يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء [سورة البقرة: 255].
ومنه يعلم الخلاف ما بين عالم الظاهر وعالم الباطن، أو عالم الحقيقة وعالم الشريعة؛ لأنه يقرأ مثلا واضحا لهذا الخلاف فيما كان من الخضر وموسى - عليهما السلام - من خلاف:
فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا [سورة الكهف: 65-82].
وهذه آيات بينات يقرؤها جميع المسلمين في كتابهم الذي لا يختص به فريق منهم دون فريق، وبينهم - ولا شك - أناس مطبوعون على التصوف، واستخراج الأسرار الخفية والمعاني الروحانية من طوايا الكلمات، فإذا عمد هؤلاء إلى تفسير تلك الآيات وما في معانيها، فليس أيسر عليهم من الوصول إلى لباب التصوف الذي شغلت به خواطر الحكماء في جميع الأحوال.
1
وإذا آمن الصوفي المسلم بالكشف عن الحقائق من وراء الظواهر، فهو لا ينتهي من التفرقة بينهما إلى إسقاط الشريعة، أو إسقاط ما تأمره به من التكليف، أو إباحة ما تحظره من المحرمات؛ لأن الحقيقة عنده لا تنقض الشريعة؛ بل تتممها وتكشف ما استتر من حكمتها، وتظهر ما خفي من أسباب ظواهرها كما فعل الخضر في كل قضية خفيت على صاحبه، فكشف له من حقيقتها عن حكم الشريعة فيها.
وقد كان أقطاب الصوفية يقيمون الفرائض ويصلون ويصومون، ويحجون إلى البيت، ويعطون الصدقات، وتحدث رجل أمام أبي القاسم الجنيد بحديث المعرفة فقال: إن أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقوى إلى الله، فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالا ممن يقول هذا. وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله، وإليه رجعوا فيها. ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها، وإنه لأوكد في معرفتي، وأقوى في حالي.
2
قال صاحب كتاب «التعرف لمذهب أهل التصوف»: «وأجمعوا على تعجيل الصلوات، وهو الأفضل عندهم مع التيقن بالوقت، ويرون تعجيل أداء جميع المفترضات عند وجوبها، لا يرون التقصير والتأخير والتفريط فيها إلا لعذر، ويرون تقصير الصلاة في السفر، ومن أدمن السفر منهم ولم يكن له مقر أتم الصلاة، ورأوا الفطر في السفر جائزا ويصومون، واستطاعة الحج عندهم الإمكان من أي وجه كان، ولا يشترطون الزاد والراحلة فقط، قال ابن عطاء: الاستطاعة اثنان : حال ومال؛ فمن لم يكن له حال يقله فمال يبلغه. وأجمعوا على إباحة المكاسب من الحرف والتجارات والحرث وغير ذلك مما أباحته الشريعة.»
وليس من الإنصاف أن تحمل على التصوف أوزار الأدعياء واللصقاء الذين يندسون في صفوفه نفاقا واحتيالا، أو جهلا وفضولا؛ فإنه ما من نحلة في القديم والحديث سلمت من أوزار اللصقاء الذين ينتمون إليها من غير أهلها، ولكن التصوف على حقيقته الكاملة هو حرية الضمير في الإيمان بالله على الحب والمعرفة، وبلوغ هذه المرتبة هو فضيلة الإسلام الذي أطلق ضمير الفرد من عقال السيطرة الروحية، ويسر له أن يلوذ بسريرته هذا الملاذ الأمين الذي لا يداخله فيه حسيب أو رقيب غير حسيبه ورقيبه بين يدي الله.
نامعلوم صفحہ