قوله: "نبأة" يروى بالرفع على أن "يك" تامة، وبالنصب على أنها ناقصة، والاسم حينئذ ضمير الهرير.
والمعنى أنهم قالوا في تمام الحكاية: فلم يك الهرير الذي سمعناه إلا خفيا، أي لم يقو ولم يدم. ثم نامت الكلاب بعده، فتغير اعتقادنا أن سببه ما تقدم، معتقدين خلاف ذلك. فقلنا لما هومت على حسب اعتقادنا أيضًا، وإن لم يكن مطابقا أيضًا-: أقطاة حصل لها روع فطارت؟ أم صقر هو الذي أفزع فطار؟ فهرت الكلاب فانقطع ذلك، فانقطع هريرها، إذ لو كان سببه اعتساس الذئب أو الفرعل لدام، لأن الهرير بحسب موجبه في القوة والضعف، وطيران القطاة والأجدل عند الروع أضعف من حركة الذئب والفرعل في الاعتساس. فالهرير الذي يترتب على الأول أضعف من الذي يترتب على الثاني.
والحاصل أنه يستدل بصفة الهرير عن سببه، ولمل تبين لهم عدم مطابقة اعتقادهم الثاني أيضًا من كون الهرير لقطاة أو أجدل ريع، قالوا ما حكاه هو عنهم بقوله:
فإن يك من جن لأبرح طارقا ... وإن يك إنسًا ما كها الإنس تفعل.
"أبرح" فعل ماض فاعله ضمير الطارق المدلول عليه. بما تقدم. ومعنى أبرح: أتى بالبرح -بالسكون-أي الشدة. والطارق: الآتي ليلا، و"كها" جار ومجرور وهو ضمير الفعلة المفهومة من سياق الكلام. وجر الضمير بالكاف شاذ منه قول العجاج:
وأم أوعال كها أو أقربا
قوله: "فإن يك" حرف شرط، وفعله وهو مضارع "كان" الناقصة، واسمه ضمير يعود على الطارق. و"من جن" خبر "يك" و"الأبرح" جواب الشرط. و"طارقا" حال من فاعل "أبرح" وقوله: "ما كها" جواب قوله: "وإن يك إنسا"، جرده مما يستحقه من الفاء ضرورة. ونظيره قول حسان ﵁:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ...
وحل البيت: فإن يكن الطارق من جن ومن يحلف به لأتى بأمر عظيم، وداهية دهياء مع قلة زمانه، وخفاء مكانه، بحيث ظن ذئبا أو فرعلا اعتس، ثم ظن قطاة أو أجدل حصل له روع، وإن يكن الطارق أنسا فما مثل هذه الفعلة تفعل الإنس، فقد خرج عن نظائره من الإنس بفعلته المنكرة المقررة. وهذا يدلك على ما قررناه من كون المسؤول عنه منهما مطلوب التصور لا معنيا مشكوكا فيما نسب إليه. ويسمى الأول تصورا، والثاني تصديقا.
هذا و"الإنس" فاعل فعل مقدر دل عليه المؤخر فهو من الاشتغال في المرفوع نظير قوله تعالى* (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) .
ويوم من الشعرى تذوب لؤابه ... أفاعيه في رمضائه تتململ.
الشعرى: نجم، وهما شعريان، العبور وهي المرادة هنا، سميت بذلك لأنها عبرت نهر المجرة، والأخرى الغميصاء. وكان الشعرى العبور تطلع في شدة الحر. ولؤاب اليوم ولعابه: ما يرى فيه عند الهاجرة متدليًا في الجو كخيوط الحرير، ونسج العنكبوت، وقد يضاف ذلك للشمس أيضًا، فيقال: لعاب الشمس كما قال أبو الطيب:
وأصدى فلا أبدي إلى الماء حاجة ... وللشمس فوق اليعملات لعاب
وقال الآخر:
...
وذاب لؤاب الشمس فوق الجماجم
وواحد الأفاعي: أفعى بالتنوين، مصروف، وقد لا يصرف كنظائره وهي "أجدل" و"أخيل". والرمضاء: الأرض التي ترمض فيها أقدام من مشى عليها لاشتداد حرها. والتململ: التقلب ظهرا لبطن من شدة الحر هنا، أومن شدة الوجع.
قوله: "ويوم" مخفوض ب "رب" المقدرة بعد الواو، وما بعده من الجمل وما في معناها صفات له، ومع ذلك فهو مرفوع المحل بالابتداء، خبره في قوله:
نصبت له وجهي ولا كن دونه ... ولا ستر إلا الأتحمي المرعبل.
الكن-بالكسر-: الستر والغطاء. والأتحمي: برد منسوب إلى أتحم على ما قيل، وهي بليدة باليمن، وليس هذا في القاموس. والذي فيه: أنه كالأتحمية، والمتحمة -كمكرمة ومعظمة- برد معلوم. وفيه أيضًا: تحم الثوب: وشاه، والتاحم: الحائك. والمرعبل المتخرق.
والمعنى: ورب يوم كائن من أيام الشعرى، ذائب لعابه، فهو يسيل من شدة حره، متقلبة أفاعيه في أرضه الحامية من شدة وهج الشمس، نصبت وجهي لحره أي سرت فيه منكشف الوجه لشعاع الشمس ولا ستر كائن من دون وجهي يقيه من وقع الحر عليه، ولا غطاء إلا البرد المسمى بالأتحمي الذي تخرق وصار رعابيل: أي قطعا، ثم عطف على "الأتحمي" قوله:
1 / 15