على أنه كان قد وصل في سنة 1810 إلى أوج قوته وجلس على عرش مجده، وكان يحس هذه القوة ولا يتواضع بسببها، رأته بتينا برنتانو المغرمة بمعرفة عظماء الألمان في سنة 1812 لأول مرة، ولم تكن في حاجة إلى أكثر من مرآه وسماع حديثه حتى سحرت به وقالت: «ليس في العالم ملك ولا إمبراطور له مثل هذا الشعور بقوته.» ثم كتبت إلى جيتي تقول: «لما رأيته لأول مرة انمحى الوجود كله من أمامي، ولقد أنساني بتهوفن العالم وأنساني إياك يا جيتي، وما أظنني مخطئة أن أؤكد أن هذا الرجل يسبق المدنية الحديثة بمراحل.» وأراد جيتي أن يعرف بتهوفن فتقابلا في حمامات بوهميا بتوبلتز في ذلك العام نفسه لكنهما لم يتفاهما، فخلق بتهوفن العنيف الحر لا يتفق مع خلق جيتي الرقيق الوادع، ذكر بتهوفن نزهة لهما كان فيها قاسيا كل القسوة مع دوق فيمار، قال في خطاب بعث به إلى بتينافون أرنم:
يستطيع الملوك والأمراء أن يخلقوا الأساتذة والمستشارين وأن يغرقوهم في الرتب والألقاب، لكنهم لا يستطيعون أن يخلقوا الرجال والأذهان التي تسمو على المجاميع، فإذا اجتمع رجلان مثلي أنا وجيتي وجب على هؤلاء السادة أن يحسوا بعظمتنا، ولقد تقابلنا أمس حين عودتنا في الطريق مع العائلة المالكة كلها، وكنا قد رأيناهم من بعيد فانتزع جيتي نفسه من ذراعي ليقف على حافة الطريق، وعبثا قلت له كل ما أردت أن أقوله فلم يزحزحه ذلك خطوة واحدة عن موقفه، عند ذلك كبست قبعتي في رأسي وزررت ردنجوتي وسرت وذراعي وراء ظهري وسط الجموع الكثيفة، وأفسح الأمراء والحاشية لي طريقا ورفع لي الدوق رودلف قبعته، وكانت الإمبراطورة أول من حياني، فالعظماء يعرفونني، أما جيتي فمر أمامه الجمع وهو في مكانه على حافة الطريق منحن أشد الانحناء وقبعته في يده، وقد لمته أشد اللوم بعد ذلك، لم أغتفر له قط تصرفه.
ولم ينس جيتي له هذه المساءة وظل بينه وبينه ما كان بين فولتير وروسو في آخر حياتهما، قال جيتي لزلتر: «بتهوفن شخصية لا سبيل مع الأسف إلى تألفها، وقد لا يكون مخطئا إذ يرى العالم كريها، لكن خلته في الحياة ليست هي الوسيلة التي تجعل العالم حلوا له ولغيره، على أن من الواجب أن نعذره وأن نشفق عليه، فهو أصم.» على أن كراهية جيتي لم تمنعه من الإعجاب ببتهوفن ومن تقديسه وإن جاهد لإخفاء ذلك طاقته، ذكر مندلسن أن جيتي سمع أحد ألحان بتهوفن فحاول إخفاء إعجابه قائلا: «هذا لا يمس القلب ولكنه يثير الدهشة.» ثم لم تمض لحظات حتى غلبه اللحن وجماله، فلم يتمالك أن قال: «هذا بديع وعظيم وفوق العقل، إني لأحس كأن البيت سينطبق علي.» وبعد أن كان لا يريد أن يسمع اسم بتهوفن جعل يسأل عن أمره.
وكان الدوق رودلف الذي أشار إليه بتهوفن أحد التلاميذ القليلين ممن رضي هو أن يكون أستاذا لهم، وبرغم إعفاء الدوق إياه من تكاليف البلاط ونظامه فقد كان يشكو مما بقي مضطرا له بداعي المجاملة من هذه التكاليف، ومن طريق الدوق رودلف عرف كثيرين من الأمراء وأعضاء البيت المالك الذين لم يكونوا يأبهون للعظماء، أمثال هايدن وموزار، وإن بقي لديهم شيء من العطف على البائس بتهوفن، وزادوا عليه عطفا حين بدأ نجم نابليون يأفل، فإن بتهوفن لم ينس خيانة هذا الجمهوري الذي اتخذ الشعب سلما للإمبراطورية، فلما انتصر الإنجليز عليه في موقعة واترلو وضع بتهوفن لحنا لانتصار ولنجتون مجده فيه كما مجد حروب الاستقلال التي أقامتها أمم أوربا ضد فرنسا، وفي أوائل سنة 1814 وضع لحنا حربيا عن «بعث ألمانيا » فلما انعقد مؤتمر فيينا على أثر هزائم نابليون كان بتهوفن في ذروة عظمته وقوته، فشارك في أعياد المؤتمر على أنه عنوان من عناوين مجد أوربا، ورأس في 29 نوفمبر سنة 1814 الأوركسترا التي لعبت أمام ملوك العصر نشيده عن «ساعة المجد» فلما سقطت باريس في سنة 1815 وضع نشيدا جعل عنوانه «انتهى كل شيء»، وكذلك ظهرت قوته ومقدرته وظهر خلقه المثابر وبطشه وجبروته، هذا الجبروت الذي أباح له بعد موقعة يينا - إحدى مفاخر نابليون - أن يقول: «من سوء الحظ أني لا أعرف الحرب كما أعرف الموسيقى، إذا لهزمته.»
وكان حظ بتهوفن مذبذبا، فما تكاد آونة طمأنينته تطول به زمنا حتى تعقبها آونة شقاء أطول منها وتعدل مرارتها أضعاف حلاوة تلك الآونة، فكما تخلى عنه الحب مرتين تخلت عنه فيينا بعد هذا المجد والسلطان لمجرد انتهاء أعياد النصر، وبلغ أن فكر في هجرتها برغم ما كان من اتفاق الدوق رودلف تلميذه والبرنس لوبكرفتز والبرنس كنسكي منذ سنة 1809 إذ رتبوا له معاشا أربعة آلاف فلورين على أن يظل في النمسا ليظل فخرا لها، وبرغم ما كان من عدم وفائهم كل الوفاء فإنه سر بهذا الاعتراف بمجده، فلما مرت أعياد النصر عكف من جديد على العمل، لكن الصمم كان يزداد حتى كان تاما في سنة 1816، وبذلك أصبح بتهوفن لا يسمع موسيقى ولا يسمع لحنا ولا نشيدا إلا في دخيلة قلبه.
وكم لاقى بسبب ذلك من عناء وهم، فقد أراد أن يدير أوبرا فدليو في سنة 1822، وكان جليا منذ الفصل الأول أنه عاجز عن هذه الإدارة كل العجز، فقد كانت عصاه بطيئة، فكانت الآلات الموسيقية بطيئة معها، لكن المغنين لم يكونوا يستطيعون اتباع هذه الموسيقى فكانوا يسرعون، وحصل اضطراب اضطر معه مدير الجوق العامل إلى إيقاف التمثيل، ثم عاد بتهوفن إلى الإدارة وعاد التمثيل إلى الاضطراب، قال صديقه الدكتور شندلر: «ولم يقو قلب أحد على أن يدفعه ليقول لبتهوفن: تنح أيها البائس فأنت عاجز عن الإدارة، ووقف التمثيل للمرة الثانية فوقف بتهوفن ينظر في كل ناحية يريد أن يعرف سبب الاضطراب، ولما لم يفهم شيئا ناداني إليه ومد إلي كراسته لأكتب له، فكتبت: أرجوك ألا تستمر وسأفسر لك في البيت سبب ذلك، فما هو إلا أن قفز صائحا بي: فلنعجل بالخروج، وجرى إلى بيته بكل ما مكنته قواه وهناك ارتمى على مقعد وسند بيديه وجهه وجلس حتى ساعة الطعام لا ينطق بكلمة، وساعة الطعام ظل صامتا وعلى وجهه أثر الألم الفاجع والانحلال الأليم، فلما كان بعد العشاء وأردت أن أتركه رجاني أن أصحبه إلى طبيب كان معروفا بأنه من خير أطباء الآذان ... وفي كل ما تلا ذلك من صلاتي ببتهوفن لم أر يوما اليوم القاسي من أيام نوفمبر، وقد بقي هذا المشهد الأليم طعنة في قلبه حتى فاجأته منيته.»
وفي سنة 1824 كان حاضرا تمثيل رواية على موسيقاه، ولما انتهت الموسيقى صفق الناس أشد التصفيق فلم يسمع شيئا ولم يعرف من أمر إجلال الناس لقطعته إلا بعد ما أمسكت مغنية بيده وأدارت وجهه إلى ناحية الجمهور ليرى الأيدي المصفقة والقبعات التي تهتز في الأيدي علامة الإعجاب والثناء.
وعاون بؤس الصمم وألم المرض ما وقع فيه من حاجة وإعواز، فهذا الذي كان يفرض أخوه أثمان ألحانه على الناشرين فرضا وصل في أخريات أيامه ليكتب هذه العبارة لأحد تلاميذه: «أكتب هذه (السونات) في ظروف شاقة، فمن المحزن أن يضطر الإنسان للكتابة كي يحصل على الخبز، وهذا هو حالي اليوم.» وكتب في مذكراته الخاصة: «لقد صرت حتى أكاد أتكفف الناس.» وقال عنه أحد معاصريه وأصحابه إنه كان لا يستطيع الخروج من بيته في بعض الأحيان بسبب ثقوب حذائه.
وفي هذه الأيام الأخيرة كان لا يأنس إلى الناس ولا يعرف غير الطبيعة، فكان يرى هائما في الغابات والأحراش، وليس له هم إلا تدوين الأنغام والألحان لا يحول بينه وبين ذلك حر ولا قر ولا مطر ولا ثلج، قالت تريزدي برنسويك: «كانت الطبيعة صديقه الوحيد.» وكانت كل مذكراته تفيض هياما بهذا الوجود المطلق الحر تمام الحرية، والذي تتجلى فيه عظمة الخالق وقوته؛ ولذلك كانت موسيقاه تفيض بمعاني الطبيعة فيضا حتى لكأنما بلغ من شدة هيامه بها أن صار قوة من قواها أو أنه «ملك روحها» على حد تعبير صديقه شندلر، كتب الموسيقى الكبير شومان يصف أثر أحد ألحان بتهوفن في نفسه: «مهما يتكرر سماع الإنسان لهذا اللحن فإنه مؤثر فينا بنفس القوة التي أثر بها من قبل، فهو كالظواهر الطبيعية التي تملؤنا دائما خوفا ودهشة مهما تكرر حدوثها.»
ولعل بتهوفن كان محبا للطبيعة، لأنه من روحها لا لأنه ملك هذا الروح، ولذلك كانت حياته - ككل ما في الطبيعة - حياة نضال لا يعرف اليأس، وعمل لا يعرف الكلال، وتجدد لا يعرف الجمود، فما كان المرض ولا الصمم ولا خيبة الحب ولا الفقر الذي بلغ الإعواز بمانع له من أن يتم في عالم النغم رسالته، أوتدري ما هذه الرسالة التي كان يجاهد في سبيلها خلال ما أثقل حياته من كوارث وأحزان؟ كانت رسالته بعث المسرة على الأرض، فكأنما كان القيثارة العتيقة المحطم كثير من أجزائها والتي بالغ الصانع في إتقانها، فما تزال مبعث أحلى الأنغام وأبدعها، ولقد كان بتهوفن يؤمن برسالته هذه كل الإيمان، ومنذ ظهرت بوادر نبوغه في الموسيقى فكر في تبليغها للناس عن طريق الألحان ففكر فيها وما يزال في يونيو سنه 1793، وكانت نهاية أمله أن يتوج أحد أعماله الموسيقية الكبرى بلحن المسرة، وكان ذلك دأبه وهو في أشد حالات العذاب والألم، لكنه كان يتردد دائما أن لم يكن شيء مما وضعه ليكفي مقنعا لصورة المسرة عنده، وظل ذلك شأنه حتى السنوات الأخيرة من حياته حين وضع اللحن التاسع، حينئذ وفق لهذا النشيد الذي يرجوه، ولكن أي توفيق وأية عظمة!
نامعلوم صفحہ