{ يأيها الرسول } المبعوث إلى كافة الخلق بالرسالة العامة، والدعوة إلى توحيد الذات { بلغ } وأوصل جميع { مآ أنزل إليك من ربك } لتبيين طريق توحيده الذاتي على جميع من كلف به { وإن لم تفعل } ولم تبلغ؛ إمهالا وخوفا { فما بلغت رسالته } التي كلفك سبحانه بتبليغها، وبالجملة: اعتصم بالله، وتوكل عليه في أدائها { والله } المراقب لجميع أحوالك { يعصمك } ويحفظك { من } شرور { الناس } القاصدين مقتك ومساءتك يكفيك مؤنة شرورهم، ويكف عك أذاهم بحوله وقوته { إن الله } المطلع لضمائر عباده { لا يهدي القوم الكافرين } [المائدة: 67] القاصدين مقتك، ولا يوصلهم إلى ما يريدون بك من المضرة والمساءة.
[5.68-69]
{ قل } لهم يا أكمل الرسل: { يأهل الكتاب لستم على شيء } من أمر الدين والإيمان والإطاعة والانقياد { حتى تقيموا التوراة والإنجيل و } جميع { مآ أنزل إليكم من ربكم } وتمتثلوا بأحكامها، وتتصفوا بما فيها من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم المرضية عند الله، وتتحققوا بحقائقها ومعارفها المودعة فيها { و } الله { ليزيدن كثيرا منهم } حين سمعوا منك أمثال هذا، ناشئا من { مآ أنزل إليك من ربك } لتأييدك ونصرك { طغيانا وكفرا } من غاية غيظهم، وبغضهم معك، ومع من تبعك من المؤمنين { فلا تأس } ولا تحزن { على القوم الكافرين } [المائدة: 68] الساترين طريق الحق بأهويتهم الباطلة، وآرائهم الزائفة الفاسدة.
ثم قال سبحانه: { إن الذين آمنوا } أسلموا، وانقادوا، وامتثلوا بأوامر كتابك واجتنبوا عن نواهيه، وآمنوا أيضا بجميع الكتب والرسل، وجميع الأنبياء وذوي الأديان وغيرها؛ لتمكنهم في مقر التوحيد البحث، الخالص عن شوب الكثرة { والذين هادوا } من الممتثلين جميع ما أمر في التوراة، ونهي عنه إلى أن وصلوا إلى مرتبة التوحيد، المسقط للاختلافات الصوري والمعنوي { والصابئون } الذين يتوسلون بالملائكة في عبادة الله، لا الصابئون الطبيعيون الذين هم يعبدون الكواكب من صور نظرهم، وكثافة حجابهم { والنصارى } الذين يعلمون على مقتضى الإنجيل بلا فوت شيء من أوامره ونواهيه.
{ من آمن } منهم { بالله } المتوحد بذاته، المستغني عن الأشياء والأنداد مطلقا ووصل بمتابعة كتبه المنزلة، ورسله المبينين لكتبه إلى توحيده { واليوم الآخر } المعد للكشف والوصول { وعمل } عملا { صالحا } بطريق توحيده { فلا خوف عليهم } في سلوكهم { ولا هم يحزنون } [المائدة: 69] بعدما وصلوا؛ إذ كل ما جاء من عند الله إنما هو بمقتضى توحيده، مبين له، وإن كانت الطرق متعددة بتعدد الأوصاف والأسماء الإلهية لكن كل منها موصلة إليه سبحانه؛ إذ ليس وراء الله مرمى ومنتهى، لذلك قيل: التوحيد إسقاط الإضافات رأسا حتى يتحقق الفناء فيه والبقاء به، بل لا فناء ولا بقاء في مرتبة العماء أصلا، حارت في ملكوتك عميقات مذاهب التفكر.
[5.70-72]
والله { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل } على لسان أنبيائهم ألا تشركوا بالله، ولا تخاصموا مع أنبيائه ورسوله { و } بعدما أخذنا منهم الميثاق { أرسلنآ إليهم رسلا } مبشرين ومنذرين تخاصموا، وصاروا من خبث بواطنهم { كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم } وبما لا ترضى به عقولهم { فريقا كذبوا } عندنا؛ مكابرة وعنادا { وفريقا يقتلون } [المائدة: 70] الأنبياء؛ ظلما وعتوا.
{ و } هم من غاية عمههم وانهماكهم في الإعراض عن الحق { حسبوا } وظنوا { ألا تكون } وتدور عليهم { فتنة } مصيبة وبلاء بواسطة التكذيب والقتل { فعموا } عن أمارات الدين، وعلامات اليقين { وصموا } عن استماع دلائل التوحيد والعرفان { ثم } بعدما تنبهوا تابوا مخلصين { تاب الله عليهم } عفا عنهم وقبل توبتهم، ثم بعدما تابوا { ثم عموا وصموا كثير منهم } كرة أخرى؛ لخباثتهم الجبلية { والله } المطلع لجميع حالاتهم { بصير } خبير { بما يعملون } [المائدة: 71] بمقتضى أهويتهم الباطلة يجازيهم على مقتضى علمه وخبرته.
{ لقد كفر الذين قالوا } من غاية جهلهم بقدر الله وما يليق بجانبه: { إن الله } المتجلي على عروش الذرائر الكائنة شهادة وغيبا { هو المسيح ابن مريم } أي: متحد به محصور عليه؛ إفراطا وعلوا { وقال المسيح } لهم حين سمع منهم ما قالوا: { يابني إسرائيل } التائهين بتيه الجهل والإفراط { اعبدوا الله } المنزه عن الحصر والحلول والاتحاد بل هو { ربي } رباني بأنواع اللطف والكرم.
{ وربكم } أيضا بإفاضة العقل الموصل إلى معرفة توحيده، لا فرق بيني وبينكم في العبودية والربوبية، لا تشركوا معه، ولا تحصروه في { إنه من يشرك بالله } المنزه عن الشريك مطلقا غيره من مخلوقاته { فقد حرم الله عليه الجنة } التي هي منزل السعداء الموحدين { ومأواه النار } المعدة للأشقياء الظالمين، المشركين { و } اعلموا أن { ما للظالمين } المفترين على الله ما هو بريء عنه بذاته { من أنصار } [المائدة: 72] ينصرونهم ويشفعون لهم عند أخذ سبحانه وبطشه.
نامعلوم صفحہ