ويخشى الغزالي فتنة الجدل على الثراثرة المتحذلقين كما يخشاها على العامة المقلدين؛ فهم كالعامة المقلدين أو شر منهم في مصابهم بمضار الجدل، وعجزهم عن الاستفادة من خوض مزالقه وغواياته، قال في الجزء الأول من الإحياء: «وأما المبتدع بعد أن تعلم من الجدل ولو شيئا يسيرا؛ فقلما ينفع معه الكلام؛ فإنك إن أفحمته لم يترك مذهبه، وأحال بالقصور على نفسه، وقدر أن عند غيره جوابا ما هو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة.
وأما العامي إذا صرف عن الحق بنوع جدل، فيمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء، فإذا اشتد تعصبهم وقع اليأس منهم ...» •••
وموقف الإمام ابن تيمية من المنطق والجدل شبيه بموقف الإمام الغزالي، ولكنه يرى أن المنطق سليقة في العقل الإنساني يستغني عنه الذكي، ولا ينتفع به البليد إذا جاء على غير سليقة واستعداد. ومن كان هذا رأيه في المنطق فمحال أن يقال عنه: إنه يلغيه ويحرمه؛ لأنه لا يلغي الفطرة، ولا يحرم تركيبا أودعه الله نفوس خلقه.
ومن نظر في كتب ابن تيمية التي ناقض بها أدعياء المنطق وعشاق الجدل علم أنه كان بصدد إنشاء منطق صحيح، وهداية إلى تطبيق أصول المنطق القويم، ولم يكن متصديا لهدم المنطق من أساسه على جميع وجوهه، وفي جميع تطبيقاته؛ فهو يستخدم قضايا المنطق ليبطل دعوى المناطقة الذين يضعون الحدود في غير مواضعها، ويقيسون الأشباه والنقائض بغير قياسها، ويهدرون الحقائق في سبيل المصطلحات والألفاظ بغير دراية لمعناها.
ومن تخطئته لهم في فهم «الحد» نتبين أنه لا يبطل الحد، ولكنه يبطل قول القائلين أن التصور موقوف عليه، وكلامه عن الحد مثل لكلامه في القياس والقضية وسائر المصطلحات المنطقية، وفيه يقول كما لخصه السيوطي من كتاب «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان»: «قولهم: إن التصور لا ينال إلا بالحد، الكلام عليه من وجوه ...»
الأول:
لا ريب أن النافي عليه الدليل كالمثبت، والقضية سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية لا بد لها من دليل. وأما السلب بلا علم فهو قول بلا علم، فقولهم: لا تحصل التصورات إلا بالحد قضية سالبة وليست بديهية. فمن أين لهم ذلك؟ وإذا كان هذا قولا بلا علم، وهو أول ما أسسوه، فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم، ولما يزعمون أنها آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن أن يزل في فكره ...
الثاني:
أن يقال: الحد يراد به نفس المحدود، وليس مرادهم هنا، ويراد به القول الدال على ماهية المحدود، وهو مرادهم هنا. وهو تفصيل على الاسم بالإجمال، فيقال: إذا كان الحد قول الحاد، فالحاد إما أن يكون عرف المحدود بحد أو بغير حد؛ فإن كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول، وهو مستلزم للدور أو التسلسل، وإن كان الثاني بطل سلبهم، وهو قولهم: إنه لا يعرف إلا بالحد ...
الثالث:
نامعلوم صفحہ