437

{ ثم } بعدما انقرضوا { أرسلنا رسلنا } على المنحرفين عن جادة توحيدنا، المنصرفين عن مقتضى سنتنا { تترا } متواترة متتالية بلا تخلل فترة بينهم، فصار الأمر بينهم { كل ما جآء أمة رسولها } لإصلاح حالهم واعتدال خلافتهم وأعمالهم { كذبوه } وأنكروا له وظهروا عليه بالمقاتلة والمشاجرة، فأهلكناهم واستأصلناهم بسبب تكذيبهم وإنكارهم { فأتبعنا بعضهم بعضا } بالهلاك؛ أي: أهلكناهم متتابعة بعضهم بعد بعض إلى أن طهرنا الأرض عن خبثهم وفسادهم { وجعلناهم أحاديث } أي: حكايات وقصصا يسمر بهم، ويعتبر المتعبرون عما جرى عليهم، ويقولون في حقهم ب عدما سمعوا قصصهم معتبرين: { فبعدا } أي: طردا وحرامنا ومقتا وخذلانا { لقوم لا يؤمنون } [المؤمنون: 44] بتوحيد الله ولا يصدقون رسله، وجميع ما جاءوا به من عنده سبحانه من المعتقدات المتعلقة بالنشأتين.

[23.45-51]

{ ثم } بعد انقراض أولئك الحمقى والهلكى { أرسلنا موسى وأخاه هارون } ليكون رداءا له وظهيرا مؤيدين { بآياتنا } الدالة على كمال قدرتنا ومتانة صنعنا وحكمتنا؛ لتكون معجزة خارقة للعادة، صادرة عنه، ملزمة لمن يقابله { و } مع ذلك قويناهما بورود { سلطان مبين } [المؤمنون: 45] أي: برهان عقلي وحجة واضحة ساطعة قاطعة.

{ إلى فرعون وملئه } أشراف قومه، فبلغا الموحى به إليهم، وأظهروا الدعوة عندهم { فاستكبروا } عن قبوله عنادا وعتوا { و } هم { كانوا } في أنفسهم { قوما عالين } [المؤمنون: 46] متجبرين متكبرين.

وترقى أمر فرعون في الاستكبار إلى أن ادعى الربوبية والألوهية لنفسه { فقالوا } بعدما سمعوا منهما ما سمعوا من الإيمان بالله، والدعوة إلى توحيده، والإتيان بالأعمال الصالحة، والامتثال بالأوامر والاجتناب عن النواهي المنزلة في التوراة متشاورين بينهم مستبعدين عن أمرهما منهمكين معهما مستهزئين: { أنؤمن لبشرين } ونقبل منهما قولهما مع أنهما { مثلنا } في البشرية، ولا مزية لهما علينا بالمال والكمال { و } لا بالنسب؛ إذ { قومهما } الذين انتشأ منهم { لنا عابدون } [المؤمنون: 47] إلى الآن ونحن أربابهم مسلطون عليهم، فكيف نؤمن ونقاد لهما بلا شرفهما حسبا ونسبا؟!.

{ فكذبوهما } أشد تكذيب وأنكروا عليهما، ونسبوا ما أتيا من الحجج والمعجزات إلى السحر والشعبذة، وظهروا عليهما ونسبوا ما أتيا من الحجج والمعجزات إلى السحر والشعبذة، وظهروا عليهما بأشد العدوة والخصومات { فكانوا } بالآخرة بواسطة إنكارهم وتكذيبهم { من المهلكين } [المؤمنين: 48] المستأصلين بالإغراق في بحر قلزم أو النيل.

{ و } اذكر يا أكمل الرسل { لقد آتينا موسى } من كمال جودنا ولطفنا معه { الكتاب } أي: التوراة الجامع لإصلاح الظاهر والباطن { لعلهم } أي: قوم موسى { يهتدون } [المؤمنون: 49] به إلى مقر التوحيد.

{ و } بعد انقضاء زمن موسى وانقراض أعدائه { جعلنا ابن مريم } عيسى صلوات الرحمن عليه { وأمه }. رضي الله عنها. أي: كل واحد منهما { آية } دالة على كمال قدرتنا وبدائع حكمتنا وغرائب صنعنا وقدرتنا، جعلنا لعيسى من الخوارق والمعجزات ما لايخفى، ولمريم أيضا من الكرامات والإرهاصات الخارقة للعادة منها: الحمل بلا مسيس زوج، وسقوط الثمرة من النخلة اليابسة لأجلها في محل الشتاء، وحضور أنواع الأطعمة والفواكه عندها حال كونها في المحراب والأبواب مغلقة عليه مع أنها ما تشبه بأطعمة الدنيا وفواكهها، وغير ذلك من الإرهاصات الغريبة.

{ و } بعدما أخرجهما الجاهلون عن منزلهما { آويناهمآ } أي: أرجعناهما { إلى ربوة ذات قرار ومعين } [المؤمنونن: 50] أي: إلى مكان مرتفع من الأ { ض، كثير المأكل والمشارب يتنعم ويترفه ساكنوها فيها بلا تردد واضطراب في أمر المعاش، قيل: هي بيت المقدس أو دمشق.

ثم قال سبحاه مخاطبا لقاطبة رسله وأنبيائه أصالة، ولأممهم تبعا مناديا لهم إسقاطا منهم الرهبانية والزهد المفرط المؤدي إلى تخريب الجسد وضعف القوى المدركة والمحركة عن مقتضاها، وكذا جميع الآلات والجوارح المعمولة بها: { يأيها الرسل } يعني: نادى سبحانه كل واحد منهم في زمانه { كلوا من الطيبات } التي أنتجنا لكم مقدار ما يسد جوعتكم، ويعتدل به مزاجكم، وأطيب مطاعمكم كسب أيديكم { و } بعدما اعتدل مزاجكم وقوي قواكم { اعملوا } عملا { صالحا } مقربا لكم إلينا، مصلحا لما في نفوسكم من مفاسد الأهوية الفاسدة وتسويلات الشياطين { إني بما تعملون } على وجه الإخلاص { عليم } [المؤمنون: 51] أجازيكم عليه، سواء تزهدون وتترهبون أو لا.

نامعلوم صفحہ