في تلك الساعة مالت الشمس إلى المغيب، فخضبت الشفق بألوان حمراء أرجوانية، وانعكست آخريات أشعتها على الأعمدة المرتفعة، وانحدرت إلى جباه المدعوين، كأنما هي رؤيا من رؤى اللانهاية ...
أما الفتى فخفض نظره إلى الأرض، وأخذ سكينا بيده حفر بها بعض كلمات على المائدة بدون أن ينتبه إلى ما يفعل، ثم رجع إلى نفسه ونظر إلى الكلمات المحفورة أمامه فإذا هي: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
عند هذا ارتعش ارتعاشا شديدا، وعلا محياه أمارة الخجل، فانتصب واقفا نصف وقفة ... في حين كان المدعوون يهتفون بملء أصواتهم.
بعد هنيهة تحولت الأعين إلى مقام الشرف، وهم المدعوون أن يختموا الحفلة بتهنئة الفتى، إلا أنهم لم يبصروا أحدا! ...
كان الفتى قد احتجب من مكانه.
في تلك الدقيقة ساد سكون غريب في قاعة الوليمة، فتقدم والد المحتفل به من مقام الشرف، وقرأ بقلب منقبض تلك العبارة المحفورة على المائدة، ففهم كل شيء وأخذ يبكي.
أما الفتى فكان قد هرب إلى الصحراء ... •••
أخذ الفتى يمشي بين المفاوز والأكمات، وكانت نفسه المنتصرة ترفع صدره من حين إلى آخر، وقد شعر بأن شعاع اللانهاية يضيء في روحه، حتى وصل إلى مكان منفرد، فأبصر سهولا من القمح تمتد أمام عينيه، فعرف أنه أخطأ الطريق، فعرج على غابة حتى انتهى به السير إلى أكمات ترتفع عليها أشجار المشمش والتين والرمان واللوز، وتتخللها مجاري مياه عذبة، فسكن جوعه ببعض الأثمار وبل غليله ببعض جرعات من الماء، ثم صعد إلى قمة أكمة، فتراءى له واد ضيق يفصل بينه وبين جبل وعر تمتد وراءه صحراء واسعة، فلم يتردد أن أسرع الخطى نحو تلك الصحراء ...
شرع الفتى يتسلق المنحدرات بصعوبة وعناء، وكانت الأشجار الغضة تبسط على الجبل أخيلتها السوداء، حتى إذا ما انحدر الوادي سمع دويا يقرب منه دوي الصواعق، فرفع نظره إلى المرتفعات فأبصر منحدر ماء يهبط من محل شاهق، وينساب في وسط الوادي العميق.
كان المساء يحلك رويدا رويدا عند ما وصل الفتى إلى شجرات من النخيل، فحول نظره إلى جهة المشرق، وتمتم بروح مغتبطة قائلا: هو ذا مكان عزلتي. •••
نامعلوم صفحہ