فعلتْ في البيتِ إذْ مُزجتْ ... مثلَ فعلِ الصبحِ في الظلمِ
فاهتدى ساري الظلامِ بها ... كاهتداءِ السفرِ بالعلمِ
أقول: إني إنما ابتدأت بأشعار أبي نواس في الخمر لأنه أكثر الناس إحسانًا فيها، وأولهم استقصاء لمعانيها، وأسبقهم إلى التنوق في أوصافها وألقابها، وأكثرهم معاقرة لندمانها وشرابها، وأوفاهم تشوقًا إليها وتطربًا عليها، وأبلغهم قولًا في نعوتها الرائقة وصفاتها الفائقة، وإن وجد لمن تقدمه شيء من ذلك فإنما يوجد القليل النادر، ومن تأخر عن زمانه عيال عليه وتبع له. وها أنا أذكر ما يخطر من الأشعار والأخبار فيها على حسب ما اشترطته في هذا الكتاب.
كان يقال: للشراب حدان: حد لا هم فيه، وحد لا عقل فيه، فعليك بالأول واتق الثاني. مر أنوشروان وكان يعجبه الورد بوردة ساقطة، فقال: أضاع الله من أضاعك ونزل فأخذها وقبّلها وشرب مكانها سبعة أيام.
قال جميل:
فلمّا ماتَ من طربٍ وسكرٍ ... رددتُ حياتهُ بالمسمعاتِ
فقام يجرُّ عطفيه خمارًا ... وكانَ قريبَ عهدٍ بالمماتِ
ابن نباتة السعدي:
نعمتُ بها يجلو عليَّ كؤوسه ... أغرُّ الثنايا واضحُ الجيدِ أحورُ
فواللهِ ما أدري أكانتْ مدامةً ... من الكرمِ تُجنى أم من الشمس تُعصرُ
إذا صبَّها جنحُ الظلامِ وعبَّها ... رأيتَ رداءَ الليلِ يُطوى وينشرُ
الببغاء:
واجلُ شمسَ العقار في يدِ بدرِ ال ... حسن يخدمكَ منهما النيِّرانِ
في كؤوسٍ كأنها زهرُ الخش ... خاشِ ضمتْ شقائق النعمانِ
إنما سميت شقائق النعمان لأن النعمان بن المنذر رأى أرضًا كثيرة الشقائق فحماها فنسب إليه.
واختدعها عندَ البزالِ بألفا ... ظِ المثاني ومطرباتِ الأغاني
فهي أولى من العرائس إنْ زفَّ ... ت بعزفِ الناياتِ والعيدانِ
قال ابن الجهم: قلت لجارية: نجعل الليلة مجلسنا في القمر، فقالت: ما أولعك بالجمع بين الضرائر، قلت: فأي الشراب أحب إليك، فقالت: ما ناسب روحي في الخفة ونكهتي في الطيب وريقي في اللذة ووجهي في الحسن، وخلقي في السلاسة.
ابن سكرة:
فما ترى في اصطباحِ صافيةٍ ... بكرٍ حناها في الحانةِ الكبرُ
فهي لمنْ شمَّ ريحَها أثرٌ ... وهي لمنْ رامَ لمسَها خبرُ
في روضةٍ راضها الربيعُ وما ... قصَّر في وشيِ قصرها المطرُ
وقد نأى النأيُ بالعقولِ وما ... قصّر في نيلِ وترهِ الوترُ
أشخص الوليد بن يزيد شراعة من الكوفة، وقال له: ما أحضرتك لأسألك عن كتاب الله ولا عن سنّة نبيه ﷺ، قال: والله لو سألتني عنهما لألفيتني فيهما حمارًا، قال: ولكن أسألك عن الفتوة، قال: أنا دهقانها الخبير وطبيبها الرفيق، قال: أخبرني عن الماء، قال: لا بد منه والحمار شريكي فيه، قال: فاللبن، قال: ما رأيته قط إلاّ استحييت من أمي من طول ما أرضعتنيه، قال: فالسويق، قال: فالسويق شراب الحزين والمريض والمستعجل، قال: فنبيذ التمر، قال: سريع الملي سريع الإنفاش ضرط كله، قال: فنبيذ الزبيب، قال: حومة يحامها حول الأمر، قال: فما تقول في الخمر، قال: تلك صديقة روحي، قال: وأنت صديقي فاقعد، أي الطعام أحب إليك، قال: ليس لصاحب النبيذ على الطعام حكم إلاّ أن أشهاه إليه أمره وأنفعه أدسمه، قال: فأي المجالس أطيب، قال: البراح ما لم تحرقه الشمس ويغرقه المطر والله يا أمير المؤمنين ما شرب الناس على شيء أحسن من وجه السماء.
شاعر:
كأنما عرضٌ في كفّ شاربها ... تخالهُ فارغًا والكأس ملآنُ
ابن المعتز:
يا نديميَّ سقِّياني فقد لا ... حَ صباحٌ وأذَّنَ الناقوسُ
من كميتٍ كأنها أرضُ تبرٍ ... في نواحيه لؤلؤٌ مغروسُ
وقال:
كأنهُ وكأنَّ الكأسَ في فمهِ ... هلال أول شهرٍ غابَ بالشفقِ
ديك الجن:
فقامَ تكادُ الكأسُ تخضبُ كفهُ ... وتحسبهُ من وجنتيهِ استعارها
مشعشعةٌ من كفِّ ظبيٍ كأنما ... تناولها من خدهِ فأدارها
ظللنا بأيدينا نتعتعُ روحها ... وتأخذُ من أقدامِنا الراحُ ثارها
أخذه ابن الأصباغي فقال:
عقرتهم عقارة لو سالمت ... شرابها ما سميتْ بعقارِ
1 / 63