تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة
تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة
اصناف
[2.176]
{ ذلك } المذكور من الحكم على كاتمى ما انزل الله بادخال النار وعدم تكليمهم الله وعدم تزكيتهم وثبوت العذاب الاليم لهم واستبدال الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة { بأن الله } بسبب أن الله فهو خبر لذلك لا حاجة له الى تقدير مبتدء او خبر او فعل ناصب { نزل الكتاب بالحق } بسبب الحق المخلوق به وهو المشيئة التى خلق الاشياء بها، او متلبسا بالحق موصوفا به، او مع الحق مقارنا له فالكاتم له كاتم للحق ومستحق لما ذكر، والمراد بالكتاب أحكام النبوة والتوراة والانجيل والقرآن صورتها { وإن الذين اختلفوا } عطف على ان الذين يكتمون واختلف ضد اتفق او بمعنى تردد وعلى الاول فالمعنى ان الذين اختلفوا معك او ان الذين وقع الاختلاف بينهم وعلى الثانى فالمعنى ان الذين ترددوا { في الكتاب } لاستنباط الاحكام الشرعية ولان يقيسوا ما لم يكن فيه بما يجدونه فيه والمراد بالكتاب أحكام النبوة والتوراة والانجيل والقرآن صورتها { لفي شقاق } لفى ظرف منكم او من الله { بعيد } او لفى عناد معكم وعداوة.
اعلم ان من استسلم وانقاد لنبى (ص) او وصى ليس من شأنه ان يخالف امثاله فى حكم من الاحكام لانه ليس له رأى فى شيء من نفسه وانما هو منقاد لغيره بخلاف من لم يكن منقادا لنبى (ص) او وصى فان الشيطان متمكن منه لا محالة الا ان يكون فى حكم المنقاد، ومن تمكن الشيطان منه لا يمكن له التوافق مع احد بل كان شأنه الاضطراب فى الآراء وعدم الثبات على شيء منها والخلاف والعناد مع كل الناس فالمؤمنون ان كان أحكامهم مختلفة كانوا متوافقين مترافقين متحدين، وغير المؤمنين ان كانوا متوافقين فى الاحكام كانوا متخالفين متعاندين غير خارجين من العناد، وما نقل من اختلاف أصحاب الائمة مع بعض لا ينافى مرافقتهم مع كل الناس لأن المخالفة التى ظهرت فيهم لستلزام المخالفة من طرف ظهورها فى طرف آخر.
[2.177]
{ ليس البر } كلام مستأنف لابداء حكم آخر او جواب سؤال ناشئ من السابق كأنه قيل: فما بالنا اختلفنا فى القبلة بالصلوة الى بيت المقدس تارة والى مكة أخرى وأمر القبلة من الكتاب؟ - فقال: ليس الطاعة { أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } على ان الاختلاف فى العمل من باب التسليم لأمر الآمر الالهى اتفاق فى الاعتقاد والقول بخلاف الاختلاف من آراء مختلفة، و { البر } بكسر الباء مصدر بمعنى الصلة والخير والاتساع فى الاحسان والصدق والطاعة، والاحسان الى الغير ضد العقوق وفعله من باب علم وضرب وهذا رد على من خاض من اهل الكتاب فى أمر القبلة بعد تحول المسلمين الى الكعبة وعلى من خاض من المسلمين فى أمرها بعد صرف وجوههم الى الكعبة، روى عن السجاد (ع) أنه قال: قالت اليهود قد صلينا على قبلتنا هذه الصلوات الكثيرة وفينا من يحيى الليل صلاة اليها وهى قبلة موسى التي أمرنا بها، وقالت النصارى: قد صلينا الى قبلتنا هذه الصلوات الكثيرة وفينا من يحيى الليل صلاة اليها وهى قبلة عيسى التى أمرنا بها، وقال كل واحد من الفريقين: اترى ربنا يبطل اعمالنا هذه الكثيرة وصلواتنا الى قبلتنا لأنا لا نتبع محمدا (ص) على هواه فى نفسه وأخيه فأنزل الله يا محمد (ص) قل: { ليس البر } والطاعة التى تنالون بها الجنان وتستحقون بها الغفران ان تولوا وجوهكم قبل المشرق يا أيها النصارى وقبل المغرب يا أيها اليهود وانتم لامر الله مخالفون وعلى ولى الله مغتاظون { ولكن البر من آمن } حمل الذات على المعنى مثل حمل المغنى على الذات محتاج الى تصرف فهو اما بتقدير مضاف فى الاول او فى الثانى او بجعل البر بمعنى البار او بادعاء الاتحاد بين المعنى والذات للمبالغة فى اتصاف الذات بالمعنى { بالله } يعنى ان البر الايمان والاذعان بالله والتسليم له وهو روح العمل لا صورة العمل واعتبار الجهة فيه { واليوم الآخر } يعنى الاقرار بالمبدء والمعاد { والملائكة والكتاب } الذى هو الشريعة الالهية { والنبيين وآتى المال على حبه } اى مشتملا على حب الله او على حب المال او على حب الايتاء وعلى الثلاثة يجوز ان يكون الضمير المجرور فاعلا راجعا الى من آمن وواحد من هذه الثلاثة مفعولا مقدرا، ويجوز ان يكون راجعا الى واحد من هذه الثلاثة مفعولا والفاعل محذوفا، ويجوز ان يكون راجعا الى الله فاعلا { ذوي القربى } ذوى قرباه او ذوى قربى النبى (ص) يعنى يعطى من ماله ندبا او من الخمس فرضا واما الزكاة الفرض فانها تذكر بعد { واليتامى } عطف على القربى على عدم جواز اعطاء الصدقات المستحبة للأيتام أنفسهم، او على تقدير كون المال من الحقوق الواجبة، او عطف على ذوى القربى وهو جمع اليتمان بمعنى اليتيم ويتم من باب ضرب وعلم بمعنى انفرد لا نظير له وفقد الاب من الإنس والأم فى سائر الحيوان اذا لم يبلغ { والمساكين } المسكين أسوأ حالا من الفقير لكن اذا افترقا اجتمعا { وابن السبيل } اى المسافر الذى انقطع نفقته وكان من قرابات الرسول ان كان المال مال الخمس او مطلقا ان كان غيره والعرب يسمى كل من يباشر أمرا أبا ذلك الامر وابنه { والسآئلين } الذين يتعففون عن السؤال صريحا ويسألون فى ضمن اظهار الحال كناية حتى لا ينافى الحقوق الواجبة على فرض عدم جواز اعطائها السائل بالكف، أو المراد أعم من السؤال بالكف ان اريد الايتاء ندبا { و } مالك الرقاب او العبيد أنفسهم { في الرقاب } فى استخلاصها سواء كانوا مكاتبين او تحت الشدة او لم يكونوا كذلك { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } يعنى ان البر الايمان والاذعان بالله وترك ما فيه خيره لخير الغير والتوجه التام الى الله والتسليم والخروج من الانانية ولوازمها التى هى خلاف التسليم من الخلاف والنزاع والرأى من النفس وغير ذلك من دواعى الانانية لا توجيه وجه البدن الى المشرق او المغرب والرأى فيه والتوقف عليه.
وقد مر بيان للصلاة والزكاة فى اول السورة من أراد فليرجع اليه { والموفون بعهدهم } عطف على من آمن وجعله خبر مبتدء محذوف او مبتدء خبر محذوف تقدير من غير حاجة، والعدول الى الاسم للاشعار بان الوفاء بالعهد امر يطلب فيه الاستمرار والثبوت بخلاف الايمان فانه يحدث سواء اريد به الاقرار او البيعة وبقاء الحالة الحاصلة منه ليس ايمانا انما هو بقاء الايمان، وبخلاف الزكاة والصلاة فانهما لا تكونان الا متجددتين، واما الوفاء بالعهد فانه ليس الا البقاء على العهد؛ وهكذا الحال فى الصبر، والمراد بالعهد العهد الحاصل فى ضمن البيعة او مطلق العهد { إذا عاهدوا والصابرين } علم وجه العدول الى الاسم والعدول الى النصب لقصد المدح بتقدير فعل { في البأسآء } البأس العذاب والشدة فى الحرب بؤس ككرم فهو بئيس شجاع، وبئس كسمع اشتدت حاجته، و { البأسآء } الداهية والمناسب هاهنا ان يفسر بشدة الحاجة والداهية فى المال { والضراء } فى الانفس { وحين البأس } شدة القتال { أولئك } العظماء المحصرون بتلك الاوصاف العظام { الذين صدقوا } لا صادق سواهم فى اقوالهم بتصديق أفعالهم لأقوالهم وفى أفعالهم وأحوالهم لتصديق آثار الافعال والاحوال صدقها { وأولئك هم المتقون } لا متقى غيرهم وقد فسر بعلى (ع) لان الجامع بين الاوصاف بحقائقها لا يكون الا محمدا (ص) وعليا (ع) واولاده الطاهرين واما غيرهم من الانبياء والاوصياء فان لهم حظا من هذه وبقدر حظهم تصدق عليهم.
[2.178]
{ يأيها الذين آمنوا } بالايمان العام وقبول الدعوة الظاهرة والبيعة العامة النبوية { كتب عليكم } فى اللوح المحفوظ او فى صدر النبى (ع) والمعنى فرض ولذلك وللاشعار بتضررهم عداه بعلى { القصاص } ان يفعل بالجانى مثل ما فعل بالمجنى عليه، وكونه فرضا على الحكام بعد مطالبة ولى المجنى عليه لا ينافى كون الولى مخيرا بين القصاص والدية والعفو { في القتلى } متعلق بكتب { الحر بالحر } اى يقتل الحر بالحر او الحر مقتول بالحر اى اذا كان القتل عمدا لا خطاء ولا شبها للخطاء والآية مثل سائر الآيات مجملة محتاجة الى البيان فلا يرد ان المسألة بخلاف مفهوم مخالفة القيد فان مفهوم القيد غير معتبر قطعا هاهنا وتفصيل المسألة موكول الى الفقه { والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } نقل انه كان حيان من العرب وكان لاحدهما طول على الآخر وكان بالمواضعة بينهما ان يقتل ذو الطول الحر بالعبد، والذكر بالانثى، والرجلين بالرجل فلما جاء الاسلام تحاكموا الى رسول الله (ص) فنزلت فأمرهم بالتكافؤ { فمن عفي له } اى الجانى الذى عفى له { من } قبل { أخيه } الذى هو ولى الدم او من دم اخيه المقتول وأداه بلفظ الاخوة للاشعار بان العفو يقتضى ويقتضيه التعاطف فالمناسب فى المقام اللفظ الذى يقتضى ويقتضيه التعاطف { شيء } من العفو وهو العفو من القصاص دون الدية او شيء من العفو بان عفى وارث واحد { فاتباع } اى فليكن من العافى اتباع او فحكمه اتباع او فعليه اتباع للعفو فى مطالبة الدية { بالمعروف } بطريق يستحسنه العقلاء ويعرفونه بالحسن يعنى لا يكون فى مطالبة الدية تعنف ولا اضرار ولا زيادة على القدر المقرر وليكن من الجانى { وأدآء } للدية { إليه } الى العافى { بإحسان } متلبسا بنحو من الاحسان وصية للعافى بالمداراة وعدم التعنف وعدم التعدى وللجانى بعدم المماطلة وعدم الخدعة والبخس والاكراه { ذلك } اى الاذن فى العفو مع الانتقال الى الدية او بدونه يعنى التخيير بين الثلاثة فان العفو عن الدية يستفاد بطريق اولى من العفو عن القصاص المستفاد من قوله { فمن عفى له من اخيه } إلى آخرها { تخفيف } فيما فرضنا عليكم من المؤاخذة بالجناية { من ربكم ورحمة } منه عليكم بتجويز العفو المستلزم لبقاء النفوس وعدم تكليف ولى المقتول بالعفو بلا عوض، نقل انه كان لاهل التوراة القصاص او العفو، ولاهل الانجيل العفو او الدية، ولهذه الامة التخيير بين الثلاثة ونسب الى الرواية ان القصاص كان فى شرع موسى (ع) والدية كانت فى شرع عيسى (ع) فجاءت الحنيفية السمحة بتشريع الامرين { فمن اعتدى } تجاوز عما حد له من اولياء الدم ومن الجانى { بعد ذلك } المذكور من القصاص او العفو او الدية { فله عذاب أليم } قد مضى وجه توصيف العذاب بالالم، ولما جاز ان يتوهم من تشريع القصاص ان فيه افناء للنفوس البشرية وافناء النفوس البشرية خلاف الحكمة الالهية كما عليه الملل الباطلة رفع ذلك لتوهم بأن فى القصاص ابقاء للنفوس لا افناء لها؛ لان فى تشريع القصاص ردعا لجملة النفوس عن التجرى على القتل ففيه افناء نفوس قليلة وابقاء نفوس كثيرة بخلاف تركه فقال: { ولكم في القصاص حيوة }.
[2.179]
{ ولكم في القصاص حيوة } وذكروا وجوها من الترجيح لهذا الكلام على مقابله الذى هو قول القائل القتل انفى للقتل { يأولي الألباب } خص اولى الالباب بالنداء تشريفا لهم، ولأنهم يعرفون وجه كون الحياة فى القتل، ولأنهم المخصوصون بتشريع الاحكام والمنظور اليهم فى خلق الاشياء المعتنى بهم للبقاء دون غيرهم { لعلكم } يا اولى الالباب { تتقون } ترجى ناشئ من ذكر القصاص او من ايداع الحياة فى القصاص، او من ذكر الحياة؛ فان كان الاولان فالمعنى شرع الله لكم القصاص او جعل الحياة فى القصاص { لعلكم تتقون } القتل او تتقون المعاصى او تتصفون بالتقوى، وان كان الثالث كان المعنى استبقاءكم لعلكم تتقون المعاصى او تتصفون بالتقوى والترجى من الله ليس على حقيقته لان الترجى لا يكون الا من جاهل مترقب لحصول مرغوب خارج عن اختياره والحق ليس كذلك فهو منه تعالى بمعنى التعليل او لجريه تعالى شأنه على شاكلة الملوك والاكابر من الخلق حيث يعدون مواعيدهم التى ينجزونها بليت ولعل وعسى حتى لا يتكل من يعدونه على الوعد ويكونوا بين الخوف والرجاء، او لملاحظة حال العباد وان شأنهم شأن الرجاء والاطماع فالترجى باعتبار حال المخاطب.
نامعلوم صفحہ