فارَقُتُكم فإذَا ما كان عِندَكُمُ ... قَبل الفِراقِ أذىً بعدَ الفِراقِ يَدُ
إذَا تَذَكَّرتُ ما بَيني وَبَينَكُمُ ... أعانَ قَلبي على الوَجدِ الذي أجِدُ
قال أبو علي: أي كانت منكم أحوال أكرهها، فكانت قبل الفراق عندي أذى فقد صارت بعد الفراق يدا عندي، لني أتسلى إذا ذكرتها عنكم، وتزهدني فيكم، فهي في الحقيقة يد إذ كانت سببا للسلو عنكم، وفسر ذلك بقوله بعده:
إذَا تَذَكرتُ ما بينِي وبينكُمُ ... أعانَ قَلبي على الوَجدِ الَذي أجِدُ
وقال العجلي: يحتمل ذلك معنيين أحدهما: المدح، والآخر: الذم. أما المدح فأنه يقول أن الذي كنت أتأذى به عندكم وأشكوه لما فارقتكم وبليت بغيركم لقيت منه من الأذى ما صار الذي شكوته منكم إلى جنبه نعمة، ثم قال في البيت الثاني وما يمنعني من العود إليكم على شدة الشوق إلا ما أذكره من تلك الأذاة فهي التي تعينني على الشوق، وأما وجه الذم فهو ما أورده ابن فورجة ولا حاجة إلى إعادته.
ومن التي أولها:
أهلًا بِدَارٍ سَباكَ أغيَدُها
لا ناقَتِي تَقبلُ الرَّديفَ وَلا ... بالسَّوطِ يومَ الرّهانِ أُجهدُها
قال ابن جني: يريد بناقته نعله قال الشاعر:
رَوَاحلُنا سِتٌ ونحنُ ثَلاثَةٌ ... نُجَنِّبُهُنَّ المَاءَ في كُلِّ مَنزِلِ
يا ليتَ بي ضَربَةً أُتِيحَ لها ... كمَا أُتِيحَتْ لَهُ مُحمَّدُها
قال أبو العلاء: هذا البيت يحتمل وجهين. أحدهما: أن يريد أن هذه الضربة حسنت وجه الممدوح وشرفته ودلت على شجاعته. والآخر: أن يكون أراد يا ليت بي هذه الضربة، أي ليتني فديته منها فهو في الوجه الأول متمن خيرا، وفي الثاني جاعل نفسه فداء للممدوح، وأتيح لها أي قدر.
ومن التي أولها:
اليَوم عَهدُكُمُ فأينَ المُوعِدُ ... هَيهاتَ ليَوم عَهدِكُمُ غَدُ
قال ابن فورجة، قال الشيخ أبو الفتح: يقول أني أموت يوم فراقكم فلا أعيش إلى غد ذلك اليوم، فليس لذلك اليوم عندي غد، هذا على ما قاله ﵀، إلا أن البيت ليس ينكشف معنى سائره بهذا القدر من القول، وإنما معناه اليوم عهدكم، أي اليوم آخر يوم اجتمعنا فيه، فعرفوني متى الوعد باللقاء إذا افترقنا، ثم تدارك بقوله:) هيهات ليس ليوم عهدكم غد (. قوله:) أين الموعد (كأنه نعى على نفسه ما أتاه، وقال: ما سؤالك عن موعد اللقاء وأنت لا تحيين بعد فراقهم؟ وقوله: اليوم عهدكم هو من قول الشاعر:
وآخرُ يومٍ منه يومَ لَقِيتُهُ ... بأسفلِ وادي الدَّوم والثَّوبُ يُغسَلُ
ليس هذا من العهد الذي هو العقد مثل قول بن حلزة: واذُكُروا حِلفَ ذِي المَجَازِ وما قُدَمَ فيهِ العُهُودُ والكُفَلاَءُ
فَرأيتُ قَرنَ الشَّمسِ في قَمَرِ الدُّجَى ... مُتأوَدًا غُصنٌ بِهِ يَتَأوَّدُ
قال أبو العلاء: يحتمل البيت معنيين، أحدهما: أن يعني رأيت نورا كنور قرن الشمس في وجه مثل قمر الدجى، والآخر: أن يعني بقمر الدجى القمر الذي يطلع بالليل، كأنه رآها في ليل فقال ذلك، والمتأود المتعطف المائل.
قال الأحسائي: نصب متأودا حالا لقرن الشمس، والتقدير رأيت الشمس متأودا، يتأود به غصن، فالغصن هو فاعل يتأود وليس له تعلق بمتأود.
أبَرحْتَ يا مَرضَ الجفون بِمُمرَضٍ ... مَرِضَ الطَّبيبُ له وَعِيدَ العُوَّدُ
قال ابن جني: يعني بالممرض جفنها،) ومرض الطبيب له وعيد العود (مثل ولا طبيب ولا عود، ولكنه لما ذكر الجفون وذكر مرضا ذكر له طبيبا وعودا، وإنما يريد نظرها إليه ومرض الطبيب معناه: أنه إذا نظر الإنسان إلى عينيها مرض من عشقها. أي: تجاوزت يا مرض الجفون الحد حتى أحوجته إلى طبيب وعود، فبالغ في شدة مرض جفونها، ويقال: مرض فهو مريض ومارض.
وقال أبو العلاء: الأشبه أن يكون الممرض أراد به الشاعر نفسه، وقال للمحبوب يا مرض الجفون، لأن كل من نظر إليه مرضت جفونه، لأنه يحملها على البكاء والسهر وبعض الناس ينشده يا مرض بكسر الراء وهو قليل في الاستعمال، إنما يقولون فلان مريض، والقياس لا يمنع أن يقال مرض، كما يقال سقم فهو سقيم وسقم، قال الأعشى:
يقضِي بها المَرءُ حاجاتِه ... ويُشفَى عَلَيها الفُؤادُ السَّقيمْ
وأبرحت أي صرت إلى البرح، وهو الأمر الشديد الشاق.
1 / 25