فإذا سألنا: وكيف ينشأ هذا التناقض أو النظام الكامل من التناقضات، وجدنا عدة أجوبة تدور حول محور واحد، وترجع إلى أصل واحد؛ فالتناقضات لا تنشأ إلا عندما تؤخذ الظواهر أو عالم الحس الذي يضمها جميعا مأخذ الأشياء في ذاتها، وهي ليست بالمصطلح الكانطي «ظواهر»، وإنما هي «مظاهر» وأوهام، وهي في الأصل لا تنشأ عن التجربة ولا عن العيان
9 (الإدراك الحسي) ولا عن الظواهر، وإنما يوجدها العقل البشري نفسه عندما يندفع (بحكم ميله الطبيعي) إلى مجاوزة عالم التجربة، أو على حد تعبير كانط إلى مجاوزة «الاستخدام التجريبي»،
10
ثم إنها أوهام طبيعية لا مفر منها، ولا سبيل إلى تجنبها؛
11
لأنها ترجع إلى طبيعة العقل نفسه في نزوعه لتخطي عالم التجربة.
وهو يشبه هذه الأوهام بأنواع مختلفة من الخداع البصري الذي يصيبنا - على سبيل المثال - عندما يبدو سطح الماء في وسط البحر وكأنه ليس أعلى من سطحه على الشاطئ، أو عندما يبدو القمر أثناء طلوعه أصغر مما هو عليه في الحقيقة، وكما يتحتم علينا في مثل هذه الأحوال أن نخطئ في إدراك الأشياء، كذلك يصعب علينا أن نتحاشى الوقوع في وهم «المظهر الترنسندنتالي» وخداعه؛ فالأمر هنا يتعلق بنوع من «الديالكتيك» أو الجدل الذي يلتصق بالعقل البشري على نحو ضروري لا مناص منه، بل إنه بعد أن نكشف عن خداعه الذي يغشي البصر، لا يكف عن مخايلة العقل، ولا يتوقف عن الإلقاء به كل لحظة في أنواع من الضلال التي تحتاج على الدوام إلى التخلص منها.
12
هكذا نجد أن تناقضات العقل ذات طبيعة خاصة؛ فهي لا تنشأ بإرادة العقل كما هو الحال - على سبيل المثال - مع التناقض المشهور عن «الدائرة المربعة»، حين أجمع بطريقة تعسفية بين مفهوم المربع ومفهوم الدائرة، ثم إنها (أي تناقضات العقل) لا تنشأ من الواقع؛ لأنها - كما أكد في تشبيهه لها بأنواع الخداع البصري - أوهام فكرية متنوعة الأشكال. ولن نستطيع في هذا المجال المحدود أن نتابع شرح كانط لتناقضات العقل الخالص، كما عرضه في باب الجدال المتعالي على صورة جدول مفصل للنقائض المختلفة والحجج المؤيدة لطرفيها المتضادين (العالم له بداية في الزمان أو العالم قديم ولا بداية له، الجوهر يتألف من أجزاء لا متناهية أو متناهية، افتراض وجود كائن ضروري أو عدم ضرورة افتراضه، افتراض الحرية الإنسانية أو الحتمية ... إلخ)؛ فالذي يعنينا في هذا المقام هو «الأزمة» التي أثارها وجود التناقض - بل فضيحته كما عبر أكثر من مرة! - في تفكير كانط، والجدية التي جعلته يأخذ على عاتقه عبء تخليص العقل الحديث من أخطاره وتحذيره من مهاوي التردي فيه، والرسالة السابقة التي كتبها إلى «جارفة» تشهد على هذا، كما تشهد عليه الشكوى المتصلة من وجود التناقض. ويكفي أن نستمع إلى هذه النغمة الحزينة التي يرددها في «نقد العقل الخالص» وغيره من مؤلفاته؛ لنشعر بمدى إشفاقه على مصير الإنسان الحديث إذا استسلم للتناقضات المغروسة في فطرته العقلية. إن وجود التناقض بوجه عام في العقل الخالص، لأمر يدعو إلى الشعور بالكمد والإحباط، كما أن من المحزن أن يقع هذا العقل في نزاع مع نفسه، مع أنه يمثل أعلى محكمة تفصل في جميع المنازعات.
13
نامعلوم صفحہ