ثم أقسم هابيل بعدما أوعده قابيل القتل: والله { لئن بسطت إلي يدك } من إفراط غيظك وغضبك، وشؤم إمارة نفسك { لتقتلني } ظلما بلا رخصة شرعية، بل محض عناد ومكابرة { مآ أنا بباسط يدي إليك } لدفع صولتك عن نفسي، أو { لأقتلك } على مقتضى أمارتي { إني أخاف الله رب العالمين } [المائدة: 28] من تخريب؛ لمجرد دفع الصائل ولا أخاف على نفسي من القتل؛ إذا الشهداء المقتولون ظلما أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله.
{ إني } من غاية إشافقي وإعطافي معك يا أخي { أريد أن تبوء } أي: لأن تذهب وترجع إلى الله { بإثمي } أي: بإثمك المنسوب إلى قتلي { وإثمك } الذي كنت فيه { فتكون من أصحاب النار } عند الله بهذا الظلم { وذلك جزآء الظالمين } [المائدة: 29] عنده.
{ فطوعت له نفسه } أي: هيجت حسده إلى أن طوعت، وأرضت نفسه { قتل أخيه فقتله } ظلما بلا مدافعة منه كما شرط، فندم دفعة { فأصبح } وصار { من الخاسرين } [المائدة: 30] خسارنا عظيما في الدنيا والآخرة، فتحير في دفعه وإخفائه، إذ لا يموت أحد من بني آدم إلى ذلك الوقت، فحمله على عاتقه، وسار معه إلى حين أروح وأنتن.
{ فبعث الله } إعلاما له { غرابا } فقتل غرابا من جنسه أراد أن يدفعه { يبحث في الأرض } بمنقاره ورجله { ليريه كيف يواري } ويستر { سوءة أخيه } أي: جثته وجسده التي يسوء { قال } قابيل محتسرا، متحزنا، قلقا، حائرا: { ياويلتا } يا هلكتي أحضري { أعجزت } وعلزت عن مقتضى العقل، وعن الاهتداء به إلى حيث { أن أكون مثل هذا الغراب } المتعزل عن العقل والإدراك، بل متابعا له، متلمذا منه { فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين } [المائدة: 31] ندامة مؤبدة بحيث لا يضحك مدة حياته أصلا وعاش مدة مائة سنة، واسود لونه إلى حيث لم يعرف.
[5.32-33]
{ من أجل ذلك } وبسبب وقوعه بين بني آدم { كتبنا } قضينا وألزمنا { على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس } أي: بلا قصاص شرعي { أو فساد في الأرض } مرخص، موجب لقتله من شرك وبغي، وقطع طريق وغير ذلك من الفسادات العامة السارية ضرها وشرها { فكأنما قتل الناس جميعا } إذ كل فرد من أفراد الإنسان مستجمع لكمالات الجميع بسعة قلبه، وعلو مرتبته، واستعداده وقابليته لمظهرية الحق وخلافته فكان قتله قتل الجميع.
{ ومن أحياها } خلصها وأنجاها من المهلكة والمتعلقة { فكأنما أحيا الناس جميعا } على الوجه المذكور { و } بعدما قضينا عليهم { لقد جآءتهم رسلنا } تأكيدا وتشديدا { بالبينت } الدالة على عظم جريمة القتل عند الله، وعظم النكال المترتب عليها في الآخرة { ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض } التشديد والتأكيد { لمسرفون } [المائدة: 32] على أنفسهم بالقتل بلا رخصة شرعية من غير مبالاة بالآيات والبينات.
{ إنما جزآء الذين يحاربون الله } ويقابلون له بعدم الامتثال لأمره، والانقياد لشرعه { ورسوله } بتكذيبه وتكذيب ما جاء به من عند ربه، والقتال معه ومع من تابعه { و } مع ذلك { يسعون في الأرض فسادا } مفسدين بأنواع الفسادات الساري ضررها في أقطار الأرض { أن يقتلوا } حيث وجدوا دفعة { أو يصلبوا } أحياء؛ ليعتبر منهم من في قلبه مرض مثل مرضهم، ثم يقتل على أفظع وجه وأقبحه.
{ أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } متبادلتين؛ ليعيشوا بين الناس على هذا الوجه، ولينزجر منهم نفوس أهل الأهوية الفاسدة { أو ينفوا من الأرض } إلى حيث يؤمن من شرورهم { ذلك } المذكور { لهم خزي } تذليل وتفضيح { في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [المائدة: 33] طرد وتبعيد عن مرتبة أهل التوحيد.
[5.34-37]
نامعلوم صفحہ