وكانت الدول قد سئمت هذا الصراع الطويل مع إسماعيل، ولعلها كذلك خشيت بعد انضمامه للأمة وإظهاره العطف كل العطف على مطالبها أن تقوى الحركة القومية المصرية وأن يصبح إسماعيل مثلما كان جده محمد علي مكانة وقوة سلطان؛ لذلك رأت أفضل السياسات أن ينزل عن العرش، لكن إسماعيل لم ينظر إلى المسألة هذه النظرة، وأراد أن يلجأ إلى جلالة سلطان تركيا آملا أن يكون لما قدمه له من طائل الأموال وعظيم التضحيات بعض الأثر، وهنا خاب فأله، فقد بعث الباب العالي في 26 يونيو تلغرافا بعزل إسماعيل عن العرش وبرفع ولده توفيق مكانه، وعلى أثر ذلك أقلع إسماعيل من الإسكندرية قاصدا إيطاليا وقلبه خافق وعيونه هامية بالدمع، وأقام في إيطاليا زمنا ثم انتقل إلى الأستانة إذ أقام بها في قصر «أمر جيان» على شواطئ البوسفور حتى جاء أجله في 2 مارس سنة 1895. •••
وكم دار بخاطره في هذه السنوات الأربع عشرة التي انقضت بين عزله وأجله أن يعود إلى نضال يسترد به عرشه، وكان أول ما صنع من ذلك أن بعث إلى السلطان بالأستانة على أثر وصوله إلى نابولي رسالة حارة يذكر له فيها ما أجرى من عظيم الإصلاح في وادي النيل، وما قام به من فتح السودان إلى خط الاستواء حيث خفقت الراية العثمانية من تلك الأنحاء في ربوع لم تخفق من قبل قط عليها، لكن السلطان لم يعبأ بخطابه ولا أجابه عنه، بل نسي كل ماضي إسماعيل وما أغدقه على الأستانة ورجالها من مال وأنعم، وما باله يعبأ به وقد أصبح لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا يملك لمتبوعه العظيم رشوة ولا هدية، وأصحاب العروش لا يعنون إلا بصاحب القوة ما داموا يهابون قوته ويطمعون في خيره ومعونته، ونال ذلك من نفس إسماعيل، ولكنه حملها على الصبر حتى كانت الثورة العرابية في مصر، هنالك حز الألم في نفسه واذكر أنه لم يفكر في مقاومة كالتي قاومها اليوم هؤلاء المصريون الأبطال، ولو أنه قاوم فربما كان له من الأقدار عون يستبقي نجمه عاليا، أما ولم يفعل فليس له أن يرجو من الأقدار مددا وهي لا تمد الضعيف أو الخائف، وإنما تحارب في صف الشجاع المقدام.
ومنذ دخل الإنجليز مصر محتلين خيم اليأس على كل آماله في استعادة ملكه، فظل في إيطاليا حتى انتقل إلى الأستانة ليلقى فيها منيته، وليكون فيها أسير عطف الأتراك الذين طالما تمتعوا بما أغدقه عليهم من مدد ومال أيام ولايته.
هوامش
الخديو توفيق باشا
ثلاثة عشر عاما تولى فيها توفيق أمر مصر كان خلالها في زهرة شبابه بين السابعة والعشرين والأربعين، لكنه كان فيها كذلك بين عوامل لا يستطيع مدافعتها والتغلب عليها إلا نابغة محنك، كان فيها بين تركيا الناقمة لضعف سلطانها في مصر، وإنجلترا الطامحة إلى بسط نفوذها نهائيا على وادي النيل، وفرنسا المكتئبة لتقلص مكانتها رويدا رويدا من أرض الفراعنة، والأمة المصرية المثقلة بديون إسماعيل باشا وظلم حكامها والمتأججة نفوس أهلها بالثورة طمعا في الاستقلال والدستور، وهو بين هذه العوامل رجل يشعر بضعة أمومته وبحقد أهله عليه، ويود لو أنه كان في مكانة أبيه بطشا وسلطانا، ويخضع للأقدار التي لم تهبه من سعة الذكاء ما وهبت غيره، ولتربيته الشرقية البحتة التي اقتضت ألا يغادر مصر وألا يتصل بالمدينة الأوربية اتصال إخوته، وللظروف التي جعلت تتقاذفه منذ ارتقى عرش أبيه فتصدمه بكل واحد من العوامل المحيطة به، لينتهي به الأمر إلى أن يكون في تاريخ مصر صورة غير محبوبة، ولا ممقوتة، صورة مرت في هذا التاريخ فكان أثرها فيه سلبيا هو أثر العاجز عن أن يقوم لبلاده أو لنفسه بخير، وليودع العالم في الأربعين من عمره فيلقي بمصائر مصر بين يدي ولي عهده الفتى عباس وما يزال في الثامنة عشرة من عمره. •••
ولد توفيق باشا في 15 نوفمبر سنة 1852 ثمرة لبرهة هوى من إسماعيل مع إحدى جواريه التي لم تنل منه إلا حظوة قصيرة ولم تكن له زوجا، ولم يكن إسماعيل يومئذ وارثا لعرش سعيد أن كان أحمد أكبر العائلة ما يزال حيا؛ لذلك لم يلفت مولد توفيق نظر أحد إلا ما كان من زراية أميرات العائلة المالكة لأمه، فلما حصل إسماعيل على فرمان وراثة العرش للولد الأكبر انقلبت الزراية للأم حقدا على الابن، وشارك إسماعيل أهله في عدم عطفهم على توفيق وإن لم يبلغ ذلك من نفسه مبلغ حقده على حليم باشا وارث عرشه على النظام القديم، وثبت عدم عطفه على توفيق وعدم رعايته إياه في عزمه على أن يكون عرشه لحسين من بعده، وقد كان يستطيع ذلك اعتمادا على أمومة توفيق أو بالتخلص منه كما كان يفعل ملوك ذلك العصر في تركيا، لكنه لم يكن يتعجل النظر في أمر لم يكن في حسبانه وقوعه قبل زمان طويل، وكفاه وجود توفيق بمعزل عنه في قصر له مقتصرا على إدارة أراضيه.
على أن عزلة توفيق وعدم إغداق أبيه أسباب الرضا عليه جعله ينظر إلى ما صنع أبوه من استدانة ومن إرهاق للمزارعين والفلاحين ومن بطش بالناس جميعا نظرة مصري لا نظرة ولي عهد؛ لذلك اتصل بطائفة من الناقمين على الحال التي آلت مصر إليها، أمثال السيد جمال الدين الأفغاني واللقاني والشيخ محمد عبده ومن كان يلوذ بهم من أمثال عرابي، وانخرط في سلك الماسونية الذي انخرطوا فيه، فلما اضطر إسماعيل تحت ضغط الدائنين إلى أن يعين نوبار باشا رئيسا للوزارة المسئولة الأولى وأن يضم إليه مستر ريفرس ولسن ومسيو دبلنيير، الأول وزيرا للمالية والثاني وزيرا للأشغال، ثم لما رأى أن الحال المالية في البلاد تزداد كل يوم سوءا برغم ما تنزل عنه من سلطته ومن أملاكه، ورأى الشعور العام ضد التدخل الأجنبي يزداد في البلاد كلها، خلع نوبار من الوزارة واتفق مع فرنسا وإنجلترا على تعيين ولي عهده توفيق باشا رئيسا للحكومة، على أن ولي العهد كان يعلم دقة الموقف كما يعلم بنوع خاص تهيج الشعور العام بإزاء ما كان يعتزمه السير ريفرس ولسن كعضو في لجنة التحقيق الدولية من إعلان إفلاس مصر؛ لذلك لم يجد الوزيران الأوربيان من رئيس الوزارة الجديدة مؤيدا قويا لهما، وعلى أثر إعلان وزير المالية تأجيل دفع الفوائد المستحقة للدائنين في شهر أبريل تقدمت عريضة من العلماء والوجهاء والنواب ورجال الجيش يحتج فيها مقدموها على هذا التصرف ويطلبون إلى الخديو أن يلجأ إلى نوابه للخروج من المأزق، وعلى ذلك استقالت وزارة توفيق من غير أن تفعل شيئا، وكلف إسماعيل شريف باشا بتأليف وزارة تكون مسئولة حقيقة أمام برلمان تنظم حقوقه وطرق الانتخاب له بحيث يستطيع أن يقوم بما تقتضيه الأحوال وأن يحقق الأماني القومية.
وكان ذلك هو الانقلاب الحكومي الذي أريد به القضاء على سلطة المراقبين وعلى تدخل الأجانب في الإدارة المصرية، والذي انتهى بتركيا إلى عزل إسماعيل باشا في 26 يونيو سنة 1879 وإلى إرسال برقية في اليوم نفسه إلى توفيق باشا تعلن فيها إسناد منصب الخديوية المصرية إلى جنابه ويختتمها وزير تركيا بقوله: «والأمر والفرمان في كل حال لمن له الأمر أفندم.»
كانت هذه الضربة الحاسمة غير المنتظرة من جانب تركيا منبهة لكل من يعنيهم أمر مصر وكل من لهم مصالح فيها لكي يقفوا على حذر، ومع أن توفيق باشا فوجئ بالخبر وفزع له حتى لقد قابل موظف قصره الذي أبلغه إليه أسوأ مقابلة بأن صفعه، فإنه شعر من ذلك الحين بأن التركة التي آلت إليه أعباؤها تركة مبهظة مخوفة، ترى ماذا عساه يصنع بإزاء أبيه، وبإزاء تركيا، وبإزاء الدول وتدخلها في شئون مصر، وبإزاء الأمة المصرية المتوثبة للحركة بل للثورة؟
نامعلوم صفحہ