هل بدأ مؤسس الفلسفة الحديثة كما بدأ أبوها من التناقض؟ هل انطلق فيلسوف المثالية النقدية في بحثه عن المنهج «الترنسندنتالي» (أي الشارطي المتعلق بالشروط والمبادئ الأولية أو القبلية للمعرفة) من أزمة تبدت في صورة تناقض أرقه وحفزه لالتماس الحل الإيجابي لإشكاله السلبي المدمر للعقل؟ وما هي نقطة الانطلاق إلى منهجه النقدي الذي اختبر به إمكان أن تصبح الفلسفة في النهاية علما دقيقا ووثيقا كسائر العلوم (الطبيعية والرياضية) الجديرة بالاحترام؟!
يبدو الأمر مع «كانط» أصعب مما كان عليه مع ديكارت، ومما سيكون عليه مع «هسرل»، اللذين تطورت بحوثهما عن المنهج، ومحاولاتهما لتأسيسه في خط طبيعي واضح؛ فبناء الكتاب النقدي الأكبر لكانط وللفلسفة الحديثة كلها وهو «نقد العقل الخالص» بناء شديد التعقيد. ومن المحتمل في رأي بعض المؤرخين والدارسين أن يكون كانط قد بدأ حقيقة من النتيجة التي توصل إليها من جهوده التي بذلها طوال سنوات عدة لإيجاد مخرج من الأزمة وحل للتناقض، وإن كان ترتيب فصول الكتاب لا يكشف عن ذلك بسهولة. وبيان هذا أن الباب المهم الذي يتعرض فيه لنقائض العقل الخالص (وهو المعروف تحت عنوان الجدل المتعالي أو الديالكتيك الترنسندنتالي) قد جاء في نهاية الكتاب، وشغل منه أكثر من ثلاثمائة صفحة، وكان حريا أن يبدأ به؛ لأنه هو المنطلق الحقيقي لفلسفته النقدية كلها، لكن الذي حدث هو أن كانط قد وضع آخر ما توصل إليه تطور تفكيره في الأزمة كلها في أول الكتاب (وهو النظرية الشارطية التي قدم فيها نظريته الأصيلة عن «حدسي المكان والزمان»، وهما شرطا كل عيان أو إدراك حسي وإطاراه الملازمان، في حين أخر بداية تفكيره المنهجي كما قلنا، على نحو قد يحمل على الظن بأنه نتيجة بحثه عن المنهج، وهو في الواقع منطلقه ومفجره إن صح التعبير).
سنفترض إذن أن هذا الاحتمال صحيح وإن كان تعقيد بناء الكتاب الشهير لا يوحي به، وتؤيد هذا الافتراض رسالة مهمة كتبها كانط إلى معاصره الفيلسوف (الشعبي) كرستيان جارفة (1742-1789م)، وذكرها مؤرخ الفلسفة الحديثة المعروف «بنو إردمان» في بحث
6
أكد فيه أن المثالية الترنسندنتالية لم تكن هي الفكرة التي قام عليها كتاب كانط الرئيسي، وإنما هي النقائض التي يقع فيها العقل الخالص بسبب تحليقه فوق حدود التجربة الممكنة، وطموحه المتهور إلى تحقيق مثله المطلقة المتعالية كوجود الله وخلود النفس ... إلخ، وإثبات صحتها وضرورتها اعتمادا على قواه التأملية المجردة وحدها.
عبر كانط في الرسالة المذكورة عن أن واقعة وجود المتناقضات هي التي حركت تفكيره، فقال بالحرف الواحد: «لم يكن البحث في وجود الله وخلود النفس ... إلخ، هو النقطة التي انطلقت منها، بل كانت هي نقيضة العقل الخالص (التي تقول في أحد طرفيها إن العالم له بداية، وتقول في طرفها المقابل ليس للعالم بداية ... إلخ)، حتى النقيضة الرابعة التي تثبت وجود الحرية الإنسانية مرة وتنفي وجودها مرة أخرى مؤكدة أن كل شيء فيه (أي في الإنسان) خاضع للضرورة الطبيعية، كانت هذه «النقيضة» هي التي بدأت بإيقاظي من النعاس الدجماطيقي (أي نزعة القطع والتأكيد المتزمت بغير سند من التجربة)، ودفعتني إلى نقد العقل نفسه؛ وذلك بغية القضاء على فضيحة التناقض الظاهر للعقل مع ذاته.»
7
يتضح من هذا النص أن الفكرة التي انطلق منها كانط لتكوين منهجه النقدي، أو إن شئت لإبداعه، متفقة إلى حد كبير مع الفكرة التي انطلق منها ديكارت ثم هسرل من بعده، كما سنرى في الجزء الأخير من هذا المقال. لقد صدروا جميعا عن المنبع نفسه. والمنبع هو الفكر المناقض لذاته، وهو التناقض أو التناقضات التي تظهر في سياقات معرفية معينة، فيدخل الفيلسوف في صراع معها، ويستقصي معانيها، ويحاول تفسيرها والخروج منها، يحدوه في ذلك الاعتقاد - المستند إلى مبادئ المنطق الصوري - بأن المعرفة الصادقة والعلم الدقيق المحكم لا يستقيمان مع وجود التناقض؛ ومن ثم تبدأ عجلة البحث عن المنهج الجديد الكفيل بإزالة هذا التناقض في الدوران.
هنا يفرض هذا السؤال نفسه: أهو تناقض واحد هذا الذي يقع فيه العقل أم هو أكثر من تناقض؟ وهل يصنعه العقل بإرادته أم بغير إرادته؟ يصرح كانط بأنه ليس تناقضا واحدا، بل هو نظام كامل من أفانين الغش والخداع الذي يعشي البصر، يرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، وتتوحد تحت مبادئ مشتركة.
8
نامعلوم صفحہ