتاب الحس والمحسوس. ثم لخصها بعد ذلك وشرح أغراضها في كتاب مبسوط في أربعة أجزاء، وبالجملة لم يكن في بني عبد المؤمن فيمن تقدم منهم وتأخر ملك بالحقيقة غير أبي يعقوب هذا!»
هذا مجمل أخبار اتصال ابن رشد بالخليفة يوسف بن عبد المؤمن، والد الخليفة يعقوب المنصور الذي نكب الفيلسوف، قد أوردناه لكمال البحث والاستقصاء. (18) الأمير يعقوب المنصور وابن رشد
وقد اتجه نظرنا منذ قرأنا كتب ابن رشد وعزمنا على ترجمته وتلخيص فلسفته؛ إلى المحنة التي أصابته وأسبابها ونتائجها وأثرها في التاريخ الإسلامي وفي تاريخ الفلسفة، وعزمنا على تحقيقها وتحليلها والتدقيق في معرفة أصولها، لنصل إلى حقيقة يحسن الوقوف لديها والسكوت عليها.
ولما كان الذي أوقع المحنة بابن رشد هو المنصور بالله يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الرابع من خلفاء الموحدين، أخذنا نبحث في تاريخه لنعلم هل كانت النكبة فعلا فرديا أملاه على الأمير ظلمه وحمقه وجهله، أم كانت فعلا قوميا يدل على حالة الأمة في أخلاقها وميولها، وهل كان الأمير سليم العقل والإرادة مسئولا عن أفعاله مسئولية تامة أمام التاريخ والأجيال اللاحقة، أم كان معتلا مختلا لا يسأل عما يفعل، ذهبت بعقله سلطة الفرد ونزق الاستبداد وسوء الوراثة وملاهي القصور التي ينغمس فيها أمثاله.
فإن الظاهر دل على أن نكبة ابن رشد كانت عملا عاما، دعت إليه ضرورة سياسية أو دينية أو اجتماعية، فأقيمت عليه الدعوى الجنائية وحوكم محاكمة استبدادية، وصدرت في حقه عقوبة النفي والتنكيل، ولم يكن لدينا مصدر لفحص هذه المسألة إلا كتب التاريخ؛ لأن عرب الأندلس لم يتركوا متاحف ولا سجلات ولا ملحقات ولا قيودا يلجأ إليها السلف كما هي الحال في بعض الممالك الأوروبية على أننا لا نلومهم على ذلك، فلو تركوا شيئا مما ذكر لما أبقى عليه ملوك إسبانيا الذين خلفوهم؛ فقد أحرقوا كل ما وصلت إليه أيديهم من آثار العرب الأدبية، وبددوا - تحت تأثير التعصب الوطني والديني - ثروة كانت تستفيد منها الإنسانية أعظم فائدة. لأجل هذا كانت مصادرنا في هذا المبحث محصورة في كتب التاريخ العربية والإفرنجية. (19) تاريخ الأمير الذي نكب ابن رشد
هو يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي الخليفة الرابع من دولة الموحدين، التي أسسها بسوس محمد بن تومرت المتسمي بالمهدي في صدر القرن السادس سنة 515 هجرية.
خلف يعقوب أباه يوسف في سنة 580، وكانت سنه يوم صار إليه الأمر اثنتين وثلاثين سنة، وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وثمانية أشهر، وتوفي في سنة 595 وله من العمر ثمان وأربعون سنة، وقد وخطه الشيب وكانت أمه رومية اسمها ساحر (كارمن) فيرى من ذلك أنه من نسل مختلط وأنه الحفيد الرابع لرجل عصامي من مؤسسي الدولة الشرقية في الغرب، ويتبع هذا التسلسل تطور في الغرائز والأخلاق يشاهد في الأحفاد.
وكان عهده حافلا بالحروب والغزوات والفتن؛ ففي سنة 580، وهي أولى أيام ولايته، خرج الميرقيون بنو ابن غانية يقودهم علي بن غانية من جزيرة ميرقة قاصدين مدينة بجاية فملوكها وأخرجوا من بها من الموحدين، فخرج إليهم يعقوب وهزمهم في حسامة دقيوس. وفي عودته انتقضت عليه مدينة قفصة فحاصرها ودخلها عنوة وقتل أهلها قتلا ذريعا.
وفي سنة 585 هجم بطرس بن رودريج (بطرو بن الريق) على مدينة شلب من الأندلس فملكها، فتجهز يعقوب في جيوش ونزل على شلب وأخرج منها بطرس وأخذ من حصون الإفرنج حصنا، وفي سنة 590 انتقض ما بينه وبين ألفونس فخرجت خيل ألفونس تدوس الحدود، والتقى الجيشان في سنة 591 في «فحص الجديد»، وهو مكان بين أشبيلية وطليطلة، فهزم ألفونس وجنوده. وفي السنة التالية هجم على طليطلة وتوغل في أرض الإسبان، فطلب ألفونس منه هدنة فهادنه عشر سنين. (19-1) نيته في غزو مصر
وكان ينوي غزو مصر ويذكرها وما فيها من المناكر والبدع ويقول: «نحن إن شاء الله مطهروها.» ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات وكانت بينه وبين ألفونس تلك الهدنة. (19-2) قتل أخيه وعمه
وكان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلا للإمارة، فلقي منهم شدة. ولما استوثق أمره عبر البحر بعساكره وسار حتى نزل مدينة سلا وبها تمت بيعته، واستجاب له من كان تلكأ عليه من أعمامه ومن ولد عبد المؤمن بعدما ملأ أيديهم أموالا وأقطعهم الأقطاع الواسعة، ثم تركهما فطمع في الأمر أخوه أبو حفص عمر وعمه سليمان بن عبد المؤمن، فأمر بالقبض عليهما وتقييدهما وحملهما بعد التقييد إلى مدينة سلا، ووكل بهما من يقوم عليهما وأثقلهما بالحديد. وسار حتى بلغ مراكش، فكتب إلى القيم عليهما بقتلهما وتكفينهما والصلاة عليهما ودفنهما، فقتلهما صبرا ودفنهما، وكتب يعلمه بذلك وقال له: «بنيت قبريهما بالكدان والرخام.» وجعل يذكر حسنهما، فكتب إليه: «ما لنا ولدفن الجبابرة! إنما هما رجلان من المسلمين، فادفنهما كيف يدفن عامة المسلمين.» وقد استدعت تلك الحروب والفتن تغيبه عن مقر ملكه أمدا وأصيب أثناءه بمرض شديد، ففي غيبته ومرضه طمح أخ له ثان، اسمه أبو يحيى، في الخلافة فقبض عليه وحاكمه وقتله بمحضر من الناس، وأمر بإخراج بقية الأمر حفاة عراة الرءوس. (19-3) أخلاقه
كان شديد الذكاء وكثير الإصابة بالظن، لا يكاد يظن شيئا إلا وقع كما ظن، مجربا للأمور عارفا بأصول الشر والخير وفروعهما ، ولي الوزارة أيام أبيه فبحث عن الأمور بحثا شافيا، وطالع أحوال العمال والولاة والقضاة وسائر من ترجع إليه الأمور مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور، فدبرها بحسب ذلك فجرت أموره على قريب من الاستقامة والسداد حسب ما يقتضيه الزمان والإقليم. (19-4) سوء شبابه
روى المؤرخون أن أقاربه كانوا متهاونين بأمره محتقرين له لأشياء كانت تظهر منه في صباه توجب ذلك، فبعد أن قتل أخاه وعمه ونكل ببقية الأمراء هابوه وأشربت قلوبهم خوفه. (19-5) حبه العدل بين الناس
وكان في جميع أيامه وسيره مؤثرا للعدل، متحريا له بحسب طاقته وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها، وأراد في أول أمره الجري على سنن الخلفاء الأول. وكان يقعد للناس عامة ولا يحجب عن أحد من صغير ولا كبير، حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم، فقضى بينهما وأمر الوزير أبا يحيى صاحب الشرطة أن يضربهما ضربا خفيفا؛ تأديبا لهما، وقال لهما: أما كان في البلد حكام قد نصبوا لمثل هذا؟! ثم صار يقعد في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة لا ينفذها غيره كأنه محكمة عليا.
ولما ولى أبا القاسم بن بقي القضاء، كان فيما اشترط عليه أن يكون قعوده بحيث يسمع حكمه في جميع القضايا. فكان يقعد في موضع بينه وبين أمير المؤمنين ستر من ألواح. وكان قد أمر أن يدخل عليه أمناء الأسواق وأشياخ الحضر في كل شهر مرتين يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم. وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عن عمالهم وقضاتهم وولاتهم، فإذا أثنوا خيرا قال اعلموا أنكم مسئولون عن هذه الشهادة يوم القيامة، فلا يقولن أحد منكم إلا حقا! (19-6) حبه الخير
وبنى بمدينة مراكش مستشفى يظن المؤرخون أن ليس في الدنيا مثله، وتخير له ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأجرى له ثلاثين دينارا في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة خارجا عما جلب إليه من الأدوية، وأقام فيه الصيادلة لتجهيز أنواع الدواء، وأعد للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض الفقير أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يشتغل، ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، ولم يقصره على أهل البلد، بل كل من مرض من الغرباء يحمل إليه ويعالج إلى أن يشفى أو يموت. وكان يزوره في كل جمعة ويعود المرضى ويسألهم بقول «كيف حالكم؟ وكيف القومة عليكم؟» وبمناسبة الغرباء نذكر أن جمهورية جنيف في وقتنا هذا تتقاضي من الغرباء ضريبة باسم المستشفى الخيري. ولكنها جعلت العلاج فيه قاصرا على أهل البلاد دون الغرباء! (19-7) حبه الصدقة المنظمة
وكان كثير الصدقة تصدق مرة بأربعين ألف دينار، خرج منها للعامة نحو من نصفها والباقي في القرابة. وقد قسموا مدينة مراكش أرباعا وجعلوا في كل ربع أمناء معهم أموال يتحررون بها المساتير وأرباب البيوتات. وكان كلما دخلت السنة يأمر أن يكتب له الأيتام المنقطعون فيجمعون إلى موضع قريب من قصره، فيختنون ويأمر لكل صبي منهم بمثقال وثوب ورغيف ورمانة. (19-8) عدم تصديقه الخرافات
سمع النساء يوما يمجدن ذكر سلفه ابن تومرت المتسمى بالمهدي ويقلن ما معناه بلسانهن: «صدق مولانا المهدي نشهد أنه الإمام حقا!» فابتسم استخفافا بقولهن لأنه لا يرى شيئا من هذا كله. وكان لا يرى رأيهم في ابن تومرت. وروى أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المربي أنه قال له: «يا أبا العباس اشهد لي بين يد الله عز وجل أني لا أقول بالعصمة (يعني عصمة ابن تومرت).» وقال له يوما وقد استأذنه في فعل شيء يفتقر إلى وجود الإمام: «يا أبا العباس أين الإمام؟!» (19-9) بغضه التمليق
روى أبو بكر بن هاني قال: «لما رجع أمير المؤمنين من غزوة الأرك، وهي التي أوقع فيها بألفونس وأصحابه، خرجنا نتلقاه، فقدمني أهل البلد لتكليمه، فرفعت إليه فسألني عن أحوال البلد وأحوال قضاته وولاته وعماله على ما جرت عادته، فلما فرغت من جوابه سألني كيف حالي في نفسي، فتشكرت له ودعوت بطول بقائه، ثم قال لي: ما قرأت من العلم؟ قلت قرأت تواليف الإمام - أعني ابن تومرت - فنظر إلي نظرة المغضب وقال: «ما هكذا يقول الطالب! إنما حكمك أن تقول قرأت كتاب الله وقرأت شيئا من السنة، ثم بعد هذا اتل ما شئت».» (19-10) حبه العمارة
شرع في بنيان مدينة عظمى على ساحل البحر والنهر من العدوة التي تلي مراكش، وقد أتم سورها وبني فيها مسجدا عظيما كبير المساحة، وعمل له مئذنة في نهاية العلو على هيئة منار الإسكندرية، وقد تمت المدينة في حياته وكملت أسوارها وأبوابها وعمر كثيرا منها، وهي تجيء في طولها نحوا من فرسخ، وهي قليلة العرض، ولم يزل العمل فيها وفي مجدها طول مدة ولايته إلى سنة 594. (19-11) حبه الطلبة
نال عنده طلبة العلم ما لم ينالوا في أيام أبيه وجده، وانتهى أمره معهم إلى أن قال يوما بحضرة كافة الموحدين بسمعهم، وقد بلغه حسدهم للطلبة على موضعهم منه وتقريبه إياهم وخلوته بهم دونهم: «يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيله، وهؤلاء الطلبة لا قبيل لهم إلا أنا، فمهما نابهم أمر فأنا ملجؤهم وإلي فزعهم وإلي ينتسبون.» فعظم من ذلك اليوم أمرهم، وبالغ الموحدون في برهم وإكرامهم. (19-12) اضطهاد اليهود بعد إسلامهم
وفي آخر أيام أبي يوسف أمر أن يتميز من أسلم من اليهود الذين بالمغرب بلباس يختصون به دون غيرهم، ولم يزالوا كذلك بقية أيامه ومقدارا من أيام ابنه عبد الله. وإنما حمل أبا يوسف على ذلك شكه في إسلامهم، وكان يقول: «لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالخلق في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم وجعلت أموالهم نسيئا للمسلمين، ولكني متردد في أمرهم، ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصادمة، ولا في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة، إنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام ويصلون في المساجد ويقرئون أولادهم القرآن، جارين على ملتنا وسنتنا، والله أعلم بما تكنه صدورهم وتحويه بيوتهم.» (19-13) ميله إلى التصوف
وبعد قتل أخيه وعمه في السنة السادسة بعد الثلاثين من عمره أظهر زهدا وتقشفا وخشونة ملبس ومأكل، وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين صيت ، وقامت لهم سوق وعظمت مكانتهم، ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد يكتب إليهم يسألهم الدعاء، ويصل من يقبل صلته بالصلات الجزيلة. ولما خرج إلى الغزوة الثانية (592) كتب قبل خروجه إلى جميع البلاد للبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملهم إليه، فاجتمعت له منهم جماعة كبيرة، كان يجعلهم كلما سار بين يديه، فإذا نظر إليهم قال لمن عنده «هؤلاء الجند لا هؤلاء!» ويشير إلى العسكر، ولما رجع أمر لهؤلاء القوم بأموال عظيمة. (19-14) محاربته مذهب مالك
أمر بإحراق كتب مذهب مالك، وشهد بعض المؤرخين بمدينة فاس أنه كان يؤتى من كتب المذهب بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار. وكان قصد الأمير في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه وأظهره يعقوب، وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه، وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة. (20) مدينة قرطبة التي نشأ فيها ابن رشد
قرطبة عاصمة مقاطعة تعرف باسمها بمملكة الأندلس بإسبانيا، واقعة في جنوب سطح جبل سيارامورينا وعلى الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير، وتبعد 75 ميلا عن أشبيلية، أسسها الرومان وجملها العرب بأسوار وقلاع وقصور، وشادوا بها المساجد والمعاقل والجسور، وأكبرها من الجنوب جسر عظيم جمع بين جلال البناء الروماني وإتقان الهندسة العربية وجمال الدقة الأندلسية، جعلوه على ستة عشر عقدا، وهو الذي يطلق عليه اسم «قنطرة الوادي»، وكان بها لأمراء الأندلس قصر فخم يقصر البيان عن وصفه، لا يقل في الحسن عن الحمراء، وأسس عبد الرحمن الأول جامعها الأعظم في مكان هيكل روماني. والمسجد لا يدل ظاهره على جماله الداخلي الذي ينطق بالمثل الأعلى لفن العمارة العربي في أوروبا.
كانت قرطبة منذ نشأتها عزيزة الجانب، فقد استوطنها أشراف الرومان وأطلقوا عليها اسم «قرطبة الشريفة» لكثرة من أظلت من العظماء. ويظن المؤرخون أنها قرطاجنية الاسم والتكوين، وجاء عليها حين كانت أعظم مدن إسبانيا شأنا وأوفرها سكانا وأوسعها رزقا وأقواها حصونا وأعرضها جاها. وروي أن قيصر حاصرها وقاسى في سبيل إخضاعها أهوالا، فلما وقعت له بعد موقعة «أوندا» أعمل السيف في رقاب 20000 من رجالها.
ولما دخل العرب أرض أندلس ألحقوها بخلافة دمشق، ثم لم تلبث أن صارت عاصمة ملكهم. ويقول المؤرخون إنها في أيام مجدها كان بها 200000 منزل، و600 مسجد، و900 حمام، ومكاتب عامة كثيرة، ويتبعها ثماني مدن و300 بلد و12000 ضاحية.
وقد أنجبت قرطبة في كل أجيالها رجالا عظماء، ففي عهد الرومان ولد فيها لوكان وسنيكا، وفي عهد العرب ابن رشد وأساتذته وتلاميذه وابن حزم عدا عددا من القواد والمصورين والكتاب والصالحين. ومما يدعو إلى أسف أهل الفنون والمؤرخين أن الإسبان بعد زوال دولة العرب جعلوا قصر الخليفة سجنا وقلبوا المسجد كنيسة.
وقد عاب شارل الخامس رجال الدين وأنبهم في رسالة مشهورة منها: «لقد بنيتم في مكان المسجد ما كنتم تستطيعون تعميره في أية بقعة أخرى، ولكنكم أتلفتم شيئا فذا لم يكن له في العالم مثيل.» إن الكاتدرائية جميلة حقا، ولكن أين المسجد يسند ساحاته العظمى 12000 عمود، بل أين التسعة عشر بابا المصنوعة من البرنز، بأيدي صناع حذقوا تشكيل المعادن والتصوير فيها، وهم من أهل دمشق نزحوا إلى الأندلس فيمن نزح إليها من مهرة المشارقة!
وأين الخمسة آلاف مصباح تضاء بزيوت عطرية فتملأ الفضاء نورا وعبقا، أما المحراب المسبع فقد كان مسقفا بدائرة من المرمر الأبيض، مزينة بالذهب والزجاج الملون ومرصعة بالحجارة الكريمة، ومنمقة بقيشاني بيزنطة، فكانت تلك الدائرة المرمرية لصفائها وحسن زينتها أشبه بقبة من اللؤلؤ.
ويظهر أن قرطبة لم تشهد عهدا أسعد من عهد عبد الرحمن الثالث (الناصر لدين الله)، فقد كانت عاصمة ملكه في أعلى درجات النجاح المادي والتقدم المعنوي، وكان للمال والزراعة والتجارة من الشأن ما كان للفنون والعلوم والفلسفة، وعدد سكان قرطبة لعهده كعدد سكان القاهرة لعهدنا هذا، وبها إذ ذاك 3000 مسجد و113000 بيت، و300 حمام و28 ضاحية. فلم يكن في العالم الإسلامي مدينة تضارعها أو تفوق عليها غير عاصمة الرشيد والمأمون، فكانت بغداد في الشرق وقرطبة في الغرب مثل باريس ولندن في عصرنا هذا.
أما قوة الخليفة فكانت تعادل قوة الملوك العظام لعهدنا، فكان له أسطول عظيم ضمن له السيادة في بحر الروم، فجعله بحيرة أندلسية وسهل له الاستيلاء على سبوتا، وهي إذ ذاك تعادل جبل طارق أو بورت سعيد. وكان له جيش عرمرم منظم عده المؤرخون أفخر جيوش العالم وأجملها ، وهو الذي سوده على أهل الشمال من الإسبان. وكان أعظم ملوك الأرض يخطبون مودته ويرجون معاهدته، فورد على بلاطه سفراء الدول من إمبراطور القسطنطينية وملوك ألمانيا وإيطاليا وفرنسا.
ومما يذكر للخليفة بالفضل أن مجلسه كان مؤلفا من أئمة المسلمين ورؤساء الأديان الأخرى بغير تمييز. وكانت بقرطبة مدرسة جامعة من أشهر جامعات الدنيا، مقرها بالمسجد الأعظم الذي سبق ذكره، حيث كان فطاحل العالم الإسلامي شرقا وغربا يلقون الدروس على الطلاب الواردين إلى حلقاتهم من كل فج، فكان أبو بكر بن معاوية القرشي يحدث وأبو علي القالي البغدادي يملي أماليه الشهيرة، وهي كنز شعر وتاريخ وأمثال وفقه لغة وأدب، وكان ابن القطيعة أشهر نحاة الأندلس يلقن الطلاب قواعد النحو والصرف. وهكذا كان لكل علم وفن أستاذ من الأئمة الممتازين فيه، لا يقلون قدرا عمن ذكرنا على سبيل التمثيل والتدليل.
وعد طلاب العلم بالجامع الأعظم بقرطبة بالألوف وأساتذتهم بالمئات، ومعظمهم يقصدون تحصيل الفقه وبعضهم يدرسون الحكمة؛ فالمسجد الأعظم كان منذ ألف سنة مثل الجامع الأزهر شهرة ومكانة، ويفضله في أمرين: الأول جماله الذي أبرزه أهل الفنون، والثاني تخريج الفلاسفة أمثال ابن رشد. والأزهر لم يخرج لنا منذ تأسيسه إلى الآن أحدا يداني هذا الحكيم أو يقرب منه في الفضل وسعة العلم وجليل المنفعة للدين والدنيا معا. (21) نكبة ابن رشد (21-1) كلمة عامة
كان ابن رشد ممتازا بالحكمة والعلم وشرف المنبت، وازداد مجدا بتقربه من الخليفة يوسف أبي يعقوب الذي عرف قدره وفضله على غيره من قرنائه وفضلاء عصره وعلى ولده المنصور يعقوب.
وكل رجل ممتاز لا يأمن حسد معاصريه ومعاشريه ولا ينجو من غيظهم وانتقامهم مهما كان نافعا، وطيب القلب حسن النية بعيدا عن الأذى، وربما كانت خصاله الطيبة سببا في اشتداد البغضاء ومرارة الحقد. وأظن هذه الحال في الشرق أظهر منها في الغرب، وقد تكون في المسلمين أقوى منها في غيرهم.
ويظهر أن أعداء ابن رشد حاولوا النكاية به المرة بعد المرة، ففشلوا في أول الأمر لأن الخليفة المنصور كان في بداية عهده محبا للفلسفة مجاهرا بذلك. فكمدت سوق السعايات ولكن الأعداء (لا كانوا) لا يسأمون من الانتظار ويرقبون أوقات المضرة، فلما تحولت نفس المنصور عن الحكمة والحكماء بسبب ما لحقه من التطور العقلي الذي حبب إليه التصوف والالتجاء إلى الأولياء والزهاد، كان ابن رشد قد علا نجمه في أفق المجد بما ظهر من فضله في التأليف في الفلسفة وسعة علمه ودقة عمله في الطب وعلو كعبه في الشريعة والقضاء، وتلك مواهب ثلاث لم تجتمع لرجل واحد في وقت من الأوقات.
وكان ابن رشد إذ ذاك في السبعين من عمره، فتحركت أحقاد أعدائه وقد رأوا الفرصة سانحة بانصراف المنصور إلى مشايخ الطرق الصوفية، فتسلح هؤلاء الأعداء وأنصارهم من حاشية الأمير (كعادتهم وعادة من مضى قبلهم ومن أتى وسيأتي بعدهم من أعداء حرية العقل الإنساني) بسلاح المدافعة عن شريعة الإسلام، وكان المنصور مقيما بمدينة قرطبة، وقد امتد بها أمد الإقامة وانبسط الناس لمجالس المذاكرة، فتجددت للأعداء آمالهم وقوي تألبهم واسترسالهم، فأدلوا بحفيظتهم وأوضحوا للأمير ما شاءوا من «سيئات» أبي الوليد ابن رشد في مؤلفاته، فقرئت في مجلس الأمير وتدوولت أغراضها ومعانيها وقواعدها، وتمكن الأعداء والحساد من تخريجها بما دلت عليه أسوأ مخرج، وقد ذيلوها بمكرهم وسوء طويتهم حتى هاجوا غضب الأمير وأيقظوا قوة الشر الكامنة في نفسه، بحجة المدافعة عن شريعة الإسلام، ويظهر أن وقيعتهم بابن رشد كانت علانية في مجلس الأمير، فإن أحد المؤرخين يقول: «فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام.»
ويظهر أيضا أن أعداء ابن رشد طلبوا إلى الخليفة إهراق دمه لتنجو شريعة الإسلام من شر ابن رشد، وتعلو بخير هؤلاء المدافعين عن كيانها الحائذين عن حياضها! ولكن الخليفة استعمل الرأفة «وآثر فضيلة الإبقاء وأغمد السيف التماس جميل الجزاء». (21-2) أعداء ابن رشد
ومن أعداء ابن رشد الذين جاهدوه بالمنافرة والمجاهرة القاضي أبو عامر يحيى ابن أبي الحسين بن ربيع، وقد نافره لغير علة ظاهرة. وعلى ذلك النفور كان أبناه القاضي أبو القاسم وأبو الحسين والقاضي أبو عبد الله والخطيب أبو علي ابن حجاج وغيرهم، فلما أخذ أعداء ابن رشد للحملة عليه عدتهم آثروا أن يحشروا معه فريقا من أصدقائه ومريديه وتلاميذه، لتكون محنة الحكمة شاملة ونكبة الحكماء عامة. وأشاروا على المنصور أن يصبغ غضبه بصبغة الدفاع عن الملة لتكون النكاية بالحكماء أشد واللوم على الوقيعة بهم أخف. فأمر المنصور طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين وتعريف الملأ بأن ابن رشد ومن معه مرقوا من الدين وأنهم استوجبوا اللعنة جهارا. (21-3) شركاء ابن رشد
أما أصدقاء ابن رشد الذين أضيفوا إليه فهم: الفقيه أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي، فقد لف معه في حريق الملام، لأشياء نقمت عليه في مجالس المذاكرة وفي أثناء كلامه مع توالي السنين والأيام؛ وأبو جعفر الذهبي الفقيه؛ وأبو الرابع الكفيف؛ وأبو العباس الحافظ الشاعر القراي. (21-4) أسباب النكبة
تضارب المؤرخون في ذكر النكبة التي أصابت الحكمة في شخص ابن رشد ومدرسته، ومعظم المؤرخين يرغبون في ردها إلى أسباب مادية محسوسة أغضبت الخليفة، ولكن واحدا أو اثنين منهم يحومان حول السبب الحقيقي ويلمحان إليه فقال أحدهما: «وكان لها سببان: جلي، وخفي. فأما سببها الخفي وهو أكبر السببين، فأن الحكيم أبا الوليد رحمه الله أخذ في شرح كتاب الحيوان لأرسطاطاليس صاحب كتاب المنطق، فهذبه وبسط أغراضه وزاد فيه ما رآه لائقا به، فقال في هذا الكتاب عند ذكره الزرافة وكيف تتولد، وبأي أرض تنشأ «وقد رأيتها عند ملك البربر»، جاريا في ذلك على طريق العلماء في الأخبار عن ملوك الأمم وأسماء الأقاليم، غير ملتفت إلى ما يتعاطاه خدمة الملوك ومتحيلوا الكتاب من الإطراء والتقريظ وما جانس هذه الطرق، فكان هذا مما أحنقهم عليه غير أنهم لم يظهروا ذلك، وفي الجملة فإنها كانت من أبي الوليد غفلة.»
وقال مؤرخ آخر: «إن قوما من مناوئيه من أهل قرطبة، ويدعون معه الكفاءة في البيت وشرف السلف، سعوا به عند أبي يوسف، ووجدوا إلى ذلك طريقا بأن أخذوا بعض التلاخيص التي كان يكتبها، فوجدوا فيها بخطه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة بعد كلام تقدم «فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة»، فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة، فاستدعاه بعد أن جمع له الرؤساء والأعيان من كل طبقة وهم بمدينة قرطبة، فلما حضر أبو الوليد رحمه الله قال له بعد أن نبذ إليه بالأوراق: أخطك هذا؟ فأنكر. فقال: أمير المؤمنين: «لعن الله كاتب هذا الخط.» وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بإخراجه على حال سيئة وإبعاده وإبعاد من يتكلم في شيء من هذه العلوم، وكتبت عنه الكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة، وبإحراق كتب الفلسفة كلها إلا ما كان من الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة أوقات الليل والنهار وأخذ سمت القبلة، فانتشرت هذه الكتب في سائر البلاد وعمل بمقتضاها.»
ثم لما رجع الأمير إلى مراكش نزع عن ذلك كله وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه. فحضر ابن رشد إلى مراكش فمرض بها مرضه الذي مات منه في آخر سنة 594 وقد ناهز السبعين، ثم توفي أمير المؤمنين في غرة صفر الكائن في سنة 595.
وقال آخر: «ومن أسباب نكبته اختصاصه بأبي يحيى المنصور والي قرطبة. وحدث الشيخ أبو المحسن الرعيني عن شيخه أبي محمد عبد الكبير أن هذا الأخير اتصل بابن رشد المتفلسف أيام قضائه بقرطبة وحظي عنده، فاستكتبه ابن رشد واستقضاه، فقال إن هذا الذي ينسب إليه ما كان يظهر عليه، ولقد كنت أراه يخرج إلى الصلاة وأثر ماء الوضوء على قدميه، وما كدت آخذ عليه فلتة إلا واحدة، وهي عظمى الفلتات، وذلك حين شاع في المشرق والأندلس على ألسنة المنجمة أن ريحا عاتية تهب في يوم كذا وكذا في تلك السنة تهلك الناس، واستفاض ذلك حتى اشتد جزع الناس منه واتخذوا الأنفاق تحت الأرض توقيا لهذه الريح.
ولما انتشر الحديث بها وطبق البلاد استدعى والي قرطبة - إذ ذاك - طلبتها وفاوضهم في ذلك، وفيهم ابن رشد وهو القاضي بقرطبة يومئذ، وابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي تكلم ابن رشد وابن بندود في شأن هذه الريح من جهة الطبيعة وتأثيرات الكواكب، قال أبو محمد عبد الكبير، وكنت حاضرا فقلت في أثناء المفاوضة إن صح أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد؛ إذ لم تعلم ريح بعدها يعم إهلاكها. قال فانبرى إلي ابن رشد ولم يتمالك أن قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقا! فكيف سبب هلاكهم؟ فسقط في أيدي الحاضرين وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.» (21-5) العقاب والعفو (مجلس المحاكمة)
أحضر ابن رشد وأصحابه إلى المسجد الجامع الأعظم بقرطبة، وقد عقد الخليفة مجلسه ونهض القاضي أبو عبد الله ابن مروان وألقى خطبة هي أشبه الكلام بمرافعة المدعي العام، وقد يكون الغرض من ندب هذا القاضي في تلك الفرصة رفع الدعوى على ابن رشد. (21-6) مرافعة القاضي أبي عبد الله
قال: إن الأشياء لا بد في كثير منها أن تكون لها جهة نافعة وجهة ضارة، كالنار وغيرها، فمتى غلب النافع على الضار عمل بحبسه، ومتى كان الأمر بالضد فبالضد. (21-7) التهمة
ثم قال الخطيب أبو علي ابن حجاج، وعرف الناس بما أمر به من أنهم (أي ابن رشد وصحبه) قد مرقوا من الدين وخالفوا عقائد المؤمنين باشتغالهم بالفلسفة وعلوم الأوائل، فنالهم ما شاء الله من الجفاء، وتفرقوا على حكم من يعلم السر وأخفى. (21-8) الحكم
أمر أبو الوليد بسكنى اليسانة بقول من قال إنه ينسب في بني إسرائيل وإنه لا يعرف له نسب في قبائل الأندلس. (21-9) في أن ابن رشد لم يدافع
ولم يذكر المؤرخون أن ابن رشد أو أحد أصحابه طلب أن يتكلم عن نفسه أو طلب إليه الخليفة ذلك، وفي هذا شناعة لأنه حرم حق الدفاع. وإذ ذكرنا دفاع فيلسوف عن حرية فكره يخطر ببالنا دفاع سقراط لدى قضاته بأثينا قبل محاكمة ابن رشد بستة عشر قرنا، فتتملكنا عاطفتان : الأولى عاطفة حنق على أعداء العقل الذين لم ينفكوا يحاربون حرية الفكر من أبعد العصور وأقدم الأجيال. والثانية عاطفة إعجاب بهؤلاء العرب المتحضرين، الذين كانوا أعدل وأرحم من اليونان في القرن الرابع قبل المسيح، على ما بين الأمتين من الفروق في المدنية والتنور. فإن قضاة ابن رشد اكتفوا بإبعاده مؤقتا. أما قضاة سقراط العظيم فلم يشفقوا على شيخوخته ولم يخشعوا أمام جلال حكمته وجمال خلقه وأسلموه للجلاد، فسقاه كأس الردى على مرأى ومسمع من أهله وأحبابه ومريديه وتلاميذه، بل كان عرب الأندلس أشفق وأعدل من معذبي «جاليليه» في القرن السابع عشر بعد السيد المسيح، وأرحم بكثير من أهل جنيف وعلى رأسهم «كالفن»، إذ أحرقوا في مدينتهم في نصف السادس عشر «ميشل سرفيه» لاكتشافه الدورة الدموية.
ولكن هذا لا يقلل من غضبنا على الذين حاكموا ابن رشد، فإن الاضطهاد مرذول في كل زمان ومكان، وأنصاره محتقرون وملعونون بكل لسان ما داموا يتسلحون بالدفاع عن الدين في محاربة العقل، فإن ذلك حق يراد به باطل؛ لأن الدين لم يأمر بالتعذيب والقتل والنفي في سبيل نصرته. ولكن الجهال وأهل الضلال والفتن هم الذين يشفون غليلهم ويثلجون صدورهم المتقدة بنار الغيظ والحسد باسم الدين والملة والشريعة، وهي منهم بريئة. (21-10) تسخير الشعر في محاربة الفلسفة
عوقب ابن رشد وأصحابه بالنفي بعد التعذير والتعنيف، ثم كتبوا في حقهم منشورا شديدا للولايات وراء البحر، ثم سخروا الشعر في محاربة الفلسفة، فقام الحاج أبو حسين ابن جبير وقد حفظ لنا التاريخ اسمه ونظمه في تلك القضية، وللتاريخ عجائب وخوارق وهذه من غرائبه، فإنه لم يحفظ أسماء كثيرين من أهل الفضل والفن في مواضع كانوا بها أحق وأجدر بخلود الذكر.
قال الحاج:
الآن قد أيقن ابن رشد
أن تواليفه توالف
يا ظالما نفسه تأمل
هل تجد اليوم من توالف •••
لم تلزم الرشد يا ابن رشد
لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا رياء
ما هكذا كان فيه جدك •••
كان ابن رشد في مدى غيه
قد وضع الدين بأوضاعه
فالحمد لله على أخذه
وأخذ من كان من أتباعه •••
نفذ القضاء بأخذ كل مضلل
متفلسف في دينه متزندق
بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة
إن البلاء موكل بالمنطق
وقال يمدح المنصور ويذكر أدوار القضية:
بلغت أمير المؤمنين مدى المنا
لأنك قد بلغتنا ما نؤمل
قصدت إلى الإسلام تعلي مناره
ومقصدك الأسنى لدى الله يقبل
تداركت دين الله في أخذ فرقه
بمنطقهم كان البلاء الموكل
أقمتهمو للناس يبرأ منهم
ووجه الهوى من خزيهم يتهلل
وأوعزت في الأقطار بالبحث عنهم
وعن كتبهم والسعي في ذاك أجمل
وقد كان للسيف اشتياق إليهم
ولكن مقام الخزي للنفس أقتل
وآثرت درء الحد عنهم بشبهة
لظاهر إسلام وحكمك أعدل
وهذا ما أردنا الاستشهاد به من شعر ابن جبير في الموضوع وله غير ذلك ضربنا عنه صفحا. (22) كلمة عن ابن جبير
أبو الحسن محمد بن محمد بن جبير الأندلسي البلنسي، كان من أهل المنزلة العالية في الغرب بالعلم والأدب والشعر، رحل في أواخر القرن السادس للهجرة ثلاث رحلات، وزار مصر والشام والحجاز والعراق وصقلية، وأقام في الإسكندرية يحدث إلى أن توفي في أواخر القرن السادس، وطبعت رحلته في ليدن مرتين، وترجمت إلى الفرنسية والإيطالية، وأخباره في الإحاطة بأخبار غرناطة ص168 ج2.
وكان من أبلغ شعراء الأندلس وأنصعهم ديباجة، وأصدق شعراء العرب قصدا وأسلمهم قلبا، وأقواهم إيمانا وأصحهم عقيدة، ويشهد الشعراء الأقدمون والمحدثون بفضله، وأصدق دليل على حجة شهادتهم قصيدته التي يصف بها الأماكن المقدسة التي قصدها لأداء فريضة الحج. وكان ابن جبير من معاصري ابن رشد، ولا نظن أن الذي دعاه إلى هجاء ابن رشد رغبة في تمليق أمير كبير ومجرد الافتخار بمظهر المدافعة عن الدين، وإنما الذي دعاه إلى الوقوع في هذا الخطأ شدة إيمانه وصحة عقيدته، ولا يستطيع مؤرخ معتدل أن يلوم ابن جبير على أنه لم يفهم فلسفة ابن رشد؛ لأن طريق الشعر والدين غير طريق العلم والحكمة، ولا نملك إلا الأسف على تلك الهفوة من أديب جليل يعد من أئمة الشعر العربي وكبار المؤلفين والسائحين. (23) أقسى ما أصاب ابن رشد في أثناء نكبته
يظهر أن أقسى ما أصيب به ابن رشد في إبان محنته تألب العامة عليه وعلى ولده وتصديهم إلى سبهما والاعتداء عليهما. والعامة في كل زمان ومكان خصم ثالث يدخل بين الملوك ورجال الدين والفلاسفة الذين يتنازعون القوة فيما بينهم، والعامة أنفسهم هم الذين يسعى المتنازعون للسيادة عليهم فالملوك ورجال الدين يتطلبون القوة الدنيوية التي لا تقوم إلا على الجمهور، والحكماء يتطلبون القوة العقلية التي تقوم على تنويرهم.
أخبر أبو الحسن بن قطرال عن ابن رشد أنه قال: «أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه.» (24) المنشور
لم يكتف المنصور أو محرضوه بما لحق ابن رشد وأصحابه من اللوم والتأنيب في مجلس المحاكمة، وما تلاهما من عقوبة النفي التي وقعت بغير دفاع، فشاءت الأحقاد أن يذاع أمر التشهير بابن رشد في سائر البقاع، فأمر المنصور كاتبه أبا عبد الله ابن عياش أن يكتب منشورا إلى مراكش وغيرها بما حدث لابن رشد في هذه القضية، وكاتب المنشور هو كاتم سر الخليفة وكاتب يده واسمه أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياش، من أهل برشانة (لعلها برسلونه) من أعمال المرية في بلاد الأندلس، ولم يزل هذا الرجل كاتبا للمنصور ولابنه محمد ولابن ابنه يوسف، وقد عمر طويلا وتوفي في شهور سنة 619، وانفرد أبو عبد الله المذكور بالمهارة وحسن السبك، ولم يكتب لخلفاء بني تومرت منذ قام أمرهم من عرف طريقتهم وصب في قالبهم وجرى على مهيعهم وأصاب ما في أنفسهم كأبي عبد الله المذكور؛ لأنه كانت لهم طريقة تخالف طريقة الكتاب. ويظهر أنه كان يلبس لكل حال لبوسها ويجاري كل أمير في ميوله ومقاصده، وإلا ما تمكن من الانفراد بثقتهم وخدمة ثلاثة أو أربعة من خلفائهم، فكان عبد الله هذا كبعض رجال الحاشية في بعض بلاد الشرق يصلحون لكل عهد ويخدمون كل جالس على العرش ويثبتون في مراكزهم، مهما تغلبت الحوادث وتحولت الأحوال وتغيرت المبادئ والأطوار، فهم هم الخدم المخلصون والصحابة المقربون والله أعلم بما يظهرون وبما يبطنون.
نص المنشور
قد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بشفوف علمهم في الأفهام، حيث لا داعي يدعو إلى الحي القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلدوا في العالم صحفا مالها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقا، ويسيرون فيها شواكل وطرقا، ذلك بأن الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون! ونشأ منهم في هذه الحجة البيضاء شياطين إنس يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون، فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب، وأبعد عن الرجعة إلى الله والمآب؛ لأن الكتابي (؟!) يجتهد في ضلال ويجد في كلال، وهؤلاء جهدهم التعطيل وقصاراهم التمويه والتخييل، دبت عقاربهم في الآفاق برهة من الزمان، إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم على رجال كان الدهر قدمنا لهم على شدة حروبهم، وأعفى عنهم سنين على كثرة ذنوبهم، وما أملي لهم إلا ليزدادوا إثما، وما أمهلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما.
وما زلنا - وصل الله كرامتكم - نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقربهم إلى الله سبحانه ويدنيهم، فلما أراد الله فضيحة عمايتهم وكشف غوايتهم، وقف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذ كتاب صاحبها بالشمال، ظاهرها موشح بكتاب الله وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، لبس منها الإيمان بالظلم، وجيء منها بالحرب الزبون في صورة السلم، مزلة للأقدام، وهم يدب في باطن الإسلام أسياف أهل الصليب دونها مغلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مفلولة، فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وغيهم وبهتانهم، فلما وقفنا منهم على ما هو قذى في جفن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقصى السفهاء من الغواة، وأنقضناهم في الله كما أنا نحب المؤمنين في الله، وقلنا: اللهم إن دينك هو الحق اليقين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهؤلاء قد صرفوا عن آياتك، وعميت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك، فباعد أسفارهم وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم. ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلمام بالسيف في مجال ألسنتهم والإيقاظ بحده من غفلتهم وسنتهم، ولكنهم وقفوا بموقف الخزي والهون، ثم طردوا عن رحمة الله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
فاحذروا - وفقكم الله - هذه الشرذمة على الإيمان حذركم من السموم السارية في الأبدان، ومن عثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه، ومتى عثر منهم على مجد في غلوائه عم عن سبيل استقامته واهتدائه، فليعاجل فيه بالتثقيف والتعريف ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار! وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون. أولئك الذين حبطت أعمالهم أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون، والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم إنه منعم كريم. ا.ه. المنشور. (25) بعد المحاكمة
بعد المحاكمة، وتحرير المنشور، وإرساله إلى أطراف الدولة، ونظم القصائد في ذم ابن رشد، والطعن في عقيدته، قيل إن ابن رشد نفي إلى اليسانة
Lucena
ولكن مدة العقوبة لا تعلم بالدقة.
ومعظم المؤرخين على رأي أن المحنة وعقوبتها والعفو عنها لم تطل أكثر من سنة، فقد ذكر شيخ الشيوخ تاج الدين: «لما دخلت إلى البلاد (يعني الأندلس) سألت عن ابن رشد، فقيل إنه مهجور في داره من جهة الخليفة يعقوب، ولا يدخل عليه أحد ولا يخرج هو إلى أحد.» وهذا نوع من الاعتقال السياسي؛ لأن ابن رشد على هذه الرواية لزم بيته واستقر في كسر داره، فسأل تاج الدين عن السبب، قالوا رفعت عنه أقوال رديئة، ونسبت إليه كثرة الاشتغال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل. وروى تاج الدين أن ابن رشد مات وهو محبوس بداره بمراكش في أواخر سنة 594.
ولكن الراجح عندنا أن جماعة من الأعيان بأشبيلية شهدوا لابن رشد أنه على غير ما نسب إليه. فرضي المنصور عنه وعن سائر الجماعة من أصحابه ومريديه وتلاميذه الذين عوقبوا معه، وشفعوا لهم وطلبوا العفو عنهم، وكان ذلك في سنة 595، فرضي المنصور عنهم وشملهم بعفوه وقرب ابن رشد.
وجعل أبا جعفر الذهبي مزوار الطلبة ومزوار الأطباء؛ أي نقيبا للطائفتين جميعا، وكان يقول عن أبي جعفر الذهبي استرضاء له إنه كالذهب الإبريز الذي لم يزدد في السبك إلا جودة. يشير بذلك إلى أن النكبة أنضجت الذهبي، كأن الحكماء في حاجة إلى الحبس والنفي ليستحقوا ثناء الملوك وإعجابهم! (26) خلاصة عامة
كان الخليفة المنصور في أول أمره أميرا عاقلا عادلا محبا للحكمة والحكماء، وكانت حاشيته منهم كما كان أبوه من قبل، فنشأ على إكرامهم وتبجيلهم، وفي أواخر أيامه تغير وتعفف وقرب الأولياء والزهاد، وأعرض بعض الأعراض عن الفلسفة فانتهز أعداء ابن رشد هذه الفرصة ووشوا به وتلاميذه ومريديه، وأقنعوا المنصور بأن إطلاق الحرية للفلاسفة يقولون ويكتبون ما يشاءون مضر بالدولة والدين، ورسموا له طريق الإضرار بهم فأطاعهم وتبع خطتهم منقادا لا مختارا، وتلطف في العقاب فاكتفى بالنفي المؤقت ثم ندم فعفا وأصلح واسترضى، فهذه النكبة كلها لم تكن إلا مظهرا من مظاهر الانتقام والحسد، وقد وجد الحاسدون والحاقدون مجال الدسائس واسعا فنفثوا سمومهم وشفوا غليلهم، ثم استبان الخليفة الحق فتاب. (27) مؤلفات ابن رشد
لم يثبت البحث التاريخي أن ابن رشد ألف كتابا من كتبه قبل السنة السادسة والثلاثين من عمره، وليس في هذا غرابة؛ لأن الاستعداد في الطب والفقه والحكمة يقتضي أعواما طويلة، ولم يكن ابن رشد من المبتدعين الذين وضعوا كتبا في أمور لم يسبقوا إليها مثل الشعراء أو كتاب القصص، ولكنه كان عالما والعالم يحتاج قبل التدوين إلى التمحيص والتحقيق، ويجدر بالذكر أنه منذ بدأ بالتأليف لم يقف به عقله القوي وإرادته الغلابة عن الاستمرار في طريق الفكر، فقضى ما بقي من عمره الحافل بجليل الأعمال في الدرس والبحث والتدوين، وقد ذكر رينان عن فهرست عربي في خزانة اسكوريال ثماني وسبعين رسالة أو كتابا في الفلسفة والطب والفقه وعلوم الكلام، وذكر ابن أبي أصيبعة منه خمسين كتابا ولم يذكر ابن الأبار إلا أربعة كتب ولعله اكتفى بأشهرها. (27-1) الكتب المطبوعة بالعربية (1)
تهافت التهافت. (2)
فصل المقال. (3)
الكشف عن مناهج الأدلة. (4)
القسم الرابع من وراء الطبيعة. (5)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
وله بعض كتب عربية مخطوطة سيأتي ذكرها، وما عدا ذلك من الكتب فموجود، إما باللاتينية أو العبرية، ومطبوع بإحداهما، وتوجد مجموعة مخطوطة لبعض كتبه الفلسفية بالعربية في دار كتب أوفيتشي بفلورانس بإيطاليا رأيناها صيف عام 1910. (27-2) تاريخ وضع مؤلفاته
للسن التي يكتب فيها المؤلف كتبه تأثير عظيم، وقد عنينا بالبحث في ترتيب مؤلفات ابن رشد على حسب السنين التي وضعت فيها، فوصلنا إلى النتيجة الآتية، وسيلاحظ القارئ من هذا الجدول أنه قضى ستا وثلاثين سنة، وهو النصف الثاني من عمره، في التأليف لأنه مات في الثانية بعد السبعين، ويلاحظ أيضا أن ابن رشد لم يمتنع عن التأليف حتى في أثناء نكبته التي عوقب فيها بالإهانة والنفي بعيدا عن أهله ووطنه وهو في أقصى درجات الشيخوخة، وذكرنا موضع التأليف لبعضها.
حوالي السنة 36 من عمره وضع الكليات في الطب.
حوالي السنة 43 من عمره وضع الشرح الصغير للجزئيات والحيوان (بأشبيلية).
حوالي السنة 44 من عمره وضع الشرح الوسط للطبيعة والتحليلات الأخيرة (بأشبيلية).
حوالي السنة 45 من عمره وضع شرح السماء والعالم (بأشبيلية).
حوالي السنة 49 من عمره وضع الشرح الصغير للفصاحة والشعر والوسط لما بعد الطبيعة (بقرطبة).
حوالي السنة 51 من عمره وضع الشرح الوسط للأخلاق.
حوالي السنة 53 من عمره وضع بعض أجزاء من مادة الأجرام (مراكش).
حوالي السنة 54 من عمره وضع الكشف عن مناهج الأدلة.
حوالي السنة 61 من عمره وضع الشرح الكبير للطبيعة.
حوالي السنة 68 من عمره وضع شرح غالينوس.
حوالي السنة 70 من عمره وضع المنطق (أثناء نكبته).
ويبقى بعد هذا الجدول مما لم يمكن ضبط تاريخ وضعه من مؤلفات ابن رشد ما يأتي: (1)
شروحه على التحليلات الثاني. (2)
الطبيعة والسماء. (3)
النفس. (4)
ما بعد الطبيعة.
وما عداها من كتب أرسطو لا يوجد له إلا الشرحان الوسط والصغير، ومن كتب أرسطو مما لا يوجد له شرح: (1) الحيوان. و(2) السياسة. ومجموعها عشرة كتب، وشرح الحيوان مفقود وذكره عبد الواحد وابن أبي أصيبعة وواضع فهرست اسكوريال، ولم يشرح ابن رشد سياسة أرسطو، وقال في مقدمة الشرح الوسط للأخلاق إنه لم ير ترجمة عربية لسياسة أرسطو في بلاد المغرب، ولما أخذ في شرح جمهورية أفلاطون قال إنه لم يشرع فيها إلا لأن كتب أرسطو في السياسة لم تصل إليه، ولو وصلت لاستغنى بها عن الجمهورية، وهذا يدل على عدم إلمامه بآداب اليونان؛ لأنه لو ألم بها لعرف أن ما دونه أرسطو في السياسة كان نذرا، وإنه كان مقلدا لأفلاطون، فلم يكتب شيئا يداني الجمهورية جمالا وحكمة، ولأجل تقريب موضوع المؤلفات لذهن القارئ أردنا وضعها على الصورة الآتية ...
مؤلفات فلسفية (1)
تهافت التهافت، وموضوعه رد على تهافت الفلاسفة للغزالي. والمقصود بكلمة التهافت سقوط التعاليم على بعضها وانتقاضها، وغاية الكتاب إسقاط كتاب الغزالي ومنه نسخة عربية مطبوعة وله تراجم لاتينية وعبرية. (2)
رسالة في تركيب الأجرام، وهو جملة مقالات دونت في أوقات مختلفة، والكتاب منتشر باللاتيني والعبراني. (3)
كتابان في الاتصال يوجدان باللاتينية والعبرية. (4)
أربعة كتب في مسألة هل العقل المادي يمكنه إدراك الصور المنفصلة (لاتيني). (5)
شرح كلام ابن باجه في اتصال العقل المنفصل بالإنسان (اسكوريال). (6)
كتاب الكون. (7)
في المقولات الشرطية . (8)
الضروري في المنطق. (9)
مختصر المنطق. (10)
مقدمة الفلسفة في اثني عشر رسالة (عربي اسكوريال عدد 629). (11)
شرح جمهورية أفلاطون عبري ولاتيني. (12)
شرح الفارابي وأرسطو في المنطق. (13)
شروح على الفارابي في مختلف المسائل. (14)
نقد الفارابي في التحليلات الثاني لأرسطو. (15)
رد على ابن سينا في تقسيم المخلوقات وقوله إنها ممكنة مطلقا وممكنة بذاتها ولازمة بما هو خارج عنها ولازمة بذاتها. (16)
شرح وسط لما بعد الطبيعة عن ترجمة نيقولا الدمشقي. (17)
في علم الله بالجزئيات. (18)
في الوجودين الأزلي والوقتي. (19)
البحث فيما ورد في كتاب الشفاء عما وراء الطبيعة. (20)
في وجود المادة الأولى. (21)
في الزمان. (22)
مسائل في الفلسفة. (23)
في العقل والمعقول (عربي اسكوريال عدد 879). (24)
شرح الفردوسي في العقل. (25)
أسئلة وأجوبة في النفس. (26)
أسئلة وأجوبة في علم النفس. (27)
السماء والدنيا.
وقد وضع هذا الجدول على سبيل الحصر، وليس لابن رشد غير هذه الكتب في الفلسفة، ولا يجوز الزيادة عليها أو إنقاصها، ولا يعول على قول أحد في المؤلفات إذا خالف هذا الجدول الدقيق.
في الإلهيات (1)
فصل المقال (مطبوع). (2)
ملخص لفصل المقال. (3)
التقريب بين المشائين والمتكلمين. (4)
كشف مناهج الأدلة. (5)
شرح كتاب الإيمان للإمام المهدي أبي عبد الله محمد بن تومرت شيخ الموحدين.
كتبه في الفقه (1)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد. (2)
مختصر المستصفي في أصول الفقه. (3)
كتاب في التنبيه إلى أغلاط المتون. (4)
الدعاوى: 3 مجلدات. (5)
دروس في الفقه (عربي اسكوريال). (6)
كتابان في الذبيحة. (7)
كتاب الخراج. (8)
الكسب الحرام.
وله غير هذا أربعة كتب في الفلك، وكتابان في النحو، وعشرون كتابا في الطب. (28) تعليم ابن رشد
لم تزد معرفة ابن رشد عن العلوم الشائعة في عصره، فكانت معرفته بالطب محدودة بعلم جالينوس، وفلسفته مستمدة من أرسطو، وفلكه مأخوذا عن المجسطي، وفقهه فقه معاصريه وأسلافه من أئمة المالكية، فلم يكن الحكيم ابن رشد مبتكرا ولا مبتدعا؛ أي إنه لم يؤسس علما جديدا، ولكنه امتاز عن معاصريه بمقدرة في الانتقاد نادرة في زمنه وغير زمنه، وهي ظاهرة في نقده فلك بطليموس، وفيه مبادئ وتقدم فكري لا تصدر إلا عن عقل من أقوى العقول. (راجع النبذة 13 من القسم الأول من تلخيص مقالات أرسطو فيما بعد الطبيعة).
كان ابن رشد طبيبا وفيلسوفا، ولكن فلسفته أعظم من طبه، فإن مؤلفاته الطبية التي اعتمد فيها على جالينوس لم تبلغ شأو قانون ابن سينا، وكان فقيها وفلكيا. على أننا لم نقف على آثاره في خدمة الشريعة ولم يحفظ لنا التاريخ أحكامه وفتاواه.
ويظهر أن جده كان أكثر منه توفيقا في القضاء والتشريع، فله مجموعة فتاوى في مكتبة باريس، عني أحد تلاميذه بجمعها وتنظيمها، ولكن الذي ميز ابن رشد حقا هو شرحه الكبير لأرسطو، ذلك الشرح الذي جعله في مصاف كبار الفلاسفة المتقدمين، وصدق إرنست رينان حيث قال: «ألقى أرسطو على كتاب الكون نظرة صائبة، ففسره وشرح غامضه، ثم جاء ابن رشد فألقى على فلسفة أرسطو نظرة خارقة ففسرها وشرح غامضها.»
ألف ابن رشد في كل فن شريف مثل الطب والفلسفة والفلك والفقه، وكان يحفظ موطأ مالك عن ظهر قلب.
وكان في جنب اشتغاله بتلك العلوم محبا لفنون الأدب، فقرأ شعر العرب في الجاهلية والإسلام، وحفظ كثيرا من قصائد عنترة وامرئ القيس والأعشي وأبي تمام والنابغة والمتنبي. وأثر محفوظاته ظاهر في أسلوبه ومقتبساته لدى شرح كتاب الشعر لأرسطو، ونستنتج من هذا عرضا أن العقول الكبيرة القوية تفوق غيرها باتساع دائرتها واقتدارها على الإلمام بأنواع العلوم والآداب ولا ترى في ذلك تناقضا. (29) جهله باليونانية
يلفت نظر الباحث في حياة ابن رشد وكتبه عدم إلمامه بلغة غير العربية. أهو اعتداد بالنفس واكتفاء بما حوته اللغة العربية من العلم والأدب، أم ازدراء بما في غيرها من اللغات والكتب، أم يأس من التحصيل لتعذر التعليم؟ لم يعرف ابن رشد اليونانية التي وضعت بها مؤلفات أستاذه ورئيسه أرسطو، ولم يعرف غيرها من اللغات الأخرى الشائعة لعهده، مثل السريانية والفارسية، حتى ولا الإسبانية وهي لغة القوم الذين شب وشاب في بلادهم.
على أن ابن رشد لم يكن وحيدا في عدم الأخذ باللغات؛ لأن معظم أسلافه من حكماء العرب لم يأخذوا بها، وقد ضاعت عليهم لهذا السبب جميع كنوز آدابها الغنية فلم يقفوا على شعر هوميروس ولا بندار ولا سوفوكليس، فضلا عن إيشيل وإريستوفان وديموستين. بل إنهم أهملوا أفلاطون نفسه وقصروا كل همهم على درس فلسفة أرسطو، لأن تراجمة الشرق عنوا بكتبه دون غيرها.
ولا شك في أن مؤلفات أرسطو التي شرحها ابن رشد وصلت إليه باللغة العربية التي نقلت إليها في القرن الثالث الهجري قبل ظهور ابن رشد بثلاثة قرون، ويرجع فضل تلك التراجم إلى عصبة من أدباء الشام أمثال حنين بن إسحق وإسحق بن حنين ويحيى بن عدي وأبو بشر متى.
كان ابن رشد حريصا على الجوهر، فإن فاتته اللغة الأصلية (وهذا يدعو إلى الأسف) فلم تفته فكرة المقارنة بين جميع التراجم المعروفة لعهده، فقد جمعها وفحصها وناقشها بحذق فائق، حتى يكاد من لا يعرف الواقع يحسب أنه كان يعرف اللغة الأصيلة، وقد عزيت إلى جهله باليونانية أغلاط وقع فيها وأخذها عليه ألد أعدائه لويس فيفيس، ولا شك أن التعصب الديني وعمى البصيرة دفعا لويس إلى المعاندة والمعاكسة، ولكن هذا لا ينفي صدق انتقاده في أمور.
فقد خلط ابن رشد بين بروتاغوراس وفيثاغورس، وبين فراطل وديموقريط، وحسب هيراقليط جماعة من أتباع هرقل أولهم سقراط، وزعم أن أناكساغور رئيس المذهب الإيطالي ... على أن لويس فيفيس الذي أعماه التعصب أخذ هذه الأغلاط على علاتها وحاسب ابن رشد عليها، ولم يدرك عذره لنقلها عن التراجمة الذين كان جهلهم بآداب اليونان وتاريخهم عظيما.
ونظن إحجام العرب عن الشعر القصصي والتأليف التمثيلي راجع إلى جهلهم بآداب اليونان واكتفائهم بدرس فلسفة أرسطو، على أن أرسطو نفسه لم يبدأ بتدوين الفلسفة إلا بعد أن أتقن آداب قومه. وفي مؤلفاته من الأمثال والشواهد والاقتباس ما يدل على ذلك، ويجوز أن إعراض العرب عن القصص والتمثيل نشأ عن الظن بأنهما خاليان من الجد والجلال القائمين بالفلسفة، وحسبوا أن الإسلام دين جد وخشونة، فنشئوا عليهما وبعدوا عن عوامل الاستهواء والتخدير، وخطأ هذا الرأي ظاهر. (30) أسلوب ابن رشد
أسلوب ابن رشد يشوبه الجفاف، وله العذر؛ فإن الفيلسوف لا يملك أن يصوغ تعاليمه في أسلوب رقيق جميل إلا إذا توافرت له شروط كثيرة لم تتوافر لابن رشد، منها سهولة اللغة وغناها وتهذيبها بأقلام العشرات بل المئات من الشعراء والكتاب، بحيث تصبح في يد الفيلسوف أداة سهلة تمكنه من التعبير عن أدق المعاني والأفكار وأبعد العواطف غورا، ومنها أن يكون الفيلسوف نفسه كاتبا بارعا في فنون الأدب، ولا نذكر أن هذين الشرطين اجتمعا لأحد اجتماعهما لنيتشه في ألمانيا، وبرجسون في فرنسا. وكثيرون من الفلاسفة الإفرنج يشبهون ابن رشد في أسلوبه، ونخص منهم بالذكر أوجست كومت، على أن الواقع يدعو إلى التسامح؛ لأن مؤلفات ابن رشد التي تمكن القارئ من الحكم على أسلوبه لصدورها عن قلمه مباشرة نادرة جدا، وهي في العربية لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة سيأتي الكلام عليها تفصيلا.
وذلك لأن معظم كتبه التي كانت موضع الثقة من الطلاب في أوروبا هي باللاتينية ومنقولة عن العبرية.
وسلسلة تأليفه من حيث تعدد الأساليب كثيرة الحلقات؛ فإن أرسطو كتب باليونانية ونقلت كتبه منها إلى السريانية، وترجمها العرب إلى العربية، فقرأها ابن رشد وشرحها، ونقلت شروحها، ونقلت شروحه إلى العبرية فاللاتينية.
ويستخلص من أسلوب ابن رشد في كتبه شغفه بذكر الرجال وتمحيص آرائهم، فأولهم أرسطو ثم شراح فلسفته من اليونان أمثال إسكندر فردوسي فنمستيوس فنيقولا الدمشقي، ومن العرب ابن سينا والغزالي، وقد يشتد في مجادلتهما لأغراض مختلفة، فهو يحارب الغزالي حربا خارجية لأنه يدافع فيها عن الفلسفة والفلاسفة. أما حربه مع ابن سينا فحرب داخلية أهلية سببها النزاع في تأييد المذاهب ونقضها، وجداله مع إسكندر ونمستيوس قوامه انتقاد شرحيهما وتخطئة فهمهما، وقد ظهر عليهما وبان الحق في جانبه، وإذا ذكر ابن باجه فإنما للثناء عليه وتزكيته، ويسميه والد الفلسفة بالأندلس.
وهو في معظم كتبه حاد المناقشة قاسي اللهجة شديد المراس على خصومه، وقد يسمو به القلم إلى أعلى درجات الكمال الفكري.
ويمتاز أسلوبه بوضوح شخصيته سواء أكان موجزا أم مسهبا، فإن أسهب واستطرد كان لطيف العبارة لين القول مقبول الإشارة، ولا تفوته الغاية بالتطويل ولا تغيب عن نظره نتيجة البحث، وله على نفسه سلطان يقفه في الوقت الملائم عند حده.
وقيمة كتبه في وقتنا هذا تاريخية محضة، ومن يتناول البحث في كتب ابن رشد وأفكاره فإنما يفعل ذلك بوصف كونها حلقة شريفة من سلسلة الفكر البشري لا مصدرا موثوقا به لتعاليم أرسطو ، فإن فلسفة أرسطو ظهرت باكتشاف كتبه بأصولها ونصوصها اليونانية في وسط القرن الخامس عشر، ونقلت إلى اللاتينية وسائر لغات أوروبا الحية، ولكنها لم تنقل بجملتها إلى الآن بالعربية. أما تمجيد ابن رشد لأرسطو فلا حد له فيكاد يؤلهه، وقد وضع له أوصافا تجعله فوق درجات الكمال الإنساني عقلا وفضلا، ولو كان ابن رشد يقول بتعدد الآلهة لجعل أرسطو رب الأرباب، والذي يملؤنا إعجابا وفخارا بابن رشد أنه بالرغم من تقديس أستاذه بما يفوق العبادة، فهو لا يتنحى عن الجهر برأيه وإن اختلفا. وله في ذلك طريقة ظريفة فلا يعارض المعلم الأول ولا يعترض عليه، بل يلفت نظر القارئ إلى رأي نفسه ويتخلى عن نتائج رأي أستاذه، لا سيما إذا كان يشتم من هذا الرأي مخالفة للدين والعقائد المنزلة، مثل ذلك ما جاء في الشرح الوسط للطبيعيات قال إنه يقصد إلى شرح المشائين دون ذكر رأيه بذاته، وإنه في ذلك يقتدي بالإمام الغزالي في شرح آراء الفلاسفة في كتابه «مقاصد الفلاسفة» ليتمكن من الرد عليها بحقيقتها.
كذلك عند كلامه على اتصال العقل المفارق بالإنسان فقد تنحى عن نتائج الاسترسال فيه، ولم يكن ابن رشد مبتكر هذه الطريقة، فقد سبقه إليها ابن سينا والغزالي وابن طفيل، وسبب هذا الحذر العجيب خوفهم من تهمة الإلحاد، على أن هذا التأدب الشديد في حق الدين لم يق ابن رشد شر تهمة التعطيل؛ لأن الفلاسفة إذا انقلبوا أئمة أو كرادلة فلا يجديهم ذلك نفعا في نظر أعداء الفلسفة.
شرح ابن رشد مؤلفات أرسطو بثلاث طرق: شرح صغير وشرح وسط وشرح كبير، ففي الكبير اقتباس لكل نبذة من أرسطو مع تحديدها بقوله: «قال أرسطو.» ثم يبدأ الشرح بالإسهاب والتعمق والاستطراد، وهذا الشرح الكبير أشبه شيء بتفسير القرآن من حيث التمييز المطلق بين المتن والشرح، وقد امتاز ابن رشد بهذه الطريقة على الفارابي وابن سينا، فقد كانا يمزجان نصوص أرسطو بشروحهما، أما الشرح الوسط فيقتبس الكلمات الأولى من متن أرسطو، ثم يسير على طريقة الفارابي، والشرح الصغير عبارة عن تحليل وجيز وهو من قبيل نثر المنظوم، فالمتكلم فيه ابن رشد ذاته، ويسير فيه على الطريقة التي ترضيه في الاقتباس والاستشهاد، والناظر في هذا الشرح يعتقد أنه تفسير قائم بذاته. والثابت أن ابن رشد وضع الشرح الكبير بعد الصغير والوسط، ودليلنا على ذلك أنه في آخر الشرح الكبير للطبيعيات الذي أتمه في الستين من عمره أشار إلى شرح أوجز منه، صنفه في مقتبل العمر، وكذلك في الشرح الوسط أعطى على نفسه عهدا بوضع الشرح الكبير. (31) في أسباب عدم اشتهاره عند المسلمين وسرعة انحلال الفلسفة بعده
السبب في عدم اشتهاره عند المسلمين كما يجب وسرعة انحلال الفلسفة واندثار معالم الحكمة بعده؛ يرجعان إلى عدم انتشار كتبه في الأقطار؛ لأنها لم تخرج من الأندلس التي لم يطل عهد الدول الإسلامية فيها، وقد أمر بعده المتعصب الجهول زيمنينز بإحراق المخطوطات العربية، وذلك بعد الفتح المسيحي وزوال دولة الموحدين، فأحرقت في ساحة غرناطة ثمانون ألف نسخة من الكتب العربية، ولا شك في أن جميع مؤلفات ابن رشد قد التهمتها نيران التعصب الأوروبي في تلك الحريقة العظمى.
وكل ما بقي للعالم من مؤلفات ابن رشد مكتوب بخط مغربي، مما يدل على أنه منقول من الكتب الأصيلة في الأندلس ونقل إلى أفريقيا ومراكش قبل تلك النكبة. أما الكتب العربية الموجودة في مكتبة اسكوريال فليست من أثار عرب الأندلس، إنما من أسلاب السفن التي كان يأسرها قرصان الإسبان من المغاربة، ومع ذلك فلم تنج تلك الكتب المغتصبة من اللهب، فقد أحرقت مرتين في مفتتح القرن السابع عشر وقبيل ختامه (1611 و1671م.) فتلف أكثر من نصفها.
وعدا الكتب القليلة الموجودة باسكوريال فله كتب عربية بمكتبة أوفيتشي بفلورنسا، وهي شرح وسط لكتاب الكون، وصغير للبلاغة والشعر، وشرح كامل لكتب المنطق وبعض كتبه الطبية في مكتبة باريس الوطنية وليدن واسكوريال. وكتبه العربية نادرة جدا، ولكنها كثيرة الانتشار بالعبرية واللاتينية، ولم ينشر بالعربية لابن رشد كتاب قبل أواسط القرن التاسع عشر (1859)؛ أي بعد موته بستة قرون ونصف، والفضل في ذلك للعالم الألماني مولر الذي تقدم غيره في نشر فصل المقال. والفضل في نشر كتبه باللاتينية في القرن الخامس عشر لمدن البندقية وبادوا ثم بولونيا وروما ونابولي بإيطاليا، ثم ليون بفرنسا، وقد كثر الإقبال عليها في السادس عشر، ثم نامت في السابع عشر، ثم نسيت بتاتا، وكان هذا آخر عهد ابن رشد بالشهرة في الغرب. (32) مذهب ابن رشد
إن تعاليم ابن رشد تشبه بصفة عامة تعاليم أسلافه ومعاصريه من فلاسفة العرب. وهذه التعاليم ذاتها لا تخرج عن فلسفة أرسطو، مضافا إليها نظريات من الأفلاطونية المستحدثة، وقد امتاز فلاسفة العرب بأن أضافوا إلى تعاليم أرسطو نظرية عقول الدوائر أو الكريات الكائنة بين المتحرك الأول وبين العالم، وانتحلوا فكرة «الانبثاق العام»، والمقصود بها أن الكائنات جمعيها انبثقت وصدرت عن الله؛ أي إنه تعالى هو مصدر خلق الكائنات والمقصود من القول بهذه النظرية اتصال الحركة من المحرك الأول بما هو قريب منه من الكريات ومنها إلى ما هو أدنى من سائر أجزاء الكون، وهكذا إلى العالم الأرضي.
وإنما التجأ فلاسفة العرب إلى هذا المذهب «الانبثاقي» ليطهروا تعليم أرسطو من مذهب الثنوية؛ أي اشتراك القوة والمادة في خلق العالم، وليملئوا الفراغ الفاصل بين القوة القائمة بذاتها أو القوة المحض وبين المادة الأولى. ولا يخفى أن الثنوية الأرسطية غايتها تعليل العالم بفرض وجود عنصرين مطلقين في ذاتهما مستقلين عن بعضهما منفصلين تمام الانفصال؛ وهما الروح أو القوة والمادة. ولما كان التوحيد أولى فرائض الإسلام، وكان أرسطو هو الفيلسوف الوحيد الذي انتحل المسلمون تعليمه، وكان تحوير تعليمه أهون عليهم وأسهل لديهم من الانحراف عن العقيدة الدينية، انتحلوا مذهب «الانبثاق العام» وأحلوه محل الثنوية الأرسطية، على ما فيه من مخالفة جوهرية لبقية تعاليم أرسطو.
وقد سار ابن رشد على هذا الدرب الذي سار عليه من قبل الفارابي وابن سينا؛ لأجل ما تقدم صار مذهب ابن رشد علما على مذاهب فلاسفة العرب الذين اهتدوا بأرسطو وتبعوا مدرسته، ويجوز أن يطلق عليهم تجاوزا اسم «المشائين في العرب»، فمذهب ابن رشد يجمع مذاهبهم ويوفق بين أرائهم ويلم شعث تعليمهم. وقد صار اسمه اسما للفلسفة العربية؛ لأنه لم يشتغل واحد من فلاسفة العرب بغير تعاليم أرسطو، ومن حسن حظه أنه جاء متأخرا وقد ألم بمؤلفات المتقدمين منهم وذكرهم وروى عنهم وقرظ بعضهم وانتقد البعض الآخر؛ فنتج عن ذلك أن امتزجت أفكارهم بأفكاره، واختلطت آثارهم بآثاره، فنسب إليه المؤرخون في الشرق والغرب آراء الذين سبقوه مثل ابن سينا والفارابي.
على أن العدل يقضي بالقول بأن فضل ابن رشد لا يربو على فضلهم إلا في أنه أسهب في شرح أقوالهم، على أن ابن رشد لم يكن ناقلا وشارحا ومقلدا فقط كما يذهب إليه بعض المؤرخين، بل كان أيضا واضعا ومبتدعا ومجددا، ومثله في الابتداع والتجديد في أثناء الشرح والتفسير مثل غيره من فلاسفة العرب، فإنهم لم يقنعوا بشرح أرسطو بغير نقص أو ازدياد، إنما اتخذوا شرح مذهبه وسيلة لبيان مذاهبهم.
ومن ينعم النظر في كتب العرب التي جعلوها شرحا لفلسفة اليونان، يستطع استخلاص فلسفة عربية إسلامية قائمة بذاتها، ممتازة بعناصر فكرية خاصة بها، ومغايرة في مجموعها للفلسفة المعروفة لعهدهم والمعمول بها بين أهل الرأي. وهذه الفلسفة العربية الإسلامية الخاصة ظاهرة آثارها بجلاء في مذاهب الفرق المعتزلة والقدرية والجبرية والصفاتية والباطنية والأشعرية وفي علوم الكلام. ويظهر هذا من مراجعة أمثال كتاب الملل والنحل والفرق بين الفرق، ولكن العرب لم يطلقوا على مباحث هذه الفرق اسم الفلسفة لأسباب يطول شرحها، وليس هنا مقام الكلام فيها، إنما قصروا اسم الفلسفة في عرفهم على فلسفة الأقدمين، وأطلقوا اسم الفيلسوف على من ينقطع لدرسها وفحصها وشرحها. إذا تقرر ذلك وضح لنا أن ما يعرف بالفلسفة العربية هو في الحقيقة جزء محدود جدا من الحركة الفكرية في الإسلام.
وقد اختلف الناس في أي الوصفين أفضل الفلسفة العربية أو الفلسفة الإسلامية، ولكل من منتحلي أحد الوصفين حجج وقرائن، أما نحن فنفضل وصف الفلسفة الإسلامية؛ لأن أبحاثنا في الكندي والفارابي دلت على أن الفضل في انتحال الفلسفة اليونانية راجع للعباسيين، وهم من سلالة فارسية ؛ أي من شعب آري من هنود أوروبا. وإن كانت الفلسفة بعيدة عن العرب وغريبة عنهم بوصف كونهم شعبا ساميا، فما هي بالغريبة عن الإسلام بوصف كونه مجموعة عقائد وجدانية وقواعد عقلية وأنظمة اجتماعية ومبادئ مدنية.
على أن هذا التمييز لا يضير العرب في شيء ولا يقلل من قدرهم، فإن العباسيين لولا الإسلام ما اتجه نظرهم نحو الفلسفة اليونانية، وأول فلاسفة الإسلام عربي صميم وهو الكندي، والإسلام ذاته مصدره نبي عربي نشأ وترعرع ودعا لدينه في البلاد العربية، فمثل الفلسفة الإسلامية كمثل كتاب ذي جزأين: الأول مصدره الشرق، وقد دونه الكندي والفارابي وابن سينا؛ والثاني مصدره الغرب، ومؤلفوه ابن باجه وابن طفيل وابن رشد. والناظر في فلسفة ابن رشد يرى أنها لا تختلف في جوهرها عن فلسفة ابن باجه وابن طفيل. وهذان الحكيمان قد أكملا وأتما في الغرب ما بدأ به الثلاثة الأول في الشرق.
في الفلسفة الإسلامية ثلاثة أسماء تعلو على ما عداها علو قمم حملايا والجبل الأبيض على قلل الجبال الصغرى، هذه الأسماء هي ابن سينا والغزالي وابن رشد: أما ابن سينا فهو أعلى فلاسفة الشرق الإسلامي كعبا وأوسعهم رأيا وأطولهم نفسا وأرحبهم فكرا. والغزالي باقعتهم وداهيتهم ومقدمهم؛ لأنه أقدرهم بحثا وأبعدهم نظرا وأعمقهم فكرا وأطولهم باعا وأبلغهم يراعا، وقد كان من حظه أنه أدرك قبل سواه استحالة الوصول إلى الحقيقة بطريقة العقل، وقد جاءت فلسفة كانط الألماني بعده بعدة قرون تؤيد رأيه. فلما وقر في نفس الغزالي عجز العقل البشري عن الوصول إلى الحقيقة بطريق البحث الفكري، تصوف ظنا منه أن طريق الصوفية أقرب الطرق للوصول، وكان من نتائج هذا التحول الطبيعي في عقل جبار كعقله أنه بدأ يهدم آراء الفلاسفة، فألف كتاب تهافت الفلاسفة ضد آراء ابن سينا، وحاول هدم «مبدأ العلة»، فالغزالي سبق كانط في القول باستحالة وصول العقل إلى الحقيقة، وأقول إنه سبق أيضا هيوم الأيقوسي الذي كان جاحدا ومعطلا، وكان لآرائه بعض الأثر في ذهن كانط، والفرق بينهما أن هيوم وضع مبدأ اليأس على أساس الفوضى، ولكن كانط وضعه على أساس المنطق والنظام.
الغزالي أنكر قدر العلم وحط من قيمته، ونهى عنه لقلة نفعه. وأنكر قوة العقل وأثبت عجزه فسبق في ذلك حكيمين من أكبر حكماء أوروبا الحديثة، وهما هيوم وكانط، ثم أخذ يبحث عن طريق للوصول إلى الحقيقة، فاهتدى إلى مذهب الافتطار، وهو المذهب الذي يقول به الآن في فرنسا الفيلسوف برجسون، هذان هما العالمان اللذان ظهرا في الشرق: ابن سينا والغزالي، وثالثهما ابن رشد، وقد ظهر فضله في أمور كثيرة، منها أن الفلسفة كانت منذ القدم تشمل نظريتين عظيمتين في تعليل الكون وتفسيره وحقيقة السبب الأول وتحديده. النظرية الأولى: تقول بحرية علة العلل، وبأن لها مميزات تحددها وتعينها، وأن للعناية ما لها من القدرة في تدبير العالم، وتشرح سبب خلق الكون وغايته ونهايته، وتقول بأن النفس الإنسانية كان مادي خالد. والنظرية الثانية: تقول بأن المادة أزلية، وأن أصل الحياة جرثومة تتطور بفعل قوتها الكامنة، وأن علة العلل غير محدودة، وأن للطبيعة قوانين لا بد من نفوذها، وأن الضرورة من قوانين الكون، وأن للعقل وجودا غير مستقل. وقد كان من نصيب فلاسفة الإسلام أن انتحلوا النظرية الثانية.
وكان الفضل في إظهارها وتفسيرها ودعمها لابن رشد أكثر من غيره، وهو كما أسلفنا ثالث العلمين ابن سينا والغزالي، وإذا أمعنا النظر في المذهبين السالفين نرى أن أولهما مذهب الخلق، وثانيهما مذهب التطور والارتقاء. وكان من حسن الحظ أن ابن رشد دحض نظرية الخلق ونقضها وأيد نظرية التطور وقال بها، ومن مستلزماتها القول بأزلية المادة وضرورتها، وأنها أصل الكائنات، وأنها «لا بد منها ولا غنى عنها».
أما عن تدبير الكون بالنسبة لعلة العلل فقد قال ابن رشد: «إن حكم الكون يشبه حكم المدينة، فالحاكم هو المصدر الأعلى لكل ما ينفذ، ولكن جزئيات حوادثها وتفاصيلها لا تصدر عنه مباشرة ولا يتحتم علمه بها.»
ويعتبر ابن رشد السماء كائنا حيا مكونا من عدة أجرام لها أنظمة خاصة بها في حياتها ودوراتها وتأثيرها في بعضها البعض وفي الإنسان، وهذا كله مستفاد من الكتاب الثاني عشر من بعد الطبيعة لأرسطو، ونظرية ابن رشد في العقل الإنساني هي خلاصة الكتاب الثالث من كتاب الروح، مضافا إليها مزيج من التصوف والتوفيق والتقريب التي يمتاز بها حكماء الإسلام. (33) مذهبه في العقل
غير أن ابن رشد امتاز بمذهبه في العقل، وقد قال فيه قولا اهتز له علماء اللاهوت في القرن الثالث عشر المسيحي، فإنه لما أخذ يشرح رأي أرسطو في العقل الفعال أو المؤثر والعقل المتأثر أو المتلقي، بدأ بالرد على آراء الشراح السالفين وفندها وزيفها، وقرر أنه استخرج رأي أرسطو على حقيقته دونهم، وأنهم لم يدركوه ولم يبلغوا شأوه، وهاك رأيه ملخصا بإيجاز عن مقالته «في النفس» المحفوظة بدار الكتب الوطنية بباريس: إن القوة التي تتلقى المعقولات لا تتأثر بها ولا تنفعل بتأثير، سوى تأثير الإدراك، وهذه القوة تعادل قوة الشيء المدرك ويمكن تصورها بطريق القياس. وقوة المعقولات كالحس للمحسوسات مع فارق وهو أن القوة التي تتأثر بالمحسوسات تخالطها نوعا.
أما قوة المعقولات فخالصة مطلقا شريفة بذاتها منزهة عن الاختلاط بالصورة، ومما لا بد من بيانه أن هذه القوة وهي العقل الهيولي، لما كانت تدرك كافة المعقولات وتلم بجميع الصور، فلا يجوز أن تمازج الصور والأشكال؛ لئلا تمنعها إحدى الصور التي تخالطها عن إدراك غيرها من الصور، أو يؤدي التمازج إلى تغير الصور المدركة، فإذا تغيرت تلك الصور اضطرب التعقل، وفقد العقل الهيولي قوته التي أصلها إدراك الصور على حقيقتها، وتحولت طبيعته وهي الإلمام بالأشكال بغير تغير طبيعتها.
لهذا تقضي الضرورة ببقاء العقل قوة قائمة خالصة من شوائب الاختلاط طاهرة من أدران الامتزاج بالأشكال. فإذا تقرر ذلك، ثبت أن طبيعة العقل لا تكون إلا سجية بسيطة غير مركبة، وما العقل بعنصر محتاج إلى الترتيب، إنما هو الترتيب بذاته والنظام بعينه. والعقل في القوة يقابله العقل الهيولي، والهيولي إما مكون من مادة مصورة وإما بسيط فهو المادة الأولى.
هذا هو معنى العقل المتأثر الذي وضعه أرسطو وشرحه إسكندر فردوسي، ثم أخذ ابن رشد يشرح تفسير تمستيس ومرجعه أن العقل أو الهيولي لا يخالط قوى النفس الأخرى، وهو عبارة عن استعداد ذي مادة منفصلة عما عداها من القوى، ويقول ابن رشد إن العقل سجية أو استعداد بغير صور هيولية، وهو كذلك مادة منفصلة محلاة بهذا الاستعداد؛ لأن الاستعداد القائم بالإنسان يجوز اتصاله بالمادة المنفصلة لأنها لاصقة بالإنسان، أما الاستعداد فليس ملازما لطبيعة المادة المنفصلة كما ظن الشراح، وليست استعدادا صافيا كما ظن إسكندر بمفرده.
ومما يدل على أن الاستعداد ليس خالصا بذاته كون العقل الهيولي يدرك هذا الاستعداد بدون صور مع إدراك الصور، فيتحتم حينئذ أن يدرك اللاوجود، حيث يمكنه إدراك ذاته بغير صور، وينتج عن هذا أن القوة التي تدرك هذا الاستعداد والصور التي تطرأ عليه تكون حتما خارجة عنه، ويظهر من هذا جليا أن العقل الهيولي هو شيء مركب ومكون من الاستعداد القائم بالإنسان، ومن عقل يضيف ذاته إلى هذا الاستعداد ويبقى مستعدا بالقوة لا بالفعل، وهذا العقل هو العقل الفعال بذاته، وما دام فعالا بالقوة فهو عاجز عن إدراك ذاته، وقادر على إدراك ما عداه؛ أي الموجودات الهيولية، وإذا ما انفصل عن الاستعداد صار عقلا بالفعل مدركا ذاته دون ما كان خارجا عنه من الهيوليات، ولما كان في النفس وظيفتان: الأولى صنع الصور المعقولة، والثانية تلقيها، فما دام العقل يصنع صورا معقولة فهو عقل فعال، وما دام يتلقاها فهو متأثر، وما هاتان الوظيفتان المتعددتان في الظاهر إلا وظيفة واحدة في الحقيقة.
ويظهر مما تقدم أن إسكندر استقل دون من عداه من الشراح برأي يخالفهم، ولكن رأي أرسطو جامع بين الاثنين، وغني عن البيان أن ابن رشد يشارك حكماء العرب في شرح هذه المسألة العويصة، ولكنه امتاز بمبحث عظيم الشأن، وهو ما إذا كان العقل الإنساني أو الهيولي أو المتأثر يستطيع الاندماج في الحياة الدنيوية بالعقل الفعال العام.
فقسم ابن رشد قوى النفس وبين علاقتها ببعضها، ثم أوجب الارتباط بين العقل المنفصل الفعال وبين العقل الهيولي كارتباط المادة بالصور، وقال إن العقل بالملكة يدرك العقل الفعال العام، وإن العكس مستحيل؛ لأن العقل الفعال العام لو أدرك العقل بالملكة أي العقل الإنساني لطرأ عليه حادث، وحيث إن العقل الفعال العام مادة أبدية وليست عرضة للطوارئ، فالعقل الإنساني هو الذي يدرك العقل العام؛ أي إنه يرفع ذاته إلى العقل العام ويتحد به مع كونه قابلا للفناء ومع بقائه كذلك، فيتولد منه استعداد جديد يمكنه من إدراك العقل العام، ومثل العقل العام كالنار والعقل الإنساني هشيم يشتعل ويتحول لهبا بقربه من النار، وهذا هو الاتصال المباشر.
وقد يكون الاتصال بالعقل المستفاد أو المنبثق، وتكلم في إمكان الاتصال بالعقل العام وهو أقصى درجات الكمال، فقال إنه يختلف باختلاف الأفراد، ومرجعه ثلاث قوى: الأولى قوة العقل الهيولي الأصيل وأساسها قوة الخيال، الثانية كمال العقل بالملكة، ويقتضي بذل جهود في التفكير، الثالثة الإلهام وهو معونة ربانية تصدر من فضل الله، جعلها ابن باجه شرطا أساسيا للاتصال، فإذا ما توافرت للفرد تلك المواهب الثلاث وهيأته العناية للوصول، خفيت ذاتية المتصل والعقل الفعال ذاته ينمحي لدى اتصاله بالله الموجود الحق الفرد الذي له الوحدانية المطلقة، وكذلك تنمحي سائر صفات النفس كما تلتهم النار مستصغر اللهب.
ومجمل القول إن الكمال الأعلى يبلغ بالدرس والتفكير والترفع عن الدنايا والشهوات بعد تكميل العقل المفكر، ولا يكفي ما زعمه الصوفيون للاتصال من التأمل العقيم بدون درس، وهذه السعادة العليا لا ينالها الإنسان في هذه الحياة إلا بالدرس والاجتهاد والمثابرة، ومن لا ينالها في هذه الحياة يهلك بالموت ويلحقه العذاب الأليم، ولما كان ابن رشد لم يقل بأن العقل الهيولي مادة فردة، إنما جعله استعدادا بسيطا يوجد ويعدم مع الإنسان الذي يولد ويموت، فلا يرى شيئا خالدا سوى العقل الفعال العام، والإنسان لا يكسب بالاتصال شيئا ينقله من الوجود الدنيوي، أما خلود النفس فخرافة.
والمعلومات العامة التي تصدر عن العقل الفعال العام لا تفنى بأجمعها، وإن كانت العقول التي تتلقاها تفنى. وقد سبق ابن رشد في نظرية العقل المؤثر والعقل المتأثر فيلسوفا جاء بعده بعدة قرون وهو ليبنتز؛ فقد قال ابن رشد بوحدة العقول البشرية، ويمكن للباحث المقارنة بين قول ابن رشد وبين نظرية ليبنتز المعروفة باسم
Monopsychisme
ولابن رشد في هذا فضل على أرسطو لا ينكر، فإن أرسطو قد وصل إليه بأبحاثه ولكنه لم يقل به صراحة.
ومن يقرأ الكتاب الثالث في «الروح» لا يسعه إلا استنتاج مذهب وحدة النفوس نتيجة مباشرة لمذهب أرسطو، ولكن أرسطو لم يقل بها، وأما ابن رشد فقال بها. وما أشبه قول مالبرانش بقول أرسطو في العقل الغير المعين الذي يرشد الخلق جميعا، وبدونه لا يدرك شيء. وقد اتفق مع ابن رشد في الوصول إلى هذه النظرية واستنتاجها من كتب أرسطو جميع الشراح الإغريق الذين تصدوا لشرح أرسطو، أمثال إسكندر فردوسي وتمستيوس دي فليبون وسائر فلاسفة الإسلام، ولما كان لهذه النظرية شأن عظيم فلا بأس من الإلمام بها بإيجاز.
يظهر أن السبب الذي منع أرسطو عن التصريح بها مخالفتها لروح فلسفة المشائين بل غرابتها بتاتا، وهو نفسه في الكتاب الثامن من الطبيعيات يقول بأنها من آراء أناكساغور، ويمكن تلخيص نظرية أرسطو بأن العقل يحتاج في فعله إلى أمرين: الأول أثر خارجي يتلقاه الكائن المفكر بطريق الحس، الثاني رد فعل يصدر عن الداخل بمناسبة حدوث الأثر: فالحس يقدم للفكر مادة التفكير والعقل الصرف يقدم شكل التفكير؛ أي إن الحس والعقل يتضافران في إحداث المعقول، الأول يعطي الموضوع والثاني يعطي الشكل، وهذه النظرية لا تختلف في شيء جوهري عن النظريات الحديثة في المعرفة التي وصل إليها الفلاسفة في القرن التاسع عشر قبل ظهور برجسون في فرنسا.
جاء شراح أرسطو وبسطوا نظرية العقل حسبما تقتضيه آراء المشائين، فأبرزوا لنا خمسة مباحث:
الأول:
تمييز بين العقل الفعال والعقل المتأثر.
الثاني:
عدم هلاك العقل الفعال أو المؤثر وقابلية الثاني للهلاك.
الثالث:
عقل فعال خارج عن الإنسان مثله كمثل شمس العقول.
الرابع:
وحدة العقل الفعال.
الخامس:
وحدة العقل الفعال مع آخر العقول الدنيوية.
وإذا رجعنا إلى نصوص أرسطو ألفينا كلامه جليا واضحا في المبحثين الأول والثاني، ومترددا في الثالث. والفضل في إبراز المبحثين الرابع والخامس يرجع إلى ابن رشد وبقية الشراح، وقد قال بهما بعد ذلك ليبنتزو مالبرانش، وكلاهما من أتباع ديكارت وخلفائه المباشرين في فلسفته، وهو يعد واضع الفلسفة الحديثة. وقد تفوق ابن رشد على غيره من الشراح حتى الإغريق منهم، وهم الذين قرءوا أرسطو في الأصل؛ لأن ابن رشد وإن كان قد اعتمد على التراجم إلا أنه وصل بعقله القوي في وسط ظلام النقل والتحريف إلى ما لم يصل إليه أحد من قراء الأصول.
تقدم ابن رشد لأنه بحق أفضل من شراح اليونان أمثال إسكندر فردوسي، فإنه ينسب إلى أرسطو القول بأن العقل حالة استعدادية للتلقي، والحقيقة هي التي قال بها ابن رشد، وهي أن أرسطو قال بأن العقل كائن مستعد للتلقي. ويقيم ابن رشد الحجة على إسكندر ويجادله جدلا عنيفا في كتبه، وينسب إليه التقصير والقصور عن إدراك حقيقة آراء أرسطو، ويخطئه بجرأة المفكر الواثق من نفسه، والحقيقة هي التي قال بها ابن رشد وأيده فيها بقية الفلاسفة. (34) في النفس
أما رأي ابن رشد في النفس فهو يقول بأنها متصلة بالجسم اتصال الصورة بالمادة، وهو يخالف ابن سينا في قوله بنظرية النفوس المتعددة في الخلود؛ أي خلود النفوس جملة؛ لأن النفس لا وجود لها إلا مكملة للجسم المتصل بها. ومجمل آراء ابن رشد في علم النفس تتفق مع آراء أرسطو وتخالف جالينوس، ولا يخالف أرسطو إلا في نظرية واحدة وهي نظرية أرسطو في «نوس»، فإن ابن رشد يخالفه مخالفة على غير أساس مستمدا آراءه من الأفلاطونية المستحدثة، على ما فيها من التناقض لمذهب أرسطو في جملته.
أما قوله في العقل فغايته أن العقل المتأثر هو عقل الأفراد، وهو قابل للزوال، والعقل الأزلي هو عقل الإنسان بوصف كونه جنسا، ووظيفة العقل الفعال تقديم الصور النفسية بهيئة مقبولة للعقل المنفعل فيتقبلها ويدركها.
ظن كثيرون من فلاسفة القرون الوسطى أن ابن رشد قال بوحدة النفوس، وحاولوا الطعن فيه والرد عليه، فقد خيل إليهم أن رأي ابن رشد يؤدي إلى القول بأن النفس العامة تكون عاملة وغير عاملة، وطروبا وحزينة على التوالي، وفي هذا من التناقض ما فيه. إنما عقيدة ابن رشد في وحدة النفوس كانت ترمي إلى غرض أسمى في نظام الكون، فقد كان يعتقد أن أجزاء الكون متشابهة وذات حياة ووجود لا شك فيهما، وأن الفكر الإنساني في مجموعه نتيجة القوى العليا ومظهر عام للكون بأسره.
ومعنى هذا أن ابن رشد كان يقصد بوحدة النفوس القول بأن الإنسانية تعيش عيشة دائمة، وأن خلود العقل الفعال هو إحياء دائم للإنسانية واستمرار دائم للمدنية. وهنا نلفت نظر الباحثين إلى الاتفاق التام بين هذا القول وبين نظرية أوجست كومت في خلود الإنسانية وبقائها، تلك النظرية التي أدت به إلى وضع دين الإنسانية، فأقيمت له معابد في بعض ممالك الغرب.
يقول ابن رشد مستمرا في نظرية وحدة النفوس إن العقل كائن مطلق مستقل عن الأفراد كأنه جزء من الكون. وإن الإنسانية وهي أحد أفعال هذا العقل عبارة عن كائن لازم الوجود أزلي، وإنه بناء على هذا، لا بد من ظهور الفلسفة، وإن وجودها ضروري ليتمكن الفيلسوف من الإشراف على العقل المطلق، وينتج من هذا أن الإنسان والفيلسوف لازمان لنظام الكون. (35) مذهب الاتصال
هو أساس علوم النفس في الشرق، وهو المذهب الذي شغل فلاسفة الأندلس أمثال ابن باجه وابن طفيل كما أسلفنا، بل هو مذهب التصوف، وبه كان للصوفية سبع منازل أو درجات، وقد عبر عنه بعض فلاسفة الإفرنج مثل إرنست رينان أنه مذهب «نحن وأنت»، أو مذهب القائلين أنا أنت، وأنت أنا، وأنا هو.
إذا تبدى حبيبي
بأي عين أراه
بعينه أم بعيني
فما يراه سواه
ومن حسن حظ الفلسفة أن ابن رشد بقي بعيدا عن هذا المذهب، لأنه كان أقل الفلاسفة تصوفا، وأكثرهم اتباعا للعقل واقتفاء لأثر الحقائق، وكان يقول بأن الاتصال ممكن بالعلم دون سواه، وأعظم نقط الوصول بلوغ العقل الإنساني أعلى درجات السمو الفكري والعلمي، وأن اتصال الإنسان بواجب الوجود ممكن إذا تمكن الإنسان من رفع النقاب عن وجه الحقيقة ونظر إليها مباشرة وبغير حجاب.
ولابن رشد رأي شديد في الصوفية، فهو يطعن في زهدهم، ويقول بأن غاية الإنسان انتصار أرقى أجزاء نفسه على حواسه، فمن بلغ هذه الدرجة فقد بلغ الجنة، مهما كانت عقيدته، وأن هذه أرقى درجات السعادة، وأن السبيل إليها وعر والوصول نادر؛ لأنها مقصورة على خاصة العظماء لا يصلون إليها إلا في الشيخوخة بعد طول البحث والتعمق في العقليات والإعراض عن الأعراض الزائلة، والقناعة بما يكفي الحياة المادية.
وإن كثيرين من الحكماء قد بلغوا هذه الدرجة وذاقوا حلاوتها لدى الموت؛ لأن هذا الكمال النفساني ينمو على عكس الكمال البدني، فكلما ضعف الجسم، دنت النفس من تلك الرتبة العليا.
وقال ابن رشد إن الفارابي سعى إلى هذه الدرجة طول عمره وانتظرها إلى آخر نسمة من حياته، فلما لم ينلها قال إنها وهم باطل، ولكن حرمان الفارابي من الوصول ليس دليلا على عدمه، ولكنه دليل على أنه لم يوفق، ولم يكن بين الذين اختارتهم العناية للتمتع بهذه النعمة الكبرى.
نقول إن الذي يمعن النظر في هذا القول يرى أن ابن رشد لم يستطع التخلص من آراء معاصريه، فما هذا القول إلا نوع من التصوف العقلي قد جعله ابن رشد بديلا من التصوف الروحاني الذي قال به الغزالي ولكنه «تصوف». (36) النظام الطبيعي في فلسفته
فلسفة ابن رشد نظام طبيعي متماسك الأجزاء، مجموع الشمل، محبوك الأطراف، وهذا ظاهر في رأيه في الخلود، فقد قال بأن العقل الفعال وحده خالد، وأنه هو العقل العام للإنسانية، فالإنسانية وحدها خالدة كما قال بعده أوجست كومت. وأن العناية الإلهية منحت الكائن الهالك قوة التناسل، تعزية وسلوى؛ لأن في التناسل بفضل الوراثة نوعا من الخلود.
وقد ذهب البعض إلى أن ابن رشد نفى وجود الحواس والذاكرة والعواطف في الحياة الأخرى، وأن البدن بعد انحلاله لا يبقى من آثاره شيء، وأن الذي يبقى هو العقل، وهو من المواهب العليا كما أن الحواس والعواطف من الصفات السفلى.
ولكن ابن رشد لم يقل بهذا في كتبه صراحة، لأن في التصريح إنكارا صريحا للبعث والخلود، ولكن يمكن القول بأن روح مذهب ابن رشد تؤدي إلى هذا الاستنتاج، ولكنه قال بغير شك إن الإنسان لا يثاب ولا يعاقب إلا في الحياة الدنيا. وكان هذا القول أمضى سلاح شهره الغزالي في وجه الفلاسفة، ونحن لا نعيب ذلك على ابن رشد، بل نشكره على أنه نقض الخرافات التي يقول بها العوام عن الحياة الأخرى، كالقول بأن الفضيلة الدنيوية وسيلة السعادة الأخروية. وقد أحسن ابن رشد بطعنه في آراء أفلاطون التي سبكها في خرافة لفقها عن الحياة الأخرى باسم «هير الأرمني»، وقال إن هذه الخرافات تضلل عقول الأمم ولا نفع فيها.
قال ابن رشد في «التهافت» إن حكماء العرب المتقدمين يحسبون البعث خرافة، وأن أول من قال به أنبياء بني إسرائيل بعد نبيهم موسى، ثم ورد ذكره في الإنجيل وكتب الصابئين، ودينهم في قول ابن حزم أقدم الأديان، وأن الذي دعا واضعي الأديان إلى القول بالبعث اعتقادهم بقوته في إصلاح البشر وحثهم على الفضيلة حبا في المنفعة الذاتية.
ويرد ابن رشد على الغزالي قوله بأن الروح عارض؛ أي إنها تعود إلى جسمها الذي هلك، وخليق بالغزالي أن يقول بأن الروح خالد؛ أي إنه سيحل بدنا مشابها لبدنه الأول؛ لأن البدن الذي هلك واعتراه الفساد لا يعود ثانية إلى الوجود، وهذان الجسمان أي الهالك والجديد وإن تعددا؛ فواحد بالنظر إلى الجنس والنوع، وهذا القول لا يختلف عن قول أرسطو في كتاب «الكون والفساد» من أن الكائن القابل للهلاك لا يعود مماثلا لذاته بعد هلاكه، ولكن يجوز أن يعود بالنوع الذي كان من جنسه. (37) مذهبه في الأخلاق
لم يكن لابن رشد مذهب في الأخلاق قائم بذاته، ولم يشأ أن يتخذ آداب أرسطو لأنها لا توافق العرب، ولكن أبحاثه العقلية أدت به إلى مناقشة المتكلمين في أساس الأخلاق وهو الخير والشر. قال: يقول علماء الكلام إن الخير بما يريده الله وإنه تعالى لا يريد الخير لسبب قائم بذاته، سابق لإرادته، بل لمجرد إرادته . وإنه تعالى قادر على الجمع بين المتناقضات، وإنه يدبر الكون بغير قيد ولا شرط بل بحرية مطلقة.
ولا يخفى ما في هذا الرأي من الخطأ لأنه يقلب نظام الكون وينقض مذهب العدل الإلهي. ثم انتقل ابن رشد إلى نظرية الحرية فقال: إن الإنسان ليس حرا على الإطلاق ولا مطلقا بغير قيد؛ أي إنه ليس مخيرا وليس مسيرا، وإن الحرية تكمل في نفس الإنسان ولكنها تبقى محدودة بقضاء الأحوال الخارجة. فالعلة المؤثرة في أعمالنا كائنة فينا أما العلة العرضية فخارجة عنا؛ لأن ما يجذبنا مستقل عنا وناشئ عن قوانين طبيعية؛ أي عن العناية الإلهية.
لأجل هذا وردت في القرآن آيات تصف الإنسان تارة بالحرية وطورا بالجبرية وتارة بالتحكم في أعماله، وهي حال وسط بين الأولى والثانية، وقد أوضح ابن رشد هذا المذهب الوسط بين الجبرية والقدرية في كتابه «مناهج الملة». يقول ابن رشد إن المادة الأولى قابلة للتشكل بالمتناقضات كذلك للنفس قوة تقرير مصيرها حيال مختلف الشئون، فهي بذلك حرة. ولكن ليست حريتها تابعة لهواها ولا حادثة عرضا؛ لأن القوى الفعالة في الكون مسئولة عن نظامه، وليست خلتها عدم المبالاة بسير الأمور. والمصادفات لا وجود لها في عالم المؤثرات. (38) فلسفته السياسية والاجتماعية
لم يدرك ابن رشد أن جمهورية أفلاطون كتاب خيالي وضعه فيلسوف واسع التصور في قالب شعري، أو أدرك تلك الحقيقة، ولكنه استصوب تطبيق مبادئ الجمهورية على الأنظمة الاجتماعية، لأجل هذا كانت فلسفته السياسية مستمدة من هذا الكتاب الجميل، فأشار بوضع السلطة في أيدي الشيوخ، وبتعليم الأمة الفضيلة بقوة الفصاحة والشعر والعبارة، ثم قال إن الشعر في ذاته مضر لا سيما شعر العرب، وقال إن الحكومة الكاملة لا تحتاج إلى قاض ولا طبيب، ولا بد من الجيش لحماية الرعية.
ولما كان مجال الكلام في الجمهورية، على العدل والظلم واسعا، فقد تناول ابن رشد ذلك وتكلم عن الظلم فقال: إن الظالم هو الذي يحكم الرعية لمصلحته لا لمصلحتها. وأفظع أنواع الظلم ظلم القساوسة، ثم قال إن حكومة العرب القديمة في صدر الإسلام كانت على نظام جمهورية أفلاطون، ولكن معاوية هدم نظامها وأتلف جمالها بأن خلع سلفه ثم أسس دولة استبدادية، وكان من نتيجة ذلك، تقوض أركان دولة الإسلام وحدوث الفوضى في سائر بلاده ومنها بلاد أندلس. وتكلم عن المرأة فقال إنها تقل عن الرجل في الدرجة لا في الطبيعة: أي كمية لا نوعا، فهي قادرة على ممارسة أعمال الرجال مثل الحرب والفلسفة. ولكن بدرجة أقل من الرجل، وقد تفوقه في بعض الفنون مثل الموسيقى، ويحسن وضع الأنغام بواسطة الرجال وتوقيعها بواسطة النساء، وقال لا بأس إذا حكمن الجمهورية؛ فهن صالحات للحرب وضرب أمثالا بنساء أفريقيا وقال: «إن إناث الكلاب تحرس القطيع مثل ذكورها.»
ثم قال ابن رشد قولا - كأن نفسه أوحت به إلى قاسم أمين بعد موته بنحو تسعمائة سنة - قال: إن حالتنا الاجتماعية لا تؤهلنا للإحاطة بكل ما يعود علينا من منافع المرأة، فهي في الظاهر صالحة للحمل والحضانة فقط، وما ذلك إلا لأن حال العبودية التي أنشأنا عليها نساءنا أتلفت مواهبها العظمى، وقضت على اقتدارها العقلي، فلذا لا نرى بين ظهرانينا امرأة ذات فضائل أو على خلق عظيم. وحياتهن تنقضي كما تنقضي حياة النبات. فهن عالة على أزواجهن، وقد كان ذلك سببا في شقاء المدن وهلاكها بؤسا لأن عدد النساء يربو على عدد الرجال ضعفين، فهن ثلثا مجموع السكان، ولكنهن يعشن كالحيوان طفيلي على جسم الثلث الباقي بعجزهن عن تحصيل قوتهن الضروري.
وقد دام الجدال بين علماء اللاهوت وبين أنصار ابن رشد من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر، إلى أن اضطر الباباليون العاشر إلى تكفيرهم بمنشور بابوي إذا هم أصروا على القول برأي ابن رشد، على أن ابن رشد الذي كفر البابا أتباعه لم يكن كافرا بل كان مؤمنا فقد نصح الناس بطاعة الدين في الصبا واحترامه في الشيخوخة.
وقد حاول ما حاوله الفارابي من قبل وهو الجمع بين الدين والفلسفة، فألف في ذلك كتابي فصل المقال ومناهج الأدلة، وقد بلغ ابن رشد بالفلسفة العربية أقصى ما يمكن الوصول إليه، وفسر أرسطو بما لا غاية وراءه. وكان آخر فلاسفة العرب وقد تركت تعاليمه أثرا عظيما لدى اليهود والنصارى، وربما كان هذا الأثر أعظم من أثرها في قومه! (39) واجب الوجود
ويظهر للباحث في تعاليم ابن رشد أنه يمتاز عن الفلاسفة الذين تقدموه لا سيما ابن سينا بإدراكه كون العالم خلقا دائم الحدوث أزلي النشوء؛ أي إنه هيئة متحدة ضرورية واجبة الوجود بحالتها، ويرجع شأن هذا الرأي إلى أنه يلتئم مع افتراض وجود كائن منفصل عن العالم يحركه وينظمه وهو خالقه وروحه ومحركه الأول، وأن هذا الخالق هو المبدأ الأول والصورة الأولى، وبه غاية الأشياء وإليه نهايتها لأنه منظمها ونظامها، والموفق بين المتناقضات بل هو الكل الكامل في أسمى معاني الوجود. وبديهي أنه يترتب على هذا الرأي نقض القول بعناية إلهية بالمعنى المألوف، وقد انتهى مذهبه في العقل والكون بتحتيم وجود الفيلسوف في العالم؛ لأن عقل الفيلسوف بوتقة يصهر فيها الكائن فيصير فكرا، ويمرق ابن رشد عن العقائد الدينية في ثلاثة أشياء.
الأول:
قوله بأزلية العالم المادي وأزلية الأرواح التي تحركه.
الثاني:
ضرورة السبب لحدوث النتائج، فلا مكان للعناية الإلهية ولا المعجزات النبوية ولا كرامات الأولياء؛ لأن ظهورها جميعا يؤدي إلى نقض نظرية الأسباب والنتائج.
الثالث:
هلاك الأفراد هلاكا لا مجال بعده لخلودهم أفرادا.
وكان ابن رشد مفكرا شجاعا ثابت المبدأ ولم يكن مبتكرا، وقد اكتفى بالبحث في الفلسفة النظرية.
ويخالف ابن طفيل وابن باجه في قولهما بالانفراد الفكري والوحدة، ويؤيد المذهب الاجتماعي، ويقول بضرورة تعاون الناس لاستثمار العالم والانتفاع بالحياة، وقد قاده هذا الرأي إلى القول بتحرير المرأة لإشراكها في أعمال المجتمع كما تقدم. (40) مبادئ ابن رشد «مستفادة من كتبه» (40-1) كلمة في مؤلفات الغزالي وفحصها ونقدها بإيجاز عن ابن رشد
يعيب ابن رشد على الغزالي تصريحه بالحكمة للجمهور في أماكن كثيرة من كتبه «التهافت» و«الكشف عن مناهج الأدلة». قال في عرض الكلام على الفساد العارض لسبب التأويل في الكتاب الأخير: «أول من غير هذا الدواء الأعظم (أي الأخذ بظاهر الشرع) هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور وبآراء الحكماء على ما أداه إليه فهمه (كذا)، وذلك في كتابه الذي سماه بالمقاصد، فزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم، ثم وضع كتابه المعروف بتهافت الفلاسفة فكفرهم فيه في مسائل وأتى بحجج مشككة وشبه محيرة أضلت كثيرا من الناس عن الحكمة وعن الشريعة. «ثم قال في كتابه «جوهر القرآن»: «إن الذي أثبته في كتاب التهافت هي أقاويل جدلية، وإن الحق إنما أثبته في المضنون على غير أهله.» ثم جاء في كتابه المعروف بمشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين بالله فقال: «إن سائرهم محجوبون إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك السماء الأولى، وهو الذي صدر عنه هذا المحرك، وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية.» «وقال في غيرما موضع أن علومهم الإلهية هي تخمينات بخلاف الأمر في سائر علومهم، وأما في كتابه الذي سماه «المنقذ من الضلال» فأنحى فيه على الحكماء، وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة هي من جنس مراتب الأنبياء في العلم، وكذلك صرح بذلك القول بعينه في كتابه الذي سماه بكيمياء السعادة، فصار الناس لسبب هذا التشويش والتخليط فرقتين: فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة، وفرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة، وهذا كله خطأ، بل ينبغي أن يفسر الشرع على ظاهره ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة؛ لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم دون أن يكون عندهم برهان عليها. وفي كتابه الذي سماه «التفرقة بين الإسلام والزندقة» عدد أصناف التأويلات وقطع فيه على أن المئول ليس بكافر، وإن خرق الإجماع في التأويل. وهذا الذي فعله هذا الرجل ضار بالذات للحكمة والشريعة، وإن كان نافعا لهما بالعرض، وذلك أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس بأهلها يلزم عن ذلك بالذات إما إبطال الحكمة وإما إبطال الشريعة، وقد يلزم عنه بالعرض الجمع بينهما (؟) والصواب كان أن لا يصرح بالحكمة للجمهور.» (40-2) الحكم على الغزالي وتخطيئه
قال ابن رشد في عرض الكلام على الهيولى ورده على الغزالي فيما نسبه إلى الفلاسفة في حدوث النفس: «فتعرض أبي حامد إلى مثل هذه الأشياء على هذا النحو من التعرض لا يليق بمثله، فإنه لا يخلو من أحد أمرين: إما أنه فهم هذه الأشياء على حقائقها فساقها ها هنا على غير حقائقها، وذلك من فعل الأشرار، وإما أنه لم يفهمها على حقيقتها فتعرض إلى القول فيما لم يحط به علما وذلك من فعل الجهال، والرجل يجل عندنا عن هذين الوضعين، ولكن لا بد للجواد من كبوة، فكبوة أبي حامد هي وضعه هذا الكتاب، ولعله طرأ إلى ذلك من أجل زمانه ومكانه.» (40-3) بذور مناهج الأدلة
كتب ابن رشد كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبه المزيفة والعقائد المضلة» حوالي السنة الرابعة من العقد السادس من عمره.
وكانت فكرة هذا الكتاب تجول في خاطره عند وضع «تهافت التهافت»، ولعل الذي أوحى بها إليه وقوفه على كتب الغزالي. وقصد ابن رشد من هذا الكتاب كما بينا ليس التوفيق بين الشريعة والحكمة بل قصده جعل الحكمة مقصورة على فريق من الناس يمتازون بالاستعداد الفطري والاقتدار على الدرس بالمثابرة وهم الخواص.
أما كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» فليس المقصود منه المعنى الظاهر من عنوانه، إنما المقصود به الاتصال بين ظاهر الشرع والحكمة الإلهية. ولم يفقد ابن رشد يوما قدرة التمييز والإدراك حتى يحاول الجمع بين الدين والفلسفة، وهذا القصد ظاهر ظهورا تاما من كتاب مناهج الأدلة. وكان ابن رشد يرمي إليه في التهافت، وهذه نبذة تدل على فكرته الأولى التي صدر عنها كتاب المناهج (ص88 تهافت).
إن الكلام في علم الباري تعالي بذاته وبغيره مما يحرم على طريق الجدل في حال المناظرة، فضلا عن أن يثبت في كتاب؛ فإنه لا تنتهي أفهام الجمهور إلى مثل هذه الدقائق. وإذا خيض معهم في هذا بطل معنى الإلهية عندهم، فلذلك كان الخوض في هذا العلم محرما عليهم؛ إذ كان المكافئ في سعادتهم أن يفهموا من ذلك ما طاقته إفهامهم، ولذلك لم يقتصر الشرع الذي قصده الأول تعليم الجمهور في تفهيم هذه الأشياء في الباري تعالى لوجودها في الإنسان كما قال الله:
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا .
بل واضطر إلى تفهيم معان في الباري تعالى بتمثيلها بالجوارح الإنسانية مثل قوله «خلقت بيدي» فهذه المسألة هي خاصة بالعلماء الراسخين الذين أطلعهم الله على الحقائق، ولذلك لا يجب أن يثبت في كتاب إلا في الموضوعة على الطريق البرهاني، وهي التي شأنها أن تقرأ على ترتيب وبعد تحصيل آخر يضيق على أكثر الناس النظر فيها على النحو البرهاني، إذا كان ذا فطرة فائقة مع قلة وجود هذه الفطرة في الناس، فالكلام في هذه الأشياء مع الجمهور هو بمنزلة من يسقي السموم أبدان كثير من الحيوانات التي تلك الأشياء سموم لها، فإن السموم إنما هي أمور مضافة، فإنه قد يكون سما في حق حيوان شيء هو غذاء في حق حيوان آخر. وهكذا الأمر في الآراء مع الإنسان، أعني قد يكون رأي هو سم في حق نوع من الناس وغذاء في حق نوع آخر، فمن جعل الآراء كلها ملائمة لكل نوع من أنواع الناس بمنزلة من جعل الأشياء كلها أغذية لجميع الناس ... فإذا تعدى الشرير الجاهل (هل يقصد حجة الإسلام؟) فسقي السم من هو في حقه سم على أنه غذاء، فقد ينبغي على الطبيب أن يجتهد بصناعته في شفائه، ولذلك استخرنا نحن التكلم في مثل هذا الكتاب، وإلا فما كنا نرى أن ذلك يجوز لنا، بل هو من أكبر المعاصي أو من أكبر الفساد في الأرض، وعقاب المفسدين معلوم بالشريعة!
هذه الحملة في التهافت كانت مقدمة للحملة في مناهج الأدلة. (40-4) الشريعة والفلسفة
لو تخيلت آمرا له مأمورون كثيرون، وأولئك المأمورون لهم مأمورون آخرون، ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر، ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين؛ لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي به صارت موجودة، فإنه أعطى كل شيء وجوده في أنه مأمور، ولا وجود له إلا من قبل الآمر الأول، وهذا المعني هو الذي يرى الفلاسفة أنه عبرت عنه الشرائع بالخلق والاختراع والتكليف، فهذا هو أقرب تعليم يمكن أن يفهم به مذهب هؤلاء القوم من غير أن يلحق ذلك الشنعة التي تلحق من سمع مذاهب القوم على التفضيل الذي ذكره الغزالي.
وليس يفهم من مذهب أرسطو غير هذا ولا من مذهب أفلاطون، وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية. والفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوي الإدراكان وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني عنه.
كذلك كان تمثيل المعاد للجمهور بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية كما قال الله تعالى:
مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار
فدل على أن ذلك الوجود نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود، وطور آخر أفضل من هذا الطور، والذين شكوا في هذه الأشياء وتعرضوا لذلك وأفصحوا به إنما هي الذين يقصدون إبطال الشرائع وإبطال الفضائل، وهم الزنادقة الذين يرون أن لا غاية للإنسان إلا التمتع باللذات، وما قاله هذا الرجل (الغزالي) في معاندتهم هو جيد.
وهذا الرجل كفر الفلاسفة بثلاث مسائل إحداها هذه، وقد قلنا كيف رأى الفلاسفة في هذه المسألة، وإنها عندهم من المسائل النظرية.
والمسألة الثانية قولهم إنه لا يعلم الجزئيات، وقد قلنا أيضا إن هذا القول ليس من قولهم. والثالثة قولهم بقدم العالم، وقد قلنا أيضا إن الذي يعنون بهذا الاسم، ليس هو المعنى الذي كفرهم به المتكلمون، وليس بكفر من قال بالمعاد الروحاني، ولم يقل بالمحسوس إجماعا، وجوز القول بالمعاد الروحاني. (41) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال و«الكشف عن مناهج الأدلة، في عقائد الملة» «وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبه المزيفة والعقائد المضلة»
يقال إن الكتاب يعرف من عنوانه، وعنوان كل من هذين الكتابين يدل على ما فيه دلالة صريحة. فقد حاول ابن رشد فيهما، أمرين من أصعب الأمور.
الأول التوفيق بين الفلسفة والدين، ومثله في ذلك مثل الفارابي، إذ حاول في رسالة مشهورة التوفيق بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، ومثل الغزالي نفسه الذي انتهت مبادئه الفلسفية (التي استنبطها في بعض كتبه بعقله القوي وفكره الخارق ونفسه المشتعلة) عند التصوف، فلم ينل إحدى السعادتين، لا سعادة العقل ولا سعادة القلب، ولكن ابن رشد يمتاز بقوة لم تمنح الطبيعة مثلها سواه من فلاسفة العرب، ألا وهي رباطة الجأش عند البحث الفلسفي ووزن الأشياء بميزان الاعتدال الدقيق.
فما رأيناه في أحد كتبه يندفع وراء فكرة اندفاعا يفقده قيمة الحكم الصحيح، ولا شممنا من يراعه ريح الخيال الذي طار في أفقه كثيرون من الفلاسفة. ونظن ذلك راجعا إلى سببين: الأول إيمانه الشديد بأرسطو، وأرسطو إله المنطق ورب الاعتدال؛ والثاني تشبعه بالمبادئ القانونية التي من دأبها تحليل الأشياء ووزنها قبل إصدار حكم عليها.
وإلى القارئ دليلا على قولنا هذا من كتابيه المذكورين آنفا، فقد تناول في أولهما مسائل في أعلى درجة من الأهمية العقلية والشرعية، تناول تلك المسائل باحثا ومحللا ومجادلا، ولكن بدقة الجراح الحاذق الذي يشرح أصغر الشرايين والأوردة ولا يهرق نقطة واحدة من الدم بدون فائدة.
بحث في الكتاب الأول في هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أو محظور؟ واستدل على الإباحة بل الوجوب مستندا إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية، ثم تدرج من ذلك إلى أن النظر في تلك العلوم لا يجوز أن يكون إلا بأتم أنواع القياس وهو البرهان. وأثبت وجوب الاعتقاد في النظر في القياس العقلي، وأنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله؛ أي النظر في الفلسفة بالمنطق بما قاله من تقدمنا في ذلك، سواء أكان ذلك الغير مشاركا لنا أم غير مشارك في الملة (أي فلاسفة اليونان وغيرهم من غير المسلمين).
ثم أثبت وجوب استعانة الحكيم بمن سبقه معتبرا ثمرات العقل البشري منذ بداية تيقظه إرثا حلالا لمن يخلفون الحكماء. وأن يستعين في ذلك، المتأخر بالمتقدم، فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك علم الهيئة، ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وإبعاد بعضها عن بعض، لما أمكنه ولو كان أذكى الناس طبعا.
ثم ضرب مثلا بديعا يصح أن يكون مستنبطا من صحف شوبنهور أو إرنست هيكل لولا صبغته الشرقية قال: «فهذه صناعة الفقه والفقه نفسه لم يكمل النظر فيها إلا في زمن طويل، ولو رام إنسان اليوم من تلقاء نفسه أن يقف على جميع الحجج التي استنبطها النظار من أهل المذاهب في مسائل الخلاف التي وضعت المناظرة فيها بينهم في معظم بلاد الإسلام ما عدا المغرب، لكان أهلا أن يضحك منه لكون ذلك ممتنعا مع وجود ذلك مفروغا منه.»
على أن هذا الحكيم الذي اشتهر بإعجابه بأرسطو إلى درجة التقديس، لم يغب عن ذهنه وجوب الاحتراس لدى الدرس ووجوب «الانتقاد» قبل قبول الرأي، حتى ولو كان رأي أرسطو نفسه قال: «ننظر في الذي قالوه وأثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم.» ثم اعترضته فكرة الخوف من قول الفقهاء بأن من ينظر في كتب القدماء يضل ويكفر، فرد على ذلك بأبلغ رد قال: «وليس يلزم من أنه غوى غاو بالنظر في تلك الكتب، وزل زال إما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلما يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه أو أكثر من واحد منها؛ أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها، فإن هذا النوع من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات، وليس يجب فيما كان نافعا بطباعه وذاته أن يترك لمكان مضرة موجودة فيه بالعرض، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له .»
وما زال كذلك إلى أن فضل العقل على الشرع الظاهر فقال: «فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني، ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي.» وزاد على ذلك أن استشهد ببعض خصومه في الحكمة قال: «قلنا أما لو ثبت الإجماع بطريق يقيني لم يصح، وإن كان الإجماع فيها ظنيا فقد يصح؛ ولذلك قال أبو حامد وأبو المعالي وغيرهما من أئمة النظر إنه لا يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل.»
وبعد أن استدل بقول الغزالي على عدم تكفير من يخرق الإجماع بالتأويل سأل القارئ سؤالا جامعا قال: «فما تقول في الفلاسفة من أهل الإسلام كأبي نصر (الفارابي) وابن سينا، فإن أبا حامد (الغزالي) قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف بالتهافت في ثلاث مسائل: (1) في القول بقدم العالم، و(2) بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات - تعالى عن ذلك! و(3) في تأويل ما جاء في حس الأجساد وأحوال المعاد.» قلنا الظاهر من قوله (الغزالي) في ذلك أنه ليس تكفيره إياهما في ذلك قطعا، إذ قد صرح في كتاب التفرقة أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال.
ثم أخذ ابن رشد يبين خطأ الغزالي من حيث الإدراك في النقطة الثانية قال: «فقد نرى أن أبا حامد قد غلط على الحكماء المشائين (أتباع أرسطو أمثال ابن رشد نفسه) فيما نسب إليهم من أنهم يقولون إنه - تقدس وتعالى - لا يعلم الجزئيات أصلا، بل يرون أنه تعالى يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا، وذلك أن علمنا معلوم للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره، وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا (أي ضده) فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود، فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة وذلك غاية الجهل.»
انظر إلى تلك الحملة المدبرة من أولها إلى نهايتها، فقد نظمها عقل جبار ونفذها منطق سليم وصاغها قلم بليغ، لا يقصد ابن رشد الدفاع عن الفارابي وابن سينا، إنما يقصد الدفاع عن نفسه؛ لأنه هو الذي تناول تلك النقط الثلاث بالبحث فأثبتها وقال بها واشتهرت برأيه، فدفاعه ضد الغزالي الذي انتهى برميه «بغاية الجهل» إنما هو دفاع عن مبادئه ألبسه لباس الذود عن حكيمين سالفين من أنصار أرسطو؛ وهما الفارابي وابن سينا.
وقد تناول المسألة الثانية أولا لأهميتها، ثم عطف على الأولى وهي القول بقدم العالم فأفقدها شأنها قال: «وأما مسألة قدم العالم أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء.» أفقدها شأنها لأنه ردها إلى خلاف لفظي وهو ما يسميه الفرنسيون (سوء تفاهم)؛ أي إن الطرفين متفقان في الجوهر ومختلفان في العرض، فما على راغب التوفيق إلا أن يرد العرض إلى الجوهر، وهي مسألة لفظية فيزول الخلاف، وقد أخذ فعلا يبين تقسيم الموجودات من حيث القدم والحدوث إلى ثلاثة أقسام، ثم طرق من حيث يدري باب البحث في الزمان على طريقة الأقدمين وأظهر الفرق بين أفلاطون القائل بأن الماضي متناه، وهذا الذي انتحله المتكلمون، أما أرسطو وشيعته فيرون أن الماضي غير متناه كالحال في المستقبل (غير المتناهي)، واستنتج من ذلك أنه لا يوجد محدث حقيقي ولا قديم حقيقي؛ لأن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة والقديم الحقيقي ليس له علة. ثم ضرب الضربة الأخيرة وهي ضربة معلم خبير بما يقول: «فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر، فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد، أعني أن تكون متقابلة (متناقضة) ويشبه أن يكون المختلفون في هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين ، ولذلك قال عليه السلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أحجر.» وأي حاكم أعظم من الذي يحكم على الوجود وهم العلماء.»
ثم انتقل إلى الكلام على الدلائل الثلاثة: (1) الخطابية. و(2) الجدلية. و(3) البرهانية. وقال إن الإيمان جائز بأي طريق يتفق للمؤمن من طرق الإيمان الثلاث. فمثلا يجوز تكفير «من يعتقد أنه لا سعادة أخروية ههنا ولا شقاء، وإنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وإنها حيلة، وإنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط».
ثم عاد إلى الغزالي فلامه على أنه استعمل في كتبه الطرق الشعرية والخطابية والجدلية وقال إنه أضر بالشرع والحكمة معا من حيث لا يدري؛ لأنه كان يقصد خيرا وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم، فكثر بذلك الفساد بدون كثرة أهل العلم، وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة وقوم إلى ثلب الشريعة وقوم إلى الجمع بينهما، ويشبه أن يكون هذا أحد مقاصده بكتبه، والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر أنه لم يلزم مذهبا من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشاعرة أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف، وحتى إنه كما قيل:
يوما يمان إذا لقيت ذا يمن
وإن لقيت معديا فعدنان
ثم انتقل الحكيم الأندلسي إلى قصد الشرع، فقال إن مقصوده إنما هو تعلم العلم الحق والعمل الحق. فالعلم الحق هو معرفة الله وسائر الموجودات على ما هي عليه، والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء، وقد قسم ابن رشد الناس إلى ثلاثة أقسام من حيث العلم بالشريعة والإيمان بما ورد فيها. (1)
صنف ليس من أهل التأويل أصلا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب. (2)
صنف من أهل التأويل الجدلي، وهم الجدليون بالطبع أو بالطبع والعادة. (3)
أهل التأويل اليقيني، وهم البرهانيون بالطبع والصناعة (الحكمة).
قال ابن رشد: «وما يعلم تأويله إلا الله» بمثل هذا يأتي الجواب في السؤال عن الأمور الغامضة التي لا سبيل للجمهور إلى فهمها مثل قوله :
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ... فلا يجب أن تثبت التأويلات الصحيحة في كتب الجمهور فضلا عن الفاسدة. والتأويل الصحيح هي الأمانة التي حملها الإنسان فأبى أن يحملها وأشفق منها جميع الموجودات المذكورة في الآية
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال
ومن قبل التأويلات والظن بأنها يجب أن يصرح بها في الشرع، نشأت فرق الإسلام حتى كفر بعضهم بعضا وبدع بعضهم بعضا؛ فأوقعوا الناس في تباغض وحروب ومزقوا الشرع وفرقوا الناس.
ويرد ابن رشد هذه الخيبة التي لحقت المسلمين إلى جهل الأشعرية والمعتزلة بشرائط البرهان؛ أي بالمنطق، وإن كثيرا من الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سفسطائية، وقد بلغ بهم التعدي إلى أن فرقة منهم (الأشعرية) كفرت من ليس يعرف وجود الله بالطرق التي وضعوها في كتبهم لمعرفته!
ثم التفت ابن رشد إلى القرآن المحترم لفتة حكيم فقال: «إن الكتاب العزيز إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس (الخطابية) والطرق المشتركة لتعلمي أكثر الناس (الجدلية) والخاصة (البرهانية)، وقال إن أعقل أهل الإسلام هم الصدر الأول؛ فإنهم صاروا إلى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل دون تأويلات فيها، ومن كان منهم وقف على تأويل لم ير أن يصرح به.»
وختم ابن رشد هذا الكتاب العجيب بأبولوجيا ظريفة للتوفيق بين الفلسفة والدين أشبه بصلاة الإكليل بين عروسين متنافرين، جمعت بينهما الضرورة وفرقتهما الطباع والأمزجة والميول، فمثله كمثل قسيس حاذق يهمه قبل كل شيء الخروج من مأزق قال: «إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، فالأذية ممن ينسب إليها أشد الأذية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة!»
أما كتاب «الكشف عن مناهج الملة» فهو مكمل لكتاب «فصل المقال» وتوسع في بعض أجزائه وإلمام بنقط أغفلها المؤلف، إما قصدا لضيق المجال وإما سهوا لتشعب البحث، وعادة الاستطراد في بعض الأحوال. وقد نبه إلى ذلك في المقدمة، ولكنه جعل غايته الأصلية فحص مسألة التأويل التي مر بها في «فصل المقال» مرورا دون أن يتعمق في أصولها وفروعها.
ثم بدأ بالكلام على الفرق الأربع المشتهرة لوقته وهي: (1)
الأشعرية. (2)
المعتزلة. (3)
الباطنية. (4)
الحشوية.
وقال بضلال هذه الفرق الأربع، وشرع في بيان ذلك بالكلام على ما قصد الشرع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى. قال: إن الفرقة الرابعة تقول إن طريق معرفة وجود الله هو السمع لا العقل. وقال إن هذه الفرقة بلغت بها فدامة العقل وبلادة القريحة إلى أن لا تفهم شيئا من الأدلة الشرعية التي نصبها النبي
صلى الله عليه وسلم
للجمهور، فآمنت بالله من جهة السماع.
أما الفرقة الأولى فتصدق بوجود الله بالعقل، ولكنهم سلكوا غير طرق الشرع، وطريقتهم مبنية على نظرية حدوث العالم، وانبنى على حدوث العالم تركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وإن الجزء الذي لا يتجزأ محدث وهو الجوهر الفرد، وطريقتهم غير برهانية وغير مفضية بيقين إلى وجود الله.
وقال إن للأشعرية طريقين أحدهما وأشهرهما ينبني على ثلاث مقدمات: (1) إن الجواهر لا تنفك من الأعراض؛ أي لا تخلو منها، (2) أن الأعراض حادثة، (3) أن ما لا ينفك عن الحوادث حادث؛ أعني ما لا يخلو من الحوادث هو حادث.
وقد فند ابن رشد هذه المقدمات كلها بالبرهان المنطقي (ص34 و35 وما بعدهما من كشف الأدلة) وأثبت أنها محفوفة بشكوك ليس في قوة صناعة الجدل حلها، فإذن يجب أن لا يجعل هذا مبدأ لمعرفة الله. وهذا سر قوله في أول الكتاب أن طريقة الأشعرية «غير مفضية بيقين إلى وجود الله».
هذا هو الطريق الأول الذي سلكه معظم الأشعرية وعامتهم. وهو أشهر الطريقين كما قلنا وقد ظهر فساده. أما الطريق الثاني فهو الذي استنبطه أبو المعالي في رسالته المعروفة بالنظامية ومبني هذا الطريق على مقدمتين: (1)
أن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه. كأن تكون حركة كل متحرك فيه إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها (لاحظ ما تشمله هذه النظرية من إمكان انقلاب سائر القوانين الطبيعية كقانون الجاذبية وما يماثله ). (2)
أن الجائز محدث وله محدث؛ أي فاعل، صيره بإحدى الجائزين أولى - أي وجهه - نحو الحال الحاضرة بقوانينها وأنظمتها، وهي التي عليها العالم.
وقد أظهر ابن رشد أن المقدمة الأولى خطابية قد تصلح لإقناع الجميع، ولكنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع الذي صنع الموجودات على وجه معين لحكمة معينة، فأية حكمة في الإنسان إذا أبصر بأذنه ، وشم بعينه؟
ويبدو لنا أن ابن سينا أذعن لهذه المقدمة بوجه ما، فلم يتردد ابن رشد في الرد عليه. وقال عن رأيه: «إنه قول في غاية السقوط.» وقال عنه بازدراء: «وليس هذا موضع الكلام مع هذا الرجل، ولكن للحرص على الكلام معه في الأشياء التي اخترعها هذا الرجل استجرنا القول إلى ذكره.»
إلى هنا فرغ ابن رشد من تفنيد مقدمة أبي المعالي الأولى، ثم انتقل إلى الثانية فقال إنها غير بينة بنفسها وإنها من أعوص المطالب، ولا يتبينها إلا أهل صناعة البرهان والعلماء الذين خصهم الله بعلمه وقرن شهادتهم بشهادته وملائكته. ويقول بين السطور: «وأنت يا أبا المعالي لست منهم، وكفى على ذلك دليلا أن أفلاطون وأرسطو اختلفا على تلك المقدمة.»
وأخذ ابن رشد نفسه يقدم مقدمات في الإرادة ضرورية لتفهم القضية الثانية التي نحن بصددها، وأعقبها برأي قاطع وهو «أن الظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور، ولذلك لم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة، بل صرح بأن الإرادة موجدة موجودات حادثة، وذلك في قوله تعالى
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون . فيتبين من هذا أن الطريقين المشهورين للأشعرية في السلوك إلى معرفة الله ليست طرقا نظرية يقينية ولا شرعية يقينية».
ثم انتقل فيلسوف قرطبة إلى نقد وسائل الصوفية فقال: «إن طرقهم في النظر ليست نظرية (ويقصد بالطرق النظرية المركبة من مقدمات وأقيسة)، إنما طريقتهم إشراقية؛ فهم يزعمون أن معرفة الله وغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكر على المطلوب، ولهم في الاحتجاج لتصحيح هذا ظواهر من الشرع كثيرة، مثل قول الله:
واتقوا الله ويعلمكم الله .»
وابن رشد يسلم بوجود هذه الطريقة، ولكنها ليست عامة للناس، لأنها لو كانت عامة ومقصودة لبطلت طريقة النظر وكان وجودها بين الناس عبثا، على أن القرآن كله دعوة إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر والتأمل والتفكير.
ثم انتقل إلى الكلام على المعتزلة فاعتذر عن الخوض في مذاهبهم بأنه لم يصل إليه في «جزيرة الأندلس» من كتبهم شيء، ولكنه يحسب أن طرقهم يشبه أن تكون من جنس طرق الأشعرية. ونحن نظن أن ابن رشد كتب هذه الجملة بحذر وكياسة؛ رغبة منه في تحاشي الكلام على طرق المعتزلة، لأنه لا يعقل أن تنقطع العلاقة العقلية بينه وبينهم بدعوى عدم وصول كتبهم إلى أرض الأندلس. فإن الذي نقل كتب المتقدمين والمتأخرين إلى مدارس أندلس وجوامعها وبيوتها لا يضن بنقل كتب المعتزلة، وإلا فإن كتب خصومهم من السنيين مشحونة بأخبارهم وآرائهم وشرح طرقهم للرد عليها.
على أننا نترك الأسباب التي دعت ابن رشد لأن يغفل ذكر المعتزلة، وننتقل إلى كلامه على الطريق الشرعية التي اعتبرها الطريق المثلى، فقد قال إن الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها، وجدت أنها تنحصر في جنسين. (1)
طريق الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجلها، ويسميها ابن رشد «دليل العناية». (2)
الطريق الثانية ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء والموجودات مثل اختراع الحياة والجماد والإدراكات الحسية والعقل، ويسميها ابن رشد «دليل الاختراع».
وقال إن الأدلة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين، دلالة العناية ودلالة الاختراع، وهما بعينهما طريقة الخواص أي العلماء وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل، فالجمهور يقتصرون على المعرفة الأولى، والعلماء يزيدون على ما يدرك بالحس، ما يدرك بالبرهان.
وقال ابن رشد إن الدهريين مثلهم كمثل من أحس بالمصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل ينسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته.
وبعد أن فرغ ابن رشد من إثبات وجود الله بالطريقة المتقدمة تكلم على وحدانية الله، فأثبت ذلك على الطريقة الشرعية أولا بآيات قرآنية مثل:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
وذكر أيضا الآية
سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ... وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا
وقد تناول ابن رشد هذه الآية وأخرج منها ردا مفحما على الأشعرية، فإنهم يستنبطون منها دليل الممانعة ، وهو دليل لا يقدر الجمهور على فهمه، فضلا عن أن يقنع بصحة مدلوله؛ لأن دليل الممانعة المذكور يعرف عند أهل المنطق بالقياس الشرطي المنفصل، ويسميه الأشعرية «دليل السبر والتقسيم» والدليل الذي في الآية هو الذي يعرف في المنطق بالشرطي المتصل، فالفرق بين الدليلين ظاهر.
وختم ابن رشد قوله في هذه النقطة بهذه النتيجة العامة: من نظر في كلمة «لا إله إلا الله»، وصدق بالمعنيين الواردين فيها؛ وهما الإقرار بوجود الباري ونفي الإلهية عمن سواه، وكان تصديقه بالطريقة المذكورة آنفا؛ فهو المسلم الحقيقي وعقيدته إسلامية. ومن لم تكن عقيدته مبنية على هذه الأدلة، وإن صدق بهذه الكلمة، فهو مسلم مع المسلم الحقيقي باشتراك الاسم.
ثم تكلم عن الصفات الإلهية فقال هي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان؛ وهي العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وقال يسأل بعض الفرق هل الصفات نفسية أو معنوية، فالأشعرية تقول إنها معنوية وزائدة على الذات، فالله عالم بعلم زائد على ذاته، وهكذا يقول ابن رشد: «وهذا قول النصارى الذين اعتقدوا أن الأقانيم ثلاثة: الوجود والحياة والعلم، وأن واحدا منها قائم بذاته، والآخر قائم بالقائم بذاته، والعرض هو القائم بغيره والمؤلف من جوهر وعرض جسم ضرورة «ومكان الخلاف بين ابن رشد وبين العقيدة المسيحية أن النصارى اعتقدوا كثرة الصفات، واعتقدوا أنها جواهر غير قائمة بغيرها، بل قائمة بنفسها كالذات، واعتقدوا أن الصفات التي بهذه الصفة هما صفتان: العلم والحياة، قالوا فالإله واحد من جهة، ثلاثة من جهة، يريدون أنه ثلاثة من جهة أنه موجود وحي وعالم، وهو واحد من جهة أن مجوعها شيء واحد».»
ثم تكلم ابن رشد في معرفة تنزيه الخالق عن النقائض ، فأورد الأدلة الشرعية والعقلية على التنزيه، ثم قال: إن كل فرقة تأولت في الشريعة تأويلا خاصا بها وزعمت أنه الذي قصده الشرع حتى تمزق كل ممزق وبعد جدا عن موضعه الأول، وقد قال صاحب الشرع: «ستفترق أمتي على اثنتين وسبعين فرقة كلها في ... إلا واحدة.» يعني التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس.
وأول من غير هذا الدواء الأعظم (أي سلوك ظاهر الشرع) هم الخوارج ثم المعتزلة ثم الأشعرية ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد (يعني الغزالي خصمه اللدود) فطم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور وبآراء الحكماء على ما أداه إليه فهمه، وذلك في كتابه الذي سماه بالمقاصد، فزعم أنه ألفه للرد عليهم ثم وضع التهافت فكفرهم في مسائل ثلاث (وهي التي سبق ذكرها). ثم قال في كتابه «جواهر القرآن»: إن الذي أثبته في التهافت هي أقاويل جدلية، وإن الحق إنما أثبته في «المضنون على غير أهله»، وهذا كله خطأ بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة.
ثم انتقل ابن رشد للمبحث الخامس في معرفة الأفعال، وهي إثبات خلق العالم وبعث الرسول والقضاء والقدر والتحوير والتعديل والمعاد. ويظهر للقارئ أن هذا المبحث هو أكبر المباحث شأنا؛ لأن به محاولة حل مسائل الحياة والكون، بعد أن مهد لها ابن رشد بأبحاثه وفنونه تمهيدا يدل على خطة مرسومة وغاية مقصودة وطريقة مختارة. فقال عن خلق العالم إن الذي قصده الشرع من معرفة العالم هو أنه مصنوع لله ومخترع له، وأنه لم يوجد عن الاتفاق ومن نفسه، وقد سلك الشرع بالناس في تقرير هذا الأصل الطريق البسيطة القليلة المقدمات، التي نتائجها قريبة من المقدمات المعروفة بنفسها أو بالبداهة. وينهي ابن رشد عن سلوك غير هذا النوع من الطرق بالجمهور، ويرمي من يحيد عن الطريق البسيطة في تفهيم الجمهور ومخاطبتهم بالجهل والزيغان. فقد لجأ الشرع إلى دليل قطعي بسيط مبناه على أصلين معترف بهما عند الجميع.
الأول أن العالم بجميع أجزائه موافق لوجود الإنسان ولوجود جميع الموجودات التي ههنا.
والأصل الثاني أن كل ما يوجد موافقا في جميع أجزائه لفعل واحد ومسددا نحو غاية واحدة فهو مصنوع وأن له صانعا. وهذا النوع من الاستدلال هو النوع الموجود في القرآن واستشهد ابن رشد ببعض آيات منها:
ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا ، ثم قال تعليقا على هذه الآية عبارة تدل على عدم علمه بدوران الأرض وهاك نصها: «إن الأرض خلقت بصفة يتأتى لنا المقام عليها، وإنها لو كانت متحركة أو بشكل آخر غير الموضع الذي هي فيه أو بقدر غير هذا القدر، لما أمكن أن نوجد فيها ولا أن نخلق عليها.» فقول ابن رشد «وإنها لو كانت متحركة» دليل قاطع على عدم علمه بأن الأرض متحركة في الواقع، فكيف يكون تعليل ابن رشد لهذا الدليل لو كان عالما بحركتها ودورانها؟ وهل يصلح هذا الدليل لإقناع الجمهور في كل العصور، حتى عصرنا هذا الذي أصبح برنامج التعليم المدرسي فيه أوسع من سائر علوم القرون الوسطى؟
واستمر ابن رشد في الاستدلال بسكون الأرض على حكمة الخلق فقال: «وأما قوله تعالى «والجبال أوتادا» فإنه نبه بذلك على المنفعة الموجودة في سكون الأرض من قبل الجبال، فإنه لو قدرت الأرض أصغر مما هي، كأن كانت دون الجبال، لتزعزعت من حركات باقي الاسطقسات؛ أعني الماء والهواء ولتزلزلت وخرجت من موضعها.» على أن ذكر هذه النصوص لا ينقص قدر ابن رشد؛ لأنه لم يكن عالما طبيعيا ولا فلكيا ولا رياضيا، بل كان فيلسوفا ولا لوم عليه إذا لم تصل إليه في عصره وفي وطنه وبلغته تلك الحقائق العلمية التي اكتشفت بعده بأجيال، ولكننا أوردنا هذه الملاحظة لتقدير قيمة الدليل الذي قدمه ابن رشد بحسن نية وجعله ميزانا لإقناع الجمهور بخلق العالم. ولعل مبالغة ابن رشد في التبسط في التدليل للعامة، وشدة رغبته في إقناع الجمهور بأمور سبق ثبوتها في أذهانهم؛ هو الذي دعاه إلى الطعن في طرق الأشعرية الذين حاولوا التدليل ببراهين مركبة تنطبق على عقلية أرقى نوعا من عقلية الجمهور، لأن ابن رشد يعتقد اعتقادا جازما بأن «ليس يمكن للجمهور أن يتصوروا معنى ليس له مثال في الشاهد».
من أجل هذا يقول ابن رشد إن الآيات
وكان عرشه على الماء
و
خلق السماوات والأرض في ستة أيام
و
ثم استوى إلى السماء وهي دخان
يجب أن لا يتأول شيء من هذا للجمهور ولا يتعرض لتنزيله على غير هذا التمثيل، ومن غير ذلك فقد أبطل الحكمة الشرعية؛ لأن العلماء فضلا عن الجمهور لا يتصورون عقيدة الشرع في العالم، وهي أنه محدث وأنه خلق من غير شيء وفي غير زمان.
فينبغي الاكتفاء بهذا التمثيل، وهو الموجود في القرآن والتوراة وسائر الكتب المنزلة، وأنه لم يثر الشبه في الإسلام إلا أهل الكلام بتصريحهم في الشرع بما لم يأذن به الله، فلا هم اتبعوا ظواهر الشرع فكانوا ممن سعادته ونجاته باتباع الظاهر، ولا هم أيضا لحقوا بمرتبة أهل اليقين فكانوا ممن سعادته في علوم اليقين.
ثم انتقل إلى الكلام على بعث الرسل، وفيه موضعان: الأول إثبات الرسل، والثاني أن الذي يدعي الرسالة واحد منهم وليس بكاذب في دعواه. وأثبت ابن رشد بالمنطق تارة وبآيات القرآن طورا أن الرسل موجودون، وأن الأفعال الخارقة لا توجد إلا منهم، وأن تلك الأفعال الخارقة أو المعجز دليل على تصديق النبي؛ ويقصد ابن رشد بالمعجز شيئين: «المعجز البراني» الذي لا يناسب الصفة التي بها سمي النبي نبيا، ويشبه أن يكون التصديق الواقع من قبل المعجز البراني هو طريق الجمهور فقط، والتصديق من قبل المعجز المناسب طريق مشترك للجمهور والعلماء، فإن الشكوك والاعتراضات التي وجهها ابن رشد على المعجز البراني ليس يشعر بها الجمهور، لكن الشرع إذا تؤمل وجد أنه إنما اعتمد المعجز الأهلي والمناسب لا المعجز البراني.
وانتقل ابن رشد إلى المسألة الثالثة وهي القضاء والقدر. وقد سلم من أول وهلة أنها أعوص مسائل الشرع؛ لأن دلائل السمع والعقل فيها متعارضة. ففي القرآن آيات تدل بعمومها على أن كل شيء بقدر، وأن الإنسان مجبر على أفعاله، وفيه آيات تدل على أن للإنسان اكتسابا بفعله وأنه ليس مجبرا على أفعاله وقد أوردها، وكذلك تلقى الأحاديث في هذا أيضا متعارضة.
وقد افترق المسلمون في هذا إلى فرقتين: الأولى: تعتقد أن اكتساب الإنسان هو سبب المعصية والحسنة، ولمكان هذا ترتب عليه العقاب والثواب، وهي المعتزلة. والثانية: تعتقد أن الإنسان مجبور على أفعاله ومقهور، وهي الجبرية. وقد رامت الأشعرية أن تأتي بقول وسط بين القولين، فقالوا إن للإنسان كسبا، وإن المكتسب به والكسب مخلوقان لله تعالى.
وابن رشد ينتقد آراء الفرق الثلاث ويقول بأن الظاهر من مقصد الشرع ليس تفريق المسموع والمعقول، وإنما قصده الجمع بينهما على التوسط الذي هو الحق في هذه المسألة، وذلك أنه يظهر (كذا) أن الله خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد، لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء لا يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعا، فالأفعال المنسوبة إلينا يتم فعلها أيضا بإرادتنا وموافقة الأفعال التي من خارج لها، وهي المعبر عنها بقدر الله.
أما (الأفعال التي من خارج) فهي متممة للأفعال التي نروم فعلها أو عائقة عنها على مقتضى الحال، وهي أيضا السبب الذي يدفعنا لأن نريد أحد المتقابلين أي أحد شيئين مختلفين، وبيان ذلك (وهنا دخل ابن رشد في علم النفس على طريقة قديمة) أن الإرادة إنما هي شوق يحدث لنا عن تخيل ما أو تصديق بشيء، وهذا التصديق ليس هو لاختيارنا بل هو شيء يعرض لنا عن الأمور التي من خارج، مثال ذلك أنه إذا ورد علينا أمر مشتهى من خارج اشتهيناه بالضرورة من غير اختيار فتحركنا إليه، وكذلك إذا طرأ علينا أمر مهروب عنه من خارج كرهناه باضطرار فهربنا منه، وإذا كان هكذا فإرادتنا محفوظة بالأمور التي من خارج ومربوطة بها (وهنا يقرر ابن رشد مذهب الديترمنزم وتأثيره في أفعال الإنسان) ويقول: «ولما كانت الأسباب التي تجري من خارج تجري على نظام محدود وترتيب منضود، فواجب أن تكون أفعالنا تجري على نظام محدود، وليس يوجد هذا الارتباط بين أفعالنا والأسباب التي من خارج فقط، بل وبينها وبين الأسباب الموجودة في داخل أبداننا والنظام المحدود الذي في الأسباب الداخلة والخارجة؛ أعني التي لا تحل هو القضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده، وهو اللوح المحفوظ وعلم الله بالأسباب هو العلة في وجودها، وعلمه بها هو علمه بالغيب الذي انفرد به وحده.»
وانتقل ابن رشد إلى الكلام على الجور والعدل، وهي المسألة الرابعة، فتحفز كعادته في مستهل كل بحث للرد على الأشعرية في رأيهم في العدل والجور، ووصفه بأنه في غاية من الشناعة لأنهم ميزوا بين الله والإنسان. فقال إن أفعال الإنسان توصف بأنها عدل أو جور لكونه مكلفا بالشرع، وأما من ليس مكلفا ولا داخلا تحت حجر الشرع فليس يوجد في حقه فعل هو جور أو عدل، بل كل أفعاله عدل. وهذا القول في ذاته صحيح لأن الأفعال بوصف كونها أفعالا مجردة من قيود الأوصاف الشرعية لا يجوز أن تنسب إلى شيء دون آخر، فضلا عن أن الأفعال يجب تقديرها من وجهة النظريات نسبيا بحسب مقتضيات حدوثها زمانا ومكانا ودافعا وسببا وعلة وأثرا.
ولكن ابن رشد يقيم القيامة على الأشعرية لقولهم بهذا الرأي، على أن ابن رشد نفسه لم يتمكن من الإقدام على هذا البحث بدون الالتجاء إلى التأويل الذي نهى عنه وعابه على أرباب المذاهب الأخرى، وذلك في عرض الاستشهاد بالآيات القرآنية التي يظهر فيها التناقض فقال: «فإن قيل: فما الحكمة في ورود هذه الآيات المتعارضة في هذا المعنى حتى يضطر الأمر فيها إلى التأويل وأنت تنفي التأويل في كل مكان؟» وكان جوابه أن تفهيم الأمر على ما هو عليه الجمهور في هذه المسألة اضطره إلى هذا وفي هذا القدر كفاية.
المسألة الخامسة وهي مسألة المعاد، قال إنه مما اتفقت على وجوده الشرائع واختلفت في الشاهدات التي مثلت بها للجمهور تلك الحال الغائبة، وذلك أن من الشرائع من جعله روحانيا، أعني للنفوس، ومنها من جعله للأجسام والنفوس معا.
وإن الشريعة الإسلامية رأت أن التمثيل بالمحسوسات هو أشد تفهيما للجمهور، والجمهور إليها وعنها أشد تحركا، فأخبرت أن الله تعالى يعيد النفوس السعيدة إلى أجساد تنعم فيها الدهر كله بأشد المحسوسات تنعيما وهو مثلا الجنة، وأنه تعالى يعيد النفوس الشقية إلى أجزاء تتأذى فيها الدهر كله بأشد المحسوسات أذى وهو مثلا النار.
والشرائع كلها متفقة على أن للنفوس من بعد الموت أحوالا، وذكر ابن رشد انقسام المسلمين في تلك المسألة إلى ثلاث فرق، وإن بعض هذه الثلاث قد انقسم إلى طائفتين ثم قال: «والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد أن لا يكون نظرا يفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود جملة، فإن هذا النحو من الاعتقاد يوجب تكفير صاحبه، فهذا كله ينبني على بقاء النفس أو تنبيه على ذلك.»
وهذا ختام بحث ابن رشد، وقد نبهنا إلى أهم ما جاء فيه وبينا على قدر ما استطعنا وجهة نظر هذا الحكيم العميق الفكر البعيد النظر. (42) تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت
لهذين الكتابين شأن عظيم جدا في تاريخ الفلسفة العربية، فأولهما تهافت الفلاسفة ألفه أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، وبفضل هذا الكتاب وكتاب «إحياء علوم الدين» وصفه أنصاره ومريدوه بأنه الإمام، وحجة الإسلام، لأنه نصب نفسه مدافعا عن العقيدة، ومحاميا عن الشريعة ضد الفلسفة والفلاسفة في جميع الأجيال وعلى مر القرون من أول حكماء اليونان، الذين يسميهم القدماء إلى ابن سينا وهو أحدث الفلاسفة عهدا في عصر الغزالي.
وليس هنا مجال الكلام على هذا الكتاب تقريظا أو نقدا، إنما محل الكلام عليه عند فحص مؤلفات الغزالي وترجمته وتلخيص تعاليمه. أما تهافت التهافت فهو الرد الذي دبجه يراع ابن رشد بعد ظهور الكتاب في عالم الوجود بنحو مائة عام. وقد وضع ابن رشد نفسه بالنسبة للفلسفة والفلاسفة في موضع يعادل مكانة الغزالي بالنسبة للشريعة؛ أي إنه نصب نفسه محاميا ومدافعا ومحاربا ومقارعا ونصيرا وظهيرا للحكماء من أول عهد الحكمة اليونانية إلى وقته؛ أي بعد وفاة الغزالي بنحو قرن من الزمان.
فإن الغزالي توفي في مستهل القرن السادس للهجرة، وابن رشد توفي في ختامه، فحق لابن رشد أن يكون حجة الحكمة والحكماء كما كان الغزالي حجة الإسلام، فإن كتاب التهافت بقي مائة سنة قائما يشن الغارة على الفلسفة والفكر الحر ويسفه أحلام الحكماء ويكفرهم ويلعنهم ويتوعدهم بعذاب النار ويستنزل عليهم سخط الخلق وغضب الخالق، ولم يتقدم أحد من فلاسفة الشرق أو الغرب للرد على هذا الكتاب أو تفنيد بعض ما جاء فيه، مما يلحق العار والخزي بالفلاسفة أجمعين.
فلما تصدى ابن رشد لهذا الكتاب بالنقد والتفنيد محا عن أسلافه وأساتذته وتلاميذه وإخوانه من أهل الحكمة وصمة لم يقدر غيره على محوها عنهم، وأعاد الحياة إلى الفلسفة، فاستردت تاجها وبهجتها، بعد أن أدمى الغزالي فؤادها وأصمى مهجتها، ولنبدأ الآن بالكلام على تهافت التهافت، بعد مقدمة وجيزة من تهافت الفلاسفة، تبين اسمه والغرض من وضعه. (42-1) اسم الكتاب وغايته
قال الغزالي: «ابتدأت بتحرير هذا الكتاب، ردا على الفلاسفة القدماء، مبينا تهافت عقيدتهم وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفا عن غوائل مذهبهم وعوراته التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء، أعني ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء، من فنون العقائد والآراء.» (42-2) الفلاسفة الأقدمون وقصد الغزالي من تأليف الكتاب
وطريقة الغزالي هي حكاية مذهب الفلاسفة على وجهه (أي على حقيقته) ليتبين للملحدين، تقليدا، اتفاق كل مرموق من الأوائل والأواخر (أي كل شهير منهم) على الإيمان بالله واليوم الآخر. وعندئذ يتحقق كل من يظن أن التجمل بالكفر تقليدا يدل على حسن آرائه، أو يشعر بفطنته أن هؤلاء الذين تشبه بهم من زعماء الفلاسفة ورؤسائهم براء عما قذفوا به من جحد الشرائع، وأنهم مؤمنون بالله ومصدقون لرسله، ولكنهم اختبطوا في تفاصيل بعد هذه الأصول قد زلوا فيها فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. (42-3) سبب وضع الكتاب
يقول الغزالي إنه رأى طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب بالفطنة، قد رفضوا طوائف الإسلام والعبادات واستحقروا شعائر الدين وخلعوا ربقته، ولا مستند لكفرهم غير سماع الغي وسماعهم أسماء هائلة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وأمثالهم، وأطناب متبعيهم في وصف عقولهم ودقة علومهم (الهندسة والمنطق والطبيعة والإلهيات)، واستبدادهم بفرط الذكاء والقول عنهم إنهم مع رزانة عقولهم وغزارة فضلهم منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان، يعتقدون أنها نواميس مؤلفة، وحيل مزخرفة. فلما قرع ذلك سمعهم (أي سمع هذه الطائفة التي تعتقد في نفسها التميز عن الأتراب في الذكاء) ووافق ما حكي لهم من عقائد الفلاسفة طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر تحيزا إلى غمار الفضلاء بزعمهم وانخراطا في سلكهم، وترفعا عن مساعدة الجماهير والدهماء واستنكافا من القناعة بأديان الآباء. (42-4) الاقتصار على أرسطو
وقد قال الغزالي في أول الأمر، إنه سيقتصر على إظهار التناقض في رأي مقدمهم الذي هو الفيلسوف المطلق والمعلم الأول، فإنه رتب علومهم وهذبها بزعمهم (كذا)، وحذف الحشو من آرائهم، وانتقى ما هو الأقرب إلى أصول أهوائهم (أي الفلاسفة) وهو أرسطاطاليس، وقد رد على كل من قبله حتى على أستاذه الملقب عندهم بأفلاطون الإلهي، ولكن الحقيقة هي أن الغزالي لم يقتصر على أرسطو كما ادعى بل خلط آراء جميع الفلاسفة. (42-5) علوم الفلاسفة
يقول الغزالي إنه سيقصر بحثه على المسائل الإلهية، لأن العلوم الحسابية والهندسية والمنطقية لا مجال فيها للنقد، وإن الفلاسفة يستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون بها ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين نقية عن التخمين كعلومهم الحسابية والمنطقية، لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية. وطبعا لم يكن الغزالي يستطيع الرد عليها؛ لأنه معترف بصحة العلوم الحسابية والمنطقية. (42-6) فلاسفة الإسلام
ثم المترجمون لكلام أرسطو، لم ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل، محوج إلى تفسير وتأويل، حتى أثار ذلك أيضا نزاعا بينهم، وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة الإسلامية الفارابي أبو نصر وابن سينا، فلنقتصر على إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذاهب رؤسائهما في الضلال (كذا) فليعلم أنا مقتصرون على رد مذاهبهم بحسب نقل هذين الرجلين. (42-7) بيان المسائل العشرين التي أظهر فيها الغزالي تناقض الفلاسفة في كتابه (1)
مذهب الفلاسفة في أزلية العالم. (2)
مذهبهم في أبدية العالم. (3)
قولهم إن الله صانع العالم وإن العالم صنعه. (4)
عجزهم عن إثبات الصانع. (5)
تعجيزهم عن إقامة الدليل على استحالة إلهين. (6)
مذهبهم في نفي صفات الله. (7)
قولهم إن ذات الأول (الله) لا ينقسم بالجنس والفصل. (8)
قولهم إن الأول موجود بسيط بلا ماهية . (9)
تعجيزهم عن بيان الأول ليس بجسم. (10)
القول بالدهر ونفي الصانع لازم للفلاسفة. (11)
تعجيزهم عن القول بأن الأول يعلم غيره. (12)
تعجيزهم عن القول بأن الأول يعلم ذاته. (13)
قولهم إن الأول لا يعلم الجزئيات. (14)
قولهم إن السماء حيوان متحرك بالإرادة. (15)
ما ذكروه من الغرض المحرك للسماء. (16)
قولهم إن نفوس السماوات تعلم بالجزئيات الحادثة في هذا العالم. (17)
قولهم باستحالة خرق العادات. (18)
تعجيزهم عن البرهان العقلي على أن نفس الإنسان جوهر قائم بنفسه ليس بجسم ولا عرض. (19)
قولهم باستحالة الفناء على النفوس البشرية. (20)
إنكارهم البعث وحشر الأجساد مع التلذذ والتألم في الجنة والنار باللذات والآلام الجسمانية.
ويرى القارئ الملم بهذه المباحث أن هذه المسائل العشرين تناولت جميع مشاكل العلوم الإلهية والطبيعية قديما وحديثا عند فرق المسلمين وغيرهم من أصحاب العقائد، ما عدا ما كان سبب القول به جهل المفكرين كالمسائل 14 و15 و16.
أما الرياضيات فلا معنى لإنكارها، ولا للمخالفة فيها، والمنطقيات فهي نظر في آلة الفكر في المعقولات، ولا يتفق فيه خلاف به مبالاة (أي ذو شأن)، وبعد أن أسهب الغزالي بسط تلك المسائل وتفنيدها على طريقته، وزعمه بأدلة ومسائل وبيانات ومسالك وطرق وأصول وفروع ومقامات واعتراضات لا عدد لها؛ ختم كتابه العجيب بقوله:
فإن قال قائل قد فصلتم مذاهب هؤلاء أفتقطعون بكفرهم ووجوب القتل (!) لمن يعتقد اعتقادهم، قلنا (أي الغزالي) تكفيرهم لا بد منه في ثلاث مسائل: (1)
مسألة قدم العالم وقولهم إن الجواهر كلها قديمة. (2)
قولهم إن الله تعالى لا يحيط علما بالجزئيات الحادثة من الأشخاص. (3)
في إنكار بعث الأجساد وحشرها.
فهذه المسائل الثلاث لا تلائم الإسلام بوجه. ومعتقدها معتقد كذب الأنبياء، وأنهم ما ذكروه إلا على سبيل المصلحة تمثيلا لجماهير الخلق وتفهيما. وهذا هو الصريح الذي لم يعتقده أحد من فرق المسلمين.
فأما ما عدا هذه المسائل الثلاث من تصرفهم في الصفات الإلهية واعتقاد التوحيد فيها، فمذهبهم قريب من مذاهب المعتزلة ومذهبهم في تلازم الأسباب الطبيعية هو الذي صرح المعتزلة به في التولد، وكذلك جميع ما نقلناه عنهم قد نطق به فريق من فرق الإسلام إلا هذه الأصول الثلاثة.
فمن ير تكفير أهل البدع من فرق الإسلام يكفرهم أيضا به، ومن يتوقف على التكفير يقتصر على تكفيرهم بهذه المسائل، وأما نحن فلسنا نؤثر الآن الخوض في تكفير أهل البدع، وما يصح منه وما لا يصح، كي لا يخرج الكلام عن مقصود هذا الكتاب.
وبديهي أن هذه النتيجة الختامية الوديعة المتواضعة، لا تلتئم في شيء مع الطبل والزمر الذي بدأ به الغزالي كتابه، فقد يخيل لقارئه في أوله أنه سيخرق الأرض وسيبلغ الجبال، وأنه سيهدم قبة الفلسفة على رءوس الحكماء، ولن يبقى في بناء الأكروبول حجرا على حجر! وهو ذلك الهيكل الفخم الذي شاده القدماء لعبادة منرفا إلهة الحكمة.
ويظهر أن الغزالي كان يعرف طريقة «التمهيد بالمدافع»، فإنه حشد في مقدمة كتابه ألفاظا وجملا طنانة تدخل الرعب إلى قلوب خصومه، ثم أخذ يناقش الفلاسفة بطريقة شبه منطقية، ويعزز قوله في كل حين بعبارات دينية يعد من لا يؤمن بها كافرا، وهو بين جملة وجملة يلعن الفلاسفة ويسبهم ويحقرهم ويستعيذ بالله منهم ومن كفرهم.
كل ذلك على أشكال تهيج غيظ الحليم، وتبعث المتعجل على سوء الظن به، لا سيما وأن الغزالي يناقش الفلاسفة بأصول علومهم كأنه واحد منهم قد أتقن معرفتهم ووقف على أسرارهم، ثم شهر عليهم هذه الحرب الشعواء في كتبه، وهذا الذي ينفر القارئ الخالي الغرض من الغزالي مع أنه ذو شخصية مقبولة، وكان من أئمة الفكر البشري في الشرق.
وأغرب مما تقدم هبوط الغزالي من أفق التهويل بتلك الخاتمة البسيطة التي سحب بها معظم أبحاثه، فقد سبق فكفر الفلاسفة في عشرين مسألة، وتصدى للرد عليهم من أرسطو إلى ابن سينا ناقدا ومفندا ومظهرا أوجه الخلاف والتناقض.
ثم اختصر العشرين مسألة واقتصر على ثلاث منها، ولو كانت غايته الحقيقة تكفير الفلاسفة في تلك المسائل الثلاث لاقتصر عليها دون سواها، ولكن الغزالي كالمصارع الشهير تقدم إلى الميدان ليعجز خصمه في حركة بدنية تقتضي منتهى المهارة والحذق، فلما أتى بتلك الحركة استعذب الاستحسان، فاستمر في إبداء الخفة حتى أتى على عشرين حركة يقدر مصارعه على إتيان سبع عشرة منها، ولما أراد الانسحاب من ساحة المصارعة قال بصوت خافت للجمهور الذي استولت عليه الدهشة:
سادتي إنني أظهرت لكم مهارتي، والحقيقة أنني وخصمي متفقان إلا في ثلاث حركات، ولعلنا نتفق فيها أيضا إذا طالت فرصة الامتحان.
وبعد هذه المقدمة التي لم يكن عنها بد، سنترك المجال لابن رشد، وهو خصم الغزالي ونده ومصارعه وصارعه في ميدان الفكر الفلسفي. •••
لابن رشد في كتبه التي وقعت لنا ترتيب وتقسيم وتبويب وطرق تنطبق على أصول العلم الحديث في التأليف.
أما كتاب التهافت الذي نحن بصدده، فقد اتبع فيه طريقة الغزالي في «تهافت الفلاسفة»، فصار يقتبس المتن جملة جملة ويردفها بالرد عليها، وأخذ في ذلك إلى قدر كبير، ثم أدرك أن هذه الطريقة تقتضي تدوين كتابين في كتاب، وفي ذلك من الملل والتطويل ما فيه، فصار يكتفي باقتباس أوائل جمل الغزالي ويختمها بقوله «إلى قوله كذا أو إلى آخر ما قال أبو حامد»، وهذه الطريقة تقتضي وجود الكتابين أمام القارئ ليقرأ كلام الغزالي ورد ابن رشد عليه.
ولكن دون هذه الغاية مصاعب شتى، منها أن ابن رشد لا يشير إلى الصفحات أو النبذ لأنها لم تكن في زمنه معينة بأعداد، ولم تكن النسخ متحدة في الكتابة والشكل حتى ينطبق ما في نسخته على ما في عداها مما يوجد بين أيدي الجمهور، ومنها أن الشخص الشرقي الذي طبع هذين الكتابين جمعهما في مجلد واحد، ولا بد من فصلهما قبل البدء في التمتع بقراءتهما، هذا فضلا عن أن الطمع وعدم الذوق أديا بالناشر إلى «تزيين» هوامش الكتابين بكتاب ثالث تأليف من يدعى «خوجه زاده أو أحد علماء الروم»، وهو لا شك من علماء زمن الانحطاط في الشرق الإسلامي وليس لكتابه قصد أو قيمة.
ولا عجب، فإن هذا العالم الرومي تصدى للتحكيم بين الغزالي وابن رشد فيما اختلفا فيه، وهذه العبارة وحدها كافية للدلالة على قلة فهمه؛ لأن التحكيم والتوفيق بينهما مستحيلان؛ إذ كل منهما في اتجاه من الفكر، والعقيدة، والرأي، والطريقة، يناقض ويخالف اتجاه الآخر.
وبهذا وبذاك أصبح كتاب التهافت، في حاله الحاضرة، عبارة عن مجموعة ملازم مطبوعة على ورق نباتي بحروف سقيمة في صحف متلاصقة مزدحمة، تصد بمنظرها وقطعها أشجع القراء وأشدهم تعلقا بالحكمة. ولا شك في أن المقارنة بين كتب الفلسفة العربية، وبين ما يماثلها من الكتب الإفرنجية كافية للدلالة على مكانة الحكمة من عقولنا وقلوبنا، بل كافية للدلالة على مركزنا العقلي في العالم. •••
على أن لكتاب تهافت التهافت، قيمة خاصة لأنه عبارة عن دفاع فيلسوف عن الفلسفة، وفي نظرنا أنه أعظم دفاع لأعظم فيلسوف عربي مسلم، ضد أعظم مفكر شرعي مسلم.
يظهر ابن رشد في هذا الكتاب بمظهر الواقف على الفلسفة في جميع أدوارها، العالم بما جاء في كتب القدماء والمحدثين من اليونان والعرب، كذلك يظهر بمظهر المدافع الرزين الثابت الجأش، الذي لا يخرجه افتراء الخصم عن حلمه، ولا يحرجه سوء النية فيقول ما لا يليق بالعاقل، ولا تستهويه رغبة الانتصار على خصمه إلى الاستهانة بقدره، ولا يدفعه حب الانتصار لأسلافه من الفلاسفة إلى مظاهرتهم بغير حق.
ويظهر لنا أنه لا يحترم أحدا بعد اليونان، ولا يحترم في اليونان أحدا قبل أرسطو أو بعده. وهو لا يغمط حق ابن سينا والفارابي، ولكنه يتناول مبادئهما بالنقد الصحيح. كذلك لا يندفع في الطعن على الغزالي، بل كثيرا ما يذكره بالعلم والفطنة.
ويقول في مواضع كثيرة «قال أبو حامد رضي الله عنه أو رحمه الله»، ولكنه لا يقبل عثرته في أماكن معينة، فيحمل على طريقته فيقول مثلا عنه: «وهذه المعاندة كما قلنا خبيثة، وهي من مواضع الإبدال المغلظة إن كنت تعلم (للقارئ) كتاب السفسطة.»
وعندي أن بقاء كتاب التهافت راجع إلى أن المسلمين تمسكوا بكتاب الغزالي لما ظنوه من مناصرته للشريعة ضد الحكمة، ثم إن النساخ جمعوا بين الكتابين لضرورة وجودهما معا للارتباط الذي ذكرته.
ويظهر أن خوجه زاده المتوفى في أواخر القرن التاسع للهجرة خدم العلم بأمر واحد، ليس هو تطوعه للتحكيم بينهما ، إنما تأليفه دعا إلى عناية بعض الترك بالكتابين ونشرهما ليكون لخوجه زاده، شرف الخلود على الهوامش. فقد دلنا الاختبار على أن المؤلفات الرشدية التي لا مساس لها إلا بالفلسفة قد فنيت وبادت وأحرقت. •••
بدأ ابن رشد كتابه ببساطة جميلة تعلمها بدون شك من أساتذة اليونان، فجعل مقدمته سطرين لا بأس من نقلهما، قال بعد الحمد والصلاة: «الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان.»
فأين هذه المقدمة البسيطة الهادئة من مدافع الغزالي وقنابله، ودباباته وطبله، وهجماته على الفلاسفة وأهل الذكاء والملحدين؟
لا ريب عندنا في أن الحقيقة لا تحتاج إلى زفة، لأنها غنية بقوتها وجمالها عن كل المظاهر. (42-8) كلام ابن رشد على الكتاب
قال لا يمتنع عند الفلاسفة أن يعدم العالم بأن ينقل إلى صورة أخرى؛ لأن العدم يكون ههنا تابعا وبالعرض، وإنما الذي يمتنع عندهم أن ينعدم الشيء إلى لا موجود أصلا؛ لأنه لو كان ذلك كذلك لكان الفاعل يتعلق فعله بالعدم أولا وبالذات، فهذا القول كله أخذ فيه الغزالي بالعرض على أنه بالذات، وألزم الفلاسفة منه ما قالوا بامتناعه!
وأكثر الأقاويل التي ضمن هذا الكتاب هي من هذا القبيل، ولذلك كان أحق الأسماء بهذا الكتاب كتاب التهافت المطلق أو تهافت أبي حامد لا تهافت الفلاسفة. وكان أحق الأسماء بهذا الكتاب (أي تهافت التهافت تأليفه) كتاب التفرقة بين الحق والتهافت من الأقاويل (ص41 طبع مصر).
وقال: إذا كان الغرض إنما هو أن نبين أن ما يحتوي عليه هذا الكتاب من الأقاويل هي أقاويل غير برهانية وأكثرها سفسطائية، وأعلى مراتبها أن تكون جدلية، فإن الأقاويل البرهانية قليلة جدا، وهي من الأقاويل بمنزلة الذهب الإبريز من سائر المعادن والدر الخالص من سائر الجواهر (ص84).
وقال في عرض الكلام على علم الله بالكون والموجودات: «وهذا كاف في تهافت هذا القول كله وسخفه، فلنسم هذا الكتاب التهافت بإطلاق لا تهافت الفلاسفة.» (ص91).
وقال: هذا الفصل (يقصد مسألة نفي الصفات وهي السادسة في كلام الغزالي) كله مغالطة سفسطائية؛ فهذا الرجل (أبو حامد) في أمثال هذه المواضع في هذا الكتاب لا يخلو من الشرارة أو الجهل، وهو أقرب إلى الشرارة منه إلى الجهل (ص99).
وقال: وجميع ما في هذا الكتاب لأبي حامد على الفلاسفة، وللفلاسفة عليه أو على ابن سينا كلها أقاويل جدلية من قبل اشتراك الاسم الذي فيها (ص100).
وتكلم في مواطن كثيرة عن الغزالي نفسه بما اقتضاه سياق الموضوع، فقال في كلام أبي حامد ضد رأي الفلاسفة في أزلية العالم. (المسألة الأولى من المسائل العشرين).
هذا القول هو في أعلى مراتب الجدل وليس هو موصلا موصل البراهين، لأن مقدمته عامة والعامة قريبة من المشتركة، ومقدمات البراهين من الأمور الجوهرية المتناسبة. وهذا كما لا يخفي على القارئ رد منطقي، لأن الغزالي عالج جميع المسائل على طريقة المنطق التي أتقنها لتكميل نفسه أو لمحاربتهم.
وحاول الغزالي في هذه المسألة الأولى بعينها أن يضرب أمثالا من الشرع، فرد عليه ابن رشد: هذا المثال الوصفي الوهمي من الطلاق أوهم أنه يؤكد به حجة الفلاسفة، وهو يوهنها لأن الأشعرية لها أن تقول إنه كما تأخر وقوع الطلاق في اللفظ إلى وقت حصول الشرط من دخول الدار أو غير ذلك، كذلك تأخر وقوع العالم عن إيجاد الباري إياه إلى وقت حصول الشرط الذي تعلق به وهو الوقت الذي قصد فيه وجوده. لكن ليس الأمر في الوصفيات كالأمر في العقليات.
وقال عن أدلة الغزالي في المسألة ذاتها: فقد تبين لك أنه ليس في الأدلة التي حكاها عن المتكلمين في حدوث العالم كفاية في أن تبلغ مرتبة اليقين، وإنها ليست تلحق بمراتب البرهان ولا الأدلة التي أدخلها وحكاها عن الفلاسفة في هذا الكتاب لاحقة بمراتب البرهان، وهو الذي قصدنا بيانه في هذا الكتاب.
وقال في الرد على قول الغزالي بإلزام الفلاسفة أن وصفوا الإمكان بحدوث النفس غير منطبع في المادة أن يكون الإمكان الذي في القابل كالإمكان الذي في الفاعل؛ لأن يصدر عنه الفعل فيستوي الإمكانان.
ويقصد الغزالي من هذا أن تكون النفس مفارقة أي بعيدة عن الجسم وتدبره من خارج كما يدبر الصانع المصنوع، فلا تكون النفس في البدن، كما لا يكون الصانع هيئة في المصنوع أخرى. وهذا الغرض ينطبق على توفق العلماء إلى ابتداع سفينة حربية أو طيارة أو سيارة تتحرك بقوة كهربائية بعيدة عنها ومستقلة دونها.
وقد فرض ابن رشد إمكان ذلك قائلا إنه لا يمتنع أن يوجد من الكمالات التي تجري مجرى الهيئات ما يفارق محله، ولو صح هذا أيضا فهو لا يرى منفعة في تساوي الإمكانين، الإمكان الذي في القابل والإمكان الذي في الفاعل، ولا فائدة في تشبيههما. ولما شعر أبو حامد أن هذه الأقاويل كلها إنما تفيد شكوكا وحيرة عند من لا يقدر على حلها، وهو من فعل الشرار السفسطائيين؛ أقر بأنه إنما يحارب الفلاسفة بمعارضته الإشكالات التي تنتج من أقوالهم بإشكالات من نوعها، ويقصد بالإشكالات شكوكا تعرض عند ضرب أقاويل الفلاسفة بعضها ببعض، ومثل الغزالي في ذلك كمثل المتقاضي الذي يتقن فهم قانون الإجراءات، ليستفيد منه وسائل لإرباك خصمه بالدفوع الفرعية. وقد كان ابن رشد قاضيا ابن قاض ابن قاض، كما كان فيلسوفا منطقيا، ولذا تمكن من تلخيص أقوال الغزالي ومعرفة الجيد منها من الرديء، وعاب عليه أنه يلجأ إلى معاندة غير تامة؛ لأن المعاندة التامة إنما هي التي تقتضي إبطال مذهب الخصم بحسب الأمر في نفسه لا بحسب قول القائل. فقال: وقد كان واجبا على أبي حامد أن يبتدئ بتقرير الحق قبل أن يبتدئ بما يوجب حيرة الناظرين وتشكيكهم؛ لئلا يموت الناظر قبل أن يقف على ذلك الكتاب أو يموت هو (الغزالي) قبل وضعه . ويشير ابن رشد بذلك إلى وعد الغزالي بتأليف كتاب يظهر به الحق دون أن ينصر مذهبا مخصوصا غير «مشكاة الأنوار»، ونظن أنه «مقاصد الفلاسفة»، ولكن هذا الكتاب لم يكن وصل إلى المغرب. لأن ابن رشد يقول: «والظاهر من الكتب المنسوبة إليه أنه راجع في العلوم الإلهية إلى مذهب الفلاسفة، ومن أثبتها في ذلك وأصحها ثبوتا له كتابه المسمى بمشكاة الأنوار.»
ولا يتردد ابن رشد في الاعتراف بصحة أقاويل الغزالي كقوله في ص78: «قد أجاد في أكثر ما ذكره من وصف مذاهب الفلاسفة في كون الباري تعالى واحدا مع وصفه بأوصاف كثيرة، ومثاله أيضا لدى قوله: «إن العالم ليس موجودا في باب الإضافة، وإنما هو موجود في باب الجوهر والإضافة عارضة له».»
وقد رد الغزالي على الفلاسفة في شخص ابن سينا فجاء ابن رشد ونصر الغزالي على ابن سينا وقصر الصحة في رأي ابن سينا على صور الأجرام السماوية وما يدرك من الصور المفارقة للمواد (ص45). ومعنى هذا أن ابن رشد كتب كتابه لنصرة الفلاسفة، ولكنه لم يتحيز لرأي من آرائهم، وأقر الغزالي في بعض المسائل المنسوبة إليهم وحاول تفسيرها وتبين أسباب خطأ الحكماء فيها، وهذا أعظم دليل على حسن النية حيال خصم عنيد نسب ابن رشد إليه سوء النية في أكثر من مكان من كتابه.
وهاك نموذجا من كلام هذا الحكيم الجليل عند الكلام على القول «بأن الواحد بالعدد البسيط لا يصدر عنه إلا واحد بسيط بالعدد لا واحد بالعدد من جهة وكثرة من جهة، وأن الوحدانية منه هي علة وجود الكثرة». فقد تناول الغزالي أصل هذا القول المنسوب إلى ابن سينا ظنا منه أنه يفحم الفلاسفة في النيل من أحدهم، فقال ابن رشد: «هذه الأقاويل التي هي أقاويل ابن سينا ومن قال بمثل قوله وهي غير صحيحة وليست جارية على أصول الفلاسفة، ولكن ليست تبلغ من عدم الإقناع المبلغ الذي ذكره هذا الرجل (الغزالي)، وليس هذا القول من الشناعة في الصورة التي أراد أن يصورها هذا الرجل حتى ينفر بذلك النفوس عن أقوال الفلاسفة ويبخسهم في أعين النظار، فإن كان الرجل قصد قول الحق في هذه الأشياء فغلط فهو معذور، وإن كان علم التمويه فيها فقصده فإنه لم يكن هنالك ضرورة داعية له فهو غير معذور، وإن كان إنما قصد بهذا ليعرف أنه ليس عنده قول برهاني يعتمد عليه في هذه المسألة، أعني المسألة التي هي «من أين جاءت الكثرة؟» فهو صادق في ذلك إذ لم يبلغ الرجل المرتبة من العلم المحيط بهذه المسألة، وهذا هو الظاهر من حاله فيما بعد، وسبب ذلك أنه لم ينظر الرجل إلا في كتب ابن سينا فلحقه القصور في الحكمة من هذه الجهة.»
وقد خرج الغزالي بأقوال ابن سينا في مسألة علم الباري بذاته وبسائر الموجودات، فإن ابن سينا إنما رام أن يجمع بين القول بأنه لا يعلم إلا ذاته ويعلم سائر الموجودات بعلم أشرف مما يعلمها به الإنسان؛ إذ كان ذلك العلم هو ذاته. وهذا قول جميع الفلاسفة واللازم عن قولهم، وقد أحرجت مكابرة الغزالي صدر ابن رشد في هذه المسألة فقال: «إذا تقرر هذا لك فقد بان لك قبح ما جاء به هذا الرجل من الحمل على الحكماء مع ما يظهر من موافقة الرجل لهم في أكثر آرائهم.» وهذا مصداق لما هو مشهور عن الغزالي من أنه يوافق الفلاسفة في معظم أقوالهم، ولكنه أراد الظهور بمخالفتهم ليحظى بشرف الانتصار للشريعة، أو أنه كان مع الحكماء بعقله ومع الشرع بقلبه، فغلب القلب على العقل في مواطن كثيرة، ولكن اقتناع العقل كان ظاهرا في كل حال.
ثم حمل ابن رشد على الغزالي حملته الكبرى، وهي من أقوى وأبلغ ما كتبه حكيم غضبان للحكمة والحق، ومن سياق الحديث يفهم سبب تلك الحملة:
وأما قوله إن قصده ههنا ليس هو معرفة الحق، وإنما قصده إبطال أقاويلهم وإظهار دعاواهم الباطلة فقصد لا يليق به بل بالذين في غاية الشر، وكيف لا يكون ذلك كذلك ومعظم ما استفاد هذا الرجل من النباهة، وفاق الناس فيما وضع من الكتب التي وضعها، إنما استفادها من كتب الفلاسفة ومن تعاليمهم؟! وهبك إذا أخطئوا في شيء فليس من الواجب أن ينكر فضلهم في النظر وما راضوا به عقولنا، ولو لم يكن لهم إلا صناعة المنطق لكان واجبا عليه وعلى جميع من عرف مقدارها شكرهم عليها، وهو معترف بهذا المعنى وداع إليه وقد وضع فيها التآليف ويقول إنه لا سبيل إلى أن يعلم أحد الحق إلا من هذه الصناعة، وقد بلغ الغلو فيها إلى أن استخرجها من كتاب الله تعالى، أفيجوز لمن استفاد من كتبهم وتعاليمهم مقدار ما استفاد هو منها حتى فاق أهل زمانه وعظم في ملة الإسلام صيته وذكره؛ أن يقول فيهم هذا القول ويصرح بذمهم على الإطلاق وذم علومهم؟
وإن وضعنا أنهم يخطئون في أشياء من العلوم الإلهية، فإنا إنما نحتج على خطئهم من القوانين التي علمونا إياها في علومهم المنطقية، ونقطع أنهم لا يلزموننا على التوقيف على خطأ إن كان في آرائهم، فإن قصدهم إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن إلا هذا القصد لكان ذلك كافيا في مدحهم، مع أنه لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا بأمر خارج عن طبيعة الإنسان، فلا أدري ما حمل هذا الرجل على مثل هذه الأقاويل، أسأل الله العصمة والمغفرة من الزلل!
على أن ابن رشد كان في كتابه حائرا بين أمرين: الأول ضرورة الرد على الغزالي بما يقنع ويفحم ويعجز الخصم، والثاني بغضه التصريح بالحكمة للجمهور خوفا عليهم من الضلال بالقليل الذي لا يشفي الغليل، فهو يقول: «ولذلك كان هذا الكتاب أحق باسم التهافت من الفرقتين جميعا، وهذا كله عندي تعد على الشريعة وفحص عما لم تأمر به شريعة لكون قوى البشر مقصرة عن هذا، وذلك أن ليس كل ما سكت عنه الشرع من العلوم يجب أن يفحص عنه ويصرح به للجمهور، وربما أدى إليه النظر أنه من عقائد الشرع، فإنه يتولد عن ذلك مثل هذا التخليط العقيم فينبغي أن يمسك من هذه المعاني كل ما سكت عنه الشرع، ويعرف الجمهور أن عقول الناس مقصرة عن الخوض في هذه الأشياء، ولا يتعدى التعليم الشرعي المصرح به في الشرع؛ إذ هو التعليم المشترك للجميع الكافي في بلوغ ذلك.»
هذا ابن رشد، أشهر فلاسفة الإسلام، وقد رماه معاصروه بالإلحاد ونسبوا إليه التعطيل، وحاكمه الأمير في مجلس حافل وعاقبه بالنفي، ولو أن ابن رشد عاصر الغزالي لكان أشد خصومة، ولقامت بينهما حرب عقلية أشد من التي أثار الغزالي غبارها بكتابه وحركها الوليد بعد موت خصمه بمائة عام، نقول إن ابن رشد يظهر في كل صفحة من صفحاته أنه أصدق دفاعا عن الشريعة، وأشد مناصرة لأحكامها من ذلك الرجل الذي لقبوه بحجة الإسلام.
فإن ابن رشد في مواضع كثيرة من كتبه ينهى عن بذل الحكمة وعن تأويل ظاهر الشرع، ويتناول تلك المسائل كارها الخوض فيها وناقما على من هتك ستر الحكمة ورفع النقاب عن وجهها وأباح لسائر الأنظار أن تطأها يقول: «فلنرجع إلى ما كنا بسبيله مما دعت إليه الضرورة، وإلا فالله العالم والشاهد والمطلع إنا ما كنا نستجيز أن نتكلم في هذه الأشياء، هذا النحو من التكلم.»
وقد كتب ابن رشد كتاب التهافت إنقاذا للعقول من الضلال؛ أي إنه تدارك الخطر الذي يحدثه الغزالي، فعمله مفهوم لأنه لغاية معلومة، أما الغزالي فقد انتدب نفسه لغير سبب وقصد إلى تشويش الأفكار باعترافه. فأيهما أقرب إلى الصواب؟ وأيهما أكثر ارتباطا بالحق؟ وأيهما أحسن نية وأسلم طوية وأشرف قصدا من صاحبه؟
لقد أجاب ابن رشد على هذا السؤال في عرض الكلام على «الغرض المحرك للسماء، إذ قال الفلاسفة إن السماء حيوان مطيع لله تعالى»، وهي المسألة الخامسة عشرة من مسائل الغزالي، قال ابن رشد ردا عليه: «قد يظن أن هذا الكلام لسخفه يصدر عن أحد رجلين إما رجل جاهل وإما رجل شرير، وأبو حامد مبرأ عن هاتين الصفتين، ولكن قد يصدر من غير الجاهل قول جاهلي، ومن غير الشرير قول شريري على جهة الندور، ولكن يدل هذا على قصور البشر فيما يعرض لهم من التقلبات.»
فما أصدق هذا القول على من تصدى للحق ظنا منه أنه يقلل من نوره! (42-9) رد ابن رشد على طريقة الغزالي
يتهم ابن رشد خصمه الغزالي بأنه سفسطائي، وأنه تناول مسائل كثيرة عظيمة تحتاج كل واحدة منها إلى أن تفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها، وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين السبعة، والغلط في واحد من هذه المبادئ هو سبب لغلط عظيم في إجراء الفحص عن الموجودات.
ويتهمه أيضا بأنه سريع الأخذ بأبسط الخطأ المنسوب إلى الحكماء شديد الفرح به، فإنه لما ظفر في مسألة «جواز وجود كثرة في المعلول الأول عن غير علة» بوضع فاسد منسوب إلى الفلاسفة، ولم يجد مجيبا يجيبه بجواب صحيح، سر بذلك وكثرت المحالات اللازمة لهم، وكل ما جر باطلا يسره.
أما ما عدده من أجناس العلم الطبيعي الثمانية فصحيح على مذهب أرسطوطاليس، وأما العلوم التي عددها على أنها فروع له فليست كما عددها، أما الطب فليس هو من العلم الطبيعي، وهو صناعة تؤخذ مباديها من العلم الطبيعي؛ لأن العلم الطبيعي نظري والطب عملي، أما الكلام في المعجزات فليس فيه للقدماء من الفلاسفة قول؛ لأن هذه كانت عندهم من الأشياء التي لا يجب أن يتعرض للفحص عنها وتجعل مسائل، فإنها مبادئ الشرائع، والفاحص عنها والمسلك فيها يحتاج إلى عقوبة عندهم مثل من يفحص عن سائر مبادئ الشرائع العامة مثل هل الله تعالى موجود؟ وهل السعادة موجودة؟ وهل الفضائل موجودة؟ وإنه لا يشك في وجودها، وإن كيفية وجودها هو أمر إلهي معجز عن إدراك العقول الإنسانية.
إن ما حكاه الغزالي في الرؤيا عن الفلاسفة فلا أعلم أحدا قال به من القدماء، والذي يقول القدماء في أمر الوحي والرؤيا إنما هو عن الله تعالى بتوسط موجود روحاني ليس بجسم، وهو واهب العقل الإنساني عندهم، وهو الذي يسميه الحذاق منهم العقل الفعال، ويسمى في الشريعة ملكا.
ولا حاجة بنا إلى القول بأن الإقدام على تأليف تهافت التهافت كاف بذاته للتدليل على رسوخ قدم ابن رشد في الفلسفة بأصولها وفروعها، والإلمام بتاريخ مذاهب الفلاسفة القدماء منهم والحديثين، لما يقتضيه وضع مثل هذا الكتاب من الاستشهاد بأقوالهم ومقارنتها ببعضها وبغيرها، ونقدها وتوضيح ما أشكل فهمه منها على أذهان خصومها. (42-10) عن فلاسفة اليونان
قال في كلام الفلاسفة إن العالم مؤلف من خمسة أجسام: (1)
جسم لا ثقيل ولا خفيف وهو الجسم السماوي الكري المتحرك. (2)
جسم ثقيل بالإطلاق وهو الأرض. (3)
جسم خفيف بالإطلاق وهو النار. (4)
جسم ثقيل بالإضافة إلى الأرض وهو الماء. (5)
جسم خفيف بالإضافة إلى النار وهو الهواء.
ثم قال للقارئ: «لا تطمع هنا في تبين هذا ببرهان، وإن كنت من أهل البرهان فأنظره في مواضعه.» وتكلم عن حركة الأكر السماوية وقال إنها تتحرك من جهات محدودة.
أما ما يرى أرسطو أن للسماء يمينا وشمالا وأماما وخلفا وفوقا وأسفل، فاختلاف الأجرام السماوية في جهات الحركات هي لاختلافها في النوع، وهو شيء يخصها؛ أعني أنها تختلف أنواعها باختلاف جهات حركاتها، وكون الجرم السماوي الأول حيوانا واحدا بعينه اقتضى له طبعه، أما من جهة الضرورة أو من جهة الأفضل أن يتحرك بجميع أجزائه حركة واحدة من المشرق إلى المغرب، وسائر الأفلاك اقتضت لها طبيعتها أن تتحرك بخلاف هذه الحركة، وأن الجهة التي اقتضتها طبيعة جرم الكل حينئذ أفضل الجهات لكون هذا الجرم هو أفضل والأفضل، في المتحركات واجب أن يكون له الجهة الأفضل. (42-11) مسألة علم الله بالموجودات وهي من جزئيات الثالثة عشرة من مسائل الغزالي
قال ابن رشد: إن العلم يتكثر بتكثر المفعولات للعالم؛ لأنه إنما يعقلها على النحو الذي هي عليه موجودة وهي علة علمه، وليس يمكن أن تكون المعلولات الكثيرة تعلم بعلم واحد، ولا يكون العالم الواحد علة لصدور معلولات كثيرة عنه في الشاهد، مثال ذلك أن علم الصانع الصادر عنه مثلا «الخزانة» غير العلم الصادر عنه «الكرسي»، لكن العلم القديم مخالف في هذا العلم المحدث والفاعل القديم للفاعل المحدث، فإن قيل فما تقول أنت في هذه المسألة، وقد أبطلت مذهب ابن سينا في علة الكثرة، فما تقول أنت في ذلك؟
فإنه قد قيل إن فرق الفلاسفة كانوا يجيبون في ذلك بواحد من ثلاثة أجوبة: (1)
الكثرة جاءت من قبل الهيولى. (2)
الكثرة جاءت من قبل الآلات. (3)
الكثرة جاءت من قبل الوسائط.
أما فرقة أرسطو فقد صححوا الجواب الثالث، وهذا لا يمكن الجواب فيه في هذا الكتاب بجواب برهاني، ولكن لا نجد لأرسطو أو لمن اشتهر من قدماء المشائين هذا القول الذي نسب إليهم إلا (لفرفوريوس الصوري) صاحب مدخل علم المنطق، والرجل لم يكن من حذاقهم، والذي يجري عندي على أصولهم أن سبب الكثرة هي مجموع الثلاثة الأسباب؛ أعني المتوسطات والاستعدادات والآلات.
وقال عند الكلام على تعجيز أبي حامد الفلاسفة عن إثبات الصانع: إن وجود المتقدمات عند الفلاسفة ليس شرطا في وجود المتأخرات، بل ربما كان الشرط فساد بعضها، وأمثال هذه العلل (وجود المطر عن الغيم والغيم عن البخار) هي عندهم مرتقية لعلة أولى أزلية تنتهي الحركة إليها في علة من هذه العلل في وقت حدوث المعلول الأخير، مثال ذلك أن سقراط إذا ولد أفلاطون فإن المحرك الأقصى للتحريك عندهم في حين توليده إياه هو الفلك أو النفس أو العقل أو جميعها أو الباري، ولذلك يقول أرسطو إن الإنسان يولده إنسان وكذا الأفلاك بعضها عن بعض إلى أن ترتقي إلى محركها، ومحركها إلى المبدأ الأول، فإذن ليس الإنسان الماضي شرطا في وجود الإنسان الآتي. (42-12) في علم الباري بالجزئيات
وكذلك الأمر في الكليات والجزئيات يصدق عليها سبحانه أن يعلمها ولا يعلمها، هذا هو الذي يقتضيه أصول الفلاسفة القدماء منهم، وأما من فصل فقال إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات فغير محيط بمذهبهم ولا لازم لأصولهم، فإن العلوم الإنسانية كلها انفعالات وتأثيرات عن الموجودات، والموجودات هي المؤثرة فيه، وعلم الباري سبحانه هو المؤثر في الموجودات، والموجودات هي المنفعلة عنه، وإذا تقرر هذا فقد وقعت الراحة من جميع المشاجرة بين أبي حامد وبين الفلاسفة في هذا الباب وغيره. (42-13) نقد الفلاسفة
قلنا إن ابن رشد لم يتحيز لفريق دون آخر، بل كان في كتابه حكما بين الجميع، قال في مسألة القول بأن الله ليس هو فاعلا وإنما هو سبب من الأسباب التي لا يتم الشيء إلا به وقدم العالم وحدوثه «هذا القول هو من جواب ابن سينا في هذه المسألة عن الفلاسفة وهو قول سفسطائي. والحال في وجود الحركة أنها دائما تحتاج إلى المحرك، والمحققون من الفلاسفة يعتقدون أن هذه هي حال العالم الأعلى مع الباري، فضلا عما دون العالم العلوي، وبهذا تفارق المخلوقات المصنوعات، فإن المصنوعات إذا وجدت يقترن بها عدم، يحتاج من أجله إلى فاعل به يستمر وجودها».
لما أراد أرسطو أن يبين كون الأرض مستديرة بطبائعها أنزلها محدثة ليتصعد العقل منها العلة ثم ينقلها إلى الأزلية، وذلك في المقالة الثانية من السماء والعالم، وذلك لأن الفلاسفة تقول إن من قال إن كل جسم محدث، وفهم من الحدوث الاختراع من لا موجود؛ أي من العدم، فقد وضع معنى من الحدوث لم يشاهده قط، وجملة الأمر أن الجسم عندهم سواء كان محدثا أو قديما ليس مستقلا في الوجود بنفسه، وهي عندهم في الجسم القديم واجبة على نحو ما هي عليه في الجسم المحدث، إلا أن الخيال لا يساعد كيفية وجودها في القديم كما يساعد في الجسم المحدث.
وأما الدهرية فالحس هو الذي اعتمدت عليه، وذلك أنه لما انقطعت الحركات عندها بالجرم السماوي وانقطع به التسلسل ظنت أنه قد انقطع بالعقول وانقطع بالحس. وأما الفلاسفة فإنهم اعتبروا الأسباب حتى انتهت إلى الجرم السماوي، ثم اعتدوا الأسباب المعقولة فأفضى بهم الأمر إلى موجود ليس بمحسوس، هو علة ومبدأ للموجود المحسوس.
وأما الأشعرية (وهم أهل السنة الذين تلقى ابن رشد أصول الفقه في صباه على طريقتهم كما تقدم في ترجمته) فإنهم جحدوا الأسباب المحسوسة؛ أي لم يقولوا بكون بعضها أسبابا لبعض وجعلوا علة الموجود المحسوس، موجودا غير محسوس بنوع من الكون غير مشاهد ولا محسوس، وأنكروا الأسباب والمسببات وهو نظر خارج عن الإنسان بما هو إنسان.
مسألة كون الجسم ليس واجب الوجود بذاته، إذا وضع واجب الوجود موجودا مركبا من أجزاء قديمة من شأنها أن يتصل بعضها ببعض، كالحال في العالم وأجزائه؛ صدق على العالم وأجزائه أنه واجب الوجود، هذا كله إذا سلمنا أن ههنا موجودا هو واجب الوجود، ويظهر ضعف هذه الطريقة عند من يفرض جسما بسيطا غير مركب من مادة وصورة وهو مذهب المشائين.
ولذلك يقول الإسكندر إنه لا بد أن يكون ههنا قوة روحانية سارية في أجزاء العالم كما يوجد في أجزاء الحيوان الواحدة قوة تربط أجزاء بعضها ببعض، والفرق ههنا أن الرباط الذي في العالم قديم، من قبل أن الرابط قديم، فتدارك الخالق هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لا يمكن فيه غيره كما يقوله أرسطو في كتاب الحيوان.
وقد رأينا في هذا الوقت كثيرا من أصحاب ابن سينا لموضع هذا الشك قد تأولوا على ابن سينا هذا الرأي، وإنما سمى فلسفته المشرقية لأنها مذهب أهل المشرق، فإنهم يرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية على ما كان يذهب إليه، وهم مع هذا يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة. (42-14) الكلام عن واجب الوجود
مذهب ابن رشد في الذات والصفات أن الصفات لاصقة بالذات وقائمة بها ومتحدة معها وليست زائدة عنها. وأن الجسم السماوي عند الفلاسفة ليس مركبا من مادة وصورة، وإنما هو عندهم بسيط وقد يظن أنه يصدق عليه أنه واجب الوجود بجوهره. (42-15) مذهب النصارى في الأقانيم الثلاث
إنهم ليسوا يرون أنها صفات زائدة على الذات، وإنما هي عندهم متكثرة بالحد، وهي كثيرة بالقوة لا بالفعل؛ ولذلك يقولون ثلاثة لا واحد أي واحد بالفعل ثلاثة بالقوة. الفلاسفة تقول إن الباري تعالى واحد مع وصفه بأوصاف كثيرة.
إن تسمية الباري عقلا هو الاسم الأخص بذاته عند الفلاسفة المشائين، بخلاف ما يراه أفلاطون من أن العقل غير المبدأ الأول وأنه لا يوصف بأنه عقل.
للموجود وجودان، وجود أشرف ووجود أخس، والوجود الأشرف هو علة الأخس، وهذا هو معنى قول القدماء إن العلوي تعالى هو الموجودات كلها، وهو المنعم بها والفاعل لها، ولذلك قال رؤساء الصوفية: «لا هو إلا هو.» ولكن هذا كله هو من علم الراسخين في العلم، ولا يجب أن يكتب هذا ولا أن يكلف الناس اعتقاد هذا، ولذلك ليس هو من التعليم الشرعي، ومن أثبته في غير موضعه فقد ظلم، كما أن من كتمه عن أهله فقد ظلم. (42-16) نظام الكون في نظر ابن رشد والفلاسفة
مذهب القوم القديم (يقصد قدماء الفلاسفة وهو يتبعهم) هو أن ههنا مبادئ للأجرام السماوية، والأجرام السماوية تتحرك إليها على جهة الطاعة لها والمحبة فيها والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها، وإن الأجرام إنما خلقت من أجل الحركة، وهي حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها، وهذه المبادئ ليست مادة فوجب أن يكون جوهرها علما أو عقلا أو كيف شئت أن تسميها.
وهذه المبادئ المفارقة وجودها (يقصد بذلك مفارقة للمواد أي مختلفة عنها) مرتبطة بمبدأ أول فيها، ولولا ذلك لم يكن ههنا نظام موجود. وقد صح عند الفلاسفة أن الآمر بهذه الحركة هو المبدأ الأول، وهو أن سبحانه وتعالى قد أمر سائر المبادئ أن تأمر سائر الأفلاك بسائر الحركات، وأن بهذا الأمر قامت السماوات والأرض، كما أن بأمر الملك في المدينة قامت جميع الأوامر الصادرة ممن جعل له الملك ولاية أمر من أمور المدينة إلى جميع من فيها من صنوف الناس، وهذا التكليف والطاعة اللذان وجبا على الإنسان، لكونه حيوانا ناطقا. (42-17) انطباع غريزة القدماء من حكماء اليونان في ابن رشد
في كثير من مواضع هذا الكتاب يظهر ابن رشد اشمئزازه من البحث في المسائل الإلهية والفلسفية التي يعدها أمهات المسائل ويستغفر لنفسه من الخوض فيها، وما ذلك إلا تقليدا للقدماء كما ورد على لسانه في صفحة 121 من تهافت التهافت، قال في موضع:
فالله يأخذ الحق ممن تكلم في هذه الأشياء الكلام العام ويجادل في الله بغير علم.
وقال في آخر الكتاب:
وقد رأيت أن أقطع ههنا القول في هذه الأشياء والاستغفار من التكلم فيها، ولولا ضرورة طلب الحق مع أهله ما تكلمت في «ذلك علم الله بحرف». (42-18) اتساع علمه في الفلسفة (الكلام على طبيعة الموجود بالفعل وهي التي يسمونها بالهيولى)
فقد نسب أبو حامد فيها إلى الفلاسفة قولا لم يقله واحد، لا سيما فيما يتعلق بحدوث النفس فأجابه ابن رشد قال:
لا أعلم أحدا من الحكماء قال إن النفس حادثة حدوثا حقيقيا ثم قال إنها باقية إلا ما حكاه عن ابن سينا، وإنما الجميع على أن حدوثها هو إضافي وهو اتصالها بالإمكانات الجسمية القابلة لذلك الاتصال، كالإمكانات التي في المرايا لاتصال شعاع الشمس بها، وهذا الإمكان عندهم ليس هو من طبيعة إمكان الصور الحادثة الفاسدة، بل هو إمكان على نحو ما يزعمون أن البرهان أدى إليه، وأن الحامل لهذا الإمكان طبيعة غير طبيعة الهيولى. ولا يقف على مذاهبهم في هذه الأشياء إلا من نظر في كتبهم على الشروط التي وضعوها مع فطرة فائقة، ومعلم. (42-19) مسألة الزمان
وهي من أهم المسائل عند الفلاسفة القدماء والمحدثين، وقد تكلم فيها ابن رشد توضيحا ونقدا لما كتبه الغزالي، فتناول أزلية العالم وحدوثه وأدلة الفلاسفة وأهل الشرع في الأمرين، فإن الفلاسفة يقولون بالأزلية والشرعيين يقولون بالحدوث، فمثلا أبو الهذيل العلاف موافق للفلاسفة في أن كل محدث فاسد وأشد التزاما لأصل القول بالحدوث. ومخالف لهم في كون العالم أزليا من الطرفين، وابن رشد يرد عليه بقوله إنه إذا سلم أن العالم لم يزل إمكانه، وإن إمكانه يلحقه حالة ممتدة معه يقدر بها ذلك الإمكان كما يلحق الموجود الممكن إذا خرج إلى الفعل على تلك الحال وكان يظهر من هذا الامتداد أنه ليس له أول صح لهم أن الزمان ليس له أول، إذ ليس هذا الامتداد شيئا إلا الزمان وتسمية من سماه دهرا لا معنى لها.
وإذا كان الزمان مفارقا للإمكان والإمكان مفارقا للوجود المتحرك، فالوجود المتحرك لا أول له لأن الفلاسفة لا يضعون للحركة الدورية ابتداء، فليس يلزمهم أن يكون لها انقضاء لأنهم لا يضعون وجودها في الماضي وجود الكائن الفاسد، وإن ما دخل في الماضي بالحقيقة فقد دخل في الزمان، وما دخل في الزمان فالزمان يفضل عليه بطرفيه وله كل وهو متناه ضرورة، وكل مبدأ حادث هو حاضر وكل حاضر قبله ماض، وما يوجد مساوق للزمان والزمان مساوق له، فقد يلزم أن يكون غير متناه.
وقد تخلص ابن رشد من هذا البحث النظري الجليل إلى الكلام على أزلية العالم، فقال إن أهل الشرع جعلوا امتناع الفعل أزليا ووجوده أزليا، وذلك غاية الخطأ، لكن إطلاق اسم الحدوث على العالم كما أطلقه الشرع أخص به من إطلاق الأشعرية، لأن الفعل بما هو فعل فهو محدث، وإنما يتصور القدم فيه لأن هذا الإحداث والفعل المحدث ليس له أول ولا آخر، ولذلك عسر على أهل الإسلام أن يسمي العالم قديما والله قديم وهم لا يفهمون من القديم إلا ما لا علة له.
ولا يخفى أن مسألة قدم العالم هي أول مسألة تناولها البحث بين الغزالي وابن رشد وهي أولى المسائل التي يكفرون بها الفلاسفة. (42-20) دفاع ابن رشد عن الفلسفة
قال ابن رشد، وهذا يعد من أبلغ وأجمل ما كتبه فيلسوف عربي، في شرح مذاهب الفلاسفة، بعد أن رد على بعض مسائل الغزالي، وقصده أن يكون قوله مما يحرك من أحب الوقوف على الحق، ويحرضه على النظر في علوم الفريقين، أهل الشرع وأهل الحكمة، ويعمل في هذا كله على ما وفقه الله إليه وقيمة هذا القول تاريخية ولا تفيد عقلنا حالا:
أما الفلاسفة فقد طلبوا معرفة الموجودات بعقولهم لا مستندين إلى قول من يدعوهم إلى قبول قوله من غير برهان، بل ربما خالف الأمور المحسوسة، وقد أثبتوا أسبابا أربعة هي الصورة والمادة والفاعل والغاية.
أما السبب الفاعل، وهو الذي يسميه جالينوس القوة المصورة أو الخالق وشك هل هي الإله أو غيره، لأن السبب الفاعل هو معطي النفس ومعطي الصورة والحركة. وفحصوا أيضا عن السماوات بعد ما اتفقوا أنها مبادئ الأجرام المحسوسة، واعتقدوا أن الأجرام السماوية عاقلة وأنها ذوات نفوس ، ورأوا أنها أشرف من العقل الإنساني، ولما نظروا إلى الجرم السماوي رأوا في الحقيقة جسما واحدا شبيها بالحيوان الواحد، له حركة واحدة كلية وهي الحركة اليومية، واعتقدوا أن ارتباط هذه الأجسام الكروية بعضها ببعض ورجوعها إلى جسم واحد وتعاونها على فعل واحد وهو العالم بأسره؛ أنها ترجع لمبدأ واحد وأن هذا النظام والترتيب هو السبب في سائر النظامات والترتيبات، وأن العقول تتفاضل في ذلك بحسب حالها منه في القرب والبعد.
والأول عندهم لا يعقل إلا ذاته، وهو يتعقل ذاته بعقل جميع الموجودات، فعلى هذا ينبغي أن يفهم مذهب الفلاسفة في هذه الأشياء والأشياء التي حركتهم إلى مثل هذا الاعتقاد في العالم، فإذا تؤملت فليست بأقل إقناعا من الأشياء التي حركت المتكلمين من أهل الملة؛ أعني المعتزلة أولا والأشعرية ثانيا، إلى أن اعتقدوا في المبدأ الأول ما اعتقدوا؛ أعني أنهم اعتقدوا أنه ههنا ذات غير جسمانية ولا في جسم، حية عالمة فريدة قادرة متكلمة سميعة بصيرة.
وقد قام عندهم البرهان على أن في الحيوان قوة واحدة، بها صار واحدا وبها صارت جميع القوى التي فيه تؤم فعلا واحدا؛ وهو سلامة الحيوان. وهذه القوى مرتبطة بالقوة الفائضة عن المبدأ الأول، ولولا ذلك لافترقت أجزاؤه ولم تبق طرفة عين.
والعالم أشبه شيء عندهم بالمدينة الواحدة، وذلك أنه كما أن المدينة تتقوم برئيس واحد ورياسات كثيرة تحت الرئيس الأول، كذلك الأمر عندهم في العالم، وذلك أنه كما أن سائر الرياسات التي في المدينة إنما ارتبطت بالرئيس الأول، من جهة أن الرئيس الأول هو الموقف لواحدة واحدة من تلك الرئاسات على الغايات التي من أجلها كانت تلك الرئاسات، وعلى ترتيب الأفعال الموجبة لتلك الغايات، كذلك الأمر في الرئاسة الأولى التي في العالم مع سائر الرئاسات، وتبين لهم أن المبدأ الأول هو مبدأ جميع المبادئ، فإنه فاعل وصورة وغاية، وصارت جميع الموجودات تطلب غايتها بالحركة نحو المبدأ الأول، وتطلب بها غاياتها التي من أجلها خلقت، وجميع الموجودات فتطلبها بالطبع (غريزة)، وأما الإنسان فبالإرادة. (42-21) الكلام على حشر الأجساد
أخذ الغزالي يزعم أن الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، وهذا شيء ما وجد لواحد ممن تقدم فيه قول، والقول بحشر الأجساد أقل ما له منتشرا في الشرائع ألف سنة، والذين تأدت إلينا عنهم الفلسفة دون هذا العدد من السنين، وذلك أن أول من قال بحشر الأجساد هم أنبياء بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى، وذلك بين من الزبور ومن كثير من الصحف المنسوبة لهم. وثبت أيضا ذلك في الإنجيل وتواتر القول به عن عيسى، وهو قول الصابئة. وقد قال عنها أبو محمد ابن حزم إنها أقدم الشرائع، والحكماء بأجمعهم يرون في الشرائع أن يتقلدوا من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة في ملة ملة.
والممدوح عندهم من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة، حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها. فما قيل في الميعاد في الشريعة الإسلامية هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها، ولذلك كان تمثيل الميعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية. (43) ابن رشد وحرية الفكر
كتب الأستاذ لويجي رينالدي في بحث «المدنية العربية في الغرب» قال:
ومن فضل العرب علينا أنهم هم الذين عرفونا بكثير من فلاسفة اليونان، وكانت لهم الأيدي البيضاء على النهضة الفلسفية عند المسيحيين. وكان الفيلسوف ابن رشد أكبر مترجم وشارح لنظريات أرسطاطاليس، ولذلك كان له مقام جليل عند المسلمين والمسيحيين على السواء، وقد قرأ الفيلسوف النصراني توماس نظريات أرسطاطاليس شرح العلامة ابن رشد. ولا ننس أن ابن رشد هذا هو مبتدع مذهب «الفكر الحر»، وهو الذي كان يتعشق الفلسفة ويهيم بالعلم ويدين بهما، وكان يعلمهما لتلاميذه بشغف وولع شديدين، وهو الذي قال عند موته كلمته المأثورة: «تموت روحي بموت الفلسفة.»
وكتب قبله المفكر الإنجليزي جون روبرتسون في «تاريخ وجيز للفكر الحر» (ج1 ص277) قال ما نصه:
إن ابن رشد أشهر مفكر مسلم؛ لأنه كان أعظم المفكرين المسلمين أثرا وأبعدهم نفوذا في الفكر الأوروبي، فكانت طريقته في شرح أرسطو هي المثلى في القرون الوسطى، وقد ظهر فضله بشرح نص السيانتزم (ألوهية العالم)، الذي يؤيد أزلية الكون المادي، ويقول بأن النفس الفارقة تخلق من النفس العامة وتعود إليها فتتلاشى فيها، فجعل شرح هذا المذهب لابن رشد شأنا كبيرا في عالمي الفكر المسيحي والإسلامي.
وقد انشق على مذهب الزهد والتصوف الذي نشره ابن باجه وابن طفيل، وحارب الغزالي في آرائه الدينية المخالفة للعقل، وأفرد لذلك كتاب «تهافت التهافت » ردا على «تهافت الفلاسفة» أشهر كتب الغزالي وأظهرها غرضا. فأثبت ابن رشد بكتبه أنه أقل فلاسفة الإسلام تصوفا وأكثرهم تأييدا للعقل، وهو يعارض وجهة النظر الدينية في كل رأي جوهري، فأنكر بعث الأجساد، وعد القول ببعث الجسد خرافة، وشأنه في ذلك شأن من سبقه من المعطلين، وبحث مسألة «الخيار» بحثا يكاد يكون علميا، وعارض في ذلك مذهب المتكلمين المتلف للأخلاق؛ لأنهم قالوا بأن إرادة الله هي مقياس الحق ولا مقياس سواها، وكانوا جبرية. وكذلك عارض ابن رشد مذهب القدرية.
وقد أدرك ابن رشد ما بين مذهبه وبين العقائد الشائعة من العداء، وفطن إلى الأفكار التي تتهدده إذا لم يصانع في بعض الأمور، فحاول استرضاء أهل الشريعة ببعض كتب ألفها وجعل نفسه أوسع صدرا من ابن طفيل، فقال بأن الإسلام أكمل نظام قومي، وأصلح ملة للشعوب. وهو واضع مذهب الحقيقة المزدوجة أي حقيقة العلم أو الفلسفة وحقيقة الدين، وكان لهذا المذهب شأن يذكر في مباحث النصرانية عدة قرون.
وقد تكلم في كتابيه «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» بلهجة الرجل المحافظ على العقائد وحامي ذمار الظاهر من أمور الشرع. وقال إن العاقل لا ينطق بكلمة ضد العقيدة السائدة، وإن الملحد الذي يطعن في الدين يستحق الموت؛ لأنه يهدم كيان الفضيلة القومية. وقال إن مذهب خلق العالم مخالف للعقل، ولكن الفضل في بقائه للعادة، وإن المتدين لا يكفيه الإيمان؛ لأن المؤمن بغير علم ينقلب زنديقا إذا بحث واستقصى.
ولكن ابن رشد كان يعيش في عهد انحطاط المعرفة وانتعاش التعصب، فلم ينفعه ظهوره بالتقوى ولم يحفظه من الاضطهاد، فنكل به الخليفة الذي كان يبجله، وجريمته في نظره نشر آراء القدماء وبها ضرر الإسلام. وقد حرم النظر في كتب اليونان وفلسفتهم، وأتلفت جميع الكتب التي كانت تبحث فيها، ومات ابن رشد في مراكش سنة 1198، ولم يطل عهد العرب في الأندلس بعده، فلما أفل نجم سعدهم كان الدين قد حل محل الفلسفة، وبذا دللت دولة الأندلس في جو من التقوى!
هذه هي الصورة التي رسمها قلم جون روبرتسون، وهو من مشاهير أحرار الفكر، ويعد زعيمهم في جزر بريطانيا بعد عميدهم برادلو الشهير، وهي صورة فيها شيء كثير من المبالغة، على أن رينان الذي تفرغ لدرس ابن رشد وزمنه قال إن عداء الشعب الأندلسي للفلاسفة كان قويا جدا، ولكن اللوم فيه راجع إلى عنصر المسيحيين المغلوبين، وهم أهل البلاد أصلا وكانوا من قديم الزمن متشددين في الدين، وكانوا معرضين عن العلوم الصحيحة مثل الفلك والطبيعيات (صفحات 31-36).
ونحن نرى رأي رينان ونزيد عليه أن ما أصاب ابن رشد وأصحابه كان مظهرا من مظاهر أخلاق أهل إسبانيا؛ لأن أمثاله في الشرق لم ينلهم أقل أذى، ولو كان الاضطهاد من لوازم الإسلام ما نجا منه أمثال الكندي والفارابي وابن سينا. (44) اليهود وابن رشد
كان الفضل في نشر فضل العرب وعلومهم في أوروبا لليهود؛ فإن الذين اضطهدوا منهم وطردوا من إسبانيا وطنهم لجئوا إلى جنوب فرنسا، وأقاموا بمقاطعة برونصة وأسسوا المكاتب والمدارس في ناربون وبزييرس ونيم وكاراسكون ومونبليه، وكانت كلية مونبليه تعلم الطب والنبات والرياضة على طريق العرب. وكانت الفلسفة والعلوم العربية تعلم في تلك الأرجاء كما لو كانت ولاية إسلامية، وفي مدارسها درست فلسفة ابن رشد وحكمته وحفظت شروحه، وقد عاشت في كنف فلسفته فلسفة أخرى هي فلسفة ابن ميمون الحكيم الإسرائيلي.
يمتاز مذهب أرسطو برأي جعل فلسفته من دعائم العقل الإنساني، هذا الرأي هو أزلية المادة، وقد انتحله ابن رشد وسائر المعتزلة قبله وبعده. وقد قلنا إن فلسفة ابن ميمون عاشت في كنف ابن رشد؛ لأن ابن ميمون وغيره من حكماء ملته ما عدا ليفي بن جرشوم جحدوا أزلية المادة وفندوها؛ لا حبا بالحقيقة أو تبعا لمبادئ الفكر، ولكن حبا بالتوراة.
ولكن الفضل في نقل فلسفة ابن رشد إلى العبرانية فاللاتينية يرجع إلى ابن ميمون وأصدقائه وتلاميذهم، وقد حاولوا تحويرها وتحريفها لتنطبق على مبادئهم ولتحل في معابدهم المحل الأول بعد كتبهم المقدسة، ولكن هذه المحاولة فشلت لأن البون شاسع بين سفر التكوين وفلسفة ابن رشد! (45) ثمار الفلسفة الرشدية في أوروبا
في أواخر القرن الثاني عشر ظهر في مقاطعة بريتانيا بفرنسا مفكر مصلح اسمه أموري البنياوي، وصاحبه داود الدنيانتي، فخالفا تعاليم الكنيسة واستجلبا سخطها، فحوكم أتباعهما وعوقبوا بالإحراق أحياء، أما المصلحان فقد فرا طلبا للنجاة، ولكن يد الكنيسة في القرون الوسطى كانت طولى، وكان صبرها أطول، فإنها ترقبت موتهما ونبشت قبرهما وأحرقت رفاتهما ليكونا عبرة للمؤمنين!
وقد ظهر للكنيسة أن سبب هذا البلاء فلسفة أرسطو كما شرحها ابن رشد، فاجتمع في باريس مجمع ديني علمي (سنة 1209) وحظر درس الفلسفة الأرسطية والشروح الرشدية، فحرمت أولا الطبيعيات، ثم كتب ما بعد الطبيعة، وقد استمر هذا المنع ثلاثين عاما.
وفي سنة 1269 حمل أسقف باريس حملة كبرى على الفلسفة في شخص ابن رشد، وخص باللعن والتكفير المبادئ الآتية: (1) أزلية العالم. (2) إنكار آدم. (3) وحدة العقل الإنساني. (4) القول بأن العقل، وهو شكل الإنساني ومهيئ ذاته، يهلك مع البدن. (5) في أن أفعال البشر خارجة عن حكم العناية. (6) أن العناية عاجزة عن تخليد ما مآله للفناء، وصيانة ما مآله للفساد.
ولما كانت كتب ابن رشد الطبية انتشرت من جنوب فرنسا إلى شمال إيطاليا وذاعت في مدارس بدوا، فقد ذاعت أيضا فيها تعاليمه الفلسفية، ومال الأطباء الذين تعلموا عليها إلى حرية الفكر وأخذوا بفلسفته، وأشهر من نذكر من علماء هذا البلد جاتياد السيناوي، الذي بدأ بدرس الشرح الكبير سنة 1436 وأوعز بطبعه فلم يدركه، ولكنه طبع سنة 1476. وقد خلفه في منصب تدريس الفلسفة سينكوفرنياس، ولم يبال هذان الحكيمان بالاعتراض، بل نشرا مذهب «روح العالم» على ما فيه من مخالفة الدين المسيحي في عقيدة الخلود، وقد ازداد النقد وانقلب سخطا إذ نشر تلميذهما نينو كتابه في العقل.
ولابن رشد فضل لا ينكر على روجير بيكون الفيلسوف الشهير، فقد استفاد من كتبه وحيا واستنزل من حكمته إلهاما، وذكره في كتابه اللاتيني «أبوس ماجوس» وأثنى عليه وعلى مواهبه وسعة علمه، وقال: «إنه فيلسوف متين متعمق، صحح كثيرا من أغلاط الفكر الإنساني، وأضاف إلى ثمرات العقول ثروة لا يستغنى عنها بسواها، وأدرك كثيرا مما لم يكن قبله معلوما لأحد، وأزال الغموض من كثير من الكتب التي تناولها ببحثه.»
أما توماس أكويناس الشهير (1225-1274) الذي صار قديسا لأنه كان أعظم لاهوتي في كنائس الغرب وأكبر فلاسفة القرون الوسطى، فقد علا نجمه بكتابه إجمال اللاهوت «سوماتيولوجيا»، وقد وصف الله فيه بالطبيعة الفعالة.
ذكر القديس توماس أسباب اتصاله بالأفكار الدنيوية، ودل على أن الفضل في وضع كتابه شكلا ومادة يرجع إلى طريقة ابن رشد وفلسفته، وهو في الظاهر يفندها وينتقدها، ولكنه كلما حاول الوصول بالفكر إلى إحدى نتائج الحكمة قرر مبدأ التعدد الذي أساسه أزلية المادة، مستمدا ذلك من ابن رشد وأرسطو.
ولم ينج ابن رشد من ألسنة رجال الكنيسة، فقد ذموه بكل شفة ولسان، وطعنوا عليه أقبح طعن. قال بترارك عنه: «إنه ذلك الكلب، الكلب الذي هاجه غيظ ممقوت، فأخذ ينبح على سيده ومولاه المسيح والديانة الكاثوليكية.» أما دانتي فقد جعله في وقار وهدوء يتبوأ مجلسه في الجحيم جزاء كفره واعتزاله.
وممن تعذب في سبيل ابن رشد هرمان فان ريزويك الكاهن الهولندي الذي أحرق بتهمة الهرطقة في لاهاي في سنة 1512، ومن عجائب القدر أن هذا الحكيم الفاضل كان قبل هدايته بالحكمة قاضيا في محكمة التفتيش، ولم يدافع أحد عن الدين المسيحي مثل دفاعه بلاغة وإخلاصا واعتقادا. ولكنه بعد ذلك غير فكره فقال - بلسانه وهو حائز سائر صفاته الشرعية ومتمتع بجميع قواه العقلية - أمام مجلس التفتيش الذي عقد في سنة 1502 لمحاكمته: «إن العالم أزلي ولم يخلق كما ادعى ذلك المجنون (!) موسى، وإنه لا يوجد جحيم ولا حياة مستقبلة، وإن السيد المسيح لم يكن ابن الله، لقد ولدت مسيحيا ولكنني لست الآن منكم لأنكم مجانين.» فحكم عليه المجلس بالسجن المؤبد.
ثم تقدم للمحاكمة ثانية بعد عشرة أعوام، وقد حسبوه قد تحول أو أن السجن ألان من صلابته وأضعف من شكيمته، أو لطف من مغالاته، أو قلل من تحامله، فوجدوه أصلب وأقوى وأعند مما كان! فحكموا بإحراقه وأحرق فعلا في 14 ديسمبر سنة 1512، وقد قال في ذلك اليوم جملة هي سبب هذا الاستشهاد الطويل وهي: «إن أعلم العلماء أرسطو وشارحه ابن رشد، وهما أقرب إلى الحقيقة. بهما اهتديت وبفضلهما رأيت النور الذي كنت عنه عميا.»
فأثبت بذلك أنه كان رشدي المبدأ والنزعة، وأنه لولا اعتقاده ومجاهرته ما تعذب في سبيل فكره.
الفصل الثامن
ابن خلدون
ولد ابن خلدون أعظم فلاسفة التاريخ في الشرق والغرب في تونس سنة 732ه، وتوفي في مصر في سنة 808ه، فهو من عظماء القرن الثامن الهجري، واسمه أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون ولي الدين التونسي الحضرمي الأشبيلي المالكي، وأصله من أسرة أندلسية توطنت في أشبيلية، ثم نزح أجداده من أشبيلية إلى تونس في أواسط القرن السابع للهجرة، ويعود أجداد ابن خلدون بنسبهم إلى بني وائل من قبائل اليمن، ويردون هجرة جدهم الأعلى من اليمن إلى الأندلس، إلى القرن الثالث الهجري.
نشأ ابن خلدون في تونس وتلقى العلوم المعروفة في عصره، ثم ترك تونس فرارا من الوباء وسافر إلى هوارة، حيث نزل على صاحبها ابن عبدون فأكرم وفادته وأعانه على السفر إلى بلاد المغرب، وتنقل في بلاد كثيرة وهو لا يزال في مقتبل العمر، مثل ابن بطوطة، ثم استقدمه السلطان أبو عنان المريني صاحب تلمسان إلى فاس سنة 755ه وهو في مستهل العقد الثالث من عمره وقربه واستكتبه ورقاه، وقد كان في تقريبه وترقيته ما يدعو إلى حسده، فحسده أقرانه الذين لم يبلغوا شأوه، وسعوا فيه واتهموه بالتآمر على السلطان لاغتياله، فاعتقله وما زال معتقلا على طريقة الحلفاء في مستعمراتهم، حتى مات السلطان أبو عنان المريني صاحب تلمسان سنة 759ه، فأفرج عنه الوزير ابن عمر وخلع عليه وعوضه خيرا واحتفظ به.
واتفق أن السلطان أبا سالم المريني قدم من الأندلس يريد السفر إلى مكة، فاستعان بابن خلدون، لما بين ابن خلدون وبين شيوخ بني مرين من الإخلاص والمحبة، ففاز ودخل فاس وابن خلدون في ركابه سنة 760ه، فعينه كاتب السر، فأجاد ابن خلدون وبرع في أداء تلك الوظيفة التي أسندت إليه.
ولكن الخطيب ابن مرزوق تغلب بمكره ودسه على هوى السلطان، وسعى في ابن خلدون، فانقبض ابن خلدون وغيره من رجال الدولة وحنقوا وتغيروا على السلطان وانتقضوا عليه فمات، وعاد النفوذ إلى ابن خلدون بفضل الوزير عمر بن عبد الله، ثم أراد ابن خلدون السفر إلى الأندلس فمنعه الوزير ابن عمر، فوسط له من قبل الرجاء فأذن له فسافر إلى الأندلس سنة 764ه، وقصد «غرناطة» وسلطانها إذ ذاك أبو عبد الله من بني الأحمر، فاهتز السلطان لمقدمه وبالغ في إكرام وفادته، وأعد له دارا في أعلا قصوره.
وفي سنة 765ه رحل إلى «كاستيل» (قشتالة) وتقدم إلى حاكمها وتوسط في عقد الصلح بينه وبين ملوك «العدوة» بهدية فاخرة، فطلب منه صاحب «قشتالة» أن يقيم عنده فاعتذر، فأركبه بغلة فرهة بلجام من ذهب، فلما عاد ابن خلدون إلى «غرناطة» أهدى البغلة ولجامها إلى السلطان أبي عبد الله، فأنزله على الرحب والسعة وأقطعه بلدا وصيره بذلك من الأمراء الملتزمين، ولكن الإقطاع والترحيب لم يقعدا بهمة ابن خلدون عن الارتحال، فاشتاق إلى أهله وأصابه داء الحنين إلى الوطن (نوستالجيا)، وهو خلة كل أديب وشاعر ولبيب، فرحل إلى (بجاية) فلقيه سلطانها أبو عبد الله مرحبا، وتهافت عليه أهل البلد يقبلون يديه، فقلده السلطان أعمال دولته وأسند إليه رياسة حكومته، فخدمه بعلمه ونفوذه وقلمه مخلصا في ذلك الإخلاص كله، دأبه في سائر الأعمال التي أسندت إليه.
ولكن أبا العباس أمير (قسطينة) شهر الحرب على أبي عبد الله صاحب (بجاية) وملك بلده، واستبقى ابن خلدون وأكرمه، ثم كثرت السعايات والوشايات في حقه لدى أبي العباس ، فاستأذنه في الانصراف واستقال من منصبه، فأذن له وذهب ابن خلدون إلى قبائل العرب.
ثم كتب إليه أبو حمو صاحب (تلمسان) يستقدمه ليتولى الحجابة والعلامة (منصب كبير الأمناء)، فاعتذر إليه بأنه رغب في العلم عن السياسة، وأراد الخروج إلى الأندلس فاستأذن أبا حمو في ذلك فأذن له وحمله رسالة إلى ابن الأحمر، ولكنه عجز عن ركوب البحر، وعلم السلطان عبد العزيز المريني صاحب المغرب الأقصى خبره، وأن معه وديعة إلى سلطان الأندلس ، فاستقدمه وسأله ولم يجد الخبر صحيحا، فأكرمه واستبقاه عنده واستعانه على (بجاية).
ثم استقرت بابن خلدون النوى في (تلمسان)، فأقام بها مع أهله وولده ونزل بهم في قلعة بني سلامة من بلاد «بني توجين» فأقام بها أربع سنين.
وفي أثناء تلك المدة شرع في تأليف تاريخه فأكمل المقدمة، ودون بعض فصول من التاريخ، وكان ذلك في أواخر العقد الثامن من القرن الثامن للهجرة، وقبل وفاته بثلاثين عاما تقريبا، وقد شارف على الخمسين من عمره.
ثم حن إلى تونس مسقط رأسه فاستأذن، فأذن له فبلغها سنة 780ه، فأكرمه سلطانها واختصه بأسراره وأخذ بناصره واستحثه على إتمام تأليفه، فاطمأن وواصل العمل في التاريخ حتى أحس بالسعايات والوشايات، فصحت عزيمته على النزوح إلى مصر، فاستأذن في السفر إلى الإسكندرية فبلغها سنة 784ه. وانتقل منها إلى القاهرة وجلس للتدريس في الأزهر، فقرأ الفقه على مذهب مالك، واتصل خبره بسلطان مصر إذ ذاك وهو برقوق العظيم فقربه وأكرمه وولاه قضاء المالكية سنة 786ه، فقام بعمل القضاء خير قيام، واشتهر أمره عالما، وقاضيا، ومدرسا، ومؤرخا، وأديبا، وكثر المعجبون به وكثر أيضا عدد حساده، فوشوا به وأشاعوا عنه الأراجيف.
وكان ابن خلدون قد بعث يستقدم أهله وولده من تونس ليقيموا معه في القاهرة، فغرقوا جميعا في أثناء الطريق، فعظم الأمر على هذا الفيلسوف وأصابه حزن شديد فاستقال من منصب القضاء، وانقطع للتدريس والتأليف وأقام على تلك الحال ثلاث سنين، فلما كانت سنة 789ه خرج من القاهرة إلى الحجاز لأداء فريضة الحج وعاد في السنة التالية إلى مصر، وأكب على العمل في كتابه حتى أتمه سنة 797ه وهو في الخامسة والستين من عمره، وقد قضى في تأليفه نحو خمسة عشر عاما.
وما زال ابن خلدون مقيما بمصر، وهي ملجأ أهل العلم والأدب من قديم الزمان، حتى توفي بها سنة 808ه ودفن بإحدى مقابرها في قبر غير معلوم لأبناء هذا الزمان. (1) مؤلفات ابن خلدون (1-1) تاريخ ابن خلدون
اشتهر ابن خلدون بين العلماء والمفكرين بكتاب واحد، بل بجزء واحد من ذلك الكتاب، ألا وهو (مقدمة ابن خلدون)، أما التاريخ فاسمه (العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاشرهم من ذوي السلطان الأكبر) وهذا الكتاب مقسم إلى ثلاثة كتب في سبعة مجلدات.
الكتاب الأول: في العمران، وما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش، والصناعات والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب، وهذا الكتاب الأول هو المقدمة المشهورة، وتقع في نحو أربعمائة صفحة، وبها وحدها نال ابن خلدون القدح المعلي؛ لأنه أتي فيها بمباحث مستحدثة مما أطلق عليه أهل هذا الزمان اسم العلوم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصاد السياسي، والاقتصاد الاجتماعي، وفلسفة التاريخ، والقانون العام، ولا شك عندنا في أن «هيجل» الألماني و«مكيافللي» الإيطالي و«جيبون» الإنجليزي هم من تلاميذ ابن خلدون.
فإن هذا الفيلسوف الإسلامي الذي عاش في القرن الثامن للهجرة (الرابع عشر المسيحي) قد تصدى لتلك المباحث وأجاد فيها حينما كان أهل أوروبا في غفلتهم، ولم يكتب أحد من العرب غيره في هذه المباحث سوى نتف متفرقة لا قيمة لها، فتوسع ابن خلدون في ذلك بما استنبطه من الأسباب والنتائج بمعارضة الحوادث ودرسها، والبحث في عللها، مما وقف عليه بالمطالعة والدرس أو كابده باختباره الشخصي.
ولا ريب في أن اغترابه وتنقله من مملكة إلى مملكة، وارتحاله في طلب المثل الأعلى من دولة إلى سلطنة، ومن إمارة إلى بلاط، واحتكاكه بالأمم المختلفة، وممارسته بعض شئون تلك الدول، أعانه ذلك كله على استيفاء بحثه، ولا ريب أيضا في أن الفكرة كانت كامنة في رأسه فأنضجها الاختبار والتنقل فاختمرت وظهرت في حيز الوجود. (أ) الكلام على مقدمة ابن خلدون
الفصل الأول:
في قسط العمران من الأرض وما فيها من الأقاليم وتأثير الهواء في ألوان البشر وأخلاقهم، واختلاف أحوال العمران من الخصب والجوع، وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم.
وهذا المبحث كثير الشبه بما أتى به علماء أوروبا في نظرية النشوء والارتقاء بعد ابن خلدون بخمسة قرون.
الفصل الثاني:
في العمران البدوي، والأمم الوحشية والقبائل، وما يعرض في ذلك المباحث في طبيعة البداوة والحضارة، والفرق بينهما من حيث الأنساب والعصبية والرياسة والحسب والملك والسياسة وغير ذلك.
وهذا المبحث من قبيل القواعد العامة لنظام الاجتماع الذي ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر، وأطلق عليه المعاصرون اسم (سوسيولوجيا).
والفصل الثالث:
في الدول العامة، والملك والخلافة والمراتب السلطانية، علل فيه أسباب السيادة وتشييد الدول، وكيف تحفظ الإمارة، وشروط السلطة والخلافة وطبائع الملك، ومعنى البيعة وولاية العهد ومراتب السلطان ودواوين الدولة وجندها وأساطيلها وشاراتها، وقواعد الجند والحرب وأسباب ثبوت الدولة وسقوطها.
وهذا المبحث من نوع السياسة علما وعملا، وقد كتب «جيبون» المؤرخ الإنجليزي كتابا عن أسباب انحلال الدولة الرومانية وسقوطها، سالكا الخطة التي رسمها ابن خلدون في مقدمته.
والفصل الرابع:
في البلدان والأمصار وسائر العمران، والمدن والهياكل ونسبتها إلى الدول، وما تجب مراعاته في وضعها من حيث البر والبحر، وفي بناء المساجد والبيوت ونسبتها إلى الدول الإسلامية، وهذا المبحث من قبيل الهندسة الحربية.
والفصل الخامس:
في المعاش ووجوهه من الكسب والصناعات وفيه مسائل في الرزق والكسب، وأنه قيمة الأعمال البشرية، وفي المعاش وأصنافه ومذاهبه ونسبة ذلك إلى طبيعة العمران، وفيه مباحث مسهبة في أبواب الرزق من التجارة والصناعة على اختلاف ضروبها وأنواعها، ووصف أمهات الصناعات في أيامه، كالزراعة، والعمارة، والنسيج (الحياكة والخياطة) والتوليد والطب، والوراقة، والغناء وغيره.
وهذا المبحث من قبيل ما يسميه أهل هذا الزمان الاقتصاد السياسي، والاقتصاد الاجتماعي، وكثير من مبادئ هذا الفصل صارت بذورا لما دونه «كارل ماركس» الإسرائيلي الألماني في كتاب (رأس المال)
Das Kapital .
والفصل السادس:
في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه، وفيه مباحث في التعليم ونسبته إلى الحضارة، والكلام في كل علم على حدة وتاريخه وشروطه من علوم القرآن والحديث والفقه، فالعلوم اللسانية والطبيعية والرياضية والطبية، فالأدب فالشعر، والتاريخ، والإلهيات وعلم النفس، وعلم النجوم، والعلوم السحرية.
وهذا المبحث من قبيل علم (البيداجوجيا) التربية، ومن فطاحله في أمريكا «وليم جيمس» وفي أوروبا «سبنسر» و«فرويبل» وغيرهم.
وسيأتي الكلام على أسلوب ابن خلدون في موضعه من هذه الترجمة.
أما هذه المقدمة فقد كان لها أثر عظيم جدا عند المفكرين من الإفرنج، فنقلها العلامة «كاترمير» إلى اللغة الفرنسية عن نسخة في المكتبة الوطنية بباريس، وطبعت تلك الترجمة الفرنسية في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونقلت منها فصول إلى الإنجليزية والألمانية والإيطالية والتركية، وفي جميع دور الكتب الأوروبية نسخ منها خطية ومطبوعة. (ب) الكلام على تاريخ ابن خلدون
أما التاريخ نفسه فإنه منطو في الكتابين الثاني والثالث، في ستة أجلاد، ويشتمل الكتاب الثاني على أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ الخليقة إلى القرن الثامن للهجرة، وهو الزمن الذي عاش فيه المؤرخ، مع الألماع إلى من عاصرهم من الأمم والدول، كالفرس والهند والنبط والحبشان والسريان واليونان والرومان والمصريين وغيرهم.
والكتاب الثالث يشتمل على أخبار البربر، والأمة الثانية من أهل المغرب وذكر أوليتهم وأخبارهم، وما كان لهم بديار المغرب من الدول.
ويمتاز تاريخ ابن خلدون عما تقدمه من كتب التاريخ بما تضمنه من المقدمات الفلسفية في صدور أكثر الفصول عند الانتقال من دولة إلى دولة، فإنه يصدر ذلك غالبا بالأسباب والعلل، وهو أوسع تاريخ للعرب الجاهلية وللبربر ودولهم.
وقد أخطأ كثيرون من النقاد في الشرق في الحط من قدر هذا الكتاب، ونسبوا إلى ابن خلدون في تأليفه التعقيد والغموض. والحقيقة أن علماء المشرقيات في أوروبا جعلوا له شأنه الذي يستحقه، واهتموا به كما اهتموا بمقدمته، ونقلوا إلى لغاتهم منه ما ينفعهم وينفع ممالكهم وسياستهم، فاشتغل «دي سلان» بنشر القسم الخاص ببلاد المغرب والبربر، وطبعه في الجزائر قبل ظهور الترجمة الفرنسية للمقدمة بأحد عشر عاما في مجلدين كبيرين يبلغ عدد صفحاتهما نحو ألف صفحة، وسماه (كتاب الدول الإسلامية في المغرب)، ثم قضى خمس سنين في نقل هذا القسم إلى اللغة الفرنسية ونشره في الجرائر سنة 1852م.
واقتطف المستشرقون من التاريخ أيضا الجزء الخاص بأخبار بني الأغلب في أفريقية وصقلية إلى حين استيلاء الإفرنج عليها، وطبع هذا الجزء في باريس مع ترجمة فرنسية بقلم الأستاذ «دفرجيه» سنة 1841م، ونقلت إلى الفرنسية قطعة خاصة بتاريخ بني الأحمر. (1-2) مذكرات شخصية لابن خلدون
وقد انفرد ابن خلدون بين مؤلفي العرب باتخاذه (يوميات) ومذكرات شخصية يدونها يوما فيوما (أجندة)، وأطلق عليها اسم (التعريف بابن خلدون)، وفيها ترجمته ونسبه وتاريخ أسلافه على نسق أوروبي، وشرح في خلالها ما عاناه في حياته، ويتخلل ذلك مراسلات وقصائد نظمها في بعض الأحوال وكثير مما أصابه من دهره، وتنتهي حوادث هذه المذكرات سنة 807ه؛ أي قبل وفاته بعام واحد.
وفي دار الكتب المصرية نسخة خطية من هذه المذكرات في مائة وخمسين صفحة بخط جميل مذهب، ومنها ملخص في ذيل بعض النسخ من تاريخه المطول. (2) فلسفة ابن خلدون الاجتماعية
سبق ابن خلدون كل كتاب أوروبا إلى وضع قواعد علم الاجتماع الذي لم يطرق بابه قبله إلا فلاسفة اليونان، وقد صدق من قال إن التاريخ لم يكن شيئا مذكورا في جانب المقدمة، فإن مقدمة ابن خلدون كتاب لفت نظر أوروبا أكثر مما لفت أنظار أهل الشرق؛ لأنه كتاب بالمعنى الصحيح قلبا وقالبا، فهو منظم ومنسق شكلا، وجليل الفائدة جديد المباحث موضوعا. وقد أجمع العلماء على أن هذا الحكيم العربي المغربي الأفريقي هو من واضعي أساس علم الاجتماع الحديث.
وقد قسم ابن خلدون ظواهر المدنية إلى ظواهر خارجة عن الاجتماع، ويقصد بالظواهر الخارجة عن الاجتماع الظواهر الطبيعية مثل العقائد الدينية والطقس والبيئة، وإلى الظواهر الداخلة في الاجتماع وهي التي تنشأ في حضن الجماعة وتؤثر فيها بقوتها.
وبنى ابن خلدون نظريته على كون الإنسان ميالا للاجتماع بفطرته، وهذه هي نظرية حكماء الإغريق والعرب التي عالجها بعد ذلك أوجست كومت نفسه في الجزء الرابع من فلسفته الوضعية. ويتفق ابن خلدون مع أرسطو حكيم اليونان في أن الجماعة ليست إلا وسيلة لسعادة الفرد، وهذا هو الرأي الذي نشره وقواه هربرت سبنسر في مذهبه الفلسفي. وقد أصاب ابن خلدون كبد الحقيقة في نقط لم يسبقه إليها فلاسفة اليونان، فقد ميز بين الجماعة الإنسانية والجماعات الحيوانية، فقال إن اجتماع الحيوان يكون عادة مدفوعا إليه بالفطرة، أما اجتماع الإنسان فالدافع إليه الفطرة والعقل والتفكير معا.
لقد شبه مكيافيلي بابن خلدون، ويمكننا تشبيهه بمونتسكيو، فإن كلا منهما حاول استنباط قوانين الاجتماع من حوادث التاريخ ووقائعه، وقد رأى ابن خلدون حوله أمما كثيرة تعيش بغير دين منزل وأن لها ملكا واسعا وسلطانا قاهرا وأنظمة مرعية وقوانين مطاعة وجيوشا فاتحة ومدنا عامرة آهلة. ورأى أن الأمم التي انتشرت فيها الأديان المنزلة تعد أقلية بجانب الأمم الأخرى، فاستنبط من ذلك الرأي القائل بعدم ضرورة النبوة لتأسيس الممالك والدول.
وقد خالف ابن خلدون بهذا الرأي معظم الفلاسفة والمؤرخين في الإسلام، ولكنه عاد فقال إن النبوة وإن لم تكن ضرورية لتأسيس الممالك العادية، إلا أنها ضرورية لتأسيس الممالك الراقية القريبة جدا من الكمال؛ لأن المملكة التي تشاد على أساس النبوة تجمع بين منافع الدنيا ومنافع الدين.
يعتبر ابن خلدون الطقس أول العوامل الخارجة عن الاجتماع، وقد تكلم عن الأقاليم فقسم الأرض إلى سبعة أقاليم، يختلف الطقس فيها من البرودة الشديدة إلى الحرارة القصوى وما بينهما من درجات الاعتدال المتتالية، وقال بما قال به بعده «بوكل» الإنكليزي من أن للبرد والحر تأثيرا في جسم الإنسان وخلقه، وبعبارة أخرى في الأمم والممالك من حيث المدنية والحضارة.
وقال إن قاطني الأقاليم المتطرفة لا نصيب لهم في المدنية. وإن الإقليم الرابع، وهو أشد الأقاليم اعتدالا في البرد والحر، هو أوفق الأقاليم للعمران والمدنية ونمو العلوم وظهور الأديان وانتظار الأحكام والقوانين. وقد عين ابن خلدون لهذا الإقليم بلاد سوريا وبلاد العراق، وأثبت أنها مظهر للحضارة والأديان من قديم الزمن.
وقد اتفق ابن خلدون ومونتسكيو في هذه النظرية اتفاقا كاملا، والثابت أن ابن خلدون ومونتسكيو مسبوقان إلى اكتشاف هذه النظرية ببقراط وأرسطو الحكيمين الإغريقيين وجان بودان الحكيم الفرنساوي.
ثم انتقل الحكيم العربي إلى العنصر الثاني من العناصر الخارجة عن الاجتماع، وهو الوسط الجغرافي أو البيئة، وبحث في تأثير البيئة في الفرد، فقال إن البيئة الخصبة تغني الفرد عن السعي في سبيل العيش وتغريه بالفراغ واتباع الأهواء، وتميت في نفسه صفات الشجاعة والمحاربة. وإن هي جدبت استحثه الفقر على الجد والاجتهاد والمثابرة، وولد فيه روح الكفاح والتنازع والمقاومة في سبيل الحياة.
ولكن يظهر أن ابن خلدون لم يعلق على البيئة من الشأن ما علق على الطقس؛ لأنه لم يسبق إلى هذا البحث، ولأن مجال الكلام فيه ضيق بطبيعته بالنسبة للكلام في مجال الطقس.
أما العنصر الثالث وهو الدين، فقد قال عنه ابن خلدون إنه ضروري لكل جماعة إنسانية، وأفاض في المقال بما لديه من الآراء الفلسفية والدينية التي تشبع بها من مؤلفات حكيم الأندس ابن رشد.
ويظهر أن ابن خلدون كان يرمي إلى التوفيق بين الحكمة والدين كما كانت غاية حكيم الأندلس، وهذا الذي يقلل من قدر فلسفة ابن خلدون في نظرنا؛ لأن أستاذه وقدوته ابن رشد لم يكن في الحقيقة فيلسوفا، إنما كان مترجما وناقلا نقل فلسفة أرسطو إلى اللغة العربية واعتبرها خاتمة الحكمة، ورأى أنه من المحتم عليه وهو حكيم إسلامي أن يوفق بين هذه الآراء اليونانية وبين الشريعة الإسلامية، ولذلك لم يرض أحدا من الفريقين: لم يرض الفلاسفة لأنه أحل الدين محلا لا يقبله الفلاسفة، ولم يرض الدين لأنه فسره وأوله بما لا ينطبق على منطوقه. وإن هذا الفشل لا يقلل من قدر ابن رشد لأنه كان حسن النية، وكان يريد دينا مبنيا على العقل وفلسفة لا تؤدي إلى الإلحاد والكفر. ولأن كثيرين من المفكرين بعده حتى في عصرنا هذا حاولوا ما حاوله شيخ قرطبة، فكان نصيبهم من الخذلان كنصيبه ما عدا التنكيل بهم؛ لأن زمن التنكيل بالناس لأجل أفكارهم ومعتقداتهم قد مضى وانقضى.
لا يمكننا أن نعد ابن رشد فيلسوفا ولكنه كان مصلحا، فمثله كمثل مارتين لوثير، وقد قضى حياته معذبا لأنه كان يرنو بعين إلى الدين وبأخرى إلى الحكمة، يحبهما ويحاول التوفيق بينهما ولا يستطيع. فلا غرابة إذا جاء بحث ابن خلدون في المسألة الدينية مشوها مضطربا، لأن فضل ابن رشد راجع لأنه حكيم بذاته ومباشرة، ولكن ابن خلدون كان فيلسوفا بالواسطة.
وقد أنتج حب ابن خلدون الاستطراد أنه أخذ يبحث في الروح والتصوف والرؤى الصادقة والوحي الإلهي، وكل هذه مواد خارجة بطبيعتها عن موضوع بحثه. ويظهر لنا أن ابن خلدون كان يحاول أن يبحث في تأثير الأديان في الأمم ليظهر الفرق بين الأمم المتدينة والأمم الوثنية، وتأثير العقائد في المدنية والعمران، وارتباط أنواع الدول بالتدين وضده، ثم يبحث في ماضي الإنسانية وحاضرها ومستقبلها من هذه الوجهة، مستشهدا بحوادث التاريخ ومستقرئا الوقائع ومقارنا بين اليونان القديمة - وهي أمة وثنية لم يبعث إليها نبي ولم يظهر فيها سوى حكماء أمثال هيراقليط وبقراط وسقراط وأفلاطون وأرسطو - وبين أية أمة أخرى بعث إليها الأنبياء ولم يظهر فيها حكماء دنيويون أمثال من ذكرنا. ويقارن بين تاريخ الأمتين وما كان من أمرهما ومن تأثيرهما في الأمم المعاصرة.
أما عن حاضر الإنسانية في عصر ابن خلدون فلم يكن لديه شيء أسهل من النظر في حال الأمم لعهده وتأثير التدين وضده في كل منها، وإن مواد مبحث كهذا لم تكن تنقصه لأنه نشأ في بلاد متدينة وساح في إسبانيا وهي تدين بغير دينه، وتنقل بين أفريقيا وآسيا وأوروبا، وكان يعلم حتما بوجود أمم وقبائل متوحشة لا دين لها في قلب القارة التي نشأ فيها وألم بأطراف من أخبارها في تاريخه، ثم كان يحسن به أن يمعن النظر في الماضي والحاضر ليحاول الاهتداء إلى ما يكنه المستقبل للأمم المتدينة وسواها.
وإن بحثا كهذا يكون أعظم نفعا وأجل ثمرة للإنسانية والعلم من البحث في التصوف والاستخارة والرؤى الصادقة والتجرد، وما شابهها مما شغل به هذا الحكيم عقله ووقته على غير جدوى.
إلى هنا انتهى ابن خلدون من شرح العوامل الخارجة عن الاجتماع، ثم انتقل إلى البحث في العوامل الاجتماعية التي تنشأ في حضن المجتمع، فقرر أن كل جماعة إنسانية تمر بثلاثة أطوار: الطور الأول البدوي، والثاني الغزوي، والثالث الحضري. إن كل أمة تنشأ قبيلة تعيش في الصحراء أو في الوادي، ثم تنهض فتغزوا أمما أضعف منها متحضرة متمدينة وهذا هو الطور الثاني، ثم تتحضر هي أيضا فتمدن المدن وتمصر الأمصار وتدون الدواوين وتقنن القوانين وتضع العلوم وتنشئ الفنون الجميلة وتميل إلى الملاذ والمسرات وتنسى الحرب والكفاح؛ فتضعف شيئا فشيئا إلى أن تتغلب عليها قبيلة غازية فتقهرها وتسود عليها.
وهكذا تستمر الحركة الإنسانية: تقوم أمم وتسقط، دولة تنهض ودولة تنحط فتغلب، وأخرى تقوى فتنتصر وتسود. هذه سنة الطبيعة في الأمم، وقد اكتشفها ابن خلدون بمحض فكره وعلمه بتاريخ أمم العرب والبربر، ولم يسبقه إليها أحد لأن من سبقه من العلماء لم يشهدوا تاريخ تلك الأمم، ولأن أممهم لم تصب بما أصيبت به أمم العرب والبربر السالفة الذكر في الشرق والغرب.
يقول ابن خلدون إن الحياة البدوية هي الطور الأول لكل جماعة أو قبيلة، وإنها لا تنافي الطبيعة الإنسانية، ويمتاز البدو بالحركة الدائمة والتنقل وهم يعيشون من القطعان التي يرعونها، فإن كانت إبلا عاشوا في الصحراء لملائمة جوها وأحوالها الظاهرة للإبل، وإن كانت غنما وأبقارا عاشوا في الوديان لكونها أشد ملائمة لهذا النوع من الحيوان من سواها، وإن عيشة البدو واضطرارهم للقناعة بالقوت والثياب وحاجتهم إلى الشجاعة والقوة للدفاع عن أنفسهم وأموالهم تفضلهم على المتحضرين.
يقول ابن خلدون إن العصبية هي التي تدفع بالقبيلة إلى الألفة والمحبة، وتدفعها أيضا إلى الاتحاد والوئام والدفاع عن المصالح المشتركة، وإن شيئين يقويان العصبية وهما احترام العرف والعادة، والحاجة الدائمة للهجوم والدفاع. ثم تكلم عن الأسرة وتكوينها، فقال إن كل أسرة تفقد صفاتها النبيلة في آخر الجيل الرابع، وإن القبائل تبقى قوية ما دامت محافظة على قوتها وعصبيتها، وقال إن صفاء الدم ونقاوة الجنس شرطان أساسيان لا يمكن لقبيلة أن تنال القوة أو تستبقي العصبية بدونهما، وخلاصة القول على القبيلة أن العصبية هي قوامها وقوتها، وأنها بدونها لا تستطيع الحياة أو المقاومة، وأن القبائل ذات العصبية هي وحدها دون سواها القادرة على الفتح والامتلاك.
وقد انتقل ابن خلدون لتحول القبيلة إلى طور الغزو وتأسيس الدولة، ولا شك عندنا في أن سوسيولوجيته هذه مبنية على تاريخ العرب والبربر بصفتها قبائل، وعلى تاريخ الإسلام بصفته دولة. انتقل ابن خلدون إلى الكلام على حياة الحضر، وأن لهذا الحكيم الفضل الأول في التفريق بين السياسة والأخلاق وبينها وبين العقائد والشرائع، وقد كانت السياسة قبل زمنه ممتزجة بها جميعا، فهو يعد بحق أول مؤلف سياسي في الشرق ومن الأوائل في الغرب.
يقول ابن خلدون إن العصبية والفضيلة تحفظان قوة القبائل، ولكن لا بد لهما من عامل ثالث وهو إما السياسة وإما الدين، وهذا العامل الثالث هو الذي يوجه قوة القبيلة نحو منفعتها الحقيقية ويعين مورد القوة التي تكتسبها القبيلة بالفتح، وبعبارة أخرى يريد ابن خلدون أن يقول إنه مهما كانت القبيلة قوية فإنها في حاجة إلى «مثل أعلى» تقصد إليه وتجعله كعبة آمالها، وقد ضرب مثلا بقبائل العرب قبل الإسلام، ثم انتقل إلى الأمم التي دالت دولتها وغزتها القبيلة القوية المستجدة، وأسهب في شروط الفتح وظروفه وفي الصعوبات التي يلقاها الفاتح، وقرر أن أثر الفاتح في المغلوب يزول بمجرد الفتح ويبدأ الغالب يتأثر بأحوال المغلوب.
وذكر ثلاثة أسباب لسقوط الأمم القوية هي ضعف الأشراف وتشدد الجنود المرتزقة ثم الترف، وقال إن الدولة لا يطول أجلها أكثر من ثلاثة أجيال، وإن لها كالفرد طفولة وشبابا وشيخوخة، ولكن هذا لا يمنع الدولة من السقوط في أول أدوار حياتها. نقول إن هذه النظرية وإن صدقت على الدول الإسلامية فلا تصدق على غيرها، وإن كثيرا من آراء ابن خلدون في السيادة والتغلب والفتح يذكرنا بكتاب الأمير تأليف مكيافيلي الذي نقلناه إلى العربية عام 1912، ولا ريب في أن الفضل في هذه الآراء لابن خلدون؛ لأنه أسبق من حكيم فلورنسا ووزيرها.
وليس هذا المجال مجال نقد فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ولكننا أردنا تلخيص مبادئه. يرى القارئ أن أهم ما حاوله ابن خلدون في مقدمته الخالدة هو اكتشاف القانون الذي بمقتضاه تكونت المدنية العربية في الغرب. وحاول ابن خلدون باكتشاف هذا القانون أن يضع أساس فلسفة الاجتماع معتقدا - كما اعتقد بعده بستة قرون أوجست كومت - أن حوادث التاريخ هي مصدر الاستنباط والاستنتاج الذي يعتمد عليه العالم الاجتماعي. (راجع تاريخ فلسفة العرب تأليف بوير).
إن حياة ابن خلدون وأخلاقه تجعل الشبه بينه وبين مكيافيلي مؤلف كتاب الأمير شديدا جدا، ولا فرق بينهما في تاريخ مولدهما إلا قرن واحد. وظروف كل منهما في عصره وفي المناصب التي تقلب فيها والأشخاص الذين احتك بهم تكاد تكون واحدة. وقد استفاد كل منهما خبرة وعلما واسعا بأخلاق الناس وقوانين الأمم وأحوالها.
كان ابن خلدون في عصره فذا وأمثاله في كل عصر نادرون. لقد تشبع بفلسفة ابن رشد، واستطاع أن يتملص من كثير من معتقدات أهل عصره، واستطاع أيضا أن يسبق أوجست كونت في شيئين:
الأول:
القول بأن الفلسفة هي علم الموجودات، وهذا الرأي لم يقل به أرسطو المسمى بالأستاذ الأول والمعلم الأول، ولكن قال به أوجست كومت بعد ابن خلدون بستة قرون فابن خلدون في هذه النقطة أعلى إدراكا من أرسطو وأسبق إلى اكتشاف تلك الحقيقة الكبرى من فلاسفة أوروبا إلى أواسط القرن التاسع عشر.
والثاني:
القول بأن الاجتماع الإنساني خاضع لقوانين وقواعد تدخله في حيز العلوم المنتظمة، وسبق أوجست كومت أيضا في طريقته؛ فإنه بنى علم الحكيم الاجتماعي بالعالم على شيئين: الأول مشاهدة الأمم واختبارها، والثاني تصور القوانين السائدة على الاجتماع واكتشافها بفضل التجارب العقلية والاستنتاج الفكري، ولم يقل أوجست كومت بأكثر من هذا عندما شرح طريقتي «الستاتستيك والديناميك»، فإن الخبرة والعلم يكشفان لنا عن الحقائق، والعقل يكشف لنا عن الأسباب والعلل.
وكذلك كان ابن خلدون أول من اكتشف معنى كون التاريخ علما ما دامت غايته جمع الحقائق وتنظيمها وتنسيقها لاكتشاف أسبابها ونتائجها. وبهذا الاختبار يمكن الوصول إلى القول بأن كل حادثة معينة لدى حدوثها تقتضي فرض وجود شروط أو ظروف معينة، وبعبارة أخرى أنه كلما اجتمعت طائفة من ظروف معينة في مدنية من المدنيات حدثت حوادث معينة، وأي شيء أكثر من هذا قاله مونتسكيو أو أوجست كومت أو من جاء بعدهما من علماء الاجتماع؟ وقد وصل ابن خلدون من هذا إلى القول بأن الحاضر دليل على الماضي، والمستقبل شبيه بالحاضر. ثم إن ابن خلدون قال بأن غاية التاريخ درس العمران أو الحياة الاجتماعية.
ذكرنا أن للحياة الاجتماعية ثلاثة أشكال متتالية هي: حالة البداوة وحالة الحرب أو الفتح ثم حالة الحضارة. (الفصل الثاني وما بعده ص73 من طبع 1311 بالمطبعة الأزهرية بمصر). وقد تعقب ابن خلدون حياة الجماعة منذ البداوة إلى الحضارة التي تنشأ في حضنها وبطبيعتها أسباب الفساد والفناء، وقد رد هذه الأسباب إلى عدم المساواة من حيث الغنى والفقر، وذهاب فضيلة الشجاعة من قلوب البدو إذا تحضروا، ثم إلى انغماس تلك القبائل الحديثة العهد بالمدنية في أنواع الملاذ وصنوف الترف.
وإن من يقرأ مقدمته الجليلة لا يرتاب لحظة عين في أنه تعقب سير المدنية العربية في غرب أفريقيا وجنوب أوروبا منذ البداية إلى النهاية، ولا يوجد أدل على ذلك من كلامه في العصبية (ص79 من الطبعة المذكورة) وبحثه في أن نهاية الحسب والمجد والعظمة الإنسانية في العقب الواحد أربعة آباد؛ أي إن الجيل الرابع هو نهاية المجد واعتبار الأربعة في رأيه: بان وهو الجيل الأول، ومباشر وهو الجيل الثاني، ومقلد وهو الجيل الثالث، وهادم وهو الجيل الرابع (ص82).
ولا ننسى أن ابن خلدون سبق كل علماء الاجتماع في أوروبا في القرون الوسطى والحديثة ببحثه في أثر الهواء في أخلاق البشر واختلاف أحوالهم في الخصب والجوع (ص52 وما بعدها). وهو كذلك أول من بحث في قسط العمران من الأرض، وتكلم على أثر الأقاليم في الأخلاق والتمدين، وهذه مسائل قد حام حولها بعض فلاسفة اليونان، ولكن ابن خلدون أول من وفاها حقها من البحث والاستقصاء على قدر ما وصل إليه علمه الجغرافي في ذلك الزمان، وأهمية هذه الأبحاث غنية عن البيان لأنها تدلنا على رغبة هذا الحكيم العربي في رد ظواهر الحياة الاجتماعية إلى العوامل الطبيعية المعلومة لنا والواقعة بالفعل تحت مشاهدتنا.
وما أشدنا ألمنا عند قول ابن خلدون إنه لم يف كل بحث حقه، ولم يستوعب كل ما ينبغي استيعابه وتدوينه، إنما ألم بأطراف المسائل وأحاط ببعضها عجزا منه عن الإحاطة بكلها، وإنه يترك ما بقي لمن يجيء بعده من العلماء الأعلام! يشتد ألمنا لأن هذا النداء لم يجبه أحد في العالم العربي ولا في العالم الإسلامي منذ وفاة ابن خلدون في أواسط القرن الخامس عشر للآن، ولكن يسرنا أن أجابه الكثيرون من علماء أوروبا، ويسرنا أن كثيرين منهم لم ينسوا فضل هذا الحكيم العربي الشرقي. ونحن لا نرتاب في أن أوجست كومت وقف على مؤلف هذا الحكيم، وإن كان لم يذكره بكلمة واحدة في كتابه واكتفى بذكر كوندروسيه ومونتسكيو، ولا يمكن أن يجهل أوجست كومت فضل ابن خلدون، وقد كتب عنه شولز مقالة في المجلة الآسيوية في عام 1825، أي قبل ظهور فلسفة أوجست كومت بسبع سنين، وكان كومت إذ ذاك في السابعة والعشرين من عمره. والمجلة المذكورة تنشر في باريس وطنه. (3) معارضة (مقارنة) بين ابن خلدون وتلميذه نيقولا مكيافيلي
نيقولا مكيافيلي فيلسوف اجتماعي سياسي من أهل فلورنسا، ولد سنة 1469م، وتوفي سنة 1527م. تقلب في عدة مناصب سياسية في جمهورية فلورنسا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. فتولى سكرتيرية ديوان القضاة العشرة فيها أربعة عشر عاما وبعض العام، قام في أثنائها بثلاث وعشرين مهمة سياسية في الأقطار الخارجية، وإيطاليا يومئذ في أحرج المواقف تتنازع السيادة عليها ألمانيا وفرنسا والبابا، يعتركون في مدنها وإماراتها، ويتخطفونها تخطف اللصوص بالدهاء أو السيف. غير ما انتشب من الخصام بين حكومة البابا والناهضين للإصلاح ومقاومة تعاليم الكنيسة، وكانت أسرة مديتشي تحارب حزب الشعب تحت طي الخفاء .
عاصر مكيافيلي هذه الحوادث فاكتسب الحنكة، واعتبر بما رآه وعلمه بالاختبار فوضع علما أو فلسفة في السياسة العملية عرفت باسمه، وألف في التاريخ والسياسة والتمثيل والأدب ونظم الشعر، وكتب في فنون الحرب، وأشهر مؤلفاته كتاب (الأمير) ألفه للأمير «لورنزودي مديتشي» الكبير.
واختلف العلماء في قيمة ما حواه كتاب الأمير من الحقائق العمرانية والسياسية، وهم بين قائل بأن قواعده السياسية ضارة لأنها مبنية على الاستبداد والغدر والخيانة وغيرها من الوسائل الدنيئة، وبين من يزعم أنها قواعد صحيحة لا بد منها لقيام الدولة.
والكتاب مؤلف من 26 فصلا، أوضح فيها أنواع السلطة وطرق الحصول عليها، والفرق بين الإمارات الموروثة والمختلطة، وضروب الحكومات وأنواع الإمارات المدنية والدينية، وأنواع المحاربين وما ينبغي على الأمير اتباعه من الأساليب حتى يستتب له الأمر وتثبت قدمه في السيادة. وفصول في واجبات الأمير نحو الجند وما تمدح به الرجال أو تذم من الكرم أو البخل أو القسوة أو اللين. وقارن بين محبة الناس للأمير وخوفهم منه، وكيف يكون وفاء الأمراء، وكيف يشتهر الأمير وكثير من الأبحاث السياسية والعمرانية، ويتخلل ذلك تاريخ الإمارات الغربية في القرون الوسطى، فعمله هذا يشبه ما فعله ابن خلدون قبله بقرنين. ولذلك رأينا أن نقارن بينهما وبين آرائهما في السياسة والعمران، فإن لفيلسوفنا الاجتماعي آراء خاصة في طبائع العمران والسلطة يصح أن تسمى «الفلسفة الخلدونية»
khaldounisme
كما سميت آراء مكيافيلي «الفلسفة المكيافيلية»
Machiavellisme . (3-1) كتاب الأمير ومقدمة ابن خلدون
أثبت ابن خلدون آراءه في فلسفة العمران بمقدمته المشهورة، كما دون مكيافيلي فلسفته في كتاب (الأمير) فيحسن بنا المقابلة بين الكتابين على الإجمال. فكتاب (الأمير) يشتمل على القواعد السياسية والأخلاقية اللازمة لتأييد سلطة الأمراء في فصول تقدم بيانها ولا يزيد حجمه على 150 صفحة، أما مقدمة ابن خلدون فقد أسهبنا في وصفها وتلخيصها فيما سبق من هذه الترجمة، وفيها مباحث لم يتعرض لها مكيافيلي ومباحث أخرى تصدى لها عرضا. (3-2) أوجه المشابهة بينهما
يتفق مكيافيلي وابن خلدون فيما بعثهما على الكتابة في هذا الموضوع وفي الطريق الذي سلكاه، فإن مكيافيلي إنما بعثه على تدوين تلك القواعد السياسية ما شاهده من اختلال الأحوال في أوروبا وما قاساه بنفسه من المشقة والعذاب في تدبير الدولة وملافاة الأخطار المحدقة بها. وهو كاتب سر الدولة يطلع على دخائلها ويرى ما يحدق بذلك من الأخطار والمفاسد والدسائس، فدرس ذلك كله وبني عليه آراءه في كيف يستطيع الأمير تثبيت سيادته. وضرب الأمثلة على ذلك مما شاهده من أحوال معاصريه أو قرأه من تاريخ الدول الماضية، لكنه في كل حال لم يتعد تاريخ أوروبا القديم والحديث ولم يذكر من الشرقيين غير الأتراك.
أما ابن خلدون فعاش في بلاد المغرب وعانى مناصبها السياسية والقلمية، وعاصر كثيرا من حوادثها وتقلباتها في مراكش وتونس والأندلس ومصر، ودخل في كثير منها بنفسه واطلع على دخائلها وأسرارها وتولى كتابة السر في بعضها، ونال مقاما رفيعا ونفوذا عظيما وتقلبت عليه أحوال شتى، ونكب بموت أهله فزادته المصائب عبرة وصقلت قريحته الفلسفية. وكان واسع الاطلاع في التاريخ الإسلامي وما يتعلق به، فعني بوضع تاريخه المشهور، وخطرت له خواطر فلسفية في أحوال العمران دونها في مقدمة ذلك التاريخ قد تقدم ذكرها. فيشبه مكيافيلي في أنه بعث على هذه الفلسفة من مؤثرات الوسط الذي نشأ فيه والأحوال التي عاصرته. ولكنه أيد آراءه في سياسة الدولة بما عرفه من تاريخ الإسلام وسائر الشرق ولم يتعرض لتاريخ اليونان والرومان إلا عرضا في بعض الأماكن.
وقد تشابه الفيلسوفان في كثير من آرائهما في الوزارة وأحوال الموالي والمصطنعين وتجنب المتملقين، وفي تعليل أسباب سقوط الدولة ونهوضها ووجوب الاعتماد على الجند وغير ذلك مما لا حاجة بنا إلى تفصيله هنا. وإنما نكتفي بذكر أهم ما اختلفا فيه من القواعد السياسية في تأييد السلطة. (3-3) أوجه الاختلاف بينهما
أساس بحث مكيافيلي في السلطة أنه قسمها إلى جمهورية وملكية كما كانت تقسم بأوروبا في عهده ونسبة ذلك إلى الكنيسة والأسر المطالبة بالسيادة في عصره. وأما ابن خلدون فلا تجد للجمهورية ذكرا في كتابه، ولكنه يقسم ضروب السلطة إلى الخلافة والملك والسلطنة والإمارة مما كان شائعا في الدولة الإسلامية، وعلاقة ذلك بالدين والعصبية من أحوال العرب والمسلمين.
يرى ابن خلدون أن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين، إما من نبوة أو دعوة حق. وأن هذه الدعوة الدينية لا تقوم إلا بالعصبية بين أهل الأنساب (البدو) غير أهل الأمصار (الحضر)؛ لأن هؤلاء عدوان بعضهم على بعض لا تجتمع كلمتهم. وأما البدو فيدافع بعضهم عن بعض بالعصبية وتدافع عنهم مشايخهم وكبراؤهم بما قام في نفوس الكافة لهم من الوقار. ولا يصدق دفاعهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب. وأتى بالأدلة على تأييد قوله من تاريخ الإسلام، وهي كثيرة، لأن الدولة الإسلامية قامت بالدين والعصبية.
وأما مكيافيلي فقد عقد فصلا في الإمارات الدينية (صفحة 120) بين فيه أن السيادة الدينية تبقى بفضل العادات والرسوم القديمة، وهي التي تسهل لأمرائها البقاء في السلطة. ولم يبحث في نسبة الدين إلى تأسيس الدول لأن النصرانية لم تنشئ دولة من نفسها. لكنه بحث في كيف وصلت الكنيسة إلى تلك القوة الدنيوية في أيامه حتى أرهبت ملك فرنسا وطردته من إيطاليا وقضت على أهل البندقية. وأسند ذلك إلى حاجة الأمراء إليها في التنازع بينهم وعندها البأس والقوة. وهو يعتقد أن قيام الدولة وثباتها إنما يكون بالجند، وعقد فصلا خاصا في واجبات الأمير نحو الجند المحارب فقال:
لا ينبغي للأمير أن يكون له مقصد وفكر ويعنى بدرس أمر سوى الحرب ونظامها وترتيبها؛ لأنها الصنعة الوحيدة الضرورية للذي يأمر وينهى، وفائدتها في أنها تحفظ ملك من يولد أميرا، وترفع إلى مرتبة الأمراء بعض الناس من الطبقات الأخرى، وقد رأينا أن الأمراء الذين يفكرون في الرفاهية أكثر من التفكير في الحرب يفقدون إمارتهم، والسبب الذي يفقد الأمراء ممالكهم هو احتقارهم الحرب، ووسيلة الحصول عليها هي التبحر في علوم الحرب.
وقد تجد في آراء ابن خلدون ما يرمي إلى مثل هذا الغرض. وإنما يختلف الرجلان في كيف تحفظ سيادة الأمراء على رعاياهم، فيرى مكيافيلي أن الوسيلة الفضلى إيقاع الهيبة والرعب في قلوب الرعية، وقد جعل ذلك في طريق البحث فقال:
ومن هذا ينشأ سؤال مهم وهو: أيهما أنفع للأمير أن يحب أكثر مما يخشى أم يهاب أكثر مما يحب؟ فالجواب أنه ينبغي له أن يكون محبوبا مهيبا، وحيث يصعب الجمع بين الحالتين، فإذا احتاج الأمير لأحدهما فالأفضل أن يهاب؛ إذ يحق القول عن الناس عامة أنهم ينكرون الجميل سريعو التحول مختلفو الطبائع والغرائز ميالون لاتقاء الأخطار ومحبون للكسب.
ويرى أن الأمير يجب أن يقود جيشه وأن يعرف بالقسوة؛ لأنه بدونها لا يستطيع أن يحافظ على اتحاد جيشه وطاعته (ص149). واستشهد على ذلك بهنيبال وغيره.
وعقد مكيافيلي فصولا في كيف ينبغي أن يتصرف الأمير لحفظ سيادته فقال (ص140): «إذن فينبغي للأمير الذي يريد أن يحفظ عرشه أن يتعلم كيف يقلل من طيبته وكيف يستعمل الخير أو ضده في الأوقات والأحوال المناسبة.»
وقال (ص142): «ويجب عليه أن لا يخشى عار المعايب التي يصعب عليه بدونها الاحتفاظ بالملك؛ لأن الإنسان إذا أمعن النظر رأى أن كثيرا من الأمور التي تظهر له أنها فضائل قد تؤدي به إلى الخراب إذا اتبعها، وكثيرا مما يبدو كأنه من الرذائل قد يؤدي إلى الخير والسلامة.»
وبحث في الكرم والبخل بالنظر إلى الأمراء، فكان حكمه «لا ينبغي للملك أن يهتم باتهامه بالبخل إذا كان يريد أن لا يسرق شعبه، ويدافع عن نفسه وقت الشدة، وأن لا يصير فقيرا محتقرا، وأن لا يصاب بالجشع؛ فإن رذيلة البخل من الرذائل التي تسهل له الاحتفاظ بالسلطة».
وأطلق لقلمه العنان في فصل «كيف يكون وفاء الأمراء»؛ يعني إذا عاهد الأمير أحدا على أمر هل يجب عليه الوفاء به؟ فقال: «لا يخفى على أحد ما يلحق بالأمراء من الثناء إذا اشتهروا بحفظ الوعود ومراعاة العهود، ولكن تجارب زماننا هذا دلت على أن الأمراء الذين لم يراعوا العهود قاموا بأعمال كبيرة، وتمكنوا من تحيير أوهام الناس بمكرهم، وتغلبوا في نهاية الأمر على الأمراء الذين اتخذوا الأمانة عادة والوفاء أساسا لحياتهم.»
ثم فصل الكلام في ذلك وقال إن الأمير ينبغي له أن تكون فيه طبيعتا الأسد والثعلب؛ فيفتك كالأسد ويحتال كالثعلب. إلى أن قال: «لذا ينبغي للأمير أن يكون ثعلبا ليتقي الحفائر والحبائل، وأسدا ليرهب الذئاب، أما من يريد أن يكون أسدا فقد فلا أمل له في النجاة، لأجل هذا لا ينبغي للأمير الحذر أن يحفظ العهود إذا كانت ضد مصلحته، أو ما دامت الأسباب التي دعت للوعد قد انقضى عهدها. إذا كان الناس كلهم أخيارا فإن القاعدة التي ذكرتها تكون لا شك سيئة، ولكنهم أشرار ولن يحفظوا لك عهدا، فلست مضطرا لحفظ عهودهم.» «ثم إن الأمير لا يفقد حيلة شرعية يركن إليها إذا لم يف بوعده، وإن الأمثال في هذا الباب كثيرة تثبت أن السلم قد تزعزع مرارا، وأن الوعود قد نسيت تكرارا عند أمراء لا وفاء لهم، وأن الأمراء الذين استطاعوا تقليد الثعلب قد فازوا وانتصروا، ولكن من الضروري أن يخفي الرجل هذه الخليقة، وأن يكون ماهرا في فن التظاهر بغير شعوره، ثم إن الناس من البساطة بمكان وهم أصحاب حاجات وصاحبها أرعن مطيع فلا يعدم الخادع فريسته.»
واستشهد على ذلك بإسكندر السادس، لأنه لم يفعل في حياته سوى خداع الرجال. قال مكيافيلي: «فلم يكن مثله رجلا قادرا على تأكيد الأقوال وتثبيتها والوعد بالإنجاز، ولم يكن كذلك أحد مثله أقل وفاء بما وعد به، ومع ذلك فإنه فاز على الدوام في خداعه لأنه عرف طبيعة البشر، فليس من الضروري للأمير أن يتصف حقيقة بكل الفضائل التي سبق الكلام عليها، ولكن من الضروري أن يذاع عنه الاتصاف بها. وإنني أجسر فأقول إن الاتصاف بكل تلك الفضائل خطر، ولكن الظهور بالتحلي بها نافع. من الخير لك أن تظهر بالتقوى والأمانة وحب الإنسانية والدين والإخلاص، وأن تكون في الواقع كذلك، ولكن ينبغي أن تكون متنبها بحيث إذا اضطررت للتحول إلى الصفات الأخرى كان ذلك بدون مشقة.»
هذا أهم ما يراه مكيافيلي وسيلة لتأييد سلطة الأمراء، أما ابن خلدون فيخالفه أو هو يناقضه في أكثر المواضع:
يرى ابن خلدون أن إرهاف الحد مضر بالملك مفسد له، وأنه إنما يملك الأمير الرعية بالرفق واللين، فأشار بحسن الملكة والابتعاد عن العسف، وهذا قوله: «إن حسن الملكة تقوم بالرفق؛ فإن الملك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة، فتخلقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على قتله لذلك؛ فتفسد الدولة ويخرب السياج. وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبية لما قلناه أولا، وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية. وإذا كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه، فاستقام الأمر من كل جانب. وأما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم والمدافعة عنهم، فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك، وأما النعمة عليهم والإحسان لهم فمن جملة الرفق بهم والنظر لهم في معاشهم، وهي أصل كبير في التحبب إلى الرعية.»
ويرى ابن خلدون أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة قال: «إن خلال الخير هي التي تناسب السياسة والملك؛ لأن المجد له أصل ينبني عليه وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير، وفرع يتم وجوده ويكمله وهو الخلال، وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها وهي الخلال؛ لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عريانا بين الناس. وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصا في أهل البيوت والأحساب، فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل حسب؟ وأيضا فالسياسة والملك هي كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم، وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح.»
ولولا ضيق المقام لأتينا بأمثلة أخرى، على أن في كتاب الأمير كثيرا من القواعد الاجتماعية الصحيحة مثل: بحثه في الإمارات المختلطة، وكيف ينبغي للأمير أن يفعل لتمكين سلطته فيها. فإنه قرر قواعد يحكم العقل بصحتها حالا، ويرى أمثلة منها تحدث كل يوم. وأحكامه في الولايات التي امتلكت بقوة الجيش، وآراؤه في الإمارة المدنية، فإن فيها فوائد هامة وغير ذلك.
ونغتفر له بعض سقطاته متى علمنا الوسط الذي كتب فيه كتابه، وإنما أردنا المقابلة بين الرجلين لتشابهما فيما كتباه. (4) إيضاح ابن خلدون بنبذ من أسلوبه (رأيه في الفلسفة)
لمن ندخل ابن خلدون في زمرة فلاسفة الإسلام بوصف كونه فيلسوفا عقليا، فإنه لم يكن كذلك، ولكننا حذونا حذو مؤرخي الإفرنج الذين اعتبروه من أهل العبقرية في علوم الاجتماع والاقتصاد وفلسفة التاريخ، ولأنه يكمل سلسلة الفلاسفة الذين بدءوا بالكندي وانتهوا بابن رشد.
على أن ابن خلدون لم يكن بعيدا عن الفلسفة بل إنه ضرب فيها بسهم وأدرك أوائلها، ثم أعرض عنها بسبب مزاجه واتجاه عقله إلى المباحث الاجتماعية العملية، فنظر في العالم نظر الفيلسوف في النظريات، وطبق على العمران والمدنية قواعد البحث العقلي، ولما أطلق وصف المقدمة على الكتاب الأول من تاريخه النفيس كان في ذلك متواضعا، وإلا فإنه يستحق أن يوصف بحق بفلسفة التاريخ.
وإليك نبذة تعرض فيها ابن خلدون للفلسفة ووصفها بأنها فصل «في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها»، وفيها دلالة على أسلوبه وطريقة تفكيره قال:
إن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن وضررها في الدين كثير، فوجب أن يصدع بشأنها، ويكشف عن المعتقد الحق فيها. وذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تدرك ذواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة، فبحثوا عن ذلك وشمروا له، وحوموا على إصابة الغرض منه، ووضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق.
ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها ما في الحس وما وراء الحس بهذا النظر وتلك البراهين، وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليه، وهو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم، أنهم عثروا أولا على الجسم السفلي بحكم الشهود والحس، ثم ترقى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة والحس في الحيوانات، ثم أحسوا من قوى النفس بسلطان العقل ووقف إدراكهم، فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية، ووجب عندهم أن يكون للفلك نفس وعقل كما للإنسان، ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد وهي العشر، تسع مفصلة ذواتها جملة، وواحد أول مفرد وهو العاشر، ويزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس وتخلقها بالفضائل، وأن ذلك ممكن للإنسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله ونظره وميله إلى المحمود منها واجتنابه للمذموم بفطرته، وأن ذلك إذا حصل للنفس حصلت لها البهجة واللذة، وأن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي، وهذا عندهم هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف من كلماتهم.
وإمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها ودون علمها وسطر حجاجها فيما بلغنا في هذه الأحقاب؛ هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونيا من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون، ويسمونه المعلم الأول على الإطلاق، يعنون معلم صناعة المنطق، وهو أول من رتب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها، ولقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات.
ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل، وذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، تصفحها كثير من أهل الملة وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة، وأبو علي ابن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرها.
واعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه، فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول واكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب؛ فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله، فالوجود أوسع نطاقا من ذلك
ويخلق ما لا تعلمون
وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام، خاصة المعرضين عن النقل والعقل، المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء، وأما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات ويعرضونها على معيار المنطق وقانونه فهي قاصرة وغير وافية بالغرض.
أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية ويسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقيني؛ لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها. ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي، اللهم إلا ما يشهد له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين، فأين اليقين الذي يجدونه فيها؟ وربما يكون تصرف الذهن أيضا في المعقولات الأول المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية، فيكون الحكم حينئذ يقينيا بمثابة المحسوسات، إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها، فنسلم لهم حينئذ دعاواهم في ذلك، إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها، إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه، فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا (!) فوجب علينا تركها.
وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس، وهي الروحانيات، ويسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة؛ فإن ذواتها مجهولة رأسا ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها، لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية، إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها، فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها، وخصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد، وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه.
وقد صرح بذلك محققوهم، حيث ذهبوا إلى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه؛ لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية، وقال كبيرهم أفلاطون: «إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى يقين، وإنما يقال فيها بالأحق والأولى.» يعني الظن، وإذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط، فيكفينا الظن الذي كان أولا، فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحس من الموجودات، وهذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم.
وأما قولهم إن السعادة في إدراك الموجودات على ما هي عليه بتلك البراهين فقول مزيف مردود، وتفسيره أن الإنسان مركب من جزأين: أحدهما جسماني والآخر روحاني ممتزج به، ولكل واحد من الجزأين مدارك مختصة به، والمدرك فيهما واحد وهو الجزء الروحاني، يدرك تارة مدارك روحانية وتارة مدارك جسمانية، إلا أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة، والمدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس، وكل مدرك فله ابتهاج بما يدركه واعتبره بحال الصبي في أول مداركه الجسمانية، التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء وبما يسمعه من الأصوات، فلا شك أن الابتهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد وألذ، فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج ولذة لا يعبر عنها، وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا علم، وإنما يحصل بكشف حجاب الحس ونسيان المدارك الجسمانية بالجملة. والمتصوفة كثيرا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس بحصول هذه البهجة، فيحاولون بالرياضة إماتة القوى الجسمانية ومداركها حتى الفكر من الدماغ؛ ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب والموانع الجسمانية، فيحل لهم بهجة ولذة لا يعبر عنها، وهذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم، وهو مع ذلك غير واف بمقصودهم.
فأما قولهم إن البراهين والأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك والابتهاج عنه فباطل كما رأيته، إذ البراهين والأدلة من جملة المدارك الجسمانية؛ لأنها بالقوى الدماغية من الخيال والفكر والذكر، ونحن أول شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها؛ لأنها منازعة له قادحة فيه.
وتجد الماهر منهم عاكفا على كتاب «الشفاء والإشارات والنجاء» وتلاخيص ابن رشد للفص من تأليف أرسطو، وغيره يبعثر أوراقها ويتوثق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السعادة فيها، ولا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها، ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو والفارابي وابن سينا «أن من حصل له إدراك العقل الفعال واتصل به في حياته، فقد حصل حظه من هذه السعادة». والعقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات، ويحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي، وقد رأيت فساده (؟!)
وإنما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتصال والإدراك، إدراك النفس الذي لها من ذاتها وبغير واسطة، وهو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس، وأما قولهم إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضا؛ لأنا إنما تبين لنا بما قرروه أن وراء الحس مدركا آخر للنفس من غير واسطة، وأنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا، وذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية ولا بد، بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة.
وأما قولهم إن الإنسان يجد السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه؛ فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام والأغلاط.
وأما قولهم إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم؛ فأمر مبني على أن ابتهاج النفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها، وقد بينا أن أثر السعادة والشقاوة من وراء الإدراكات الجسمانية والروحانية، فهذا التهذيب الذي توصلوا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط، وأما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا بها فأمر لا يحيط به مدارك المدركين، وقد تنبه لذلك ابن سينا فقال في كتاب (المبدأ والمعاد): «إن المعاد الروحاني وأحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية والمقاييس؛ لأنه على نسبة طبيعية محفوظة ووتيرة واحدة، فلنا في البراهين عليه سعة، وأما المعاد الجسماني وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان؛ لأنه ليس على نسبة واحدة، وقد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية، فلينظر فيها ولنرجع في أحوالها إليها. ا.ه. كلام ابن سينا.
فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع، إلا أنه وإن كان غير واف بمقصودهم فإن قوانينه أصح ما علمناه من قوانين الأنظار. هذه هي ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت، فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطبها. ا.ه.
الفصل التاسع
إخوان الصفاء
كان للفلسفة في العصر العباسي شأن عظيم، فاشتغل بها أكثر الذين عنوا بعلوم القدماء، لا سيما الأطباء منهم، وكان الفلاسفة في هذا العصر متهمين بالإلحاد والتعطيل، وكان الانتساب إلى الفلسفة مرادفا للانتساب إلى الكفر، وشاعت النقمة على الخليفة المأمون، لأنه كان السبب في نقل الفلسفة إلى اللغة العربية، حتى قال فيه ابن تيمية: «ما أظن الله يغفل عن المأمون، ولا بد أن يعاقبه على ما أدخله على هذه الأمة!» (1) أشهر أفراد جمعية إخوان الصفا
فاضطر أصحاب الفلسفة إلى التستر، فألفوا الجمعيات السرية لهذا الغرض وأشهرها جمعية إخوان الصفا، تألفت في بغداد في أواسط القرن الرابع للهجرة، وقد ذكروا من أعضائها خمسة هم: (1)
أبو سليمان محمد بن معشر البستي، ويعرف «بالمقدسي». (2)
أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني. (3)
أبو أحمد المهرجاني. (4)
العوفي. (5)
زيد بن رفاعة.
وكانوا يجتمعون سرا ويتباحثون في الفلسفة على أنواعها حتى صار لهم فيها مذهب خاص هو خلاصة أبحاث فلاسفة الإسلام، بعد اطلاعهم على آراء اليونان والفرس والهند، وتعديلها على ما يقتضيه الإسلام.
وأساس مذهبهم «أن الشريعة الإسلامية تدنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وأنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة المحمدية فقد حصل الكمال». (2) رسائلهم الفلسفية
وقد دونوا فلسفتهم هذه في اثنتين وخمسين رسالة، سموها رسائل «إخوان الصفا» وكتموا أسماءهم، وهي تمثل الفلسفة الإسلامية على ما كانت عليه في إبان نضجها، وتشمل النظر في مبادئ الموجودات وأصول الكائنات إلى نضد العالم فالهيولى والصورة وماهية الطبيعة والأرض والسماء ووجه الأرض وتغيراته، والكون والفساد والآثار العلوية والسماء والعالم وعلم النجوم وتكوين المعادن، وعلم النبات وأوصاف الحيوان ومسقط النطفة وكيفية رباط الناس بها، وتركيب الجسد والحاس والمحسوس والعقل والمعقول والصناعات العلمية والعملية، والعدد وخواصه والهندسة والموسيقى والمنطق وفروعه واختلاف الأخلاق وطبيعة العدد، وأن العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير (وهذه هي نظرية «هربرت سبنسر» في علم الاجتماع) والأكوار والأدوار وماهية العشق والبعث والنشور وأجناس الحركات والعلل والمعلولات والحدود والرسوم، وبالجملة فقد ضمنوها كل علم طبيعي أو رياضي أو فلسفي أو إلهي عقلي.
ويظهر من إمعان النظر في تلك الرسائل، أن أصحابها دونوها بعد البحث الدقيق والنظر الطويل، وفي جملة ذلك آراء لم يصل أهل هذا الزمان إلى أحسن منها، وفيها بحث مستفيض من قبيل نظرية النشوء والارتقاء.
وكان المعتزلة ومن جرى مجراهم يتناقلون هذه الرسائل ويتدارسونها ويحملونها معهم سرا إلى بلاد الإسلام، ولم تمض مائة سنة على كتابتها حتى دخلت بلاد الأندلس على يد أبي الحكم عمرو بن عبد الرحمن الكرماني القرطبي.
وأبو الحكم هذا عالم من أهل قرطبة رحل إلى المشرق للتبحر في العلم، على جاري عادة الأندلسيين، فلما عاد إلى بلاده حمل معه الرسائل المذكورة، وهو أول من أدخلها إلى الأندلس، فما لبثت أن انتشرت هناك حتى تناولها أصحاب العقول البحاثة وأخذوا في درسها وتدبرها.
وطبعت في (ليبزج) سنة 1883م وفي (بومباي) سنة 1886م، وفي مصر سنة 1889م. ونقلت إلى الهندستانية وطبعت في لندن سنة 1861م.
تتلخص فلسفة إخوان الصفا في اثنتين وخمسين رسالة مقسومة على أربعة أقسام:
القسم الأول:
أربع عشرة رسالة رياضية تعليمية.
القسم الثاني:
سبع عشرة رسالة جسمانية طبيعية.
القسم الثالث:
عشر رسائل نفسانية عقلية.
القسم الرابع:
إحدى عشرة رسالة ناموسية آلهية.
القسم الأول في الرسائل الرياضية التعليمية
الرسالة الأولى:
في العدد.
الرسالة الثانية:
في الهندسة.
الرسالة الثالثة:
في النجوم.
الرسالة الرابعة:
في الموسيقى.
الرسالة الخامسة:
في الجغرافيا.
الرسالة السادسة:
في النسب.
الرسالة السابعة:
في الصنايع العلمية.
الرسالة الثامنة:
في الصنايع العلمية.
الرسالة التاسعة:
في بيان اختلاف الأخلاق.
الرسالة العاشرة:
في إيساغوجي.
الرسالة الحادية عشرة:
في قاطيغورياس.
الرسالة الثانية عشرة:
في بارمينياس.
الرسالة الثالثة عشرة:
في أنولوطيقا الأولى.
الرسالة الرابعة عشرة:
في أنولوطيقا الثانية.
القسم الثاني
الرسالة الأولى:
في الهيولى والصورة.
الرسالة الثانية:
في السماء والعالم.
الرسالة الثالثة:
في الكون والفساد.
الرسالة الرابعة:
في الآثار العلوية.
الرسالة الخامسة:
في كيفية تكوين المعادن.
الرسالة السادسة:
في ماهية الطبيعة.
الرسالة السابعة:
في أجناس النبات.
الرسالة الثامنة:
في أصناف الحيوان.
الرسالة التاسعة:
في تركيب الجسد.
الرسالة العاشرة:
في الحاس والمحسوس.
الرسالة الحادية عشرة:
في مسقط النطفة.
الرسالة الثانية عشرة:
في معنى قول الحكماء «إن الإنسان عالم صغير» وهو «معنى العالم الكبير».
الرسالة الثالثة عشرة:
في كيفية نشر الأنفس الجزئية.
الرسالة الرابعة عشرة:
في بيان طاقة الإنسان.
الرسالة الخامسة عشرة:
في ماهية الموت والحياة.
الرسالة السادسة عشرة:
في ماهية اللذات والآلام الجسمانية والروحانية.
الرسالة السابعة عشرة:
في علل اختلاف اللغات.
القسم الثالث
الرسالة الأولى:
في المبادئ العقلية على رأي الفيثاغوريين.
الرسالة الثانية:
في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفا.
الرسالة الثالثة:
في معنى قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير».
الرسالة الرابعة:
في العقل والمعقول.
الرسالة الخامسة:
في الأكوار والأدوار واختلاف القرون والأعصار.
الرسالة السادسة:
في ماهية العشق.
الرسالة السابعة:
في ماهية البعث.
الرسالة الثامنة:
في كمية أجناس الحركات.
الرسالة التاسعة:
في العلل والمعلولات.
الرسالة العاشرة:
في الحدود والرسوم.
القسم الرابع
الرسالة الأولى:
في الآراء والمذاهب في الديانات الشرعية الناموسية والفلسفية.
الرسالة الثانية:
في ماهية الطريق إلى الله عز وجل.
الرسالة الثالثة:
في بيان اعتقاد إخوان الصفاء وخلان الوفاء.
الرسالةالرابعة:
في كيفية عشرة إخوان الصفاء وخلان الوفاء.
الرسالة الخامسة:
في ماهية الإيمان.
الرسالة السادسة:
في ماهية الناموس الإلهي.
الرسالة السابعة :
في كيفية الدعوة إلى الله عز وجل.
الرسالة الثامنة:
في كيفية أفعال الروحانيين.
الرسالة التاسعة:
في كمية أنواع السياسات وكيفيتها.
الرسالة العاشرة:
في كيفية نضد العالم بأسره.
الرسالة الحادية عشرة:
في ماهية السحر والعزائم.
وخلاصة فلسفتهم في رسالة جامعة لما في الرسائل الاثنتين والخمسين. (3) في كيفية عشرة إخوان الصفا وتعاون بعضهم بعضا
سبق أن قلنا إن إخوان الصفا كانوا يجتمعون سرا، ويتباحثون في الفلسفة على أنواعها حتى صار لهم فيها مذهب خاص، ولما كان لهذه الجماعة دستور أتبعوه في حياتهم وأرادوا تعميمه بين من كان على شاكلتهم في سائر الأقطار، فقد أردنا أن نلخص هذا القانون لما فيه من الحكمة التاريخية.
فقد فرضوا على من كان مثلهم من الجماعات أن يكون لهم مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذاكرون فيه علومهم ويتحاورون فيه أسرارهم، وينبغي أن تكون مذاكراتهم أكثرها في علم النفس والحس والمحسوس والعقل والمعقول والنظر والبحث عن أسرار الكتب الإلهية والتنزيلات النبوية ومعاني ما يتضمنها موضوعات الشريعة، وينبغي أيضا أن يتذاكروا العلوم الرياضية الأربعة وهي: العدد والهندسة والتنجيم والتأليف.
وأما أكثر عناياتهم وقصدهم فينبغي أن يكون البحث عن العلوم الإلهية التي هي الغرض الأقصى، وبالجملة ينبغي لهم أن لا يعادوا علما من العلوم أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأي إخوان الصفا ومذهبهم يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها، وذلك أنه هو النظر في جميع الموجودات بأسرها الحسية والعقلية من أولها إلى آخرها ظاهرها وباطنها وجليها وخفيها، بعين الحقيقة من حيث هي كلها من مبدأ واحد وعلة واحدة وعالم واحد ونفس واحدة محيطة جواهرها المختلفة وأجناسها المتباينة. (4) مصادر علوم إخوان الصفا
وقد ذكر إخوان الصفا في رسالتهم الثانية أن علومهم مأخوذة من أربعة كتب، أحدها الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة من الرياضيات والطبيعيات، الثاني الكتب المنزلة التي جاءت بها الأنبياء مثل التوراة والإنجيل والفرقان، وغيرها من صحف الأنبياء المأخوذة معانيها بالوحي من الملائكة وما فيها من الأسرار الخفية.
والثالث الكتب الطبيعية وهي صور أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك وأقسام البروج وحركات الكواكب ومقادير أجرامها، وتصاريف الزمان واستحالة الأركان وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات، وأصناف المصنوعات على أيدي البشر، كل هذه صور وكنايات وآلات على معان لطيفة وأسرار دقيقة، يرى الناس ظاهرها ولا يعرفون معاني بواطنها من لطيف صفة الباري جل ثناؤه.
والرابع الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون الملائكة التي هي بأيدي سفرة كرام بررة، وهي جواهر النفوس وأجناسها وأنواعها وجزئياتها وتصاريفها للأجسام وتحريكها لها وتدبيرها إياها وتحكمها عليها وإظهار أفعالها بها ومنها، حالا بعد حال في ممر الزمان وأوقات القرانات والأدوار وانحطاط بعضها تارة إلى قعر الأجسام، وارتفاع بعضها تارة من ظلمات الجثمان، وانبعاثها من نوم الغفلة والنسيان، وحشرها إلى الحساب والميزان، وجوازها على الصراط، ووصولها إلى الجنان أو حبسها في دركاتها الهاوية والنيران أو مكثها في البرزخ أو وقوفها على الأعراف. (5) آراؤهم في الصداقة
وينبغي لإخوان الصفا إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقا أن يعتبر أحواله ويتعرف أخباره ويجرب أخلاقه ويسأله عن مذهبه واعتقاده، ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أم لا.
واعلم بأن شر الطوائف كلها من لا يؤمن بيوم الحساب، وشر الأخلاق كبر إبليس وحرص آدم وحسد قابيل، وهي أمهات المعاصي واعلم بأن الناس مطبوعون على أخلاقهم بحسب اختلاف تركيب أجسادهم.
واعلم بأن من الناس من هو مطبوع على خلق واحد أو عدة من أخلاق محمودة ومذمومة.
فينبغي لك إذا أردت أن تتخذ صديقا أو أخا أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير والأرضين الطيبة التربة للزرع والغرس، وكما ينتقد أبناء الدنيا أمر التزويج وشراء المماليك والأمتعة التي يشترونها.
واعلم بأن من الناس من يتشكل بشكل الصديق ويتدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره.
واعلم بأن الإنسان كثير التلون قليل الثبات على حال واحد، وذلك أنه قل من الناس من تحدث له حال من أحوال الدنيا أو أمر من أمورها إلا ويحدث له خلق جديد وسجية أخرى، ويتغير خلقه مع إخوانه ويتلون مع أصدقائه، إلا إخوان الصفا الذين ليست صداقتهم خارجة من ذاتهم إنما هي قرابة رحم، ورحمهم ما من يعيش بعضهم ببعض ويرث بعضهم بعضا، وذلك أنهم يرون ويعتقدون أنهم نفس واحدة في أجساد متفرقة، فكيفما تغيرت حال الأجساد بحقيقتها فالنفس لا تتغير ولا تتبدل.
وخصلة أخرى أن أحدهم إذا أحسن إلى أخيه إحسانا فلا يمن عليه به لأنه يرى ويعتقد بأن إحسانه إلى نفسه كان، وإن أساء إليه أخوه لم يستوحش منه لأنه يرى بأن ذلك كان منه إليه، فمن اعتقد في أخيه مثل هذا واعتقد أخوه فيه مثل ذلك فقد أمن كل واحد من أخيه غائلته أن يتغير عليه في يوم من الأيام بسبب من الأسباب أو بوجه من الوجوه.
واعلم أن في الناموس أقواما يتشبهون بأهل العلم ويدلسون بأهل الدين: لا الفلسفة يعرفونها، ولا الشريعة يحققونها، ويدعون مع هذا معرفة حقائق الأشياء، ويتعاطون النظر في خفيات الأمور الغامضة البعيدة، وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء إليهم، ولا يميزون الأمور الجلية ولا يتفكرون في الموجودات الظاهرة المدركة بالحواس المشهورة في العقول، ثم ينظرون في الظفرة والقلقة والجزء الذي لا يتجزأ، فاحذرهم يا أخي فإنهم الدجالون.
فإذا كان الأمر كما وصفت فينبغي لك أيها الأخ أن لا تشغل بإصلاح المشايخ الهرمة، الذين اعتقدوا من الصبى آراء فاسدة وعادات ردية وأخلاقا وحشية، فإنهم يتعبونك ثم لا ينصلحون، ولكن عليك بالشباب السالمي الصدور، واعلم بأن الله ما بعث نبيا إلا وهو شاب ولا أعطى لعبد حكمة إلا وهو شاب، كما ذكرهم ومدحهم فقال:
إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى
وكما قال:
قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم
وقال أيضا:
وإذ قال موسى لفتاه
واعلم بأن كل نبي بعثه الله فأول من كذبه مشايخ قومه. (6) مراتب إخوان الصفا النفسية
واعلم أن قوة نفوس إخوان الصفا على أربعة مراتب:
الأولي:
صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور، وهي مرتبة أرباب ذوي الصناعات في مدينتها التي ذكرت في الرسالة الثانية، وهي القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات الواردة على القوة الناطقة بعد خمسة عشر سنة من مولد الجسد.
الثانية:
هي مرتبة الرؤساء ذوي السياسات، وهي مراعاة الإخوان وسخاء النفس وإعطاء الفيض والشفقة والرحمة، وهي القوة الحكيمة الواردة على القوة العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد، وهم الذين نسميهم الأخيار والفضلاء.
الثالثة:
فوق هذه وهي مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي والنصر، والقيام بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق واللطف والمداراة في إصلاحه، وهي القوة الناموسية الواردة بعد مولد الجسد بأربعين سنة ، وهم الذين نسميهم إخواننا الفضلاء الكرام.
الرابعة:
فوق هذه وهي التي ندعو إخواننا كلهم في أي مرتبة كانت، وهي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانا، وهي قوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد، وهي الممهدة للمعاد والمفارقة لليهولى، وعليها تنزل قوة المعراج وبها تصعد إلى ملكوت السماء، فتشاهد أحوال القيامة من البعث والنشر والحشر والحساب والميزان والجواز على الصراط والنجاة من النيران ومجاورة الرحمن، وإليها أشار فيثاغورس في الرسالة الذهبية في آخرها: «إنك إذا فعلت ما أوصيك، عند مفارقة الجسد تبقى في الهواء غير عائد إلى الإنسية ولا قابل للموت.»
واعلم بأن المطلوب من المدعوين إلى هذا الأمر أربعة أحوال:
أولها:
الإقرار بحقيقة هذا الأمر.
ثانيها:
التصور لهذا الأمر بضروب الأمثال بالوضوح والبيان.
ثالثها:
التصديق له بالضمير والاعتقاد.
رابعها:
التحقيق له بالاجتهاد في الأعمال المشاكلة لهذا الأمر. (7) إيضاح لفلسفة إخوان الصفا (الفلسفة الأخلاقية في نظر إخوان الصفا)
وقد اعتمدنا في تلخيصها على الرسالتين الرابعة والتاسعة من الجزء الأول، والثانية من الجزء الثاني، والسادسة من الجزء الثالث.
تكلم إخوان الصفا في الرسالة الرابعة من الرياضيات في علم الموسيقى وأثره في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق، وقد صرحوا بأن ليس غرضهم في هذه الرسالة تعليم الغناء وصنعة الملاهي، بل غرضهم معرفة النسب وكيفية التأليف اللذين بهما وبمعرفتهما يكون الحذق في الصنائع كلها، وإن من الأصوات والألحان والنغمات ما له في النفوس تأثيرات كتأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعات في صناعاتهم، فمن تلك النغمات والأصوات ما يحرك النفوس نحو الأعمال الشاقة وينشطها ويقوى عزماتها؛ وهي الألحان المشجعة التي تستعمل في الحروب، ولا سيما إذا غني معها بأبيات موزونة، ومن الأبيات الموزونة أيضا ما يثير الأحقاد الكامنة ويحرك النفوس الساكنة، فمن أجل هذا كانت الألحان والموسيقى تستعمل عند كل الأمم في الحزن والسرور، وتارة في بيوت العبادة والأسواق وعند الراحة والتعب، ويستعملها الرجال والنساء والعلماء، ويستعملها الجمالون للحداء في الأسفار، والصياد عند صيد الدراج والقطا.
وإن الأصوات نوعان: حيوانية، وغير حيوانية. كصوت الحجر والحديد والرعد والطبل والمزامير، والأصوات الحادة والغليظة متضادة ولكن إذا كانت على نسبة تأليفية ائتلفت وامتزجت وصارت لحنا موزونا واستلذتها المسامع، وإن الحكماء قد صنعوا آلات وأدوات كثيرة لنغمات الموسيقى، واعلم بأنه إن لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ولا نغمات لم يكن لأهلها فائدة في القوة السامعة، ويوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع التلامذة والمتعلمين اشتياق إلى أحوال الأساتذة والمعلمين، وفي طباع العامة اشتياق إلى أحوال البلوغ، وفي طباع العقلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة وتشبه بهم، كما ذكر في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسانية، ويقال إن فيثاغورس الحكيم سمع بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه نغمات حركات الأفلاك والكواكب فاستخرج بجودة فكره أصول الموسيقى ونغمات الألحان.
ثم اعلم أن غرض الأنبياء في وضعهم الشرائع هو صلاح الدين والدنيا، وغرضهم الأقصى نجاة النفوس من محن الدنيا وشقاوة أهلها.
واعلم بأن تأثيرات نغمات الموسيقار في نفوس المستمعين مختلفة الأنواع، ولذة النفوس منها وسرورها بها تكون بحسب مراتبها في المعارف وبحسب معشوقاتها المألوفة من المحاسن.
واعلم أن أخلاق الناس وطبائعهم تختلف من أربع جهات:
الأولى:
من جهة أخلاط أجسادهم ومزاج أخلاطها.
الثانية:
من جهة ترب بلدانهم واختلاف أهويتها.
الثالثة:
من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم ومعلميهم وأساتذتهم ومن يربيهم ويؤدبهم.
الرابعة:
من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم ومساقط نطفهم .
واعلم أن مراتب النفوس ثلاثة أنواع: فمنها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما هي فوقها، ومنها ما هي دونها.
فالتي هي دونها سبع مراتب، والتي فوقها سبع أيضا وجملتها خمس عشرة مرتبة، والمعلوم من هذه المراتب خمس، منها اثنتان فوق رتبة الإنسانية وهي رتبة الملكية والقدسية، ورتبة الملكية هي رتبة الحكمية، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة الناموسية، واثنتان دونها وهي مرتبة النفس النباتية والحيوانية.
وإن من الأخلاق والقوى ما هو منسوب إلى النفس النباتية الشهوانية، وما هو منسوب إلى النفس الحيوانية الغضبية، ومنها ما هو منسوب إلى النفس الإنسانية الناطقية، ومنها ما هو منسوب إلى النفس العاقلة الحكمية، ومنها ما هو منسوب إلى النفس الناموسية الملكية.
ثم تدرج إخوان الصفاء من هذه الفصول إلى نظرية كون العالم إنسانا كبيرا، وكون الإنسان عالما صغيرا، وهي النظرية التي قال بها بعض فلاسفة اليونان، وأشار إليها ابن سيناء في قوله إن الإنسان انطوى فيه العالم الأكبر، واتخذها «سبنسر» أساسا لبحثه في علم الاجتماع، فقالوا في بيان معرفة قول الحكماء، إن العالم إنسان كبير، إنهم يعنون بالعالم السماوات والأرضين وما بينهما من الخلائق أجمعين، وإنهم يرونه جسما واحدا بجميع أفلاكه وأطباق سماواته وأركان أمهاته ومولداتها، ويرون أيضا أن له نفسا واحدة سارية قواها في جميع أجزاء جسمها كسريان نفس الإنسان الواحد في جميع أجزاء جسده.
وقد حاول إخوان الصفاء في الرسالة الثانية من الجزء الثاني الموسومة «بالسماء والعالم في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق» أن يذكروا صورة العالم ويصفوا كيفية تركيب جسمه، كما وصف في كتاب التشريح ترتيب جسد الإنسان، ثم وصفوا في رسالة أخرى ماهية نفس العالم وكيفية سريان قواها في الأجسام التي في العالم من أعلا الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، ثم بينوا فنون حركاتها وإظهار أفعالها في أجسام العالم بعضها في بعض.
وقد أتوا في ذلك بتمثيل بين حركات الأفلاك حول الأرض، كاختلاف دور الطائفين حول البيت الحرام (ص26 جزء 2 من رسائل إخوان الصفا).
وشرحوا معنى القيامة بأنه إذا فارقت النفس الجسد قامت قيامتها، قال محمد
صلى الله عليه وسلم : «من مات فقد قامت قيامته.» إنما أراد قيام النفس لا الجسد، لأن الجسد لا يقوم عند الموت بل يقع وقوعا لا يقوم بعده.
وقالوا إن النفس إذا فارقت هذا الهيكل فليس يبقى معها ولا يصحبها من آثار هذا الجسد إلا ما استفادت من المعارف الربانية والأخلاق الجميلة، فإذا رأت تلك الصورة فرحت بها، وذلك ثوابها ونعيمها.
وجعلوا الرسالة السادسة من الجزء الثالث مقصورة على البحث في ماهية العشق ومحبة النفوس والمرض الإلهي، وكثير من الحكماء وصفوا أعراض هذا المرض مما يعرض للعشاق من سهر الليل ونحول الجسم وغور العيون وتواتر النبض والأنفاس الصعداء، وقالوا إنه جنون إلهي. والأطباء يسمونه (ملنخوليا). وقال بعضهم: «العشق هو شدة الشوق إلى الاتحاد.» ولهذا أي حال يكون عليها العاشق يتمنى حالا أخرى أقرب منها، ولهذا قال الشاعر:
أعانقها والنفس بعد مشوقة
إليها وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول صبابتي
فيزداد ما ألقى من الهيمان
كأن فؤادي ليس يشفى غليله
سوى أن ترى الزوجين يمتزجان
إن كثيرا من الناس يظنون أن العشق لا يكون إلا للأشياء الحسنة حسب، وليس الأمر كما ظنوا؛ فقد قيل: «يا رب مستحسن ما ليس بالحسن.» ولكن العلة في ذلك هي الاتفاقات التي بين العاشق والمعشوق وهي كثيرة، منها المناسبات بين كل حاسة ومحسوساتها.
ثم اعلم أنه من ابتلي بعشق شخص من الأشخاص، ومرت به تلك المحن والأهوال وعرضت له تلك الأحوال، ثم لم تنتبه نفسه من نوم غفلتها فيتسلى ويفيق، أو نسي وابتلي من بعد بعشق ثان لشخص آخر؛ فإن نفسه نفس غريقة في عمائها سكرى في جهالتها.
والفرق بين الخاص والعامة، أن العامة إذا رأت مصنوعا حسنا أو شخصا مزينا تشوقت نفوسهم إلى النظر إليه والقرب منه والتأمل فيه، وأما الخواص فتتشوق نفوسهم إلى الصانع الحكيم والمبدع العليم والمصور الرحيم.
إلى هنا انتهينا مما أردنا تلخيصه من الأخلاق في فلسفة إخوان الصفاء، وهي كما يرى القارئ مزيج من الحكمة والتصوف ، والفلك والرياضة.
ولما كانت فلسفة إخوان الصفاء تمثل فترة من تاريخ الفلسفة الإسلامية، وكانت مؤلفاتهم كاملة الشكل لا ينقصها إلا الضبط والتعليق وبعض التفسير، فيا حبذا لو أعيد طبعها في مصر طبعا جيدا لتكون حلقة جميلة في سلسلة آثار فلاسفة الإسلام.
الفصل العاشر
ابن الهيثم
أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم، أصله من البصرة وانتقل منها إلى الديار المصرية وأقام بها إلى آخر عمره كما فعل ابن خلدون.
وكان من نوابغ أهل عصره في العلوم الرياضية، واشتغل بالفلسفة فلخص كثيرا من كتب أرسطو وشرحها.
وكان كذلك طبيبا ولخص بعض كتب جالينوس، وكان خبيرا بصناعة الطب علما، ولكنه لم يباشرها عملا ولم يتدرب على فنون المداواة والجراحة.
وروى علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر الحنفي المهندس أن ابن الهيثم كان موظفا بالبصرة، وكانت وظيفته تعوقه عن النظر في الحكمة والاشتغال بالفلسفة، فأراد أن يتجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في الفلسفة، فتظاهر بالجنون واستمر على ذلك مدة فصرفته الحكومة من المنصب الذي كان في يده.
وكان ابن الهيثم من مواليد نصف المائة الرابعة، فإنه ولد في سنة 354ه وتوفي في سنة 430ه.
وبعد أن خرج من منصبه في البصرة سافر إلى مصر، وهي ما زالت ملجأ كل عالم وأديب من قديم الزمان إلى وقتنا هذا، فأقام بالقاهرة في الجامع الأزهر، وكان يعيش من نسخ «إقليدس» و«المجسطي» ويبيعهما وبقي كذلك إلى آخر عمره.
ولما كان في مصر بلغ الحاكم بأمر الله وهو سلطانها إذ ذاك خبر ابن الهيثم، وكان الحاكم بأمر الله الفاطمي العلوي الذي وصفه بعض المؤرخين بالجنون وكفره البعض الآخر وحار الجميع في كيفية اختفائه قبل موته، يميل إلى الحكمة، فلما سمع بابن الهيثم وما هو عليه من الحذق والبراعة والإتقان في الفلسفة والرياضة والهندسة تاقت نفسه إلى رؤيته.
ومما زاد شوق الحاكم إلى ابن الهيثم أنه سمع نقلا عن ذلك المهندس البصري أنه قال قبل أن يقدم إلى الديار المصرية: «لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال هو في طرف الإقليم المصري.»
وهنا يعلل جمال الدين أبو الحسن بن القفطي في كتابه (تراجم الحكماء)، ويؤيده ابن أبي أصيبعة سبب تظاهر ابن الهيثم بالجنون في البصرة وسعيه في التخلي عن وظيفته في وطنه. وإن ذلك لم يكن لأجل الانقطاع للفلسفة حسب، لأن الحاكم بأمر الله لما نقلت إليه عبارة الهيثم الخاصة بمشروع هندسة الري في الأراضي المصرية، ازداد شوقا إلى رؤية «ويلكوكس» ذاك الزمان، وسير إليه سرا جملة من المال قبل أن تخلق المصارف، ورغبه في الحضور.
فسار ابن الهيثم إلى مصر بعد أن مهد لرحلته السبيل بادعاء الجنون، فلما بلغ مصر خرج الحاكم بأمر الله للقائه والتقيا بقرية على باب القاهرة اسمها الخندق وموضعها الآن الضاحية المعروفة باسم (كوبري القبة)، وأمر الحاكم بإنزاله وإكرامه واحترامه، فأقام ابن الهثيم في تلك الضيافة الملكية ريثما استراح من وعثاء السفر.
ثم طالبه الحاكم بإنجاز ما وعد به من أمر النيل.
ولم يكن ابن الهيثم يقصد سوى صنع خزان في موضع (خزان أسوان)، قبل أن يفكر فيه المهندسون المصريون والغربيون، لا سيما الإنجليز منهم، بعشرة قرون. فسافر ابن الهيثم ومعه جماعة من أهل فن العمارة ليستعين بهم على هندسته التي خطرت له.
ولما سار إلى الإقليم بطوله ورأى آثار من تقدم من ساكنيه من الأمم الخالية، وهي على غاية من إحكام الصنعة وجودة الهندسة، وما اشتملت عليه من أشكال سماوية ومثل هندسية وتصوير معجز؛ تحقق أن الذي كان يقصده ليس بممكن، فإن من تقدمه في العصور الخالية لم يعزب عن عقولهم علم ما علمه، ولو أمكن لفعلوه، فانكسرت همته ووقف خاطره ووصل إلى الموضع المعروف بالجنادل قبلي مدينة (أسوان)، وهو موضع مرتفع ينحدر منه ماء النيل، فعاينه وباشره واختبره من جانبيه، فوجد أمره لا يسير على موافقة مراده، وتحقق الخطأ والغلبة عما وعد به وعاد خجلا ومنخذلا ، واعتذر للحاكم بأمر الله فقبل الحاكم عذره وولاه ديوانا فتولاه رهبة لا رغبة.
وعندنا أن ابن الهيثم لم يشعر بالخيبة بسبب ما رآه من آثار المصريين القدماء، فإن جمال تلك الآثار وجلالها وإتقان صنعتها لا دخل له في مشروع هندسي، ولا نظن أن خبر تلك الآثار ووصفها كان يخفى على ابن الهيثم في وطنه، ولكن السبب الحقيقي الذي قعد بهمة ابن الهيثم عن الشروع في هذا العمل الجليل هو ما عاينه بنفسه من صعوبة مباشرته وكثرة نفقاته، وعدد ما ينبغي له من الأيدي العاملة والآلات المعدنية الضرورية للحفر والبناء في مجرى النهر، وما يقتضيه ذلك من تحطيم الصخر في الموضع المعروف بالجنادل.
ولا بد أن ابن الهيثم قدر بالمعاينة ما يحتاجه هذا العمل فأحجم عنه لما ظنه يحتاج إليه من النفقات الباهظة وأهل الفنون الماهرين، وكانت مصر في ذلك العهد فقيرة في المال والرجال، فسلك ابن الهيثم مسلك الرجل الحكيم وامتنع عن العمل في أوله، وهذا أفضل مما لو أنه شرع فيه ثم توقف في وسطه، فكان يجلب على البلاد غرما وهي تنتظر منه غنما.
فلما عاد وتولى الديوان المصري تحقق له الغلط في تلك الولاية؛ لأن الحاكم كان كثير الاستحالة مريقا للدماء بغير سبب أو بأضعف سبب من خيال يتخيله، فأجال ابن الهثيم فكره في أمر يتخلص به، فلم يجد طريقا إلى ذلك إلا الذي لجأ إليه وهو في البصرة عندما أراد النزوح إلى مصر، فتظاهر بالجنون وشاع خبره فعين له الحاكم قيما وحجز على أمواله لمصلحته، وجعل برسمه من يخدمه وقيدوه وتركوه في موضع من منزله.
وما زال ابن الهيثم على ذلك إلى أن تحقق وفاة الحاكم، فأظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه وخرج من داره واستوطن قبة على باب الأزهر، وأعيد إليه ماله واشتغل بالتأليف والنسخ. وكان يبيع في كل سنة ثلاثة كتب من نسخه وهي «إقليدس» و«المتوسطات» و«المجسطي» بمائة وخمسين دينارا مصريا. وكان ثمن تلك الكتب محددا لا يقبل فيه مواكسة ولا معاودة قول، فيجعلها مئونة حياته طول سنته.
وكان ابن الهيثم من أرباب المذكرات الشخصية يدون فيها أخباره بقلمه سنة فسنة وشهرا فشهرا، قال في مذكراته المدونة في آخر سنة 417ه وهو في الثالثة والستين من عمره:
إنني لم أزل منذ عهد الصبى مرويا في اعتقادات هذه الناس المختلفة، وتمسك كل فرقة منهم بما تعتقده من الرأي، فكنت متشككا في جميعه موقنا بأن الحق واحد، وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه، فلما كملت لإدراك الأمور العقلية انقطعت إلى طلب معدن الحق ووجهت رغبتي وحرصي إلى إدراك ما به تنكشف تمويهات الظنون وتنقشع غيابات المتشكك المفتون، وبعثت عزيمتي إلى تحصيل الرأي المقرب إلى الله جل ثناؤه المؤدي إلى رضاه الهادي لطاعته وتقواه، فكنت كما قال «جالينوس» في السابعة من كتابه «في حيلة البرء» يخاطب تلميذه: «لست أعلم كيف تهيأ لي منذ صباي إن شئت قلت باتفاق عجيب، وإن شئت قلت بإلهام من الله، وإن شئت قلت من جنون أو كيف شئت أن تنسب ذلك، إني ازدريت العوام واستخففت بهم ولم ألتفت إليهم، واشتهيت إيثار الحق وطلب العلم، واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا شيئا أجود ولا أشد قربة إلى الله من هذين الأمرين.» ا.ه. كلام جالينوس.
قال ابن الهيثم: «فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع علوم الديانات فلم أحظ من شيء منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجا ولا إلى الرأي اليقيني مسلكا جددا، فرأيت إنني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية، فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطاطاليس من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات التي هي ذات الفلسفة وطبيعتها حين بدأ بتقرير الأمور الكلية والجزئية والعامية والخاصية، ثم تلاه بتقرير الألفاظ المنطقية وتقسيمها إلى أجناسها الأوائل، ثم أتبعه بذكر المعاني التي تتركب مع الألفاظ فيكون منها الكلام المفهوم المعلوم. «ثم أفرد من ذلك الأخبار التي هي عنصر القياس ومادته، فقسمها إلى أقسامها وذكر فصولها وخواصها التي تميزها بعضها من بعض، ويلزم منه صدقها وكذبها ويعرض معه اتفاقها واختلافها وتضادها وتناقضها، ثم ذكر بعد ذلك القياس ومقدماته وأشكاله وأنواعه، ثم ذكر النتائج التي هي الواجب والممكن والممتنع، ثم ذكر طبيعة البرهان والصناعات الأربع الجدلية والمرانية والخطابية والشعرية، ثم أخذ بعد ذلك في شرح الأمور الطبيعية في كتابه «السماع الطبيعي»، ثم كتاب «الكون والفساد»، ثم كتاب «الآثار العلوية»، ثم كتاب «النبات والحيوان»، ثم كتاب «السماء والعالم»، ثم كتاب «النفس». «فلما تبينت ذلك أفرغت وسعى في طلب علوم الفلسفة وهي ثلاثة علوم: رياضية، وطبيعية، وإلهية. فتعلقت من هذه الأمور الثلاثة بالأصول والمبادئ التي ملكت بها فروعها، ثم إني لما رأيت طبيعة الإنسان قابلة للفساد، متهيئة إلى الفناء والنفاد، فشرحت ولخصت واختصرت من هذه الأصول الثلاثة ما أحاط فكري بتصوره ووقف تمييزي على تدبره، وصنفت من فروعها ما جرى مجرى الإيضاح والإفصاح عن غوامض هذه الأمور الثلاثة إلى وقت قولي هذا وهو ذو الحجة سنة 417ه.» (1) بيان مؤلفات ابن الهيثم (1)
شرح أصول إقليدس. (2)
الأصول الهندسية والعددية. (3)
شرح المجسطي وتلخيصه. (4)
الكتاب الجامع في أصول الحساب. (5)
علم المناظر. (6)
تحليل المسائل الهندسية. (7)
تحليل المسائل العددية بجهة الجبر والمقابلة مبرهنا. (8)
تحليل المسائل الهندسية والعددية. (9)
كتاب في المساحة. (10)
حساب المعاملات. (11)
إجارات الحفور والأبنية بجميع الأشكال الهندسية. (12)
قطوع المخروطات. (13)
الحساب الهندي. (14)
استخراج سمت القبلة في جميع المسكونة، بجداول. (15)
مقدمة الأمور الهندسية. (16)
كتاب في آلة الظل. (17)
رسالة في برهان الشكل الذي قدمه «أرخميدس» في قسمة الزاوية ثلاثة أقسام ولم يبرهن عليه. (18)
تلخيص مقدمة «فورفوريوس» وكتب أرسطوطاليس الأربعة المنطقية. (19)
مختصر للكتاب السابق. (20)
رسالة في صناعة الشعر ممتزجة من اليوناني والعربي. (21)
تلخيص كتاب النفس لأرسطوطاليس. (22)
مقالة في مشاكلة العالم الجزئي وهو الإنسان بالعالم الكلي. (راجع ما كتبناه في هذا الموضوع عن إخوان الصفاء). (23)
مقالة في العالم من جهة مبدئه وطبيعته وكماله. (24)
كتاب في الرد علي يحيى النحوي ما نقضه على أرسطوطاليس وغيره من أقوالهم في السماء والعالم. (25)
رسالة في بطلان ما يراه المتكلمون من أن الله لم يزل غير فاعل ثم فعل. (26)
مقالة في طبيعتي الألم واللذة (فلسفة أبيقور). (27)
رسالة في طبيعة العقل. (28)
مقالة في أن فاعل هذا العالم إنما يعلم ذاته من جهة فعله.
وهذا آخر ما وجد مكتوبا بخط هذا الفيلسوف:
ليس خطابي في هذا الكتاب لجميع الناس، بل خطابي لرجل منهم يوازي ألوف رجال، عشرات ألوف رجال، إذ كان الحق ليس هو بأن يدركه الكثير من الناس، لكن هو بأن يدركه الفهم الفاضل منهم ليعرفوا رتبتي في هذه العلوم ويتحققوا منزلتي من إيثار الحق، ويعلموا تحققي بفعل ما فرضته هذه العلوم علي من ملابسة الأمور الدنياوية وكلية الخير ومجانبة الشر فيها، فإن ثمرة هذه العلوم هو علم الحق والعمل بالعدل في جميع الأمور الدنياوية، والعدل هو محض الخير الذي يفعله يفوز.
وكان آخر ما كتبه ابن الهيثم سنة 429ه؛ أي قبل وفاته بعام واحد. (2) إيضاح عن ابن الهيثم
يعتبر مؤرخو الفلسفة من الإفرنج ابن الهيثم الذي عاش في أوائل القرن الحادي عشر للمسيح من أعظم علماء الرياضيات والطبيعيات في القرون الوسطى، ويذكرون أن آثار مباحثه ودرسه ظاهرة وباقية في النظريات الرياضية وفي تطبيقها العملي.
ولم يشتغل ابن الهيثم بالفلسفة، كما ورد في اعترافه البليغ الذي نقلناه، إلا للبحث عن الحقيقة التي كان ينشدها منذ نعومة أظفاره؛ لأنه اقتنع بأن الفلسفة أساس العلوم، وأن مؤلفات أرسطو هي خير مرشد في تلك السبيل، ويحاول محمد بن الحسن أن يقنعنا أنه لم يسلك تلك الطريق «إلا لخدمة الإنسانية وتنزيها لنفسه عن التشبه بالعوام الأغبياء». (ص97 ج2 عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة). وهو في وقف حياته على المباحث الفلسفية لخير الإنسانية يشبه اثنين من أمجاد أسلافه: ابن رشد في الأندلس، وأوجست كومت في فرنسا الحديثة. (راجع كتاب بوير في تاريخ الفلسفة العربية).
ومما يؤسف له أنه لم يبق لنا شيء من كتبه ورسائله التي أحصينا بعضها، ولكنه فاق يبحثه في علم المرئيات، الرياضي الأوروبي فيتلو الذي عاش في القرن الثالث عشر؛ أي بعد ابن الهيثم بقرنين، وقد كانت طريقة تفكير ابن الهيثم رياضية مثل ديكارت وسبينوزا.
ومما ظهر فيه نبوغه نظرياته في علم النفس وفي إدراك الحس عامة، والإبصار خاصة، وتبحر في درس الإحساس والمقابلة بين الإحساسات المختلفة وطرق التعرف على الإحساس وتمييز بعضه عن بعض، على أن ابن الهيثم الذي قضى حياته أشبه شيء بدرويش متصوف يطرق باب الحكمة وينتظر أن يؤذن له فيدخل حظيرتها ويتعرف حقيقتها، لم يكن من شأنه أن ينجح في حياته المادية ولم يوفق للوصول إلى غايته في وطنه (البصرة)، بعد أن أوجد ببحثه ودرسه مدرسة ذات مبادئ خاصة في الرياضة والفلك.
على أن فلسفته الأرسطوطاليسية لم تلق ما كان خليقا بها من النجاح، ولا يحفظ التاريخ لنا سوى اسم تلميذ واحد لابن الهيثم هو الأمير أبو الوفا مباشر فاتك القائد المصري، فقد ألف في أواسط القرن الحادي عشر كتابا في الحكمة والتاريخ الفلسفي والأدب، وكله مجموع من آثار غيره وليس فيه أثر للابتكار.
وقد وجد ابن الهيثم من قال بكفره بعد موته، فأحرقوا بعض كتبه في بغداد في أوائل القرن الثالث عشر.
الفصل الحادي عشر
محيي الدين ابن العربي
(1) كلمة عامة في التصوف
نشأ علم التصوف ونضج في العصر العباسي الثالث، وهو من العلوم الشرعية الحادثة، وأصله العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيها من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة.
واختلف علماء الإسلام في أصل كلمة التصوف أو الصوفية فقال جماعة باشتقاقها من الصفاء أو الصفة، وقال آخرون غير ذلك، ويرى ابن خلدون أن اشتقاقها من الصوف أقرب إلى الصواب؛ لاختصاص أصحابه بلبس الصوف، ونحن نخطئه في هذا التعليل ونعتقد أنها مشتقة من كلمة ثيوصوفيا اليونانية، ومعناها الحكمة الإلهية. والصوفي هو الحكيم الذي يطلب الحكمة الإلهية ويسعى لها، والوصول إلى الحقيقة الإلهية هو غاية الصوفي أو المتصوف.
وذلك لأن الصوفية كانوا يبحثون فيما يقولونه أو يكتبونه بحثا فلسفيا في سبيل الحقيقة العليا، ومما يؤيد هذا الرأي أن الصوفية لم يظهروا بعلمهم هذا ولا عرفوا بهذه الصفة إلا بعد ترجمة كتب اليونان إلى العربية ودخول لفظ الفلسفة فيها. (2) الطريقة الصوفية ومراتبها ودرجاتها
ومدار الطريقة الصوفية أو خطتهم العملية في السعي وراء الحقيقة للوصول إليها محاسبة النفس على الأفعال والتروك وآداب خاصة بهم، واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم يدلون بها على ما يريدونه من أساليب المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم.
وللمتصوفين اصطلاحات خاصة بمراتبهم، بعضها معلوم وذائع على الألسنة وفي مجالسهم، وبعضها يعد من الأسرار المكتومة، وقد أفاض كثيرون من المؤلفين في ذكر تلك المراتب، بحيث يحسب القارئ أن للقوم نظاما باطنيا خفيا في الظاهر، قوي الأثر في الحقيقة فمنهم الأوتاد، والأبدال، والأقطاب، وأعظمهم القطب الغوث، وهذه المراتب يتولاها البعض طول حياته والبعض مددا محدودة، وقد يترك صاحب إحدى تلك المراتب ميراثه لواحد أو أكثر من مريديه أو غيرهم، ولذلك أخبار مشهورة عند القوم.
وفي كل زمان ينفرد القطب الغوث بهذا المنصب، ولذا يسمى أيضا صاحب الوقت، ومن هؤلاء الأقطاب الغوثية كثيرون من الأولياء ذوي المقامات والأضرحة المشهورة، ويقال في أعمال هؤلاء الصالحين إنهم أرباب وظائف أهمها الإشراف على النظم الكونية، والاشتراك في تدبير الأمور العامة والخاصة بطرق معلومة للقوم ولا يعرفها إلا ذووها.
وقد صرح كثيرون من المؤلفين بهذه الأمور، وأشار البعض إليها تلميحا، فتكلم السهروردي في أنواع الصوفية وفي ذكر (الملامتي) وشرح حاله، وهو الذي يكون في ظاهر حياته ما يدعو إلى الملامة، وتكلم في رتبة المشيخة وأنها أعلا الرتب في طريق الصوفية، بل هي نيابة النبوة في الدعاء إلى الله، والسر في وصول السالك إلى رتبة المشيخة أنه مأمور بسياسة النفس كما يشاء الشيخ، وهذا السر هو في الآية الشريفة:
لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم .
ويكون في الشيخ حينئذ معنى التخلق بأخلاق الله تعالى، ويصير المريد جزءا من الشيخ، كما أن الولد جزء من الوالد، بولادة معنوية. وإلى هذا المعني الدقيق العجيب أشار سيدنا يسوع المسيح بقوله «لا يدخل ملكوت السماء من لم يولد مرتين.» ولهذا يقولون كان الشيخ محيي الدين ابن العربي على قدم السيد المسيح، كما كان غيره على قدم سيدنا موسى
صلى الله عليه وسلم
وبمثل هذه الولادة يستحق السالك ميراث الأنبياء، وهذا تفسير قوله: «إن العلماء ورثة الأنبياء.»
أما السالكون فينقسمون إلى أربعة أقسام وهم: (1)
السالك المجرد. (2)
المجذوب المجرد. (3)
السالك المتدارك بالجذبة. (4)
المجذوب المتدارك بالسلوك.
أما الأول فلا يؤهل للمشيخة ولا يبلغها، والثاني لا يؤهل للمشيخة، وأما الثالث فيؤهل للمشيخة، ويكون له أتباع تنتقل منه إليهم علوم، والرابع هو صاحب المقام الأكمل في المشيخة. (3) تعريف الصوفية وأصل تسميتها
التصوف اسم لثلاث معان: (1)
الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه. (2)
ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب أو السنة. (3)
ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله.
قال الجنيد: «ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات.» ويقصد بذلك المجاهدة والمكافحة اللتين يعقبهما الوصول إلى الذوق.
قلنا إن العلماء اختلفوا في أصل التصوف ومعناه، وذكر الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد عبد الله السهروردي في كتاب «عوارف المعارف» في نسخة كانت ملكا للمرحوم الشيخ محمد محمود الشنقيطي بن التلاميد التركزي، وهي مما وقفه سنة 1294ه وقفا مؤبدا على عصبه بعده بخطه، ووصلت إلينا استعارة، في ذكر منشأ علوم الصوفية:
إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قوما فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فأنطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق.»
ويريد هؤلاء العلماء من هذه الفرقة أن الذين أطاعوا الرسول
صلى الله عليه وسلم
صفت قلوبهم فصاروا «صوفية» (من الصفاء)، وأنهم بالتقوى زكت نفوسهم، وبالزهد صفت قلوبهم.
ويقول الإمام السهروردي أن الصوفي هو المقرب، وإن لم يرد في القرآن، وإن هذا الاسم يطلق على أهل القرب الذين يتزيون بزي الصوفية، ومشايخ الصوفية كلهم كانوا في طريق المقربين، وعلومهم علوم أحوال المقربين، ومن تطلع إلى مقام المقربين من جملة الأبرار فهو متصوف ما لم يتحقق بحالهم، فإذا تحقق بحالهم صار صوفيا، ومن عداهما (المتصوف والصوفي) ممن تميز بزي ونسب إليهم، فهو متشبه بهم.
أما الشيخ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، وهو من أئمة هذه الطائفة ومن خير من كتبوا في علومها وآدابها، فقد قال في باب التصوف في صفحة 164 من كتابه الشهير باسم «الرسالة القشيرية»: «فقد رد منشأ الصوفية إلى حديث عن أبي حجيفة أنه قال خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
متغير اللون فقال: «ذهب صفو الدنيا وبقي الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم».» ويقول الأستاذ القشيري هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة، وليس يشهد لهذا الاسم قياس ولا اشتقاق.
ونفى نسبة هذا الاسم إلى لبس الصوف، لأن القوم لم يختصوا بلبسه، ونفى نسبتهم إلى صفة مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالمدينة، ونفى نسبتهم أيضا إلى الصفاء لأن اشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد، وكذلك نفى نسبتهم إلى الصف الأول، ولم يهتد الشيخ القشيري إلى صحة النسبة، وعندنا ولو كره المكابرون، أنها من كلمة «ثيوصوفيا» اليونانية كما تقدم، ومعناها الحكمة الربانية، فالصوفي هو الحكيم في سبيل الله.
أما تعريف التصوف ومعناه، فقد عبر كل منهم بما وقع له في أثناء سلوكه، وقال رويم بن أحمد البغدادي إن التصوف مبني على ثلاث خصال: (1)
التمسك بالفقر والافتقار. (2)
التحقق بالبذل والإيثار. (3)
ترك التعرض والاختيار.
وقد أجمع العلماء الصوفية في تعريف الصوفي على «أنه رجل أحب الله فآثره وكره الدنيا فزهد فيها». (4) بعض اصطلاحات الصوفية المتفق عليها
إن للصوفية ألفاظا يستعملونها، انفردوا بها عمن سواهم، وتواطؤا عليها لأغراض لهم، وهذا من قبيل اللغات الرمزية الشائعة بين الطوائف في الشرق والغرب، وألف فيها علماء أوروبا كتبا ومعاجم باسم روح «الأرجو» أو الملاحن، وأهمها كتاب العالم الإيطالي (نيتشوفورو) ومن هذه الألفاظ:
الوقت:
ومعناه وقتك الذي أنت فيه كوقت الدنيا، ووقت السرور، ومن أقوالهم «الاشتغال بفوات وقت ماض تضييع وقت ثان.» وقولهم أيضا «صاحب الوقت» يقصدون «القطب الغوث» ومن ذلك:
المقام:
وهو موضع الإقامة بضرب تطلب، ومقاساة تكلف.
الحال:
معنى يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب.
القبض والبسط:
وهما حالتان بعد ترقي العبد عن حالتي الخوف والرجاء.
الهيبة والأنس:
وهما فوق القبض والبسط، كما أن القبض والبسط فوق الخوف والرجاء.
التواجد والوجد والوجود:
ومعناها في حكاية معروفة بين أبي محمد الجريري والجنيد .
الجمع والفرق:
قال فيهما أبو علي الدقاق: «الفرق ما نسب إليك والجمع ما سلب عنك.»
جمع الجمع:
هو الاستهلاك بالكلية وفناء الإحساس وفوقها درجة:
الفرق الثاني:
وهو أن يرد صاحب هذه المرتبة إلى الصحو عند أوقات أداء الفرائض.
الفناء والبقاء:
أولهما سقوط الأوصاف المذمومة، وثانيهما قيام الأوصاف المحمودة، ولهما معان أخرى ليس هذا مقام شرحها.
الغيبة والحضور:
تكون الغيبة للقلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه، والحضور معناه أن يكون السالك حاضرا بالحق؛ لأنه إذا غاب عن الخلق حضر بالحق.
الصحو والسكر:
الصحو رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة، والسكر غيبة بوارد قوي.
الذوق والشرب:
وهو ما يجد المتصوف من ثمرات التجلي ونتائج الكشوفات وبواده الواردات، وأعلى منهما درجة:
الري:
فيقولون صاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الري صاح، ومن قوي حبه تسرمد شربه.
المحق والإثبات:
المحق رفع أوصاف العادة، والإثبات إقامة أحكام العبادة.
الستر والتجلي:
ويقصد بهما أن العوام في غطاء الستر، والخواص في دوام التجلي.
المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة:
وهي ثلاث درجات:
اللوائح والطوالع واللوامع:
وهي من صفات أصحاب البدايات الصاعدين في الترقي بالقلب، أضعفها الأولى وأقواها الأخيرة.
البواده والهجوم:
البواده ما يفجأ قلب السالك من الغيب على سبيل الوهلة، والهجوم ما يرد على القلب بقوة (الوقت) من غير تصنع .
القرب والبعد:
أول رتبة في القرب الاتصاف بالعبادة، والبعد التدنس بالمخالفة والتجافي عن الطاعة.
الشريعة والحقيقة:
الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، وكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبولة، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصولة.
النفس:
صاحب الأنفاس أرقى وأصفى من صاحب الأحوال.
فيقال عند القوم، صاحب (الوقت) مبتدي، وصاحب (الأحوال) في وسط (الطريق) وصاحب (الأنفاس) منته.
الخواطر:
خطاب يرد على الضمائر وقد يكون من الملك فهو إلهام، وقد يكون من النفس فهو هاجس، ويكون من الشيطان فهو وسواس، ويكون من الله سبحانه وتعالى فيكون خاطر حق.
وهذا ما أردنا إيراده من تلك المصطلحات بإيجاز ليلم بها القارئ ويقف منها على تلك المعاني.
ولهم بعد ذلك آداب، وطرق في الحياة هي أشبه الأشياء بدستور التصوف، استنبطه العلماء من أخلاق المشايخ والواصلين وآدابهم الكاملة.
ومن تلك الآداب والقواعد، التوبة والمجاهدة والخلوة والتقوى والورع والصمت، والخوف والرجاء، والحزن والجوع وترك الشهوة والخشوع والتواضع، وترك الحسد والغيبة، والقناعة والتحلي بالقناعة والشكر، والصبر والرضا، والاستقامة والعبودية، والصدق والحياء، والبقاء بباب المراقبة، والاستسلام للإرادة.
ولهم آداب في العشرة، وأحكام في السفر والصحبة. (5) ذكر أشهر مشايخ الطريقة الصوفية الأقدمين (1)
أبو إسحق إبراهيم بن أدهم بن المنصور:
من كورة بلخ، تعلم اسم الله الأعظم من رجل بالبادية ودخل مكة، وكان يعيش من عمل يده بعد أن كان أميرا من أبناء الملوك وتوفي في عام 161ه. (2)
ثوبان بن إبراهيم أبو الفيض ذو النون المصري:
توفي سنة 245ه، وهو مولد كان أبوه نوبيا، وسبب توبته أنه رأى تيسير الرزق لقنبرة عمياء في الصحراء فتاب ولزم الباب. (3)
أبو علي الفضيل بن عياض:
من ناحية مرو بخراسان توفي سنة 187ه، وكان أصله من قطاع الطريق وأحب جارية، فارتقى الجدران إليها فسمع تاليا يتلو
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله
فتاب عن جرائمه وتعلق بعشق أعظم من عشق الجارية. (4)
أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي:
توفي سنة 200ه، ولد على غير دين الإسلام ثم أسلم، وكان مبدؤه العمل، وهو في عرفه طاعة الله وخدمة المسلمين والنصيحة لهم. (5)
أبو الحسن سري بن المفلس السقطي:
كان تلميذ الكرخي وخال الجنيد وأستاذه توفي سنة 253ه، وكان يقول بنظرية أستاذه في «الطمأنينة». (6)
أبو نصر بشر بن الحرث الحافي:
أصله من مرو توفي سنة 227ه، قيل إنه بلغ منازل الأبرار باتباعه السنة وخدمة الصالحين ونصيحته لإخوانه ومحبته لأصحابه وأهل بيته. (7)
أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي:
توفي سنة 261ه وكان جده مجوسيا، وهو من أئمة الصوفية وأعلامهم وله مؤلفات جليلة وأتباع كثيرون. (8)
أبو القاسم الجنيد:
سيد هذه الطائفة وإمامهم، أصله من نهاوند ومنشؤه ومولده بالعراق، قال: «إن علمنا هذا (التصوف) مقيد بالكتاب والسنة.» وله كلام صريح بأنه تلقى علمه من الله مباشرة ، فقد قيل له من أين استفدته فقال: «من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة.» وأومأ إلى درجة في داره. (9)
أبو عثمان الحيري:
توفي سنة 298ه كان من الري وأقام بنيسابور. (10)
أبو عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء:
وهبه أبواه لله عز وجل، وكان من أكابر المشايخ، وعاقبه الله بنسيان القرآن لأنه رأى إنسانا جميلا فسأل أستاذه إن كان الله يعذبه فقال له أستاذه: أونظرت؟ سترى غبه! أي نتيجة النظرة والاعتراض، فكان ما كان. (11)
أبو سعيد حسن ابن أبي حسن يسار الميساني البصري:
يرجحون مولده بالمدينة عام 21ه. وكان أبوه معتوق زيد بن ثابت وأمه خيرة خادمة أم سلامة. نشأ بالبصرة وعاش بالمدينة وجاهد وعلم وتولى القضاء بالبصرة، وتوفي سنة 110ه في التسعين من عمره. (12)
أبو عبد الله الحسين بن منصور الحلاج المكنى بأبي المغيث:
ولد بالطور بالبيضاء سنة 244ه، ونشأ وتربى بواسط ورحل إلى مكة والهند وتركستان، وحوكم مرتين وحكم عليه بالسجن ثم بالصلب، فاستشهد في ذي القعدة سنة 309ه. (6) بعض فطاحل المتصوفين الذين ألفوا كتبا (1)
تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري الشاذلي:
توفي سنة 709ه وقبره بالقاهرة بسفح جبل المقطم.
مؤلفاته: (أ)
الحكم العطائية، طبع بمصر مع شروح سنة 1284 وسنة 1306ه. (ب)
تاج العروس وقمع النفوس في الوصايا، طبع مرارا. (ج)
لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه أبي الحسن الشاذلي، في 608 صفحات مطبوع في مصر. (2)
جمال الدين عبد الرزاق الكاشائي:
توفي سنة 730ه.
مؤلفاته: (أ)
اصطلاحات الصوفية طبع كلكتا سنة 1845م. (ب)
رسالة في القضاء والقدر طبع سنة 1875م.
وقد ترجمت اصطلاحاته إلى اللغات الأوروبية وطبعت بها، وله بالقاهرة ضريح مشهور بشارع «تحت الربع». (3)
عفيف الدين عبد الله بن أسعد:
اليافعي توفي سنة 768ه.
مؤلفاته: (أ)
روض الرياحين، طبع في مصر سنة 1301ه. (ب)
أسنى المفاخر في مناقب الشيخ عبد القادر، (خطية في برلين). (ج)
مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقلب أحوال الإنسان، (خطي في مكاتب أوروبا). (4)
قطب الدين عبد الكريم بن إبراهيم ابن سبط عبد القادر الجيلي:
توفي سنة 826ه.
مؤلفاته: (أ )
الناموس الأعظم والناموس الأقدم، في أربعين مجلدا (خطي في أوروبا ومصر). (ب)
الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر، (طبع مصر). (5)
عبد الرحمن البسطامي الحنفي الحروفي:
توفي سنة 858ه في (بروسه).
مؤلفاته: (أ)
الفوائح المسكية في الفواتح المكية. (ب)
الدرر في الحوادث والسير. (ج)
تراجم العلماء. (د)
مناهج التوسل في مباهج الترسل. (6)
ابن أبي بكر الجزولي السملالي:
توفي في أواخر القرن التاسع.
مؤلفاته: (أ)
دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على المختار، وهو كتاب مشهور يستعمله كثيرون من المسلمين للتعبد بالصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم
ويستظهره بعضهم. (7)
محمد بن سليمان الكفهجي:
توفي سنة 879ه، وولد ببلاد الروم، وتعلم في تبريز والقاهرة.
مؤلفاته: (أ)
التيسير في علم التفسير. (ب)
تفسير آيات متشابهات. (8)
أبو عبد الله محمد بن يوسف الحسني السنوسي الصوفي:
توفي سنة 892ه.
مؤلفاته: (أ)
كتاب عقيدة أهل التوحيد، المخرجة من ظلمات الجهل، وربقة التقليد. (ب)
عقيدة أهل التوحيد الصغرى وتسمى «أم البراهين»، وقد ترجمت إلى الألمانية والفرنسية، وطبعت في (ليبزج) سنة 1848م وفي الجزائر سنة 1896م. (9)
شهاب الدين أحمد بن زروق البرنوسي البرلسي الفاسي:
توفي سنة 898ه.
له كتب عديدة في التصوف. (7) منشأ التصوف وتطوره
أما منشأ التصوف الإسلامي ففي قراءة القرآن واستمرار تلاوته بصفة عامة، في مجالس معينة غير مجالس «الذكر برفع الصوت»، وقد تحولت مجالس الذكر إلى «السماع» وذكر أوائل المتصوفين أمثال ذي النون المصري والجنيد والحلاج، إن «السماع» يحدث «الوجد».
ولكن فرقة «الملامتية»، وهم من الصوفية الذين لهم حال خاصة بها، أفاض في وصفها السهروردي في الجزء الثاني من كتاب «عوارف المعارف»، انتقدوا «السماع» وعدوه من الشهوات الروحانية، وانتقده الحلاج، وشبه الذكر بجوهرة ثمينة تحجب المعبود عن العابد، ورد أصحاب «السماع» من صوفية بغداد على منتقديهم من «الملامتية» وغيرهم بأن السماع لا يقصد لذاته، إنما يقصد لإحداث «الوجد» و«فقد الإحساس»، وقد كانت هذه هي الحالة في القرن الرابع الهجري.
وفي القرن السابع الهجري نزل بالعراق والشرق العربي متصوفون من الهنود أقرب إلى المشعوذين من الحكماء الإلهيين، فإنهم أدخلوا على حلقات الصوفية صنوفا من المخدرات الصناعية، نضرب عن ذكرها صفحا، وأطلقوا عليها اسم «بنج أسرار».
ثم دخلت على الذكر طرائق غريبة عنه مثل الرقص، الذي علله منتحلوه وبرروه بتمثيل دورة الأفلاك، وهو لا يزال شائعا إلى يومنا هذا في تكايا الدراويش «المولوية».
ثم أدخلوا عادة «التمزيق» والمقصود بها تمزيق الثياب أثناء الذكر، وهذه العادة أقرب إلى تقليد الأمراء الذين كانوا يسمعون الغناء من القيان فيطربون فيمزقون ملابسهم، ثم انحدر الذكر إلى أعمال تقرب من الشعوذة مثلما يحدث من بعض الفرق من الطرق الصوفية، كالرفاعية بالبصرة، والبيومية بالقاهرة، والعيسوية بمكناس بالمغرب الأقصى، ومن ذلك أكل الحيات والأفاعي وشظايا الزجاج واللهب، ووخز البدن بإبر من الحديد المحمي.
وقد استنبط الصوفيون من القرآن جميع الرموز والإشارات التي استعملوها في طرقهم، كالضوء والنور والنار والشجرة والشراب والكأس والسلام ودخول المقربين والهلال والطريق في جبل غربيب والسفر والإسراء وحديث الغبطة ويوم المزيد، الذي وصفه بالإسهاب الشيخ المحاسبي في كتاب «التوهم» والدير والشراب من يد الساقي في ضوء الشمع وتتلوه عبادة الشماس.
ثم إن المسائل التي في الشرع الظاهر هي عين مسائل الصوفية، كالعدل والرضا والتوكل والتفويض والتفعيل وقدم المحدثات وتقدم الشواهد والتخلق بأخلاق الله عز وجل والانتقال من التجريد إلى التوحيد.
ثم انتبه أهل السنة إلى بعض ما ينتقد من أحوال الصوفية، كقولهم: «إن الخلة تمنع الرخص والإباحة بعد موت الشهوات، وتفضيل الغنى على الفقر، ثم الملامسة فالحلول.» فلما ظهر ذو النون المصري وابن أبي الحواري بمبادئهما مثل «المتعة» و«تقديس عين الجمع» و«سبحاني ...» لم يتردد أهل السنة في اضطهاد المتصوفين، فحكم على البسطامي والخراز والتستري بالنفي، أما الحلاج وابن عطاء فقد صلبا ومثل بهما.
وفيما يتعلق بالإمام الحلاج فنحيل القارئ المحب للاستيفاء إلى الكتاب العجيب الممتع الذي ألفه باللغة الفرنسية العلامة «لويز ماسنيون» في جزأين كبيرين باسم «تعذيب الحسين بن منصور الحلاج الشهيد الصوفي في الإسلام الذي نفذ فيه القصاص في بغداد في 26 مارس 922م» طبع باريس سنة 1922م؛ أي بعد استشهاد ذلك الإمام بألف سنة.
فلما حصل التنبيه الأول بتوقيع العقوبات من أهل السنة على بعض أهل التصوف، جاء السراج في كتاب «اللمع» ونبه المريد والسالك إلى ما لا يجوز أن يصرح به، كالفناء عن العبودية والبشرية والحلول بالأنوار والشواهد والمستحسنات، وأيده السلمي في كتاب «الغلطات» والغزالي في «الإحياء».
ولا شك في أن أهل السنة ذعروا من انتحال الصوفية بعض الأقوال التي يشكل فهمها على غير خواص القوم، كقول ابن طاهر المقدسي بأن الخدمة أفضل من العبادة، فإن هذا كله أدى إلى نظرية (الشاذ)، وفيها كلام يقوله الصوفيون ويكاد يكون غير مفهوم لسواهم، مثل أقوال الشبلي والحلاج، أما شاذيات الكيلاني والرفاعي وابن العربي فلا يدرك القارئ من معناها شيئا ما لم يكن أحد رجلين: الأول المفتوح عليه من الله، والثاني المتغلغل في أسرار القوم، وقد وصف بعضها العلامة محمد بن شاكر بن أحمد الكتبي بقوله: «الذي نفهمه من كلامه (يعني كلام الشيخ محيي الدين ابن العربي) حسن، والمشكل علينا نكل أمره إلى الله تعالى، وما كلفنا اتباعه ولا العمل بما قاله.»
ونحن نقسم المبهم من كلامهم إلى قسمين:
القسم الأول:
عبارة عما أطلقوه من الأسماء للأحوال والمقامات، واستعملوا للدلالة عليه ألفاظا لها عند غيرهم معان عادية، مثل «الفقه» و«النية» و«النفاق» و«الرضا» و«الفتوة»، واتخذوها للدلالة على درجات في طريق الوصول، وشرحها الهراوي بما فيه الكفاية في كتابه «منازل السائرين».
القسم الثاني:
ويدخل فيه نظرية «الشاذ» المذكورة آنفا، وهي ظاهرة نفسانية تجلت بكلام مبهم ينتقده أهل السنة وغير الراسخين، كقول بعضهم: «قدمي على رقاب الأولياء.»
الأحاديث القدسية
ولما كان المتصوفون يذكرون أقوالا شتى ذات معان مختلفة يطلعون عليها في حالاتهم بالإلهام أو الوحي أو التجلي أو الفتوح الرباني، فقد ظهرت نظرية «الأحاديث المرسلة» و«الأحاديث القدسية»، وضرب الصوفيون صفحا عن الاصطلاحات المعتبرة والمتفق عليها في علوم رواية الحديث وإسناده.
وممن اشتهروا براوية بعض الأحاديث القدسية السادة:
أبو ذر الغفاري، وله حديث «من تقرب إلي شبرا ...»
وكعب، وله حديث «يد الله مع الجماعة ».
ابن مسعود، وله حديث «طوبى لمن لم يشغل قلبه بما ترى عيناه».
وحسن البصري، وله حديث «من عشقني عشقته».
ويزيد الرقاشي، وله حديث «غبطة المتحابين».
وابن أدهم، وله حديث «كنت سمعه وبصره ... الخ».
ويحيى بن معاذ الرازي، وله حديث «من عرف نفسه فقد عرف ربه».
وقد اختلف هؤلاء المشايخ إقداما وترددا في نسبة هذه الأحاديث إلى مصدرها الأصلي، فنسبها بعضهم إلى أنبياء سابقين، كما فعل ابن أدهم بنسبته الحديث إلى سيدنا يحيى بن زكريا، وبعضهم مثل الحلاج قال إنها ثمرة الفكر والإلهام ولم يخف من أمرها شيئا.
وفي كتاب الإحياء أحاديث كثيرة بغير إسناد، ولا اعتراض لنا على الغزالي في ذلك؛ لأن كتابه كتاب أخلاق وآداب دينية، وليس متنا من متون الحديث.
سلسلة الطريق
منذ القرن الخامس الهجري بدأ أرباب الطرق الصوفية يبحثون عن أسانيد سلسلتهم في أخذ الطريق، فردهم العلماء إلى التابعين فالصحابة فالرسول
صلى الله عليه وسلم ، وكانوا قبل ذلك بمائتي عام يكتفون بالخرقة أو «بالشهرة بلباس».
وفي القرن الرابع روى جعفر الخلدي أول إسناد لسلسلة الطريق، فوضعها مبتدئا بأستاذه وشيخه: (6) الجنيد المتوفى عام 298ه أخذ الطريق عن: (5) سري المتوفى عام 253ه، وقد أخذ الطريق عن: (4) معروف المتوفى عام 200ه، وقد أخذ الطريق عن: (3) فرقد سنجي المتوفى عام 131ه، وقد أخذ الطريق عن: (2) حسن البصري المتوفى عام 110ه، وقد أخذ الطريق عن: (1) أنس بن مالك المتوفى عام 91ه.
وقد تعدلت هذه السلسلة ولم تثبت على حال، فأضيف إليها رجال أمثال الإمام علي وداود الطائي وغيرهما.
والعلم الصحيح لا يجعل لهذه السلسلة شأنا عظيما من حيث الشكل؛ لأن الصوفية إنما اضطروا لذكرها اضطرارا مجاراة لعلماء الحديث، أما التلقي فغير مشكوك فيه.
وقد يلجأ الصوفيون في إسناد أخذ الطريق إلى الخضر عليه السلام، الذي هو ولي خالد يجدد شبابه كل عشرين ومائة عام مرة ويجوب أقطار الأرض باستمرار، ويذهب حيث يأمره الله بحسب حاجة خلقه إليه. وذكر السمناني اسمه كاملا وهو أبو العباس بليان بن قليان بن فالج الخضر، ويعتقد الصوفية أن في الأرض أبدالا هم دعائمها الباطنيون أو الروحانيون، ولولاهم لمادت الأرض وخربت، وعددهم أربعون بدلا، ومعهم ثلاثمائة نقيب وسبعون نجيبا وسبعة أمناء، منهم الأبرار والأوتاد والأخيار، وأربعة أعمدة ومنهم الأثافي وفوق الجميع قطب الغوث وعن يمينه وشماله الإمامان.
وروى المغربي أن الرئيس يعرف مرءوسيه والعكس ممنوع.
ومما تجب ملاحظته أن التصوف الإسلامي لم يكن نظاما أجنبيا عن الإسلام ولا دخيلا من النصرانية أو البوذية، وأن أصول التصوف موجودة في القرآن وفي الحديث وفي العقيدة الإسلامية وشعائر الدين نفسه. وهذا لا يمنع من الاعتراف بأن أنظمة كالتصوف أساسها الزهد والتقشف كانت موجودة في الأديان الأخرى، ولكن التصوف الإسلامي كان نظاما إسلاميا محضا كما بينا، وأن حديث «لا رهبانية في الإسلام» ليس حديث صحيحا ولم يجزم أحد من علماء الحديث بصدق إسناده.
كذلك لم تكن حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة قبل المبعث وبعده حياة نعومة ولين وطراوة، بل كانت على العكس من ذلك حياة خشونة وتقشف وتحمل، وهذه هي الحقيقة على الرغم مما جاء في طبقات ابن سعد صاحب الواقدي مما يخالف ذلك، فإن الواقدي وابن سعد وأشباههما من علماء أخريات القرن الثاني للهجرة كانوا يلتمسون في الأحاديث الضعيفة والركيكة ما يبرر حياة الخنوثة والنعومة التي كان يعيشها ملوك ذاك الزمان وأمراؤه.
ولما كان التصوف أساسه الزهد والخشونة، فقد بالغ بعض المتصوفين في ذلك من حيث التعفف عن سائر الشهوات، فلا يبعد والحال هذه أن تكون جذور التصوف في حياة النبي وأصحابه.
ومما تحسن الإشارة إليه أن كلمة الصوفي - نسبة إلى الصوف - وهي النظرية التي قال بها ابن خلدون، كان لها نصيب من الصحة؛ فقد تعود بعض المتصوفين لبس الصوف، وقد جاء حين من الدهر عليهم اتخذوا فيه الصوف علامة مميزة لهم، حتى كان «الثوري» أحد أئمتهم يلبس الصوف فوق الحرير وقد انتقدوا عليه ذلك، وكان الصوف الأبيض هو المقصود ثم عدل الصوفيون عن هذه الثياب خشية القول فيهم بتقليد السيد المسيح أو حوارييه أو رهبان النصارى.
وقد أجمع العلماء على أن أكابر الأولياء من الصوفيين غير من ذكرناهم: مالك بن دينار، البوناني، السختياني، وهيب بن الورد بن أسباط، مسلم الخواص، البسطامي، التستري. (8) ترجمة الحكيم الإلهي محيي الدين ابن العربي
ولد محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الشيخ محيي الدين أبو بكر الطائي الحاتمي الأندلسي المعروف بابن عربي في شهر رمضان سنة ستين وخمسمائة هجريا بمرسية بالأندلس، ولا نعرف عن طفولته شيئا غير أنه لما نما وترعرع طلب العلم في وطنه، فتلقى مبادئه على ابن بشكوال، ثم سافر إلى مصر ودمشق ومكة وبغداد، وأقام في بلاد الروم في طلب العلم والرجال والسياحة.
ولما كان في بلاد الروم سمع حاكمها بصيته فانتقل إليه، فلما وقع بصر الحاكم على محيي الدين قال لمن معه: «هذا رجل تذعر لرؤيته الأسود!»
فسئل محيي الدين في معنى قول الحاكم عنه فقال: «إنه لما كان بمكة خدم شيخا صالحا بإخلاص، فدعا له بقوله «الله يذل لك أعز خلقه.» فكان من آثار هذه الدعوى ما شاهده ملك الروم.»
ولما وقعت محبته في قلب الملك المذكور أمر له بدار تساوي قيمتها مائة ألف درهم، ويروى أن سائلا لقيه يوما فطلب منه إحسانا فقال له محيي الدين: «ما لي غير هذه الدار فخذها لك!» وخرج عنها.
قال ابن مسدي في ترجمته: «إن محيي الدين كان ظاهري المذهب في العبادات، باطني النظر في الاعتقادات، وإنه حج ولم يرجع إلى بلده، وإنه تلقى العلم على ابن بشكوال وعن علماء عديدين في العواصم التي زارها في رحلته، ومن بينهم السلفي الذي أجازه فروى محيي الدين عنه.»
ولا ريب في أنه برع في علم التصوف، والدليل على ذلك شهرته العظيمة في العالم، وكثرة مصنفاته، وكان ينتقل من مكان إلى مكان للقاء علماء الحقيقة والمتعبدين.
روى الشيخ شمس الدين في وصف مؤلفات محي الدين «أنه كان ذا توسيع في الكلام وذكاء وقوة خاطر وحافظة وتدقيق في التصوف وتآليف جمة في العرفان. قال شمس الدين: «ولولا شطحه في الكلام لم يكن به بأس، ولعل ذلك الشطح وقع منه حال سكره وغيبته».»
وقال الشيخ قطب الدين اليونيني في تعقيبه على (المرآة): «وكان محيي الدين يقول أنا أعرف اسم الله الأعظم، وأعرف الكيميا.»
قال العلامة محمد بن شاكر بن أحمد الكتبي عن محيي الدين: «الذي نفهمه من كلامه حسن، والمشكل علينا نكل أمره إلى الله تعالى، وما كلفنا اتباعه ولا العمل بما قاله.»
وتوفي محيي الدين في الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة؛ أي في الثامنة بعد السبعين من عمره.
وكانت وفاته في دار القاضي محيي الدين بن الزكي، وقام بغسله الجمال بن عبد الخالق والقاضي الذي حصلت في بيته الوفاة، وكان عماد الدين بن النحاس يصب عليه الماء، ثم حملوه إلى (قاسيون) حيث دفن بمدفن بني الزكي.
وقبره الآن بالشام بالصالحية في مسجد يعرف باسمه وبجواره قبر الأمير عبد القادر الجزائري.
وقال الشيخ جمال الدين بن الزملكاني: «الشيخ محيي الدين ابن العربي البحر الزاخر في المعارف الإلهية.» ونقل بعض كلامه في فصل عقده في بعض مؤلفاته على فضل مقام الصديقية، وقال: «إنما نقلت كلامه - يعني محيي الدين - وكلام من يجري مجراه من أهل الطريق؛ لأنهم أعرف بحقائق هذه المقامات وأبصر بها لدخولهم فيها وتحققهم بها ذوقا، والمخبر عن الشيء ذوقا مخبر عن اليقين فاسأل به خبيرا.»
ومن شعره الذي يستدل به على أسلوبه في النظم الصوفي قوله:
نفسي الفداء لبيض خرد عرب
لعبن بي عند لثم الركن والحجر
ما أستدل إذا ما تهت خلفهم
إلا بريحهم من طيب الأثر
غازلت من غزلي فيهن واحدة
حسناء ليس لها أخت من البشر
إن أسفرت عن محياها أرتك سنى
مثل الغزالة إشراقا بلا غير
للشمس غرتها، لليل طرتها
شمس وليل معا من أحسن الصور
وفي شهر ربيع الأول سنة 600ه لما كان الإمام أبو عبد الله محمد ابن العربي في تمام الأربعين من عمره يؤدي فريضة الحج، كتب إلى صديقه وأخيه محمد بن عبد العزيز أبي بكر القرشي المهدوي نزيل تونس في تلك السنة رسالة، أرسل فيها إليه تحية رفيقة عبد الله بدر الحبشي الذي كان معه في الحج، كما أرسل سلامه إلى أبي عبد الله ابن المرابط وأبي عتيق والحاج معافى وأبي محمد الحافظ وعبد الجبار وعبد العزيز البابلي وعبد الله القطان، ونعى إليهم محمد التائب الذي توفي بين مكة والمدينة على مرحلة من الأولى بين مرو وعسفان، وقال الشيخ إنه بعد أن كتب تلك الرسالة طاف بها أسبوعا وألمسها الحجر الأسود والملتزم والمستجار، وأدخلها البيت العتيق والمواضع الفاضلة تيمنا وتبركا.
ولم تكن تلك الرسالة قاصرة على تبليغ الأشواق ونعي صديق الجماعة، بل كانت تنطوي أيضا على مسألتين من أهم المسائل التي تلقي نورا جديدا على حياة هذا العالم الصوفي، وقد أطلق عليها اسم «رسالة الروح القدس» وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: مناجاة بين محيي الدين ونفسه، وهي شبه اعتراف وتعنيف وتهذيب والقسم الثاني: يشتمل على أسماء معظم الرجال والمشايخ الذين لقيهم وتلقى عنهم وصحبهم في حياته. قال: «ولقد لقينا من المشايخ والإخوان والنساء ما لو دونت أحوالهم وسطرت كما سطرت أحوال من تقدم، لرأيت الحال الحال والعين العين في الأعمال والجد والإشارات وصحة القصد، فيا ولي تعال نقم مأتما للفراق، ونندب إخواننا الظاعنين!» (9) مشايخ محيي الدين في الطريق
وأولهم: أبو جعفر العريني، وصل إلى أشبيلية في أول دخول محيي الدين إلى الطريق. والثاني: أبو يعقوب يوسف بن يخلف الكومي العبسي وهو من أصحاب أبي مدين، وكان يقول: «إذا شاء الشيخ أخذ بيد المريد من أسفل سافلين وألقاه في عليين في لحظة واحدة.» والثالث: صالح العدوي. والرابع: أبو عبد الله محمد السرقي. والخامس: أبو يحيى الصنهاجي.
السادس: أبو الحجاج يوسف السبريلي (نسبة إلى قرية بالشرق على فرسخين من أشبيلية) ويروي لنا محيي الدين أن الشيخ يوسف هذا كان يمارس الطب الروحاني، فقد رأى محيي الدين عنده رجلا في عينيه وجع شديد، يصيح منه مثل المرأة النفساء (كذا)، فاصفر وجه الشيخ وقلع يده المباركة ووضعها على عينيه فسكن الوجع من جبينه، واضطجع الشخص كأنه الميت، ثم قام وخرج مع الجماعة وما به من بأس. وروى الشيخ ابن العربي رواية من قبيل القصص العجيبة، وهي أنه كانت لشيخه يوسف السبريلي هرة سوداء شديدة النفور من عامة الناس، ولكنها تأنس للأولياء وتميزهم.
السابع: أبو عبد الله محمد بن قسوم وكان يعيش من صناعة القلنسوات، ويرزقه الله حينا من غير تعب ولا سعي.
الثامن: أبو عمران موسى بن عمران المارتلي، حبس نفسه في بيته ستين عاما، وكان على طريق المحاسبي، لا يقبل من أحد شيئا ولا يطلب حاجة لنفسه، ولا لغيره.
التاسع والعاشر: الشقيقان أبو عبد الله محمد الخياط وأبو العباس أحمد الأشبيليني، وكان الأول شديد البر بوالدته حتى ماتت، وكان الثاني ينادي من وراء حجاب.
الحادي عشر: أبو عبد الله محمد بن جمهور، كان يكره الشعر ولم ينشده في حياته، وإذا سمع دفا وضع أصابعه في أذنبه.
الثاني عشر: أبو علي الشكاز وكانت صناعته نوعا من الدباغة.
الثالث عشر: أبو محمد عبد الله بن محمد بن العربي الطائي عم محيي الدين نفسه.
الرابع عشر: أبو محمد بن عبد الله بن الأستاذ المروزي، وكان من خدام أبي مدين.
الخامس عشر: أبو محمد عبد الله القطان، كان لا تأخذه في الله لومة لائم، عرض بنفسه للقتل مرارا من كثرة سبه لأفعال السلاطين وما هم عليه من مخالفة الشريعة، عرض عليه السلطان أن يجلس مجلسه فقال: «لا، فإن مجلسك مغصوب، ودارك التي تسكنها أخذتموها بغير حق، ولولا أني مجبور ما دخلت هنا، حال الله بيني وبينك!» وبالجملة كان هذا الشيخ على نوع من المبالغة في قول الحق بغير مبالاة.
السادس عشر: أبو عبد الله محمد بن أشرف الرندي، وهو من «الأبدال»، لم يأو إلى معمور قريبا من ثلاثين سنة.
السابع عشر: موسى أبو عمران السيد راني، كان من «الأبدال»، وكانت له عجائب وغرائب. (10) أشهر مؤلفاته
بلغت مؤلفاته 200 كتاب، ذكر منها بركلمن الألماني في فهرست الكتب العربية 156 كتابا، وذكر أماكن وجودها، وأكثرها في التصوف، وبعضها في الجفر وأسرار الحروف: (1)
الفتوحات المكية، في معرفة الأسرار الملكية. (2)
التدبيرات الإلهية. (3)
التنزلات الموصلية. (4)
فصوص الحكم في خصوص الكلم. وله شرح بقلم ابن سويدكين سماه «نقش الفصوص». (5)
الأسرا إلى المقام الأسرى (نثرا وشعرا). (6)
شرح خلع النعلين. (7)
الأجوبة المسكتة، عن سؤالات الحكيم الترمذي. (8)
تاج الرسائل ومنهاج الوسائل، وهو غير تاج التراجم. (9)
كتاب العظمة. (10)
كتاب السبعة، وهو كتاب البيان، والحروف الثلاثة، التي انعطفت أواخرها على أوائلها. (11)
التجليات. (12)
مفاتيح الغيب. (13)
كتاب الحق. (14)
مراتب علوم الوهب. (15)
الإعلام، بإشارات أهل الإلهام. (16)
العبادة والخلوة. (17)
المدخل إلى معرفة الأسماء، وكنه ما لا بد منه، والنقباء. (18)
حلية الأبدال. (19)
الشروط، فيما يلزم أهل طريق الله تعالى من الشروط. (20)
المقنع في إيضاح السهل الممتنع. (21)
عنقاء مغرب، وختم الأولياء، وشمس المغرب. (22)
مشكاة الأنوار فيما روي عن الله عز وجل من الأخبار. (23)
شرح الألفاظ التي اصطلحت عليها الصوفية. (24)
محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار، في خمسة مجلدات. (25)
ديوان محيي الدين، وهو مجموع القصائد التي قالها، غير الشعر الذي حلى به كتبه. (11) ملخص كتاب الفتوحات المكية في معرفة الأسرار الملكية
كتاب «الفتوحات المكية التي فتح الله بها على الشيخ الإمام العامل الراسخ الكامل خاتم الأولياء الوارثين برزخ البرازخ محيي الحق والدين» مؤلف من أربعة أجزاء كبار تقع في أكثر من ثلاثة آلاف صفحة، ويندر من يمكنه أن يلم بهذا الكتاب في فصل أو في جملة فصول؛ لأنه والحق يقال كالبحر الزاخر في علوم الحقائق والتصوف وأحكام الشرائع، ممتزج بعضها ببعض، ولا ريب في أن هذا الكتاب قد ألف بإلهام، ولا يمكننا أن نتعرض لتفسير بعض ما جاء فيه من الآراء نثرا وشعرا مما انقسم جمهور المسلمين بسببه فرقا، فمن قائل إن المؤلف له شطحات، ومن قائل إنه كتب ما أراد برموز وألغاز، يدركها أربابها للوهلة الأولى.
ومن قوله شعرا في مفتتح الكتاب البيتان المشهوران اللذان يحتج بهما قوم من الفريق الأول وهو قوله:
الرب حق والعبد حق
يا ليت شعري من المكلف؟
إن قلت عبد، فذاك ميت
أو قلت رب أنى يكلف!
ومن الفصول المهمة في هذا الكتاب الفصل «في علم الحق وعلم الأحوال وعلم الأسرار»، وفصل في «اعتقاد أهل الاختصاص» وفصل في «معرفة الروح».
ويقرر محيي الدين في فاتحة كتابه أنه قبل بدايته في تأليف هذا الكتاب قد كلف بوضعه من ذي مقام عظيم، ثم قال: «ثم أظهرت أسرارا وقصصت أخبارا لا يسع الوقت إيرادها، ولا يعرف أكثر الخلق إيجادها، فتركتها موقوفة على رأس منبعها، خوفا من وضع الحكمة في غير موضعها.»
ولم نجد لصوفي نفسا طويلا في الشعر والنثر كنفس هذا الإمام، ونضرب لذلك مثلا قصيدته الهمزية التي مطلعها:
لما انتهى للكعبة الحسناء
جسمي وحصل رتبة الأمناء
وختامها:
فاشكر معي «عبد العزيز» إلهنا
ولتشكرن أيضا أبا العذراء
شرعا فإن الله قال اشكر لنا
ولوالديك وأنت عين قضاء
وبجانب الفصول التي ضمنها الأسرار والرموز، فصول جلية ظاهرة في أحكام الشرع مثل: فصل الوضوء وأحكامه، وأسرار الطهارة، وأفعال الصلاة، بتوسع وإسهاب لا مثيل لهما في أي كتاب آخر من كتب هذا العلم.
وتكلم في الجزء الثاني في منازل الأولياء، ومقام أهل المجالس وحديثهم ونجواهم، وفي حظ الرسل من ربهم ومقامهم من مقام الأنبياء، ومقام الأنبياء من الأولياء، وفي هذا الفصل تفصيل بين نبوة الشرائع والنبوة المطلقة، فهم من الأولياء إذا كانوا أنبياء شريعة من الدرجة الثالثة، وإن كانوا في النبوة اللغوية فهم في الدرجة الثانية، وإن الأولياء هم الذين تولاهم الله بنصرته في مقام مجاهدتهم الأعداء الأربعة، الهوى، والنفس، والدنيا، والشيطان، والمعرفة بهؤلاء أركان المعرفة عند المحاسبي.
ومن الرسل من لهم خصائص على أمتهم، ومنهم من لا يختصهم الله بشيء دون أمته، وكذلك الأولياء فيهم أنبياء؛ أي خصوا بعلم لا يحصل إلا لنبي من العلم الإلهي، ويكون حكمهم من الله فيما أخبرهم به حكم الملائكة، ولهذا قال في نبي الشرائع
ما لم تحط به خبرا
أي ما هو ذوقك يا موسى مع كونه كليم الله، فخرق السفينة وقتل الغلام حكما، وأقام الجدار مكارم خلق عن حكم أمر إلهي، كخسف البلاد على يدي جبريل ومن كان من الملائكة، ولهذا كان الأفراد من البشر بمنزلة المهيمنين من الملائكة، وأنبياؤهم منهم بمنزلة الرسل من الأنبياء.
وبعد أن أفاض المؤلف في تفصيل النبوة وأسرارها وأحكامها، تكلم في الحب والسكر، والتوبة، والمجاهدة، والخلوة، والتقوى، ومقامي الخوف والرجاء، والفرق بين الشهوة والإرادة، وشهوة الدنيا وشهوة الجنة، والفرق بين اللذة والشهوة، ومقام الخشوع، والقناعة، والتوكل واليقين، ومقام الذكر وأسراره، والفكر وأسراره.
ثم تكلم في أسماء الله الباطن منها والظاهر، وفي الأسماء على العموم، وانتقل إلى الكلام في حضور القلب بتواتر البرهان ومنزل الحوض وأسراره من المقام المحمدي، ومنزل تزاور الموتى وأسراره من الحضرة الموسوية.
وفي الجزء الثالث من الكتاب أفاض المؤلف في الكلام على الحضرة الموسوية والحضرة المحمدية، وتكلم على منزل الإمام الذي على يسار القطب، وهو منزل أبي مدين أحد أئمة الصوفية ببنجانة بالأندلس وهو ممن لم يلقهم محيي الدين.
كلام محيي الدين في المهدي المنتظر
ثم تكلم على المهدي المنتظر وفي معرفة نزول وزرائه، فقال في ج3 ص364: «اعلم أن لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جورا وظلما، فيملؤها قسطا وعدلا، لو لم يبق من الدنيا يوم واحد، طول الله ذلك اليوم حتى يلي هذا الخليفة من عترة الرسول يواطئ اسمه اسم رسول الله، يبايع الناس بين الركن والمقام، وهو أجلى الجبهة أقنى الأنف، أسعد الناس به أهل الكوفة يقسم المال بالسوية، ويعدل في الرعية، ويفصل في القضية، يمسي جاهلا بخيلا جبانا، فيصبح أعلم الناس وأكرمهم وأشجعهم، يمشي النصر بين يديه، يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا، يصلحه الله في ليلة بفتح المدينة الرومية بالتكبير في سبعين ألفا من ولد إسحاق، يشهد الملحمة العظمى، مأدبة الله بمرج عكا، يبيد الظلم وأهله، يرفع المذاهب من الأرض، يفرح به العامة أكثر من الخاصة، ويبايعه العارفون بالله من أهل الحقائق عن شهود وكشف، له رجال إلهيون يقيمون دعوته وينصرونه هم الوزراء، ينزل عليه عيسى ابن مريم بالمنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، متكئا على ملكين، يقطر رأسه ماء مثل الجمان، يتحدر كأنما خرج من دماس، ويقبض الله المهدي إليه طاهرا مطهرا، وفي زمانه يقتل «السفياتي» عند شجرة بغوطة دمشق، ويخسف بجيشه في البيداء بين المدينة ومكة.»
ثم تكلم المؤلف في العرش والهواء والفلك والبرزخ، وفي معرفة الأمة البهيمية.
أما الجزء الرابع والأخير من هذا الكتاب النفيس، فبدأه بمعرفة منازلة الميت، والحي ليس له إلى رؤيته سبيل، ومعظم هذا الجزء في تفاسير أحاديث قدسية أو إلهامية منسوبة إلى الله عز وجل مثل: (1) «من دعاني فقد أدى حق عبوديته، ومن أنصف نفسه فقد أنصفني.» (2) «من سألني فما خرج من قضائي، ومن لم يسألني فما خرج من قضائي.» (3) «أسمائي حجاب عليك فإن رفعتها وصلت إلي.» (4) «أحبك للبقاء معي، وتحب الرجوع إلى أهلك.»
ولولي الله السيد محمد عبد السلام - رضي الله عنه - الذي انتقل إلى البرزخ في هذا الوقت تفسير بليغ عجيب لهذا الحديث.
وهذا الجزء الرابع كالأجزاء الثلاثة السابقة، بحر زاخر في الحكمة الإلهية والفلسفة الشرعية، وذكر الأسباب والنتائج والأسرار الباطنية والألغاز العليا في الكون والخليقة والشريعة والوحي والإلهام والولاية والقطبانية.
ولا يليق بعالم أو متصوف أو أديب أن يبقى بدون إلمام بهذا الكتاب الذي يعد فريدا في بابه في سائر اللغات.
أما قبر الشيخ العظيم فقد اكتشفه في الشام السلطان سليم الأول العثماني، ويذكرون أن الشيخ كان ذكر عبارة رمزية للدلالة على قبره وتاريخ اكتشافه، ونصها: «عندما يدخل السين في الشين يكشف عن قبر محي الدين.» والمقصود بذلك عند دخول السلطان سليم بلاد الشام يكشف قبر هذا الحكيم. (12) اعتراف محيي الدين ومناجاته بينه وبين نفسه
قال محيي الدين: «رأيت في منامي كأني أدخلت الجنة، ولم أكن رأيت نارا ولا حشرا ولا حسابا ولا شيئا من أهوال القيامة، ووجدت في نفسي راحة عظيمة، فلما استيقظت علمت أن في حالي بعض اختلال، وأن نفسي ادعت فوق حالها من جهة ما أعطاها الله من العلم، ولو كانت متحققة بالحق تحققا عقليا مقدسا إلهيا يغنيها عنها، لم تلتذ بدخول الجنة، فأرادت أن تقيم علي الحجة القاطعة من جهة تقسيم الحقائق الإنسانية ومراتبها، فلم أسمع لها، ودارت بيني وبينها المحاسبة الآتية:
ابن العربي :
يا نفس لا أتركنك على دعواك حتى أعرض أحوالك على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ، فإن وافقت ذلك سلمت لك، وإن وجدتك دون ذلك فأنا ألطف بك وأرحمك بأن أمشي بك على أحوال أهل الصفة وعلى أحوال الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فإن قصرت عن شأوهم فالنار أولى بك.
نفسه :
أما النبي
صلى الله عليه وسلم
فلا أعرض حالي مع حاله أدبا معه، وكذلك القرآن فإنه البحر الأعظم، ولكن حسبك من دون القرآن والنبوة، فخذ معي في مراتب الولاية وأنا المنقادة السميعة السهلة المطيعة.
ابن العربي :
أخرجي أسنى ما تدعين وأعلا ما تحفظين، وأنا أعرض أولا حال أهل الصفة.
نفسه :
قل!
ابن العربي :
كان سبعون من أهل الصفة يصلون في ثوب، فمنهم من يبلغ ركبتيه ومنهم أسفل من ذلك، والله ما اجتمع لهم ثوبان، ولا حضر لهم من الأطعمة لونان، ناشدتك الله يا نفس، فهل أنت أفقر منهم؟
نفسه :
لا.
ابن العربي :
فلست إذن منهم، استحي من الله وارجعي على عقبك ولا تطاولي لقوم لست منهم في شيء!
نفسه :
على بعيرهم فليس لي هنا قدم.
ابن العربي :
قال عمار بن ياسر وهو يسير على شط الفرات: «اللهم لو أعلم أن أرضى لك عنى أن أتردى فأسقط فعلت، ولو علمت أن أرضى لك عني أن ألقى في هذا فأغرق فيه فعلت.» ناشدتك الله يا نفس، هل خطر لك هذا قط في رضى الله لا تبغين به بدلا؟
نفسه :
لا والله فانتقل بي عن هذا!
ابن العربي :
هذا عمر بن الخطاب لما أسلم قال له النبي
صلى الله عليه وسلم : «يا عمر استره.» قال رضي الله عنه: «والذي بعثك بالحق لأعلننه كما أعلنت الشرك!» ناشدتك الله يا نفس هل قمت لي قط في دين الله تعالى حامية عنه في موطن دونه النفوس الحداد، وعدم الناصر يغلب فيه على ظنك أنك تقتلين فيه؟
نفسه :
لا والله، وإنما قاربت هذا المقام، ولكن بسياسة وطنت بها نفوس الأعداء بحيث إن غلب على ظني الأمن والعافية في دمي.
ابن العربي :
فارجعي!
نفسه :
نعم، هات غيره.
ابن العربي :
كان عثمان بن عفان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخبز والزيت، هل فعلت هذا مع أصحابك قط؟ آثرتهم باللطيف وقنعت بالخشن.
نفسه :
لا والله، بل كنت على أحد وجهين معهم، إن لم يكن عندي طعام غير ما جعلت بين أيديهم شاركتهم فيه، وإن كان عندي أرق منه أكلت وحدي ذلك، مثل الحلو أو الخوشكنان، وأقول هذا غذاء لين، وألبس على نفسي بهذه الترهات حتى أتنغص به عند أكله، وأقول هؤلاء الإخوان في مقام التربية، فينبغي أن لا أزرع حب الشهوات في قلوبهم بإطعامهم مثل هذا، ومقامي لا يؤثر فيه هذا الطعام، فلا بأس بتناولي إياه، فآكله على هذه الحال وقد عميت عن مطالبة الحق، في موازنة المعاشرة وأدناها أن أشاركهم في خشونتهم لما أعرفه من تأثير الحقائق، ولا شك أن عثمان ما فعل هذا في بدايته وإنما فعله بعد التمليك.
ابن العربي :
بارك الله فيك يا نفس إذ أنصفتني.
نفسه :
الحق أحق أن يتبع هات غيره.
ابن العربي :
هذا الإمام علي كان إذا أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يتمثل في محرابه قابضا على لحيته ويبكي بكاء الحزين وهو يتضرع بقوله «يا ربنا!» ثم يخاطب الدنيا بقوله «غري غيري، واخدعي سواي، فقد تبت عنك ثلاثا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك كثير، أواه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق!» فهل صاحبت هذه الحال استصحاب هذا الإمام؟
نفسه :
لا والله، إنما هي بوارق تلمع، وأهلة تطلع، في أوقات دون أوقات، والغالب الشتات، لولا أني أريد أن أقف منك على أحوال هذه السادة لطويت معك بساط المناظرة وعدلنا عن هذه المحاضرة.
ابن العربي :
هذا الذي بشرت غيرما مرة أنك في مقامه: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - (وهذه إشارة إلى أن محيي الدين ابن العربي كان في مقام الصديقية)
خرج حين توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وعمر يكلم الناس، ثم قال بعد أن تشهد: «أما بعد فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله عز وجل فإن الله حي لا يموت!» ثم تلا قوله تعالى
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
الآية، فسكن جأشهم بالقرآن وهو لم يزل ساكن القلب مع الرحمن، ناشدتك الله يا نفس هل حصلت بالسر الذي تدعينه أنه قد حصل لك من الحق حالا ومقاما من تعظيم الله ما علمت به تعظيم من عظمة الله من جهة تعظيم الله إياه؟
نفسه :
لا والله يا ولي، إنما أنا بين فناء وبقاء، وتلاش وانتعاش، وإقبال وإدبار ووصول ورجوع، وما كنت فهمت هذا من هذا الكلام الذي خرج من فم الصديق حتى نبهتني عليه، فانتقل بي عن هذا المقام فقد قصم ظهري.
ابن العربي :
إن النبي
صلى الله عليه وسلم
عاش في البؤس وضنك العيش حتى رق له عمر لما أثر شريط السرير في جنبه، فقال عمر: «تذكرت كسرى وقيصر.» فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» أين أنت يا نفس من قول سلمان الفارسي حيث ذكر ما فتح الله على المسلمين من كنوز كسرى فقال: «إن الذي أعطاكموه وفتحه عليكم وخولكم لممسك خزائنه ومحمد
صلى الله عليه وسلم
حي، ولقد كان يصبح وما عنده دينار ولا مد من الطعام، بم ذاك يا أخا بني عبس؟» فانظري يا نفس كلام هذا الصاحب وشرحه لحالة النبي
صلى الله عليه وسلم
وتعريفه وتقريعه بقوله «بم ذاك؟» ثم إنه لو كانت الدنيا تنال على حسب المراتب عند الله من الرفعة لكانت كلها لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهذه حالته في دنياه، ولم يرض لقرة عينه بنته فاطمة أن تنال فيها راحة ولا توسعا، هذا وقد رأى أثر حبل القربة في عنقها من حمل الماء وأثر الرحى من الطحين في يديها، وجاءه السبي فلم ير أن يعطيها خادما يحول بينها وبين ذاك الشقاء الذي نزل بها، وأعطاها بدل ذلك تسبيحا وتحميدا وتكبيرا وقال: هو خير لكم. فأين أنت يا نفس وهذا العارف، فلا الحق رضيها لنبيه ولا النبي
صلى الله عليه وسلم
رضيها لابنته ووصيه، فهل قنعت يا نفس بعد أن لم تجدي لك قدما مع أحد من الصالحين؟ فمن اتبعت؟ وبمن تأسيت؟
نفسه :
اتبعت هواي، فتأسيت بشيطان مدع في المعرفة، مكب على الدنيا مثلي، فأثمر لي الدعوى، وعراني من ملابس التقوى، وأنا أتوب إلى الله وأتضرع إليه في الوفاء والعدل والميزان! (وبعد أن استرسل محيي الدين في ذكر أخبار قويس القرني وعبادته وزهده ومقابلته لهرم بن حيان ختم مناجاته بقوله لنفسه):
ابن العربي :
فهذا يا نفس من بعض أخبار قويس الذي أحببته لله وفي الله، ولولا خشية التطويل لأشبعناك من أخباره وأخبار أمثاله من سادات التابعين، ولكنك قنعت بهذا القدر، فالتزمي طاعة الله وطاعة رسوله
صلى الله عليه وسلم ».»
قال محيي الدين ابن العربي: «فأسلمت إسلاما جديدا - يقصد نفسه - الله يثبتها عليه، وأخذت منها العهود التي أخذ النبي
صلى الله عليه وسلم
على نساء المؤمنات، فالتزمت ذلك كله عارفة قدر ذلك وما لها في الوفاء به، وما عليها من الرجوع عنه.» «هذا يا ولي - مخاطبا صديقه عبد العزيز المهدوي - أبقاك الله ما اتفق بيني وبين نفسي في مكة المشرفة.»
الفصل الثاني عشر
ابن مسكويه
أبو علي الخازن أحمد بن محمد بن يعقوب الملقب مسكويه، توفي في 9 صفر سنة 421ه، وكان مجوسيا وأسلم، وهذا دليل على أنه من أبناء الفرس الناشئين بين أحياء العرب الذين كانوا يتولون الوظائف والمناصب في صدر الإسلام، ومنهم أبو محمد عبد الله ابن المقفع الذي قتل سنة 142ه. وكان هؤلاء القوم نادرة في الذكاء وغاية في جمع علوم اللغة والحكمة والتاريخ.
كذلك كان مسكويه من نوابغ المفكرين العاملين الذين يندر ظهورهم في الأمم، وكانت له معرفة تامة بعلوم الأقدمين وألف فيها كتبا عدة.
وصحب ابن العميد وكان يخدمه في مكتبته، لكنه مع ذكائه ونبوغه واشتغاله بالفلسفة والمنطق والفقه والأدب والتاريخ فتنته الكيميا، بالمعنى الذي يعرفه بعض علماء العرب، وهو السعي في الحصول على الذهب بالصناعة، فأنفق ماله في هذا السبيل وهذا نوع من الجنون، فلما ذهب ماله في طلب المال، ندم على ذلك وتنقلت به الحال إلى خدمة بني بويه، فابتسم له الزمان وعظم شأنه حتى ترفع عن خدمة الصاحب بن عباد ولم ير نفسه دونه.
وكان مسكويه شاعرا مدح ابن العميد وعميد الملك، وله رسائل أنيقة على أسلوب ذلك العصر.
قال أبو حيان في كتاب «الإمتاع» عند ذكر طائفة من متكلمي زمان: «وأما ابن مسكويه ففقير بين أغنياء، وغني بين أنبياء؛ لأنه شاذ وإنما أعطيته في هذه الأيام «صفو الشرح» لإيساغوجي و«قاطيغورياس» من تصنيف صديقنا بالرى. قال الوزير: ومن هو؟ قلت أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري، وصححه معي، وهو الآن لائذ بابن الخمار، وربما شاهد أبا سليمان المنطقي وليس له فراغ، ولكنه مجد في هذا الوقت للحسرة التي لحقته مما فاته من قبل. فقال: يا عجبا لرجل صحب ابن العميد وأبا الفضل ورأى ما عنده وهذا حظه. قلت: قد كان هذا ولكنه كان مشغولا بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيمائي الرازي، مملوك الهمة في طلبه، والحرص على إصابته، مفتونا بكتب أبي زكريا وجابر بن حيان، ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه، هذا مع تقطيع الوقت في الحاجات الضرورية، والشهوية، والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة، والفرص بروق تأتلق، والأوطار في عرضها تجتمع وتفترق، والنفوس عن قرابتها تذوب وتحترق. ولقد قطن العامري الري خمس سنين، ودرس وأملى وصنف وروى فما أخذ عنه ابن مسكويه كلمة واحدة ولا وعى مسألة، حتى كأنه كان بينه وبينه سد، ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم، ومضغ حنظل الندامة في نفسه، وسمع بأذنه قوارع اللوم من أصدقائه حينما ينفع ذلك كله، وبعد هذا فهو ذكي حسن، نقي اللفظ، وإن بقي عساه أن يتوسط هذا الحديث، وما أرى ذلك مع كلفه بالكيمياء، وإنفاق زمانه وكد بدنه وقلبه في خدمة السلطان، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط، والكسرة والخرقة، نعوذ بالله من مدح الجود باللسان وإيثار الشح بالفعل، ومحتد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل.»
قال أبو منصور الثعالبي: «كان في الذروة العليا من الفضل والأدب والبلاغة والشعر، وكان في ريعان شبابه متصلا بابن العميد مختصا به، ثم تنقلت به أحوال جليلة في خدمة بني بويه والاختصاص ببهاء الدولة، وعظم شأنه وارتفع مقداره، فترفع عن خدمة الصاحب ولم ير نفسه دونه ولم يخل من نوائب الدهر.»
وله قصيدة في عميد الملك تفنن فيها وهنأه باتفاق الأضحى والمهرجان في يوم، وشكا سوء أثر الهرم وبلوغه إلى أرذل العمر.
وصية أبي علي ابن مسكويه
بسم الله الرحمن الرحيم! هذا ما عاهد عليه أحمد بن محمد، وهو يومئذ آمن في سربه معافى في جسمه، عنده قوت يومه، لا تدعوه إلى هذه المعاهدة ضرورة نفس ولا بدن، ولا يريد بها مراءاة مخلوق، ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة منهم، عاهده على أن يجاهد نفسه ويتفقد أمره، فيعف ويشجع ويحكم، وعلامة عفته أن يقتصد في مآرب بدنه، حتى لا يحمله الشره على ما يضر جسمه أو يهتك مروءته، وعلامة شجاعته أن يحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة ولا غضب في غير موضعه، وعلامة حكمته أن يستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته شيء من العلوم والمعارف الصالحة، ليصلح أولا نفسه ويهذبها ويحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة، وعلى أن يتمسك بهذه التذكرة ويجتهد في القيام بها والعمل بموجبها، وهي خمسة عشر بابا، إيثار الحق على الباطل في الاعتقادات، والصدق على الكذب في الأقوال، والخير على الشر في الأفعال، وكثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائمة بين المرء وبين نفسه، والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، وحفظ المواعيد حتى ينجزها، وأول ذلك ما بيني وبين الله جل وعز، وقلة الثقة بالناس بترك الاسترسال ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك، والصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل، وحفظ الحال التي تحصل في شيء شيء حتى يصير ملكة ولا يفسد بالاسترسال، والإقدام على كل ما كان صوابا، والإشفاق على الزمان الذي هو العمر ليستعمل في المهم دون غيره. وترك الخوف من الموت والفقر لعمل ما ينبغي وترك التواني، وترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد لئلا يشتغل بمقابلتهم، وترك الانفعال لهم، وحسن احتمال الغنى والفقر والكرامة والهوان بجهة وجهة، وذكر المرض وقت الصحة، والهم وقت السرور، والرضى عند الغضب، ليقل الطغي والبغي، وقوة الأمل، وحسن الرجاء والثقة بالله عز وجل، وصرف جميع البال إليه. (1) مؤلفاته (1)
كتاب الفوز الأكبر. (2)
كتاب الفوز الأصغر. (3)
كتاب تجارب الأمم في التاريخ، ابتداؤه من بعد الطوفان وانتهاؤه إلى سنة 369. (4)
كتاب أنس الفريد، وهو مجموع يتضمن أخبارا وأشعارا وحكما وأمثالا. (5)
كتاب ترتيب السعادات. (6)
كتاب المستوفي، (وهو) أشعار مختارة. (7)
كتاب الجامع. (8)
كتاب جاوزان خرد. (9)
كتاب «السير»، أجاده وذكر فيه ما يسير به الرجل نفسه من أمور دنياه ومزجه بالأثر والآية والحكمة والشعر. (10)
كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق. (2) ملخص كتاب ترتيب السعادات
كل واحد نصب لنفسه غاية يقصدها بسعيه ويسميها سعادة له كما يسعى للذة وللثروة، أو للصحة أو للغلبة أو للعلم، وإنما أوتوا في هذا الاختلاف من قبل أنهم لم يلحظوا الكمال البعيد، أعني السعادة القصوى، ولو عرفوها ونصبوها غرضا لسعوا بالباقيات نحوها كما يفعل الصانع، فإنه إذا عرف كمال المطرقة الأقصى، أعني صناعة التاج والخاتم أو السوار، قصد بالطرق وبسط الجسم الصلب نحو ذلك.
إن ما كان عاما للإنسان والبهائم فليس سعادة لنا، لأنها ليست غايتنا وكمالنا من حيث نحن ناس، وأما ما كان منها خاصا بالإنسان من حيث هو إنسان فيجوز أن يسمى سعادة، إلا أن هذا المعنى هو عام لجميع الناس، ومن هذه السعادات الخاصة بالإنسان ما هو عام للناس كما قلنا، فهم يشتركون فيه، ومنها ما هو خاص بإنسان إنسان، ومنها ما هو خاص الخاص، وهو الذي إليه ترتقي السعادات وعنده تقف جميعها، فإنها وجدت السعادات كلها من أجلها وبسببها وهي الغرض الأخير والكمال الأقصى.
أما الأمر العام لجميع الناس ولجميع الحيوان فهو المأكل والمشرب وضروب الراحات، وهذا ليس بسعادة ولا هو كمال الإنسان وغايته الذي خلق له ومن أجله.
وأما السعادة العامة للناس من حيث هم ناس فهي ما ذكرناه من قبيل صدور الأفعال عنه بحسب الروية والتمييز وعلى ما يقسطه العقل، وهذا المعنى سعادة موجودة لكل إنسان، ويمكن كل أحد أن ينال منها ويحظى بها بقدر رتبته من الإنسانية، وهذا المعنى موهوب للناس عامة بالفطرة والجبلة الأولى، ويتفاضلون بحسب استعمالهم إياها.
وأما السعادة الخاصة بحسب إنسان إنسان، فهي التي يختص بها صاحب علم أو صناعة فاضلة، يتفاوتون فيها على قدر مراتبهم في العلوم والصناعات وبحسب الأحوال التي يصدرون فيها أفعالهم على ما يوجب الرأي والتمييز.
وأما أصناف الشقاء المقابلة لهذه السعادات فقد تركنا ذكرها؛ لأنها تعرف من مقابلاتها كما تبين في المنطق أن المتقابلات علمها معا في حال واحدة، فينبغي أن يساق كل إنسان بحسب طبقته ومرتبته إلى سعادته التي تخصه على أتم ما يكون وأفضل ما يمكن ويبلغه الوسع.
ولولا أن السعادات كثيرة وعلى ضروب، لكان السعيد في الحقيقة واحدا من الناس، وهو من يحصل جميع أجزاء الفلسفة وفهم جميع الصناعات وتوفر حظه من الحكمة كلها، ولو كان ذلك كذلك، لكان وجود سائر الناس عبثا لا غاية لهم ولا كمال.
إن الحكماء لما رأوا اختلاف الناس في غاياتهم فبعضهم يرى أن غايته اللذة فيسعى نحوها بجميع أفعاله، فإذا شبع من لذته ثم كلف بعد ذلك الازدياد مما زعمه سعادة صار ذلك شقاء عظيما ووبالا كثيرا عليه، وسمى السعادة شقاء.
وأيضا فإن صاحب الثروة إذا مرض رأي أن السعادة هي الصحة، وصاحب الصحة إذا أصابه ذل رأى أن السعادة هي الكرامة، ومعلوم أن السعادة هي شيء ثابت لا تصير شقاء ولا ينتقل صاحبها فيكون شقيا بالذي صار به سعيدا.
وقد رتب أرسطوطاليس أجناس السعادات، فسعادة في النفس، وسعادة في البدن، وسعادة من خارج البدن، وفيما يطيف بالبدن.
السعادة التي في النفس: بالعلوم والمعارف والحكمة.
السعادة التي في البدن: مثل الجمال وصحة المزاج.
السعادة التي من خارج البدن: مثل الأولاد النجباء والأصدقاء واليسار وشرف النسب.
أما السعادة القصوى فليس ينالها كل واحد ولا يظفر بها كل من طلبها، ومن علامة من وصل إلى السعادة القصوى أن يوجد أبدا نشيطا، فسيح الأمل، قوي الرجاء، ساكن الجأش، غير مضطرب ولا مكترث بأمور الدنيا إلا بمقدار يسير جدا، وهو يناسب الناس ويقاربهم في الظاهر، فأما باطنه فمباين لهم، ثم هو جذل مسرور بنفسه لا بغيرها، وهذه الحال لازمة له لا تتغير. (3) فلسفة ابن مسكويه في النفس والأخلاق
لقد بينا في تلخيص كتاب السعادة لمسكويه أو لابن مسكويه، أن مذهبه الفلسفي أرسطي محض، وأنه كأسلافه ومعاصريه ومن جاء بعدهم من فلاسفة الإسلام يمجدون الفلسفة اليونانية ويرفعون من شأن المعلم الأول حتى درجة العبادة، وأن معظم كتاب السعادة لابن مسكويه يدور على مؤلفات أرسطو وترتيبها وتبيويبها وحكمة وضعها وتصنيفها على النمط الذي اتبعه ابن الهيثم في اعترافه. فكان أرسطو هو المثل الأعلى لهؤلاء الفلاسفة الإسلاميين، كما كان العدو اللدود لأئمة المتصوفين أمثال الغزالي وأصحاب الفلسفة العملية أمثال ابن خلدون.
وظاهر لكل متأمل في مؤلفات ابن مسكويه التي تستفاد منها فلسفته أنه تأثر جد التأثر بالجانب الخلقي من مؤلفات أرسطو بعد أن وقف على النظام الفلسفي بصفة عامة، وكان اهتمامه بعلم النفس أكبر من اهتمامه بسواه، وكانت الغاية التي يرمي إليها تهذيب النفس عن طريق درس أحوالها وتقلبها. وقد بلغ أثر هذا الميل في تعاليم ابن مسكويه إلى درجة أنه أراد أن يعكس طرق التعليم الفلسفي، فبدلا من أن يبدأ السالك في طريق الفلسفة بدرس المنطق والبرهان والأقيسة التي هي وسائل الفهم وأدوات الإدراك، يرى ابن مسكويه عكس ذلك فيقول في ص26 من كتاب السعادة:
وقد رأى بعض أصحاب أرسطوطاليس من مدرسي كتبه أن يبتدئ المتعلم لها بكتب الأخلاق لتتهذب نفسه وتصفو من كدر الشهوات، ويخف عنها أثقال عوارضها؛ فيتمكن من قبول الحكم ويعترف بعض الاعتراف بترك الانهماك في الشهوات وهجران الملاذ الجسمية ، ويعلم أن أكثرها خساسات ورذائل فيتنزه عنها، ثم ينظر في شيء من التعاليم ليعرف طريق البرهان، ويتدرب بها ويأنس بطرقها، ويترك الإيغال فيها إلى وقت آخر. (4) المثل الأعلى عند مسكويه
ثم إن ابن مسكويه جعل للإنسان مثلا أعلى هو أشبه الأشياء بما كان يرمي إليه ابن باجه في رسالة «تدبير المتوحد» وابن طفيل في «حي بن يقظان». ولكن ابن مسكويه مر بمثله الأعلى مرور الطيف، فوصفه بأنه هو الحاصل على السعادة القصوى، وأن هذا السعيد السعادة القصوى «مغتبط بذاته؛ لأنه يشاهد أمورا لا تتغير ولا تستحيل أبدا، ولا يجوز عليها أن تتغير أو تستحيل، وأنه يرى جميع ما يراه بعين لا تغلط ولا تخطئ ولا تدبر ولا تقبل الفساد، ويتعين أنه صائر من أحد وجوديه (الحياة الدنيوية؟) إلى الوجود الآخر (الموت؟) الأكمل، فهو كمن سلك طريقا إلى وطن يعرفه وثيق بأهله وروحه وطيبه».
ثم يتوغل ابن مسكويه في الوصف فيلمس أدق عقائد الصوفية في السلوك والوصول، حيث يقول: «وكلما قطع إليه منزلا أو حل دونه في درجة تقرب منه، ازداد نشاطا وطمأنينة وجذلا. وهذه الحال من الثقة واليقين لا تحصل بالخبر دون المعاينة، ولا تتم بالحكاية دون المشاهدة، ولا تسكن النفس إليها إلا بعد الظفر على الحقيقة، والواصلون إليها على طبقات ومثال ذلك الناظر بعين الرأس، فإن هذه العين يتفاوت الناس في النظر بها فمنهم من يرى الأشياء البعيدة رؤية بينة، ومنهم من لا يراها من القرب أيضا إلا كمن يرى الشيء من وراء ستر، إلا أن الفرق بين تلك الحال وهذه الحال أن العين الحسية كلما أمعنت في النظر وأدامت التحقيق إلى محسوساتها كلت وضعفت، وتلك العين الأخرى هي بالضد؛ لأنها تقوى بالإمعان في النظر وتزداد بالإدمان جلاء وسرعة إدراك، ولا تزال تزداد بصيرة ونفاذا حتى تدرك ما كانت تظنه غير مدرك ولا معقول.» (5) الفرق بين الحكمة والفلسفة
يميز ابن مسكويه بين الحكمة والفلسفة، فهو يرى أن الحكمة هي فضيلة النفس الناطقة المميزة، وهي: أن تعلم الموجودات كلها من حيث هي موجودة، وإن شئت فقل أن تعلم الأمور الإلهية والأمور الإنسانية، وثمر علمها بذلك أن تعرف المعقولات أيها يجب أن يفعل وأيها يجب أن يغفل.
أما الفلسفة فلم يضع لها ابن مسكويه تعريفا، ولكنه قسمها إلى قسمين: (1) الجزء النظري. و(2) الجزء العملي.
فإذا كمل الإنسان بالجزأين فقد سعد السعادة التامة.
والجزء النظري ينطوي على كمال الإنسان الأول بالقوة العالمة، فيصير في العلم بحيث يصدق نظره، فلا يغلط في اعتقاد ولا يشك في حقيقة، وينتهي في العلم إلى العلم الإلهي ويثق به ويسكن إليه.
والكمال الثاني للإنسان يكون بالقوة العاملة، وهو الكمال الخلقي، ومبدؤه من ترتيب قواه وأفعاله الخاصة بها حتى تصدر تلك الأفعال كلها بحسب قوته المميزة منتظمة مرتبة كما ينبغي، وينتهي إلى التدبير المدني بين الناس حتى تنتظم ويسعدوا سعادة مشتركة
Bonheur Commun
وغاية الكمال الإنساني في فلسفة ابن مسكويه أن يعلم الموجودات كلها بكلياتها وحدودها التي هي ذواتها لا أعراضها وخواصها التي تصيرها بلا نهاية.
ويعتقد ابن مسكويه أن من ينتهي إلى هذه الرتبة من العلم والعمل فقد صار عالما وحده، واستحق أن يسمى عالما صغيرا؛ لأن صور الموجودات كلها قد حصلت في ذاته فصار هو هي بنحو ما، ثم نظمها بأفعاله على نحو استطاعته، فصار فيها خليفة لمولاه خالق الكل جلت عظمته، فلم يخطئ ولا يخرج عن نظامه الأول الحكمي فيصير حينئذ عالما تاما، دائم الوجود، سرمدي البقاء مستعدا لقبول الفيض من المولى دائما أبدا، وقد قرب منه القرب الذي لا يجوز أن يحول بينهما حجاب.
ولولا أن الشخص الواحد من أشخاص الناس يمكنه تحصيل هذه المنزلة في ذاته لكان سبيله سبيل أشخاص الحيوانات الأخر، أو كسبيل أشخاص النبات في مصيرها إلى الفناء.
ومن لا يتصور هذه الحالة ولا ينته إلى علمها من المتوسطين في العلم، تقع له شكوك في البعث والخلود وانتهاء حياة الإنسانية بالموت، فحينئذ يستحق اسم الإلحاد ويخرج عن سمة الحكمة وسنة الشريعة.
فالفلسفة في رأي ابن مسكويه هي غاية الحياة الإنسانية، وهي مزيج من العلم والعمل لسلوك سبيل الترقي الدائم، فهي الغرض الأسمى للوجود والوسيلة الوحيدة للاتصال العقلي والروحاني بين الخالق والمخلوق والاستعداد لقبول الفيض الرباني. وعلى ذلك تكون هذه المرتبة هي مرتبة الأنبياء والحكماء والعلماء الذين هم عوالم تامة، وخلفاء للخالق. (6) الملوك في فلسفة ابن مسكويه
يقول ابن مسكويه: «لقد حكمنا أن الملوك منا هم أشد الناس فقرا، لكثرة حاجتهم إلى الأشياء.» ثم يشير ابن مسكويه إلى قول أبي بكر الصديق في خطبته حيث قال:
أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك.
واسترسل ابن مسكويه في وصف الملوك نقلا عن هذا المصدر فقال:
إن الملك إذا ملك زهده الله فيما في يده، ورغبه فيما في يد غيره، وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل ويتسخط بالكثير ويسأم الرخاء، وإن انقطعت عنه اللذة لا يستعمل الغيرة ولا يسكن إلى الثقة، فهو كالدرهم الغش والسراب الخادع، جلد الظاهر حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه ونضب عمره ومحي ظله، فأشد حسابه وأقل عفوه إلا أن الملوك هم المرحومون.
قال ابن مسكويه: لقد سمعت أعظم من شاهدت من الملوك يستعيد هذا الكلام (يعني وصف الملوك لأبي بكر الصديق)، ثم يستعبر لموافقته ما في قلبه وصدقه عن حاله وصورته، ولعل من يرى ظاهر الملوك من الأسرة والفرش والزينة والأثاث، ويشاهدهم في مواكبهم محفوفين محشودين بين أيديهم الجنائب والمراكب والعبيد والخدم والحجاب والحشم؛ يروعه ذلك فيظن أنهم مسرورون بما يراه لهم، لا! والذي خلقهم! وكفانا شغلهم! إنهم لفي هذه الأحوال ذاهلون عما يراه البعيد لهم، مشغولون بالأفكار التي تعتورهم وتعتريهم فيما قلناه من ضروراتهم. (7) الكلام عن النفس
تكلم ابن مسكويه على قوى النفس الثلاث: (1)
النفس البهيمية، وهي أدونها. (2)
النفس السبعية (نسبة إلى السبع مفرد سباع)، وهي أوسطها. (3)
النفس الناطقة، وهي أشرفها.
وإن هذه القوى الثلاث، ويصفها ابن مسكويه بالأنفس الثلاث، إذا اتصلت صارت شيئا واحدا وتبقى في الوقت ذاته على تغايرها وثورتها واستجدائها كأنها لم تتصل.
ثم تكلم على سياسة النفس العاقلة، وأن مثل من أهملها وترك سلطان الشهوة يستولي عليها كمن معه ياقوتة حمراء شريفة فرمى بها في نار تضطرم.
ثم انتقل إلى رأي أرسطو في بقاء النفس والمعاد استدلالا من قوله في كتاب الأخلاق، على أن الكلام الذي أورده ابن مسكويه نقلا عن أرسطوطاليس في هذا الباب لا يؤدي إلى القول بالمعاد.
ثم انتقل إلى دواء النفوس، قال يجب أن تتفقد مبدأ الأمراض إذا كان من نفوسنا. فإن كان مبدؤها من ذاتها كالفكر في الأشياء الرديئة، وإجالة الرأي فيها كاستشعار الخوف والخوف من الأمور العارضة والمترقبة والشهوات الهائجة؛ قصدنا علاجها بما يخصها.
وإن كان مبدؤها من المزاج ومن الحواس كالخور الذي مبدؤه ضعف حرارة القلب مع الكسل والرفاهية، وكالعشق الذي مبدؤه النظر مع الفراغ والبطالة؛ قصدنا أيضا علاجه بما يخص هذه.
وتكلم بعد ذلك على «حافظ الصحة على نفسه» و«معرفة المرء عيوب نفسه» و«رد الصحة على النفس».
وأسهب ابن مسكويه في الكلام على العدالة والفضائل التي تحت العفة والشجاعة والسخاء والعدالة ومراتب الفضائل الإنسانية.
وألم بموضوع السعادة في رأي أرسطوطاليس ولذة السعادة والخير والسعادة وكثير من هذه الفصول تذكرنا مطالعتها بما دونه اللورد آفبرى في كتبه التي من قبيل «مسرات الحياة»، فهي مزيج من علم الأخلاق والآداب الخاصة والعامة وعلم النفس والحكمة الإنسانية.
وتكلم ابن مسكويه على التعاون والاتحاد والصداقة، والمحبة وأنواع المحبة وأجناسها وأسبابها، والمحبة التي لا تطرأ عليها الآفات.
وكما تكلم على أنواع الفضائل التي تزهو بها النفس، كذلك أفاض في ذكر الرذائل التي تكون بها عيوب النفس وأسباب ضعفها مثل: التهور، والجبن، والعجب، والافتخار، والمزاح، والتيه، والاستهزاء، والغدر، والضيم، وأسباب الغضب، والجبن، والخور، والخوف وأسبابه وعلاجه، وعلاج الخوف من الموت، وعلاج الحزن.
ونعتقد أن أجمل نبذة في فلسفة ابن مسكويه التي ينطوي عليها كتاب تهذيب الأخلاق هو الفصل البديع الذي دبجته يراعته في موضوع «علاج الخوف من الموت»، وهو شبيه بالفصل الذي ختم به جيو الفيلسوف الفرنسي كتابه «عقيدة المستقبل» قال ابن مسكويه:
إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة، أو لا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، أو لأنه يظن أن للموت ألما عظيما غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله، أو لأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يقدم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والمقتنيات؛ وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها.
ولم تخل فلسفة ابن مسكويه من جزء خاص بالشريعة، وبما يجب على الإنسان لخالقه وأسباب الانقطاع عن الله، وأن الشريعة تأمر بالعدالة وتدعو إلى الأنس والمحبة ولزوم الشريعة في المعاملات والواجب على الحاكم نحو الرعية.
وجملة القول في فلسفة ابن مسكويه الخلقية أنها مزيج متقن السبك متناسب الأجزاء من الفلسفة اليونانية حسب تعاليم أرسطو، لا سيما ما كان منها خاصا بعلم النفس والأخلاق ومن الآداب الفلسفية الإسلامية التي بها رائحة من التصوف العقلي والديني ومن حكمة الحياة والآداب العامة والخاصة.
ونحن نعد ابن مسكويه فيلسوفا قائما بذاته، لم ينسج على منوال أحد من سابقيه، ولم يتعرض في «تهذيب الأخلاق» للمسائل الجوهرية في الفلسفة، وهي العقل والروح والخالق وسر الوجود الإنساني وغاية الحياة العقلية والعقائد الدينية التي لها مساس بحياة الإنسان من حيث الكفر والإيمان، بل هو رجل حكيم ملم بفلسفة أرسطو يقدسه ويمجده، ويحاول كما حاول أرثور شوبنهور في كتابه
La Sagesse de la Vie «حكمة الحياة» أن يوجد للفرد مثلا أعلى يسعى للوصول إليه ويعمل لأجله، فإذا وصل إليه بلغ النهاية القصوى من الكمال. فالفكرة الأساسية الأصيلة في فلسفة ابن مسكويه في «كتاب تهذيب الأخلاق» هي فكرة عملية محضة، ذات نفع مباشر للإنسان الذي يسير على خطتها الحكيمة. (8) فلسفة ابن مسكويه في إثبات الصانع والنفس والنبوة
يعد هذا الجزء من فلسفة ابن مسكويه خاصا بما وراء الطبيعة، وهو مبني على أصول الفلاسفة الإلهيين، ومذهب ابن مسكويه فيه هو الانتصار للعقائد الدينية .
وقد قسم ابن مسكويه فلسفته الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) إلى ثلاث مسائل في ثلاثين فصلا، وكل مسألة عشرة فصول: المسألة الأولى في إثبات الصانع، وهي محاولة في إقامة الدليل العقلي على وجود الله سبحانه وتعالى. وقد قدم لها الفيلسوف بمقدمة وجيزة في أن هذا الأمر سهل من وجه وصعب من وجه، وأما سهولته فمن قبل الحق نفسه؛ لأنه نير، وأما صعوبته أو غموضه فلأجل ضعف عقولنا وعجزها وكلالها، ولكن من التمس أمرا لا بد له من الوصول إليه صبر على الطريق وما يلحقه فيه من صعوبة ومشقة، ونحن محتاجون إلى أن نعظم أنفسنا عن الأوهام المأخوذة من الحواس التي تغالطنا عن المعقولات الصحيحة، وهو نظام عسير شديد؛ لأنه مفارقة العادة ومباينة العامة في كثير من نظرها، وجاءت في عرض هذا الفصل الأول من المسألة الأولى عبارة شاد بذكرها بعض أدباء العرب، وزعم أنها تدل على وقوف ابن مسكويه على نظرية النشوء والارتقاء قال:
إن الإنسان آخر الموجودات، وإن التركيبات تناهت إليه ووقفت عنده وتكثرت الأغشية واللبوسات الهيولانية على جوهره النير أعني العقل، ولما حصل الإنسان آخر الموجودات صارت الأشياء التي هي في أنفسها أوائل، آخرة عنده.
والفصل الثاني من المسألة الأولى خاص باتفاق الأوائل على إثبات الصانع جل ذكره، وأنه لم يمتنع أحد منهم عن ذلك، وخلاصته أن الحكماء أمروا بالتوحيد ولزوم أحكام العدل وإقامة السياسات الإلهية بالأزمنة والأحوال. ثم تكلم في الاستدلال بالحركة على الصانع، وأنها أظهر الأشياء وأولاها بالدلالة عليه جل وعز، ويقصد بالحركة ستة أشياء: حركة الكون - الفساد - النمو - النقصان - الاستحالة - النقلة.
وانتقل بعد ذلك إلى الكلام على أن كل متحرك إنما يتحرك من محرك غيره، وأن محرك جميع الأشياء غير متحرك، ثم تدرج إلى الكلام في أن الصانع واحد، وأنه ليس بجسم، وأنه تعالى أزلي، وأغرب فصل في هذا الباب هو الثامن، الذي به أن الصانع يعرف بطريق السلب دون الإيجاب.
وفي الفصل التاسع بيان أن وجودات الأشياء كلها إنما هي بالله عز وجل، وقد تناول هذا الفصل القول على الجوهر والعرض، ثم تلاه كلام في أن الله تعالى أبدع الأشياء كلها لا من شيء، وأنها تتبدل بالصورة حسب.
وهذا ختام كلام ابن مسكويه في المسألة الأولى الخاصة بإثبات الصانع.
ثم انتقل إلى الكلام في المسألة الثانية: في النفس وأحوالها وفي إثبات النفس، وأنها ليست بجسم ولا عرض، وإنها تدرك الموجودات كلها غائبها وحاضرها ومعقولها ومحسوسها، وبحث في مسألة عويصة وهي كيفية إدراك النفس للمدركات، وهل ذلك منها بأجزاء كثيرة، أم بأنحاء مختلفة، أم هناك مدركات بعدد المركبات.
وقد أخطأ في هذا الفصل خطأ فلكيا، فقدر أن الشمس أكبر من الأرض مائة ونيفا وستين مرة، مع أن المعول عليه اليوم في علوم الجغرافيا والكوزموجرافيا والفلك أن الشمس أكبر من الأرض مليون وثلاثمائة مرة.
ثم تكلم على الفرق بين الجهة التي تعقل بها النفس والجهة التي تحس بها، والأشياء التي تشترك فيها والأشياء التي تتباين فيها.
وتناول الكلام على خلود النفس، فأثبت على طريقته أن النفس جوهر حي باق لا يقبل الموت ولا الفناء ، وأنها ليست الحياة بعينها بل تعطي الحياة لكل ما توحد فيه.
وانتقل بعد ذلك إلى الكلام على حجج أفلاطون في بقاء النفس، وأن للنفس حالا من الكمال يسمى سعادة، وآخر من النقصان يسمى شقاوة، وفي حال النفس بعد مفارقتها البدن، وما الذي يحصل لها بعد موت الإنسان.
وقد استطرد في فصل إلى الكلام على تحصيل السعادة، والسبيل التي تؤدي إليها، وهذه لازمة ابن مسكويه في فلسفته، فأفاض فيها في كتاب تهذيب الأخلاق، وأفرد لها كتابا هو الذي لخصناه فيما سبق وهو «ترتيب السعادات».
ثم انتقل إلى المسألة الثالثة، وموضوعها النبوات.
وتكلم في مراتب موجودات العالم واتصال بعضها من بعض وببعض.
ثم في الإنسان وكونه عالما صغيرا، وقواه متصلة ذلك الاتصال، وبحث في كيفية ارتفاع الحواس الخمس إلى القوة المشتركة، ومنها إلى ما فوقها بمنة الله تعالى.
ثم انتقل إلى الكلام في الوحي وكيفيته، وأن العقل ملك مطاع بالطبع، وفي أن المنام (الرؤيا) الصادق جزء من النبوة، وفي الفرق بين النبوة والكهانة، وفي النبي المرسل وغير المرسل وفي الفرق بين النبي والمتنبي.
أما كتاب «الفوز الأصغر» الذي انطوى على هذه المباحث، فقد دل عليه المرحوم المحقق الشيخ طاهر أفندي الجزائري المتوفى بدمشق أثناء الحرب الكبرى، وصفه في برنامج ما اطلع عليه من الكتب الغريبة قال: «الفوز الأصغر، بناه ابن مسكويه على أصول الفلاسفة الإلهيين، وانتصر فيه للدين، فيه فصول مهمة وإشارات بديعة، ونسق عبارته كالذي نحاه في كتابه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق». (9) كتاب تجارب الأمم
أما كتاب تجارب الأمم فالذي وصل إلينا منه القسم الأخير في جزأين مطبوعين بمطبعة (كامب هول) باكسفورد وبمصر في سنتي 1914، 1915. وقد اعتنى بالنسخ والتصحيح الأستاذ «آمدروز» المحامي الإنجليزي والمعلم مرغليوث، وقد علمنا أنهما تشاركا في نقل الكتاب وشرحه ونشره باللغة الإنجليزية في سنة 1930م.
والجزء الأول:
يحتوي على حوادث خمس وثلاثين سنة، من سنة 295ه إلى سنة 329ه.
والجزء الثاني:
يحتوى على حوادث أربعين سنة، من سنة 329ه إلى سنة 369ه.
وغنى عن البيان أنه ليس للتاريخ دخل في الفلسفة، ولكن كتاب ابن مسكويه في التاريخ لا يعتبر تاريخا محضا، إنما هو كتاب تحرى فيه مؤلفه ذكر الحوادث بأسبابها ونتائجها، فيصح أن يقال إنه كتاب تاريخ مكتوب بشكل فلسفي، ولا غرابة أن تجتمع الفلسفة إلى التاريخ والأدب في شخص واحد، فقد ثبت لنا أن ابن مسكويه كان فيلسوفا ومؤرخا وأديبا، وكان «كارليل» الإنجليزي فيلسوفا ومؤرخا وأديبا، وكان «جوته» فيلسوفا وعالما ومؤرخا وأديبا.
وقد اتبع ابن مسكويه في تأليف هذا الكتاب ذكر الحوادث المهمة تارة، مثل قوله «خلافة المقتدر بالله وذكر ما جرى في ذلك»، وتارة بذكر السنين فيقول: «ودخلت سنة سبع وتسعين ومائتين» وهكذا.
وقد تحرى ابن مسكويه الدقة في نقل الأخبار، ولم يتحيز لفريق دون فريق.
وختم القسم الأخير من الكتاب المشار إليه بقوله في وفاة عضد الدولة إنه «عرج إلى نهوند وافتتح قلعة (سرماج)، واحتوى على ما فيها وملك غيرها من قلاع تلك البلاد، وألقت إليه الحصون مقاليدها ولحقته في هذه السفرة علة عاودته مرارا، وكانت شبيها بالصرع، وتبعه مرض في الدماغ يعرف بليترغوس (ويقصد ابن مسكويه مرض النوم الذي يطلق عليه أطباء هذا الزمان ليثرجيا)، إلا أن عضد الدولة أخفى ذلك. ويقال إن مبدأ ذلك المرض به كان بالموصل، إلا أنه لم يظهر أمره لأحد».
وهذا آخر ما عمله الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مكسويه - رضي الله عنه.
أما الجزء الثالث الذي طبع في اكسفورد ومصر فهو «ذيل» لكتاب «تجارب الأمم»، ولا علاقة بينه وبين كتاب ابن مسكويه سوى أنه يحتوى على حوادث مكملة لما ورد في الجزأين الأول والثاني من «تجارب الأمم»، فيبدأ بسنة 369ه وينتهي إلى سنة 389ه. وهو تأليف الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين الملقب ظهير الدين الروذراوري، وتليه قطعة من تاريخ هلال الصابي الكاتب إلى سنة 393ه، مع نخب من تواريخ شتى تتعلق بالأمور المذكورة فيه.
نامعلوم صفحہ