وقد ترى للسحر نوعين يختلفان أشد الاختلاف في الأصل والدلالة، فهنالك السحر السطحي الذي يجيء من الضلال في تفسير ظواهر الأشياء؛ وهنالك السحر الخفي الذي يجيء من الضلال في تفسير البواطن، وليس السحر الأول كالسحر الأخير ولا صاحب هذا كصاحب ذاك.
فالباحث عن ظواهر الأشياء إن مشى إليها من طريقها القويم انتهى إلى العلم وإن مشى إليها من الطريق الأعوج انتهى إلى السحر والشعوذة، ولكنه في الحالين لا يتوخى مطلبا غير البحث عن علاقات الظواهر؛ ولا يكلف نفسه النفاذ إلى أعماق المحسوسات؛ فهو في الطريقين قانع بما يبدو على وجه الحياة.
أما السحر الآخر - أي حر البواطن - فهو فلسفة خاطئة أو تدين خاطئ؛ لأنه يتعدى المحسوسات إلى ما وراءها ويتغلغل من السطوح إلى الأعماق. ولكنه يضل الطريق، ويستهدي إلى غايته بغير هداية القلب والضمير، أو هداية الفكر والبصيرة.
والسحر الآخر هذا هو سحر الألمان في القرون الوسطى؛ فقد كانوا سحرة لأنهم لم يستطيعوا بعد أن يكونوا فلاسفة، وطال بهم عهد التصديق بالسحر إلى أن بدأ عهد الفلسفة الحديثة في القرون الأخيرة، فأحرقت امرأة ساحرة في سويسرة الألمانية سنة 1783 ... وبلغ عدد العجائز المحرقات بأمر أسقف واحد في سنة واحدة من أواخر القرن السابع عشر ستمائة عجوز! ولا يخفى أن الآمرين بالإحراق أشد إيمانا بالسحر من المتهمين باقترافه؛ لأن الساحر المتهم قد يعلم عجزه عن الإصابة ويعرف تمويهه على عقول الأغرار، أما الآمرون بإحراقه فلن يفعلوا ذلك إلا وهم مؤمنون بقوة السحر على الإصابة وسلطانه على الناس. •••
والموسيقى - ولا سيما الموسيقى الألمانية - هي أقرب الفنون إلى البواطن والأسرار، وهي أحيانا دعاء المعابد وصلوات العباد، وأحيانا لسان المعاني التي لا تعبر عنها الكلمات، وجيتي هو القائل: «لا تقرأوا أناشيدي ولكن غنوها فتكون أناشيدكم.» وتلك حقيقة خليقة بجيتي الشاعر وجيتي الألماني على السواء؛ فالألحان هي سبيل الاتصال بين الأرواح فيما لا تغني فيه الكلمات، وهكذا اتصلت أرواح الألمان من قبل على ألحان الشعراء الطوافين وأغاني الفلاحين وأساطير الأبطال الغابرين؛ ففي ألمانيا أدب حافل بالأغاني الشعبية لا نظير له عند سائر الشعوب، لأن الموسيقى عندهم عنصر من عناصر الباطن وإحدى وسائل التعبير عن روح الشعب الأصيل. •••
وفي هذه «الباطنية» تعليل لكثير من النقائض التي تظهر لنا على «روح الشعب الألماني» ولا سيما في فهمه للحرية والوطن والجامعة القومية؛ فقد طلب حرية الدين قبل غيره من شعوب أوروبا وبقي متخلفا لا يطلب الحرية السياسية إلا في مؤخرة تلك الشعوب. ولا ريب في أن النزعة الباطنية هي أحد الأسباب القوية التي يرجع إليها ذلك الإسراع في ثورة الدين وهذا الإبطاء في ثورة السياسة والاجتماع.
فلما كان الظلم يوصد على الألمان باب الضمير لم يطيقوا الصبر عليه لأنه قد أوصد في وجوههم الباب الذي منه يسلكون وإليه يلجأون، ولما بقي هذا الباب مفتوحا لم تعنهم مظالم الحياة الخارجة لأنهم يعرضون عنها منصرفين إلى دخائل نفوسهم، فلا تضيق بهم الحياة الخارجة كما تضيق بالمظلوم الذي يعلق عليها جميع الآمال.
فالشعوب التي تستغرقها «الدنيا الظاهرة» يحرجها الظلم إذا أخذ عليها مسالك تلك الدنيا فيدفعها إلى التمرد وطلب التغيير، ولكن الألمان شعب لم تستغرقه «الدنيا الظاهرة» فكانت له مندوحة من حياة الروح يطلب عندها العزاء الصادق أو الكاذب: يطلب عندها أملا في السماء أو رقية في السحر أو سلوى من الفلسفة، وفي ذلك كله تلطيف لوقع الظلم يؤجل الشعور به إلى حين.
وهنا وجه المقابلة بين الألمان والفرنسيين؛ فإن الفرنسيين هرعوا إلى الديمقراطية ولكنهم لبثوا مع الكنيسة التي دان لها أجدادهم وآباء أجدادهم، والألمان خرجوا على كنيسة الأجداد وأبطأوا في تلبية الديمقراطية، وهذا هو الفرق البين بين روحي الشعبين. •••
قلنا: إن «النزعة الباطنية» هي أحد الأسباب القوية التي صبغت «الروح الألماني» بهذه الصبغة في فهم الحرية، ولكنها ليست بالسبب الوحيد الذي جعل للحرية الألمانية والوطنية الألمانية معنى غير معناهما عند سائر الشعوب، فيجب أن نذكر في هذا الصدد أن الجرمان كانوا قبائل شتى ودويلات كثيرة تخضع للدولة المقدسة الكبرى. فكانت الدويلات الصغيرة تكره الدعوى الجرمانية في بادئ الأمر لأنها تحس منها الخطر على وجودها وتخشى أن تفنيها في غمار الدولة الكبرى، بل لقد كان عدم الوطنية الجرمانية في بعض العصور ضربا من الوطنية المشكورة في الدويلات الصغيرة؛ فالبروسي مثلا كان ينكر الغيرة على الوطنية الجرمانية لأنها غيرة تلتهمه وتفنيه وتقضي على غيرته البروسية، فليس بعجيب أن يختلف معنى الوطن في بلاد الجرمان عن معناه في الأمم الأخرى زمنا من الأزمان.
نامعلوم صفحہ