وأنت لكي تدرس غير الأحياء فأنت تحلل الشيء، وأنت ترجعه إلى نظائره وأشباهه، وأنت تلاحظ تأثره بالبيئة المحيطة به وتأثيره فيها ثم تستنبط القوانين الخاصة به بعد إذ تنظم ملاحظاتك وتجاريبك وتبوبها وترتبها، ثم أنت تعمد لتقف على حياة الحيوان إلى تأثره عن طريق حواسه بالأشياء المحيطة به، كما أنك إذا أردت أن تعرف تاريخه عمدت إلى ما قد يكون باقيا في الأحجار من آثاره، هذا فضلا عن التجائك في تجاريبك عليه إلى كل الوسائل المختلفة التي يلجأ إليها الكيميائيون والأطباء وغيرهم في معاملهم.
ذلك كذلك يجب أن يكون شأنك مع الإنسان، يجب ألا ترى فيه عالما مستقلا وسط هذا العالم الذي تعيش فيه، إنما هو جزء من هذا العالم خاضع لقوانينه وأحكامه متأثر به مؤثر فيه تجري عليه السنن التي تجري على غيره من الخلائق، فإذا أردت أن تبحث في أي شأن من الشئون يتعلق به وجب عليك أن تلجأ إلى الطرائق العلمية التي تلجأ إليها في الظروف الأخرى، وأن ترى في أعماله ومشاعره وإحساسه وتصوراته وسائل الوصول إلى دخيلة نفسه، هذه دون سواها هي الطريقة الأكيدة التي تصل بك إلى شيء يقرب من الحقيقة، وهذه يجب أن تكون أساس البسيكولوجيا وأساس التاريخ وأساس الاجتماع وأساس العلوم المتصلة بالإنسان جميعا، فأما الطريقة التي تقيم هذه العلوم على قواعد المنطق المجردة التي تجعل من استجمام الشخص في طوايا نفسه وسيلة رسمه للعالم ما يستلهمه من صورته، فليست من الطرائق العلمية في شيء ولا يمكن الاعتماد عليها إذا نحن أردنا أن نقيم علما إنسانيا أو فلسفة إنسانية على قواعد علمية صحيحة.
هذه هي الطريقة الجديدة التي امتاز بها تين والتي جنت عليه في كثير، وهي قد أصبحت اليوم قديمة وقد أصبح يرد عليها نقد كثير أساسه ما فيها من تطرف وغلو، ولكنها كانت جديدة يوم نادى بها تين، وكانت عمادا قويا للمذهب المادي، فهي لا تقر للروح ولا للنفس ولا لأمثال هذه الألفاظ بمدلولات مستقلة قائمة بذاتها بعيدة عن مادة الجسم، بل هي ترى كل ما في الجسم بعض مادته كما أن ما في أي موجود من الموجودات بعض مادة هذا الموجود، وإذا كانت هذه المادة ذات إرادة وذات خلق وذات تصور وتفكير، فإن هذه المظاهر ليست إلا صور القوة الكمينة في المادة، أو إن شئت التعبير الدقيق، فهي بعض صور المادة متحولة إلى قوة؛ لأن المادة والقوة شيء واحد بدليل تحول كل منهما إلى الآخر حين تفاعله مع غيره من القوى أو المواد، وما دام ذلك هو الشأن وكانت القوة والمادة تخضعان لقوانين ثابتة لن تجد لها تبديلا، فمن الخلط الذي لا يبرره مبرر أن تختلف طريقة البحث في الإنسان عنها في غير الإنسان، ومن الخطأ المبني على العقائد الرائجة انتهاج سبيل في بحث شئون النفس غير السبيل العلمية المقررة في سائر الشئون.
كانت هذه الطريقة جديدة يوم نادى بها تين، لكنه نادى بها منذ كتبه الأولى على صورة واضحة وبأسلوب قوي لفتا الأنظار له، وبخاصة أنظار مفكري ذلك العصر ومن كانت بيدهم مقاليد الجماعة في التفكير وفي الحكم، وإذا التفتت أنظار هؤلاء فلا تفكر في حرية مكفولة ولا في حرية مقدسة، إنهم - إن كانوا مخلصين حقا - يعتبرون أنفسهم حماة الجمعية ونظامها، ويرون في محاربة الأفكار التي تخالف أفكارهم محافظة على هذا النظام، وكثيرون منهم يشعرون - وإن لم يقولوا - بأن المحافظة على نظام الجماعة جديرة بأن تهدر من أجلها كل حرية؛ لأن الحرية لا توجد إلا حيث يوجد النظام.
ونشر كتابه «سياحة في البرانس»، وصف فيه هذه الجبال الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا وأخلاق أهلها وطبق في وصفه وفي تحليله نظرياته التي أشرنا إليها، على أنه لم يكتف من سياحته بالرياضة وبوضع هذا الكتاب، بل هو ظل يستمع لقارئ استصحبه في جولاته وظل يفكر فيما يسمع ويعلق عليه، أليس شعاره أنه يعيش ليفكر، فإذا هو كان في رياضة قضت بها صحته، أو هو كان في مكتبه، فليس أمامه ما يمنعه عن التفكير كما أنه ليس أمامه ما يمنعه عن التنفس، ولقد كان فكره بحاجة إلى العمل حاجة رئتيه إلى الهواء، حتى لقد يخيل إلى من يقرأ تاريخ حياته أن هذه الحياة تتعرض للخطر إذا هو انقطع عن التفكير العلمي الجدي يوما من الأيام.
ولقد أفاد من سياحاته في البرانس لصحته، وأفاد من قراءته وتفكيره وأفاد شيئا جديدا لم يكن له من قبل به عهد، ذلك اتصاله بالحياة الخارجية ولو اتصالا محدودا، فلقد عاش منذ أيام تلمذته وليس يعرف غير كتبه ومكتبته وغير البيانو يوقع عليه الألحان التي يحبها والتي يجد فيها سلوة عن كل تعبه، وكان من أثر ذلك عليه أن جعله - على ما قال فاشرو - يدرك ويتصور ويحكم ويقرر بغاية السرعة، ويولع بالقواعد والتعاريف حتى لكثيرا ما يضحي بالحقيقة من أجلها، أليس ما في الكتب منطقا مجردا؟! أوليست كتب ذلك العصر - حتى كتب الفلاسفة الواقعيين - قليلة التحليل للوقائع الصغيرة؟! فلتين عذره إذا هو سارع إلى تقرير النتائج ووضع التعاريف والقواعد ما دام يسير على الطريقة التي رسمها لنفسه على أنها سبيل الحقيقة، وما دام لم يتصل بالعالم الخارجي اتصالا يجعله أكثر ميلا لتحليل الحوادث الصغرى واستقرائها وترتيب النتائج عليها، فلما أتاحت له زيارة البرانس الاتصال بالحياة أتاحت له مع هذا الاتصال شيئا من التؤدة في منطقه الرياضي السريع وجعلته أكثر عناية باستيعاب أكثر ما يستطيع استيعابه من الوقائع الصالحة لإقامة ما يريد أن يقيمه عليها من نظريات وقواعد.
وعاد من البرانس فعاش مع أمه في جزيرة (سان لوي) ثم اختلط من جديد بأصدقائه بلانا وبريفو برادول وأبو وتعرف إلى رينان، ومن طريقه عرف سانت بيف وجدد علاقاته مع مسيو هافيه الذي كان أستاذا بمدرسة المعلمين مدى ثلاثة أشهر، وكما عاد إلى أصدقائه عاد إلى جده وإنتاجه حتى لتعتبر السنتان 1855 و1856 من أكثر حسنى حياته نشاطا وأغناها إنتاجا، فلقد نشر عشرات المقالات في مجلة (
L’Instruction
) كما نشر مقالا في مجلة «العالمين»، وفي سنة 1857 بدأ يكاتب جريدة «الديبا» واستمر بعد ذلك على مكاتبتها طويلا.
والذي يقرأ كتبه الثلاثة «رسائل في النقد وفي التاريخ» وكتابه «الفلاسفة الإنشائيون في القرن التاسع عشر» يرى اتجاه مجهوده العقلي في تلك السنوات الخصبة من حياته، ويرى مبلغ هذا المجهود الضخم الذي تناول بحث اليونانيين القدماء وكتاب فرنسا وفلاسفتها وكتاب إنجلترا ومفكريها، وتناول ذلك في دقة وإحاطة قل نظيرهما، وماذا تريد أن تكون الدقة والإحاطة أكثر من أن يعرض تين أمام نظرك فكرة كل كاتب وفلسفته وأسلوبه، وأن يحلل ذلك وأن يرده للبيئة وللجنس اللذين نشأ الكاتب فيهما، وأن يدلك على ما يراه النقاد غيره وما يراه هو في الكاتب وفكرته من قوة وضعف وكمال ونقص ودقة في بلوغ الغاية التي قصد إليها الكاتب أو اضطراب في نهج السبيل إلى تلك الغاية، وهذه هي طريقته التي سار عليها منذ تلك الأيام في النقد، وهي الطريقة العلمية الصريحة التي لا تعرف المواربة ولا المداجاة، ولا تعرف مذاهب الشك والتردد، والتي تقفك من كل كاتب ومن كل موضوع على خلاصة الموضوع وعلى صورة واضحة من الكاتب على نحو ما رآه تين.
نامعلوم صفحہ