بداءة
النفس الألمانية
نبذة عن الحرية الفنية في الأمة الألمانية
حياة جيتي
المرأة في حياة جيتي
مؤلفات جيتي
آلام فرتر
فوست
ولهلم ميستر
الديوان الشرقي
نامعلوم صفحہ
مؤلفات أخرى
عبقرية جيتي
شخصية جيتي
عقيدة جيتي وآراؤه
تقدير جيتي
مختارات متفرقة
بداءة
النفس الألمانية
نبذة عن الحرية الفنية في الأمة الألمانية
حياة جيتي
نامعلوم صفحہ
المرأة في حياة جيتي
مؤلفات جيتي
آلام فرتر
فوست
ولهلم ميستر
الديوان الشرقي
مؤلفات أخرى
عبقرية جيتي
شخصية جيتي
عقيدة جيتي وآراؤه
نامعلوم صفحہ
تقدير جيتي
مختارات متفرقة
تذكار جيتي
تذكار جيتي
تأليف
عباس محمود العقاد
بداءة
جيتي في شبابه.
ثارت الكنيسة على الطبيعة، ثم ثارت القلعة على الكنيسة، ثم ثارت المدينة على القلعة، ثم ثار الفرد على المدينة.
تلك سلسلة من الثورات تكررت في كل قطر من الأقطار الأوروبية على التقريب، ولكنها لم تكن قط أوضح مظهرا ولا أعمق أثرا ولا أجدر بالدراسة مما كانت في الأقطار الألمانية خاصة.
نامعلوم صفحہ
فسلطان الطبيعة كان عظيما في كل أرض، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في الأرض التي التقى فيها الشمال والجنوب، والتي غنت للطبيعة وقدستها وحفظت من غنائها لها وتقديسها إياها ثمالة شائعة في فنونها وعباداتها إلى اليوم.
وسلطان الكنيسة كان عظيما في كل أمة، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في الأمة التي قامت عليها أركان «الدولة المقدسة» وسيطرت عليها الكهانة حتى دفعت بها إلى ثورة الإصلاح.
وسلطان القلعة كان عظيما في كل بلد، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في البلاد التي تقسمها الأمراء دويلات دويلات، وانقسمت فيها الدويلات أقاليم أقاليم، وطال فيها عهد الإقطاع إلى القرن العشرين، وأصبح فيها توقير النبلاء دينا إلى جانب الدين؛ حتى شكا نبلاء سكسونية مرة من تعميد أبنائهم بالماء الذي يعمد به أبناء الوضعاء!
وسلطان المدينة كان عظيما في كل دولة، ولكنه لم يكن قط أعظم مما كان في الدولة التي اشتهرت فيها «المدن الحرة» واستقلت فيها بالمصالح والنظم والدساتير.
وثورة الفرد على المدينة كانت معرضا للدراسة النفسية في كل بيئة، ولكنها لم تكن قط أغنى بمسائل البحث مما كانت في البلاد التي خرجت فيها النزعة الفردية مزيجا من ثورة الطبيعة وثورة الكنيسة وثورة القلعة وثورة المدينة وثورة الأفراد، وقلما امتزجت ثورات خمس في نفس واحدة إلا بدت للعين كأنها ضرب من السكون!
وبحق كان «هيجل» فيلسوفا ألمانيا ينظر إلى العالم من خلال النفس الألمانية، وبحق فسر التاريخ كله بالصراع الدائم بين فكرتين تتصارعان ما تكاد إحداهما تغلب الأخرى حتى تتصدى لها فكرة جديدة تنازعها أسلاب الغلب وتأبى عليها قرار الراحة؛ فقد كانت النفس الألمانية ميدانا بقيت فيه بقية من كل صراع وغنيمة من كل غالب وكل مغلوب، وانتهت بها النهاية في هذه الصفة إلى إنسان جامع للثورات التي هي أشبه بالسكون، أو للسكون الذي هو أشبه بالثورات، ونعني به «جيتي» شاعر الألمان الكبير ومحور الكلام في هذه الرسالة؛ فهو من ثم الألماني في الألمانيين، وهو سليل الكنيسة الثائرة على الطبيعة، والقلعة الثائرة على الكنيسة، والمدينة الثائرة على القلعة، والفرد الثائر على المدينة!
النفس الألمانية
النفس الإنسانية لغز خفي على الرغم منها، ولكنك إذا شارفت النفس الألمانية خيل إليك أنها لغز خفي باختيارها؛ لأنها تحب الألغاز والخفايا وتعيش فيها! وما من نقيضة في تلك النفس العجيبة تستعصي على التفسير إلا كان تفسيرها القريب في هذه الحقيقة الشاملة ... فالعلم بهذه الحقيقة زاد لا يستغني عنه المسافر في مجاهل الحياة الألمانية، من باطنة وظاهرة، ومن قومية وفردية، ومن قديمة وحديثة.
اشتهر الألمان بالتدين والفلسفة والسحر والموسيقى والأناشيد والأحلام، وكل سمة من هذه السمات راجعة في قرارتها إلى الإيمان بالغيب والولع بالأسرار.
ولك أن تقول: إن التدين والفلسفة والسحر إخوة ثلاثة يختلفون في العرق والحسن والطهارة، فالغيب الذي يبحث عنه التدين هو سر القلب والضمير، والغيب الذي تبحث عنه الفلسفة هو سر الفكر والبصيرة، والغيب الذي يبحث عنه السحر هو سر القوى الجاهلة والغرائز العمياء، ولكنها كلها لا تولد إلا في مهد الخفايا ولا توجد إلا حيث يكون التصديق بالأسرار.
نامعلوم صفحہ
وقد ترى للسحر نوعين يختلفان أشد الاختلاف في الأصل والدلالة، فهنالك السحر السطحي الذي يجيء من الضلال في تفسير ظواهر الأشياء؛ وهنالك السحر الخفي الذي يجيء من الضلال في تفسير البواطن، وليس السحر الأول كالسحر الأخير ولا صاحب هذا كصاحب ذاك.
فالباحث عن ظواهر الأشياء إن مشى إليها من طريقها القويم انتهى إلى العلم وإن مشى إليها من الطريق الأعوج انتهى إلى السحر والشعوذة، ولكنه في الحالين لا يتوخى مطلبا غير البحث عن علاقات الظواهر؛ ولا يكلف نفسه النفاذ إلى أعماق المحسوسات؛ فهو في الطريقين قانع بما يبدو على وجه الحياة.
أما السحر الآخر - أي حر البواطن - فهو فلسفة خاطئة أو تدين خاطئ؛ لأنه يتعدى المحسوسات إلى ما وراءها ويتغلغل من السطوح إلى الأعماق. ولكنه يضل الطريق، ويستهدي إلى غايته بغير هداية القلب والضمير، أو هداية الفكر والبصيرة.
والسحر الآخر هذا هو سحر الألمان في القرون الوسطى؛ فقد كانوا سحرة لأنهم لم يستطيعوا بعد أن يكونوا فلاسفة، وطال بهم عهد التصديق بالسحر إلى أن بدأ عهد الفلسفة الحديثة في القرون الأخيرة، فأحرقت امرأة ساحرة في سويسرة الألمانية سنة 1783 ... وبلغ عدد العجائز المحرقات بأمر أسقف واحد في سنة واحدة من أواخر القرن السابع عشر ستمائة عجوز! ولا يخفى أن الآمرين بالإحراق أشد إيمانا بالسحر من المتهمين باقترافه؛ لأن الساحر المتهم قد يعلم عجزه عن الإصابة ويعرف تمويهه على عقول الأغرار، أما الآمرون بإحراقه فلن يفعلوا ذلك إلا وهم مؤمنون بقوة السحر على الإصابة وسلطانه على الناس. •••
والموسيقى - ولا سيما الموسيقى الألمانية - هي أقرب الفنون إلى البواطن والأسرار، وهي أحيانا دعاء المعابد وصلوات العباد، وأحيانا لسان المعاني التي لا تعبر عنها الكلمات، وجيتي هو القائل: «لا تقرأوا أناشيدي ولكن غنوها فتكون أناشيدكم.» وتلك حقيقة خليقة بجيتي الشاعر وجيتي الألماني على السواء؛ فالألحان هي سبيل الاتصال بين الأرواح فيما لا تغني فيه الكلمات، وهكذا اتصلت أرواح الألمان من قبل على ألحان الشعراء الطوافين وأغاني الفلاحين وأساطير الأبطال الغابرين؛ ففي ألمانيا أدب حافل بالأغاني الشعبية لا نظير له عند سائر الشعوب، لأن الموسيقى عندهم عنصر من عناصر الباطن وإحدى وسائل التعبير عن روح الشعب الأصيل. •••
وفي هذه «الباطنية» تعليل لكثير من النقائض التي تظهر لنا على «روح الشعب الألماني» ولا سيما في فهمه للحرية والوطن والجامعة القومية؛ فقد طلب حرية الدين قبل غيره من شعوب أوروبا وبقي متخلفا لا يطلب الحرية السياسية إلا في مؤخرة تلك الشعوب. ولا ريب في أن النزعة الباطنية هي أحد الأسباب القوية التي يرجع إليها ذلك الإسراع في ثورة الدين وهذا الإبطاء في ثورة السياسة والاجتماع.
فلما كان الظلم يوصد على الألمان باب الضمير لم يطيقوا الصبر عليه لأنه قد أوصد في وجوههم الباب الذي منه يسلكون وإليه يلجأون، ولما بقي هذا الباب مفتوحا لم تعنهم مظالم الحياة الخارجة لأنهم يعرضون عنها منصرفين إلى دخائل نفوسهم، فلا تضيق بهم الحياة الخارجة كما تضيق بالمظلوم الذي يعلق عليها جميع الآمال.
فالشعوب التي تستغرقها «الدنيا الظاهرة» يحرجها الظلم إذا أخذ عليها مسالك تلك الدنيا فيدفعها إلى التمرد وطلب التغيير، ولكن الألمان شعب لم تستغرقه «الدنيا الظاهرة» فكانت له مندوحة من حياة الروح يطلب عندها العزاء الصادق أو الكاذب: يطلب عندها أملا في السماء أو رقية في السحر أو سلوى من الفلسفة، وفي ذلك كله تلطيف لوقع الظلم يؤجل الشعور به إلى حين.
وهنا وجه المقابلة بين الألمان والفرنسيين؛ فإن الفرنسيين هرعوا إلى الديمقراطية ولكنهم لبثوا مع الكنيسة التي دان لها أجدادهم وآباء أجدادهم، والألمان خرجوا على كنيسة الأجداد وأبطأوا في تلبية الديمقراطية، وهذا هو الفرق البين بين روحي الشعبين. •••
قلنا: إن «النزعة الباطنية» هي أحد الأسباب القوية التي صبغت «الروح الألماني» بهذه الصبغة في فهم الحرية، ولكنها ليست بالسبب الوحيد الذي جعل للحرية الألمانية والوطنية الألمانية معنى غير معناهما عند سائر الشعوب، فيجب أن نذكر في هذا الصدد أن الجرمان كانوا قبائل شتى ودويلات كثيرة تخضع للدولة المقدسة الكبرى. فكانت الدويلات الصغيرة تكره الدعوى الجرمانية في بادئ الأمر لأنها تحس منها الخطر على وجودها وتخشى أن تفنيها في غمار الدولة الكبرى، بل لقد كان عدم الوطنية الجرمانية في بعض العصور ضربا من الوطنية المشكورة في الدويلات الصغيرة؛ فالبروسي مثلا كان ينكر الغيرة على الوطنية الجرمانية لأنها غيرة تلتهمه وتفنيه وتقضي على غيرته البروسية، فليس بعجيب أن يختلف معنى الوطن في بلاد الجرمان عن معناه في الأمم الأخرى زمنا من الأزمان.
نامعلوم صفحہ
ويجب أن نذكر كذلك في هذا الصدد أن مبادئ الديمقراطية حين وصلت إلى ألمانيا كانت مبادئ عدوها المغير عليها المذل لكبريائها، كانت مبادئ الجيش الفرنسي والدولة الفرنسية، فليس بعجيب أن يتلقاها فلاسفة الألمان بشيء من الفتور والإعراض، وأن تجنح بهم الوطنية إلى إنكار الديمقراطية في إبان المنافسة والملاحاة بين الشعبين، فهو روح شعبي ذلك الذي جنح بهم من حيث لا يشعرون إلى إنكار الدعوة «الشعبية» يوم جاءتهم على أسنة الرماح وأفواه المدافع من جانب الفرنسيين!
على أن السبب الذي يتصل بجميع هذه الأسباب ويكاد يدرجها كلها في أطوائه هو حرب «الثلاثين» المشهورة؛ فإن هذه الحرب الطحون قد دمرت ألمانيا في الشمال والجنوب تدميرا وعطلت البحث والأدب فيها جيلين متواليين ورزحت استقلال الفكر فيها خلال القرن السابع عشر الذي نشطت فيه دعوة الفكر الحر في الأمم الأوروبية الكبرى.
وهكذا اختلف الروح الألماني في مظاهر الحرية ومعاني الوطنية والعصبية اختلافا غير يسير، فكان له نمط فذ من الاستقلال والشعور بالحقوق.
ولسنا نفهم أمة الألمان وحدها حين نفهم هذه الحقائق ونلاحظ هذه الفروق، ولكننا نفهم شاعرهم جيتي حق فهمه حين ندرك الروح الألماني هذا الإدراك، ونلقي بالنا على هذا النحو إلى مزاج التدين والفلسفة والسحر والموسيقى والأناشيد والأحلام.
نبذة عن الحرية الفنية في الأمة الألمانية
لا تخلو الدنيا من فكرتين تتصارعان كما يقول هيجل فيلسوف الألمان الذي أشرنا إليه في كلمة البداءة، وإنما الغلبة الكاملة في هذا الصراع مستحيلة، فكل فكرة غالبة تفقد بعض الشيء وكل فكرة مغلوبة تغنم بعض الشيء. ثم ينتهي المطاف وفي الدنيا آثار مختلفات لجميع الأفكار غالبها ومغلوبها على السواء.
فإذا تحدثنا هنا عن تداول المدارس الفنية في الأمة الألمانية وجب أن نذكر هذه الحقيقة وألا ننسى أن الغالب منها لم يبق كل البقاء وأن المغلوب منها لم يزل كل الزوال؛ ففي العصر الحاضر أثارة من الأساليب الرومانية والمدرسية والفرنسية والمستقلة والزوبعية التي شاعت بعض الشيوع في جيل جيتي، وفيه كذلك أثارة من الرومانية الحديثة والطبيعية وما تجدد بعدهما من شتى الأساليب.
وهذه الأساليب كلها قد تتلخص على سبيل الإيجاز في أسلوبين اثنين يتداولان الغلب من أقدم عهود الفن في الأمة الألمانية، وهما الأسلوب اليوناني البسيط الصريح المعروف «بالكلاسيكي» والأسلوب المجازي المركب المعروف «بالرومانتيكي». فكان الأسلوب المجازي المركب يستولي على أذواق الألمان في القرون الوسطى إلى إبان عصر النهضة والإصلاح. ثم ضعف سلطانه رويدا رويدا بعد فتح الترك يحملون كتب الإغريق وبقايا آدابهم الخالصة من شوائب العصور المظلمة، فراح القوم يطلبون الرجعة إلى أسلوب اليونان القديم أو الأسلوب «الكلاسيكي» الصريح.
وخير ما نفرق به بين الأسلوبين أو المدرستين - ولا سيما في النحت والتصوير - أن نسمي إحداهما البسيطة والأخرى المجازية، وخير من ذاك أن نثبت هنا كلمة الشاعر الألماني المبدع «هنريك هيني» في الفرق بينهما كما وصفهما في كتابه الشائق النافع عن البلاد الألمانية، فهو يقول: «إن الفرق بينهما هو أن الصور والشخوص في الفن القديم تمثل أصحابها والفكرة التي عناها الفنان؛ فرحلات «الأوديسي» مثلا لا تعني شيئا آخر غير رحلات الرجل الذي هو ابن «لايرتس» وزوج «بنيلوب» والذي اسمه «أولس». وكذلك تمثال باكوس القائم في متحف اللوفر لا يدل على شيء آخر غير ابن سيميل الجميل يطل الحزن الجسور من عينيه وتبدر الشهوة الملهمة من نعومة ثغره وتقويس شفتيه، أما الأسلوب المجازي فغير ذلك في مغازيه؛ إذ رحلات الفارس تنطوي على كنايات خفية وتشير إلى ضلالات الحياة ومتاهاتها في جملتها. والتنين المقهور إنما هو الخطيئة! وشجرة اللوز التي تزجى برياها الشذي من بعيد إلى البطل الهائم إنما هي ثالوث الأب والابن والروح القدس: ثلاثة في واحد، كما أن القشر والليف والنواة ثلاثة في لوزة واحدة . وإذا وصف هومر درع ناضل فما هي في عرف الأسلوب القديم إلا درعا موضونة تساوي كذا من رءوس البقر، أما إذا وصف راهب القرون الوسطى ثياب العذراء في قصيدته فثق إذن أنه يعني بكل طية من طياتها فضيلة من الفضائل، وأن هناك سرا مكنونا في ثياب العذراء الطهور، وإنها هي لزهرة اللوز إذا كان ابنها نواتها، وهذه هي سنة ذلك الأسلوب من شعر القرون الوسطى التي نسميها المدرسة الرومانية.»
هذا هو تفريق هيني بين مدرستي القرون الوسطى، ولكنه يسري بعض السريان إلى فروعهما في العصور الحديثة؛ ففي المدرسة اليونانية حيث ظهرت بساطة وصراحة، وفي المدرسة المجازية حيث ظهرت لف ومجاز.
نامعلوم صفحہ
إلا أن طلاب العودة إلى البساطة في ذلك الزمن كانوا مقلدين فلم يسلموا من غلطات التقليد التي لا محيص عنها؛ فكان الصواب الفني عندهم وقفا على الأقدمين فلا يصيب الشاعر ولا المصور ولا الموسيقي إلا على نمط واحد هو نمط أولئك الأقدمين، كأنما الصحة الفنية ضرب آخر من الصحة الحسابية كما قال بعض النقاد، فمسألة الحساب لا تصح إلا بجواب واحد وصورة الفنان كذلك لا تصح إلا على مثال واحد! ومن ثم جاءت القيود وكثرت الشروط، ولما أوشكوا أن يبرأوا من هذا الخطأ الجديد صدمتهم حرب «الثلاثين» في القرن السابع عشر فباءوا إلى فترة طويلة من الإعياء وضعف الثقة والركود.
خرجت البلاد الألمانية بعد حرب «الثلاثين» منهوكة العزم موهونة الرأي، فأقفرت المدن الحرة التي ظهرت فيها طلائع الاستقلال والنشاط، وخربت المزارع وكسدت التجارة، واشتد طغيان الأمراء كما يتفق أحيانا في أعقاب الحروب الطوال الجوائح، فانكسرت النفوس وفترت الهمم وران على الأمة شك وبيل في كل ما هو جرماني وكل ما هو بسبيل من الجرمانية، وراجت بينها محاكاة الأجانب ولا سيما الأمة الفرنسية التي كانت يومئذ في أوج عمرانها وبذخ سلطانها، وكان بلاطها قدوة الملوك والأمراء في الآداب والأزياء والسموت، فبطل الكلام بالألمانية في مجالس العلية والسروات حتى أصبحت الخطابة بها وصمة لا تليق بالرجل المهذب النبيل، وأضر هذا التقليد ضرره الذي لا ريب فيه ولكنه لم يخل من فائدة حسنة وتمهيد صالح؛ إذ كان الأدب الفرنسي في ذلك العصر حيا بمبتكراته ومنقولاته عن قدماء الإغريق، فانتفع به الألمان وكان له بينهم أثر حميد. ثم كثرت الترجمة من كل لغة لها أدب وكتابة حتى اللغات الشرقية، فنقلت مأثورات من لغات الإنجليز والأسبان والطليان، ونقلت مأثورات من العربية والفارسية والهندية، وكان لذلك كله أثره المنظور في توسيع النظر وتعديل المقاييس والآراء.
ثم تماسك الألمان وراجعتهم الثقة وبدرت بينهم بوادر الوحدة والعصبية، فكتبوا ونظموا في الأدب الرفيع باللغة الألمانية وتعلقوا بأساطيرهم القديمة وأقبلوا على جمعها واقتباسها، واشتط بعضهم فشنوا الغارة على كل أجنبي حديث! بل اجترأ بعضهم فلم يحفل بقيود الأدب القديم: تلك القيود التي كان لها السلطان النافذ قبل ذاك.
ويرجع الفضل في النهضة الألمانية الحديثة إلى أدباء كثيرين لا يسعنا ذكرهم في هذا المقام أجمعين، فحسبنا أن نذكر منهم من كان أقربهم إلى جيتي عهدا وصلة بالسمع أو بالعيان، وهم جوتشيد منقي التمثيل في ألمانيا من السخائف والكثافات، و«لسنغ» الداعية الموفق إلى أسلوب الإغريق وأسلوب الابتكار، وونكلمان مؤرخ الفن القديم بوحي من روح العلم وروح الأدب، و«فيلاند» مطلق الخيال الألماني ومسدد خطاه ونافحه بحرارة الجنوب، و«كلوبستك» ملتون الألمان، وهردر الذي نهج بجيتي على النهج القويم في فهم اليونان وشكسبير والعودة إلى مآثر التيوتون، وكلهم سابقون لجيتي في الميلاد بزمن قصير.
على أن المدرسة أو الطريقة التي لا يحسن بنا أن ننساها في هذا المقام هي المدرسة التي عرفت باسم الزوبعة وراجت في إبان نشأة جيتي أيما رواج، سميت باسم رواية تمثيلية للأديب «كلنجر»، ودلت تسميتها هذه على حقيقة ما ترمي إليه؛ فهي مدرسة جامحة لا تذعن لقيد قديم ولا حديث، ورواية «جوتز» التي ألفها جيتي في شبابه هي إحدى ثمار هذه المدرسة بغير خلاف. •••
هذه لمحة عاجلة - بل عاجلة جدا - عن تاريخ الحرية الفنية في الأمة الألمانية إلى عهد جيتي؛ وهي بمثابة تصوير اتجاه النهر دون تصوير فروعه وقنواته ومدنه، وربما حدث في مجاري الأنهار أن يتفرع عليها الجدول فيسبقها إلى الأمام أو يكر راجعا إلى الوراء، فبينما النهر الأصيل متجه إلى الشمال إذا بفرعه الكبير أو الصغير يتجه إلى الجنوب.
وهذا الذي حدث في نهر الآداب الألمانية من بداية ينبوعه، فبقيت فروع منه في وادي المجاز حين تدفق مجراه إلى وادي الصراحة، وقامت مدائن منه على فرعين: أحدهما مجازي وثانيهما صريح! وما من أسلوب إلا رجع مرة بعد مرة على تفاوت في القوة والغزارة، فظهرت المجازية في عهد جيتي بليغة الرسالة أحيانا عزيزة الأنصار، وجاءت في هذه المرة تحوم حول الكنيسة وتنادي بأن الفن لم يزهر قط بمعزل عن كفالة الدين، ويرجع غير ذلك الأسلوب في ذلك العهد الحافل بالنقائض والبدوات، إلا أن شيئا واحدا تقوله في جميع هذه الأحوال وأنت على ثقة من الصواب، وهو أن الأغاني والأساطير القومية وأحاديث الأبطال الغابرين كانت تصاحب النهر أبدا في كل مجرى وكل قناة، وشيئا آخر تقوله أيضا وأنت على ثقة من الصواب: وهو أن جيتي كان سليل هذه العناصر جميعها؛ ففيه مشابه بارزة أو غير بارزة من قديمها وحديثها: يشبهها شبه الابن بآبائه وأجداده لا شبه المحاكي المفتون بمن يحاكيه، وفرق بين الشبهين جد بعيد، فإذا جاء الولد على آسال آبائه وأجداده فأنت لا تقول عنه إنه يحاكيهم ويتعمد مشابهتهم، بل ربما جاز لك أن تقول إنهم ينتسبون إليه كما تقول إنه ينتسب إليهم. •••
وبعد فمن تمام الكلام في هذا السياق أن نعرض لحالة القصة والتمثيل قبل أيام جيتي بلمحة أخرى؛ لأنه ساهم في القصص وأصلح في التمثيل غير قليل وألف للمسرح واشتغل زمنا بإدارته.
فأما القصة فقد كتب فيها بعض الأدباء النابهين كتابة لا بأس بها بعد حرب الثلاثين، واتخذ لها من الفروسية العارمة المقتحمة موضوعا يناسب القلاقل والمخاطر التي كانت فاشية في تلك الأيام، ثم ركدت فترة ريثما استوعبت الأذهان القصص المنقولة عن اللغات الأجنبية من طراز «روبنسون كروزو» الإنجليزية و«دون كيشوت» الإسبانية وروايات النخوة التي اشتهر بها إقليم بروفنس (Provence)
في فرنسا، فتهيأ المقلدون لمحاكاتها وكثرت الكتابة القصصية وأخذت في التقدم، وهي مع هذا لا تسلم من عيوب الطريقة المجازية التي تلتزم المغزى والعبرة في كل رواية وفي كل نادرة، كأنما القصة عمل «وعظي» مقصود لهذا الغرض وليست عملا فنيا تجيء فيه العظات اتفاقا أو لا تجيء على الإطلاق، ونشأ جيتي فأدرك القصة الألمانية وهي على هذه الحال تتراوح بين العظات والفنون.
نامعلوم صفحہ
وأما التمثيل فقد أصلح فيه جوتشيد ولسنغ وونكلمان ما تيسر لهم أن يصلحوا، ولكنه بقي مع هذا فنين يكاد يستقل أحدهما عن الآخر، لا فنا واحدا في تطور واحد كما كان عند الفرنسيين والإنجليز. فالعالي منه كان مقصورا على مسارح الأمراء في قصورهم التي لا يدخلها غيرهم ومن يصطفونه لمجالسهم، أو مقصورا على الطلاب في الجامعات يلهون به فترة بعد فترة على غير انتظام، والوضيع منه موكول إلى الفرق الطوافة التي لا كرامة لها ولا متسع للنبوغ فيها.
ثم تولته عناية الأمراء والأدباء رويدا رويدا حتى ارتقى بعض الارتقاء، ولكنك خليق أن تعلم مدى ارتقائه هذا متى علمت أن النظارة كانوا يعاقرون الخمر في ردهة دار التمثيل ويدخلونها بأطفالهم وكلابهم في أيام «فيمار» الزاهرة، وهي الأيام التي أشرف فيها جيتي على إدارة التمثيل. •••
وإلى هنا يستريح ضمير الكاتب الأوروبي إلى السكوت وهو يصف العناصر التي اشتركت في تكوين جيتي فلا يزيد على ما تقدم.
إلا أن الكاتب العربي مطالب فيما نعتقد بكلمة أخرى قلما تعثر بها في تراجم الأوروبيين لذلك الشاعر، فليس يسعه إلا أن يضيف إلى ما تقدم كلمة واجبة عن العناصر الشرقية التي اتصلت بجيتي وأثرت فيه بعض التأثير، فمما لا ريب فيه أن للعربية فضلا لا ينكر في تثقيف جيتي وتغذية خياله؛ لأن آداب العرب وصلت إلى الألمان في العصر السابق لعصر جيتي من طريقين لا من طريق واحد: أحدهما مباشر وهو طريق الترجمة من العربية إلى الألمانية، والآخر غير مباشر وهو طريق الآثار التي ترجمت عن الإنجليزية والإسبانية والفرنسية وكانت فيها مسحة واضحة من الآداب العربية.
فقصة «روبنسون كروزو» - وهي من أهم ما أثر في القصص الألماني - مدينة لرحلات السندباد وأسطورة حي بن يقظان الفلسفية اللتين ظهرتا في الإنجليزية قبل «روبنسون كروزو» بزمن وجيز. و«دون كيشوت» الإسبانية - وهي كذلك من أهم ما أثر في القصص الألمانية - عربية في الفكاهة والتقسيم، وتكاد تكون بعض أمثالها ترجمة حرفية للأمثال المعروفة عند الأندلسيين. وشعراء بروفنس - وهم أصحاب أثر واضح في القصص الألماني - قد أخذوا كثيرا من شعر الأندلس حتى أوزانهم التي تشبه أوزان أزجال ابن قزمان.
فاسم الأدب العربي لن ينسى إذا ذكرت اليوم أسماء الآداب التي مازجت عبقرية «جيتي» أو مازجتها تلك العبقرية العظيمة، وهو نفسه قد أدى شهادته لذلك الأدب بديوان طريف ظريف سماه «الديوان الشرقي» نسج فيه على منوال العرب والشرقيين في الغزل والوصف والحنين، وسنتكلم عنه بعد، ونترجم منه طرفا في باب المختارات.
حياة جيتي
1749-1832
كان جيتي يغبط صاحبه شيلر لموته في العقد الخامس من عمره، فذكراه أبدا مقرونة بذكرى الشباب المحبوب والنضارة الموموقة.
وقلما يصيب المرء في تمنيه ولو كان من الحكماء، فلو مات جيتي في سن صاحبه لضاع أكبر نصيبه من الشهرة وهبطت مكانته في عيون قومه وعيون سائر الأقوام؛ لأن طول عمره أقامه في الأدب الألماني الحديث مقام الأبوة والرجحان، وأتاح له أن يتم ما بدأه من الكتب في أوائل الحياة.
نامعلوم صفحہ
لكنه كان يتمنى ذكرى الشباب على خطأ أو على صواب، فعزاء له ولا ريب أن تضمه الأرض إليها وهي في نضرتها وأن تلف ذكراه في أكفان ربيعها؛ فقد مات في الثاني والعشرين من شهر مارس خاتمة الشتاء، فلا يذكره الذاكرون إلا بدرت إلى أذهانهم صور الربيع في مطلع وروده ورياحينه! وتلك قسمة خير من قسمة صاحبه المغاضر قبل أوانه؛ وإن لم يكن فيها محاباة من القدر ولا إجحاف.
نعم لا محاباة من القدر في هذا الازدواج بين تحية جيتي وتحية الربيع، فإنما عاش الرجل حياته كلها على طولها في ربيع ناضر من نسج الفن والطبيعة على السواء، ونشأ في حجر الجمال من لدن كان في طفولته الأولى إلى أن نيف على الثمانين؛ ففي الرابعة عشرة حب وجمال وفي سرير الموت حب وجمال! وكانت إحدى كلماته الأخيرة في غيبوبة الاحتضار إشارة إلى رأس امرأة في الخيال. فقال لمن كان يراهم في غيبوبته من ملأ الفنون: «انظروا إلى رأس تلك المرأة الفاتنة ذات الغدائر الفواحم في لونها الفاخر من ورائها الظهارة السوداء!» وهكذا كانت عيناه لا تملان محاسن الدنيا في صحو ولا غيبوبة، وقلما فارقه الصحو في أزمات الروح والجسد، وقلما احتوته الغيبوبة إلا في قبضة الحمام أو في قبضة السقام.
بل لقد خطب الرجل وهو في الرابعة والسبعين فتاة في التاسعة عشرة! فلما أعرضت عنه تشفع إليها وإلى أمها بأميره الذي حقق فيه قول أبي الطيب:
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي
عند التي تركتني في الهوى مثلا
فلما أصرت أمها على الرفض كما ينبغي أن تصر كل والدة في مثل هذه الخطبة انقلب إلى بيته مزودا بقبلتين اثنتين جادت بهما الفتاة عليه في موقف التعزية! وراح يعاني برح الغرام وينظم قصائد الغزل! وينسى أنه لا يبدو للدنيا في صورة ربيعية وإن كانت الدنيا لا تبدو له إلا كذاك!
وظلت الحياة يانعة لقريحته كما ظلت يانعة لقلبه، فأثمرت شجراته في الفن والعلم أطيب الثمر، وأخصبت أيامه كلها في شتى المباحث والمشاركات كأخصب ما عرف في أيام الشعراء المفكرين، فمن شعر إلى شريعة إلى سحر إلى تصوير إلى موسيقى إلى طب إلى معادن إلى نبات، تختلف في الجودة ولكنها لا تختلف في النماء، فإن أينعت منها جوانب وأقفرت جوانب أخرى فكما تختلف البقعتان في الأوان الواحد، هذه عداها الماء والزرع وهذه يجري إليها الماء وتعمل فيها يد الأكار، وكلتاهما مطويتان في أوان الربيع، وليس اختلافهما كاختلاف الربيع والشتاء، أو كاختلاف النضرة والذبول.
أجل! هو ربيع دام في هذه الأرض نيفا وثمانين عاما يخصب حينا كما يخصب الربيع ويجدب أيضا كما يجدب الربيع، وهو ربيع الطبيعة والفن معا ... فإن شئت فقل إنه تمثال حياة، وإن شئت فقل إنه حياة تمثال! ولكنك لا تستطيع أن تتصوره دون أن تجمع في تصورك إياه بين الحياة والتمثال في إهاب واحد! وستعلم من تفصيل وصفه اللاحق أننا نعني الحقيقة هنا ولا نعني اللعب بالكلمات.
جيتي في سنة 1826.
ولد جوهان ولفجانج جيتي بمدينة فرنكفورت في الثامن والعشرين من شهر أغسطس لسنة 1749، من سلالة كان فيهم الحائك والحداد والبيطار والضابط والتاجر؛ فهم من ناحية الأبوين صناع ارتقوا إلى طبقة الموسرين، وكان أبوه في الحادية والأربعين وأمه في الثامنة عشرة حين ولد لهما هذا الطفل المشكوك في حياته الذي عاش بعد ذلك إلى الثالثة والثمانين، فشب في بيت لا تقارب فيه بين الأبوين في السن ولا تقارب في المزاج؛ إذ كان أبوه جافيا شديدا في «النظام» حريصا على سمت وجاهته ولقبه الذي اشتراه بالمال، مرير النفس لفشله في رجاء العظمة والظهور، وكانت أمه طروبا ضحوكا مشغوفة بالسرور. ووصف جيتي في شيخوخته ما ورثه من كليهما فقال إنه ورث من أبيه قوة الخالجة والشك والتطلع، وورث من أمه المرح وحب الحياة والخيال! وكانت أمه فيما عدا ذلك تقرأ الكتب الخفيفة من أدب الألمان والطليان فتبث في ولدها - أو في أخيها كما كانت تسميه بعض الأحيان - هوى القراءة والتخيل والأقاصيص، فميراثه منها في القريحة أكبر وأزكى، وشبهه بأبيه أقرب وأوضح كما ترى في صور الثلاثة.
نامعلوم صفحہ
جوهان كاسبر والد جيتي.
تعلم اللاتينية والإيطالية والفرنسية في طفولته الأولى، وكان أبوه يتولى تعليمه في معظم الأحوال لأنه درس علوم الحقوق وحصل فيها على لقب الدكتوراه، وكان يؤلف في الإيطالية وله رحلة مكتوبة بها.
ولما بلغ جيتي السابعة نشبت حرب السنوات السبع بين النمسا وبروسيا؛ فكانت أمه في جانب «ماري تريزا» وكان أبوه في جانب «فردريك» الكبير، أما هو فكان - هذه المرة - في جانب أبيه.
ثم احتلت فرنكفورت فرقة فرنسية تساعد النمسا على بروسيا، واحتل قائدها «ثوران» منزل جيتي فغنم الطفل الصغير من هذا الاحتلال فائدة لا تنسى؛ لأن ثوران كان ضابطا مثقفا يحب مجالسة الأدباء ورجال الفنون، ويجمع الصور النفيسة ليرسل بها إلى بلاده، ولأنه أذن لجيتي أن يشهد المسرح الفرنسي الذي كان يرافق الجيش في احتلاله حيث شاء أن يشهده، وتلك مزية يفرح بها الطفل من غراره مطبوع على حب الفنون.
كاترينا إليصابات والدة جيتي.
وأخذ يتعلم الرياضة والموسيقى والتصوير واللغة الإنجليزية وهو في الثانية عشرة، فاخترع قصة يعيش أبطالها في ممالك مختلفة ويكتب كل منهم إلى صاحبه بلغة بلده، ليحذق هذه اللغات ويفتن في أساليبها. وأدت به قراءة التوراة إلى درس العبرية فنظم الشعر في قصة يوسف وإخوته، وكان يملي ما ينظمه أو يكتبه على زميل له من صنائع أهله، فتعود الإملاء عادة لزمته طول حياته. ثم برح بيت أبيه إلى جامعة ليبزج ليدرس فيها الشريعة وما إليها وهو في السادسة عشرة، فبقي زمنا يدرس الشريعة ويزور المتاحف ويمارس التصوير ويلهو أحيانا ويجرب الهوى والهجر والغيرة والإسراف كلما اتفق له ذلك، حتى ضني جسمه وأصيب بنزيف أوشك أن يقضي على حياته ... وعاد إلى بيت أهله بعد سنوات ثلاث وقد تداعى جسده وتداعى يقينه، فلبث فيه أشهرا بين الموت والحياة. وهنا سنحت له فرصة الفراغ لدرس الكيمياء القديمة والسحر والطلاسم مع بعض الأطباء، فقرأ فيها ما شاء وخرج منها كما خرج من جميع مباحثه بمتعة الفنان وتأمل الفيلسوف، ثم قصد «ستراسبورج» في هذه المرة ليستأنف دراسته في جامعتها، وكانت المدينة فرنسية في الحياة العامة وأساليب المعيشة، فتزود من حياتها وعلومها وصاحب طلاب الطب والعلوم الطبيعية فحضر معهم دروس الطب وطبقات الأرض وما إليها، وشاهد هناك الكنيسة الكبرى فحببت إليه الفن القوطي القديم بعد نفور وسوء ظن، وكان لهذه الكنيسة أثر بليغ في تقديره للعبقرية الألمانية وتوقيره لآداب وطنه.
ثم أتم دروس الجامعة وهو في الثانية والعشرين، وراح يتدرب على المحاماة في «فتزلار» ويحب كدأبه أينما كان وأنى كان! فالتقى بالفتاة «شارلوت بف» وأحبها ووصف حبه إياها في قصة «آلام الفتى فرتر» مع شيء من التحوير يقصد به المداراة وصرف الأنظار، فاشتهرت القصة وذاع اسم مؤلفها بين العلية والمتأدبين وسائر الطبقات، وفي طليعتهم «كارل أوغست» أمير «فيمار» الفتى المحب للفنون والآداب. فلما كان هذا الأمير يعبر «فرنكفورت» في طريقه إلى باريس أواخر سنة 1774 استقدم جيتي إليه ودعاه إلى عاصمته، ثم تكررت الدعوة فلباها جيتي وهو لا يقدر البقاء الطويل في تلك العاصمة. وكان من أسباب تلبيته حادث غرام يريد أن يفلت منه ونفور من صناعة المحاماة يحسن له هجرها ولو إلى حين، فقد بدأ فيها بداءة مضحكة ولم يمح النجاح اليسير الذي أصابه فيها نفوره الأول منها، وقد أشار إلى هذا النفور في رواية «فوست» أثناء الكلام عن العلوم والدراسات. •••
كان الأمير ربيب الأدباء نشأ على دأب أهله مشجعا للآداب الألمانية، وكان فتى كريم النفس عارم الفتوة لا يفتأ بين صيد وطرد ومبيت في الخلاء ودعابة ومجون، وكان له مذهب في الحب كمذهب جيتي لولا أنه جامح وثاب، وجيتي لا يطيق الصبر الطويل على الجماح والوثوب. ومن غرائبه في هذا الباب أنه أمر بأن تجمع له مكتبة تضم أشتات ما كتب الكاتبون قديما وحديثا عن الحب بجميع ضروبه وأشكاله، ومن دلائل نبله في شبابه وكهولته أن أناسا وشوا عنده بالفيلسوف «فيخت» واعترضوا على توظيفه بجامعة «يينا» لنزعته الثورية الظاهرة، فوضعوا بين يديه كتابا من كتبه ليقرأه ويعدل عن توظيفه ... فلما قرأ الكتاب أمر بتوظيف الفيلسوف.
عرف كل من الأمير والشاعر صاحبه معرفة البصير الناقد والصديق الشاكر للفضائل المتسامح في العيوب، فتوثقت بينهما الصداقة ودامت مدى الحياة، وفي عاصمة هذه «الإمارة الصغيرة» تولى الشاعر مناصب الوزارة العالية وتقلب في أعمال شتى، منها ما هو متصل بثقافته كالتعليم والتمثيل ومنها ما هو بمعزل عنها كالزراعة والمعادن والحرب، فسوى بينها في العناية وأخلص لها جميعها إخلاصه للشعر والقصة. ووالاه الأمير برعايته خلال ذلك كله فلم يبخل عليه بشيء يتوق إليه. فلما أحب أن يزور إيطاليا تركه يقيم فيها نحو عشرين شهرا ووظيفته جارية وأجره غير ممنون، وقد نفعته هذه الرحلة فيما أقنعته برفضه وفيما أقنعته بأخذه، فقد عدل عن طلب التفوق في التصوير ونفذ إلى صميم الفن القديم.
جيتي وأمير فيمار.
نامعلوم صفحہ
وعلى طول العشرة بين الرجلين لم يقع بينهما من الخلاف إلا ما يقع بين الأخوين أو بين الصديقين الحميمين، فاصطحبا في أعمال الدولة حتى قضى الأمير نحبه وأحس جيتي تغير الحال فاعتزل جميع هذه الأعمال، وإن فضل الأمير في هذا الوفاء لفضل يلحقه بأكبر ذوي التيجان وإن كانت إمارته من أصغر الإمارات.
نعم فاسم «فيمار» الآن اسم عظيم بين البلدان يحف به سحر الطبيعة وسحر الشعر وسحر المأثورات، اشتق الألمان اسمها من الكرم فسموها فاين مار
Weinmar
أي سوق الخمرة، واقترن تاريخها الحديث بتاريخ أكبر الأدباء في بلاد الجرمان أجمعين، واتصل عهدها القديم بعهد «لوثر» المصلح الكبير الذي عاش فيها وخطب فيها واتخذها معقلا يناضل منه روما فيما كان لها من سلطان الملك والدين. وأراد الألمان أن يخطوا أساس دولتهم الجديدة بعد الحرب العظمى فلم يجدوا بلدا غير فيمار عاصمة «الروح» في ألمانيا التي لم تتنكر لها الدنيا كلها حين تنكرت لبرلين وملوك برلين. ولكن هذا كله ما كان ليذكر عن «فيمار» لولا مروءة «كارل أوغست» وأريحيته وعلو همته وترحيبه في عاصمته الصغيرة بكل عظيم الفكر والنفس في دولة الجرمان الرحيبة الأكناف، فلولاه لما كانت «فيمار» إلا قرية صغيرة يضيع اسمها بين أسماء الحواضر ولا تحتويها الخريطة إلا من باب الإحصاء. •••
هذه هي القرية التي أوى إليها الشاعر من خامس نوفمبر سنة 1775 إلى اليوم الذي مات فيه، يداول بينها في الإقامة وبين «يينا» القريبة منها، لم يفارقهما إلا لسياحة أو غربة قصيرة، ولم يقع له فيهما من الحوادث ما يستحق أن يسمى بالحوادث؛ إذ كانت حياته حياة الفنان المتملي والحكيم المتأمل، فهي حياة الخوالج والمؤلفات وليست حياة الوقائع والأخطار.
بيت جيتي الخلوي بين حدائق فيمار.
جيتي في إيطاليا.
ولقد عاش في عصر الثورة الفرنسية ولقي نابليون أعظم رجال الدول في ذلك الزمان، ولكنك إذا سطرت تاريخه استطعت أن تحذف ذكر الثورة بأسرها دون أن تختل معك قواعد ذلك التاريخ، واستطعت أن تلغي لقاءه لنابليون ولكنك لا تستطيع أن تلغي لقاءه للأديب هردر أو الشاعر شيلر، بل لا تستطيع أن تلغي لقاءه لحسناء من أولئك الحسان اللواتي غذينه بغذاء الأرباب من نور العيون ووهج القلوب، فكل حسناء عرفها كان لها شأن في آثاره أجل من شأن نابليون.
على أننا نحسب أن أعظم حوادث التكوين والتوجيه في حياة هذا العبقري المعمر إنما يبحث عنها في سنواته العشر الأولى لا فيما أعقب ذلك من سنوات الشباب أو الكهولة أو الهرم؛ ففي سنته السادسة وقع زلزال لشبونة فطال فيه جدال الناس في العدل الإلهي وسقطت بذور الشك في ضمير الطفل اليقظ المستريب، وفي سنته السابعة نشبت الحرب بين النمسا وبروسيا فسمع عنها في بيته كل ما يقال عن مطامع السياسة وحركات الشعوب من الجانبين المتحاربين، وفي سنته العاشرة شهد التمثيل الفرنسي ورأى مظاهر القوة الفرنسية، وهل في عناصر جيتي الشيخ الملقى على سرير الموت ما يزيد على هذه الأصول؟ قد يكون، ولكنه بعد من قبيل الإضافة والتفضيل لا من قبيل التكوين والتوجيه.
ومات الشيخ في مولد الأرض وعرس الربيع، مات وهو يطلب المزيد من النور ويهتف بمن حوله وهو يجود بنفسه أن «افتحوا النافذة ليدخل النور»، ثم عجز عن الكلام فطفق يومئ بأصبعه في الهواء ويكتب بها كلمات وأوائل كلمات، كأنه لا يريد أن يكف عن «التعبير» وفيه رمق حياة.
نامعلوم صفحہ
ولا حاجة بنا إلى علم الأسرار لنفهم معنى النور الذي طلبه جيتي وهو يودع الحياة، فلقائل أن يتعمق في التفسير ويذهب إلى معنى للنور أخفى من هذا المعنى الذي تراه العيون. أما جيتي فما طلب قط شيئا أنفس وأقدس من نور الشمس في وضح النهار، وما كان الضياء الخفي في أقدس معانيه إلا دون هذا الضياء المشهود نفاسة في عينه وضميره على السواء.
المرأة في حياة جيتي
الأنوثة الأبدية تجذبنا إلى السماء.
جيتي
أردنا أن نفرد كلمة خاصة للمرأة في حياة جيتي لأن شأن المرأة في حياة هذا الشاعر أجل من أن يعبر في ترجمة وجيزة كالترجمة التي تتسع لها هذه الرسالة.
فهو لم يفرغ يوما من الحب وذكرياته، فأحب طائفة شتى، منهن الفتاة والنصف، ومنهن الشقراء والسمراء، ومنهن التي أحبها للرشاقة والدماثة، والتي أحبها للجسد والمتعة، والتي أحبها للذكاء والحصافة، والتي أحبها للعطف الأنثوي الذي يحتاج إليه الرجل الشاعر في حياته النفسية، وكلهن أفدنه في أدبه وسريرته؛ فاتخذ بعضهن بطلات للقصص وصفهن على الحقيقة وصف الملهم العارف، واتخذ بعضهن صديقات أمينات يكاشفهن ويكاشفنه ويعطف عليهن ويعطفن عليه. وكلهن أفدنه رجلا وشاعرا وصاحب منصب في الحكومة، فمن لم يدخلهن في روايته وأغانيه فقد عرف منهن طوية نفس المرأة ودخيلة الطبيعة الإنسانية؛ فجنى أحسن الثمر من الحب والصداقة.
وقد كانت سليقة جيتي سليقة الشاعر المحب للمرأة المتهيئ للعاطفة؛ فلهذا كثر عشقه وتعددت عشيقاته، ولكننا خلقاء ألا ننسى هنا بقية آداب الفروسية التي هام بها الألمان في أواخر القرون الوسطى، فإنها فرضت الحب على الظرفاء والظريفات، وهيأت لجيتي هذا السبيل الممهد في نفسه وفي نفوس النساء.
ويطول بنا الشرح لو ذهبنا نحصي كل من عرفهن في شبابه ومشيبه؛ فذلك درس دقيق شامل يخرج بنا عن القصد فيما نحن فيه، فلنجتزئ هنا بالإشارة إلى النساء اللواتي كن أظهر أثرا في سيرته وأطول صحبة لذكراه، وأولئك فيما نعتقد خمس: هن «شارلوت بف» و«أنا إليصابات شونمان» و«البارونة فون ستين» و«بتينا برنتانو» و«كرستيانا فلبيوس». •••
أما «شارلوت بف» فهي صاحبة قصة «فرتر» وهي مثال الفتاة الألمانية المهذبة الوديعة الصالحة للبيت والبنين مع ميل إلى السرور البريء، ماتت أمها وهي في نحو السادسة عشرة فقامت مع أبيها على تربية إخوتها الصغار وعرفت في البلدة باسم «أم الأطفال الحسان»، وكانت لها أخت أكبر منها اسمها «كارولين» ولكنها هي التي كانت تخدم الاطفال وتحنو عليهم، فناءت بأثقال الكفالة والتدبير وهي في هذه السن الصغيرة، فنشأت أميل إلى الجد والرصانة منها إلى اللعب والمراح.
وجاء جيتي في سنة 1772 يتدرب على المحاماة في «فتزلار» حيث كانت تقيم، فرآها وشغف بها وأعجب بحسنها وحبها للطبيعة وإصغائها إلى الأدب وفكاهتها السهلة السموح، وكانت هي تألف عشرته وتجامله ولكنها ترده إلى حدود الصداقة بأدب ولباقة؛ لأنها كانت مخطوبة لفتى آخر موظف في إحدى السفارات اسمه كستنر أكبر من جيتي ببضع سنوات، وكان كستنر صديقا لجيتي عرفه من بداية وصوله إلى «فتزلار»، فتعقدت الصلات أيما تعقد، ووجب على أحد الرجلين أن يخلي المكان لصاحبه قبل أن تفسد الصحبة بين الجميع.
نامعلوم صفحہ
ولم تكن شارلوت تؤثر الزواج بالشاعر على الزواج بكستنر؛ لأنها كانت فتاة البيت التي توحي إليها الغريزة اختيار الزوج الصالح والمحبة المستقرة، فلم يبق لجيتي إلا أن يتراجع ويتوارى في غير جلبة ولا غضب، وقد فعل.
وراح جيتي يتلدد ويتوجع لهذا الفراق وهذه الخيبة، ولكنه شعر ببعض الراحة بعد أن ألف روايته عن «آلام الفتى فرتر» وأودعها ما أودع من خواطره وأشجانه، ولعل من عبر العاطفة الإنسانية أن نعرف كيف التقى جيتي وشارلوت بعد نيف وأربعين سنة من هذا الفراق، فقد زارته في فيمار تسأله الرعاية لولديها أوغست وثيودور، فلقيت الشيخ جيتي مؤدبا مفرطا في الأدب، وبحثت من وراء هذا النقاب عن ملامح الفتى جيتي في غير طائل.
شارلوت بف.
رأيت فيها شييخا لست أعرفه
وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى
وتعسر الحديث بينهما ومل كل منهما صاحبه في فترة قصيرة، وخرجت تقول: «لو رأيته في الطريق ولم أعرف اسمه لما ترك في نفسي أقل أثر!»
وهكذا تتغير الآمال وتتقلب القلوب! •••
أما «أنا إليصابات شونمان» فهي التي أوحت إلى جيتي بعض مناظر الجزء الأول من رواية «فوست» وأهمها شخص «مرجريت» بطلة تلك الرواية، وقد خلد جيتي هذه الفتاة باسم «ليلي» في أغانيه الشجية وقال لصديقه «إكرمان» الذي نقل إلينا أحاديثه أنها كانت الأولى والأخيرة التي انطوى لها على أصدق الحب.
ليلي.
عرفها في فرنكفورت بعد فراقه لشارلوت بثلاث سنوات، وكانت تقاربها في سنها ولكنهما على تفاوت في البيئة والخليقة؛ فقد كانت «ليلي» بنت صاحب مصرف سري يعيش في قصره عيشة الترف والظهور، وكانت لعوبا عابثة تلهو بالحب والمحبين، ووصفها جيتي في قصيدته «حديقة ليلي» فإذا هي أسبه بالساحرة اليونانية التي ذكرتها لنا الأساطير وقالت لنا: إنها كانت تمسخ من تحب حيوانا سلس المقادة يهبط في حبها حيث تشاء، «فلا معرض للسباع أحفل بأصنافها وأجناسها من معرض ليلي! فهي تقنو فيه أعجب الحيوان وتقنصها ولا تدري كيف وقعت لها» كذلك قال جيتي في مطلع تلك القصيدة. ثم قال: «وما اسم الحورية الحسناء؟ اسمها ليلي! وإياك والمزيد في العرفان بها! بل إن كنت لا تعرفها فاحمد الله على ذلك، وما أكثر الصخب والتغريد إذا هي طلعت على سباعها وفي يدها سلة الحبوب ... كل هذا من أجل فتات من الخبز اليبيس! ولكنه في كفيها لهو الشهد الحلو المذاق.» ثم قال: «ويا لنظرتها من نظرة ويا لهتافها باسم بيبي بيبي من هتاف! إنهما لتستهويان النسر من أريكة جوبيتر! ويمينا لتقبلن حمائم فينوس الوديعات إليها ويقبلن الطاووس الفاخر معها لو أتيح لها سماع تلك النبرة. وقد أعرف دبا ساء تعليمه وتنظيفه جذبته من ظلمة الغاب لتقوده تحت مقرعتها وتروضه كما تروض غيره ... تقولون: أنا؟ من؟ ماذا؟ نعم يا رفاق، أنا ذلكم الدب الذي وقع في الحبالة مشدودا بحبل من حرير.» ثم قال بلسان ليلي تذكره: «وحش! أجل، ولكنه مؤنس لا بأس به، هو أودع من أن يكون دبا وأوحش من أن يكون كلبا.» ثم ختم القصيدة صائحا: «أيتها الآلهة! أليس في قدرتك أن تمسحي عني هذا الطلسم، يا لشكري ورضواني لو رددت علي الحرية المسلوبة! ولكن رويدك أيتها الآلهة لا تسعفيني بعونك. كلا! فليس عبثا أن تضطرب أوصالي كما تضطرب الساعة، أقسم أن في بقية من القوة أحسها تجول في أوصالي.»
نامعلوم صفحہ
ولا يبعد أن يكون جيتي في هذه القصيدة ناظرا إلى قصة روسو وصاحبته مدام ديبنيه التي كانت تدعوه بدبها؛ بيد أن القصيدة مع هذا كبيرة الدلالة على «ليلي» وعلى الشاعر المتهكم الصادق في التهكم، فأي وصف لجيتي أصدق من وصفه لنفسه بالدب بين السباع! إذ ليس هو بالنمر الهجامة المغتال ولا هو بالفيل البطيء الأنيس، ولكنه قوام بينهما و«أودع من أن يكون دبا وأوحش من أن يكون كلبا ...» وهذه صورة لجيتي سيذكرها القارئ كلما ازداد علما بخلائقه وأخباره.
تلك هي ليلي وذلك هو جيتي! فأما «ليلي» الفتاة اللعوب فما كانت لترضي أبا الشاعر الحريص على العرف والآداب المثلى في البيئة القديمة، وأما «جيتي» الفتى القليل اليسار فلم يكن ليرضي صاحب المصرف الحريص على الثروة والسعة، ولو وقف الأمر عند هذا لما صعب تدبيره وتذليل عقباته، وإنما العقبة الكبرى في الحقيقة هما الحبيبان لا والد الحبيبة ولا والد الحبيب، فلا ليلي كانت تجد في طلب الزواج ولا جيتي كان يجد في طلبه، ولكنها رأت بين يديها فتى وسيما مشهورا يتحدث الناس بروايته عن «آلام فرتر» وبالحب الذي أوحى تلك الرواية فودت أن تجرب قدرتها في فتنته، وكذلك رأى هو حبيبة فاتنة مزهوة لعوبا وهو يعالج رسيسا من الحب القديم فهويها وتعلق بها. وظل هكذا مترددا لا يبلغ من عشقه أن يشتد فيحطم الحوائل ويقدم على الزواج ولا يبلغ من إعراضه أن يتنحى وينسى. وإنه لكذلك إذ أنقذه رسول الأمير بالدعوة إلى فيمار، فلباها وإن ما به من رغبة الإفلات لفوق ما به من رغبة اللياذ بالأمير. •••
وما استقر في فيمار حتى أخذ يتسلى عن هذه الخيبة الجديدة بمعشوقة جديدة، إلا أن معشوقة اليوم امرأة وافية الأنوثة وليست بصبية غريرة، امرأة تكبره بنحو سبع سنوات وتعرف من شئون الدنيا وخفايا قلب الرجل وقلب المرأة ما ليست تعرفه فتاة ويندر أن تعرفه امرأة؛ لأنها جمعت إلى خبرة السن خبرة البلاط؛ حيث كانت إحدى الخواتين وكان زوجها أمين القصر الأميري، وجمعت إلى الخبرتين معا خبرة الفهم والفن والاطلاع، فكانت موسيقية مصورة تغني وتقرأ الشعر وتخوض في المعارف العامة، وقد تشوق كلاهما إلى الآخر قبل أن يراه فسمعت هي بجيتي وحسنه ورأى هو صورتها وأعجب برشاقتها، فلما تلاقيا كانا على أهبة للحب فتحابا. وطالت صلة الحب بينهما عشر سنوات يراها وتراه ويكتب إليها وتكتب إليه، وتدافعه تارة وتجاذبه تارة أخرى، وهي في جميع ذلك تتعهده بيد صناع فلا يشبع ولا يمل، فإذا آنست منه الملالة فسرعان ما تعيده إليها بألعوبة كيسة وحيلة مطمعة ميئسة. وفي إحدى قصائده إليها يقول لها: «أنت تعرفين كل حركة في ضميري وتلمحين كل هزة في وشائجي وعروقي، وتستطيعين بفرد نظرة منك أن تقرأيني، أنا الذي طالما تعبت عيون بني الفناء في النفاذ إلى سريرتي، أنت تسكبين السكينة في دمي الفائر وتقومين خطاي الشاردة الهوجاء.»
صورة البارونة فون شتين بيدها.
وجيتي يعني ما يقول؛ ففي هذا الخطاب بيان لسر هذا العشق الذي قام على تفاهم الفكرين وتقارب النفسين، وما كان جيتي بالمخدوع في ذكائها فقد شهد صديقه شيلر بفضلها وعذره في إعجابه بها، وما كانت على عيني شيلر غشاوة الحب التي تحجب الحقيقة عن المحبين.
وقد لبثا على غرام يحتدم يوما ويسكن يوما حتى نيفت المعشوقة على الأربعين ووقع جيتي في شباك غرام جديد، فتغاضبا وتعاتبا وأراد منها أن تكون الصديقة فأبت إلا أن تكون العشيقة! فانبت ما بينهما برهة ثم تراجعا إلى الود ورضيا بالولاء الدائم بعد الغرام الزائل. وعاشت إلى الرابعة والثمانين فهنأته آخر تهنئة لها بعيد ميلاده، فرد عليها بأبيات متكلفة هي جهد ما استطاع من إحياء لماضي الغرام الدفين.
تلك هي البارونة فون شتين الألمانية التي تنتمي من ناحية الأم إلى أسرة إيقوسية، وهي أذكى وأقدر صواحبه الكثيرات، وهي التي شاطرته كما رأيت حياة الفكر والقلب والخيال، ونعم في ظلها بسكينة كان في حاجة إليها، وأنس إلى قربها أنس الحنان والولاء. •••
أما «بتينا برنتانو» فهي من سلالة إيطالية من ناحية أبيها، وهي أهم عندنا مما كانت عند جيتي؛ فقد حفظت في كتابها أحاديث له ولأمه لا غنية عنها في شرح ترجمته، وربما كان الأصح أنها هي عشقت جيتي ولم يكن لها بعاشق: عشقته وهو في الثامنة والخمسين وهي في مقتبل الشباب.
وكان هو يعرف أمها مكسميليان ويعبث بمغازلتها في فرنكفورت بعيد إخفاقه في حب شارلوت، فلما زارته «بتينا» في فيمار أزعجته بجماحها ورعونتها وفرط غيرتها في غير موجب؛ فقد كانت طفلة في مزاجها وألاعيبها وليست هي بطفلة في سنيها، وأهل أسرتها كلهم مشهورون بهذه الخفة على شهرتهم بالفطنة واللوذعية! ولم يكن أثقل على جيتي من الرعونة و«الشيطنة» الصبيانية، ولا سيما بعد أن جاوز الشباب وأوشك أن يجاوز الكهولة إلى الشيخوخة، فما هو إلا أن علم أنها شتمت زوجه على أثر خلاف بينهما في معرض الصور حتى اغتنم الفرصة وأبى عليها أن تدخل بيته بعدها. فراحت ترجو وتتوسل وهو على إعراضه مصر وبجفائه معتصم، ولولا كتاباتها عن جيتي لصح أن نغفل ذكرها في هذه الكلمة السريعة.
جزء من خطاب فرنسي إلى البارونة فون شتين بخط جيتي وفي ذيله أبيات بالألمانية.
نامعلوم صفحہ
قال جيتي في إحدى أغانيه: «ذهبت إلى الغاب لا أدري فيم ذهبت، وما كنت أريد شيئا ولا عناني أن أريد. فإني لأرسل النظر في ظلالها إذا زهيرة هنالك وضيئة كأنها نجم، مليحة كأنها عين، هممت أن أقطفها فسمعتها تقول في لطف ورخامة: أقاطفي أنت لأذوي في يديك بعد هنيهة؟ فحنوت عليها ورفعتها من جذورها ونقلتها إلى حديقة تصاقب المنزل البهيج، وهنالك غرستها من جديد في مكان فريد، فترعرعت ولم يفارقها الرواء.»
بتنيا برنتانو.
فرتز ابن البارونة فون شتين كما صوره جيتي.
هذه الزهرة التي تغنى بها جيتي هي الفتاة «كرستيان فلبيوس» التي انتهت علاقته بها إلى زواج وعشرة رضية، وليست الأغنية كلها شعرا وخيالا لأنه في الحقيقة لقي الفتاة أول لقاء في حديقة فيمار المشهورة، ومن هناك قطفها ونقلها إلى المكان المصاقب للمنزل البهيج!
وكانت في الثالثة والعشرين وهو في التاسعة والثلاثين حين سيقت إلى طريقه، أو حين تعمدت أن تلقاه لترفع إليه عريضة لأخيها القصصي الناشئ يلتمس فيها عملا يرتزق منه، فراعته الفتاة وراعها، واشتبكت بينهما المودة، ثم نقلها هي وأمها إلى منزله بعدما ولدت له أكبر أبنائه الذي سماه أوغست على اسم الأمير. ولكنه لم يكتب كتاب زواجه بها إلا بعد ثماني عشرة سنة من لقائها؛ إذ أغار الفرنسيون على بلاده فأشفق أن يموت أو تموت على غير وثيقة مشروعة.
وكانت كرستيان على قسط وافر من الصباحة كأنها «رب الخمر في صباه» كما وصفتها أم شوبنهور الفيلسوف، وكانت على هيامها بالسرور وامتلائها بنشوة الصبا خير من يسوس البيت ويعين الزوج في عمله ولو كان من قبيل عمل جيتي في العلم والأدب؛ فقد كان يغنيها العطف عن الفهم حين تعضل عليها مسائله وأفكاره، إلا أنها لم تكن من الجهل بحيث صورتها «بتينا» والبارونة فون شتين عن حسد وغيرة. فإن قصائد جيتي التي خاطبها بها شواهد على حظ من الثقافة والفطنة غير يسير، ويقول الثقات في اللغة الألمانية إن قصائد الفصول الأربعة والرسائل الرومانية وما شاكلها من الأشعار التي نظمها في ظل هذه العاطفة تفيض بحلاوة الأسلوب ورنة الصدق والغبطة. وكلام جيتي يدل على الحب أوضح دلالة؛ فقد كتب من إيطاليا إلى صديقه هردر يقول له وما هو بالمسرف في وصف عواطفه: «إن الذين خلفتهم بعدي لأعزاء جدا علي، ولا أكتمك أنني شغف بالفتاة أيما شغف. وما علمت مبلغ نياطي بها إلا يوم بعدت عنها.» وقال في أبيات: «لطالما ضللت السبيل ورجعت إلى سوائه، ولكنني ما شعرت قط بمثل هذه السعادة؛ فسعادتي كلها رهينة بهذه الفتاة، فإن كانت هذه ضلالة أخرى فناشدتك أيتها الأرباب إلا ما أعفيتني من ألم العلم بها، فلا أطلع عليها قبل يوم الحمام.»
كرستيانا فلبيوس زوجة الشاعر.
وامتزجت الفتاة بقريحته فأثبتها في روايته الكبيرة «ولهلم ميستر» باسم تريزة. وفاض بالقصائد الغنائية والخواطر العذبة، ولوحظ أن أيامه معها كانت كأخصب أوقاته وأسخاها بالشعر والبحث في جميع أطوار حياته، وليس ذلك لأنها كانت تشاركه في نظراته الرفيعة وتساجله في مراميه البعيدة، بل لأنها أراحته وأهنأت قلبه وصقلت حواشي عيشه فأقبل على النظم والبحث بنفس قريرة وقريحة طليقة، وحسبه ذلك من عشيرة ملازمة أيا ما كان مرتقاها من التهذيب والثقافة.
إلا أن الناس قد نقموا منه أنه أسكنها بيته وإن لم ينقموا منه أنه اتصل بها، وربما كانت نقمتهم هذه لأنهم يدارون المداراة ويكرهون المسائل المكشوفة، أو لأن الفتاة كانت من طبقة وضيعة ولم تكن من طبقته ولا على غراره؛ إذ كانت عاملة في مصنع للأزهار الورقية وكان أبوها موظفا صغيرا اشتهر بإدمان الخمر ورثاثة الحالة. وإلا فما كانت الأخلاق يومئذ تتحرج عن هذه الإباحة، وما عرف الناس عهدا بلغت فيه الثورة على العرف ما بلغته إبان الثورة الفرنسية في الأقطار الأوروبية. ومع هذا تسمح معه أصدقاؤه المقربون ولم يهجروا بيته ولا أوصدوا بيوتهم في وجه امرأته، وكان الأمير في مقدمتهم؛ فقبل أن يشرف على تعميد وليدها ووليد صديقه.
وكان «جيتي» لا يذكرها لأمه حتى بلغ عمر الولد الصغير سنتين، فلما ذكرها لها في رسائله فرحت الجدة بحفيدها وطفقت تغدق عليه الهدايا واللعب ولا تمل السؤال عنه والحدب عليه، وما كان لها أن تفعل غير ذلك وهو حفيدها وسليل البقية الباقية من ذريتها؛ فقد مات جميع أبنائها أطفالا وماتت بنتها «كورنيليا» التي جاوزت الطفولة في عنفوان شبابها، ولم يبق إلا ولدها جيتي وهو لم يتزوج؛ فهي خليقة أن تنسى كل شيء وتعطف على ولده وزوجه حيثما كان له ولد وزوج، وقد تزايد تعلقها بالفتاة بعدما علمت من لهفتها على زوجها وسهرها على تمريضه والترفيه عنه في المرض الخطير الذي أصابه في الثانية والخمسين، وأيقنت من شدة إخلاصها له بعدما علمت أنها حمته بنفسها من عدوان الجند الفرنسيين السكارى الذين هجموا على بيته وهموا أن يبطشوا به.
نامعلوم صفحہ
وقد يعوزنا هنا أن نتابع مصير هذه الذرية كلها إلى ختام حياة الشاعر، فنقول إنه رزق خمسة أبناء ماتوا في طفولتهم الباكرة إلا أكبرهم أوغست فقد نيف على الأربعين ومات في إيطاليا في أخريات أيام أبيه، فتجرع الشيخ هذه الغصة وصبر عليها جهده، وانصرف إلى أحفاده الثلاثة يعلمهم ويداعبهم ويتأسى بملاحظتهم، وفيهم يقول وهو يشاهدهم يتحدثون وينشدون الأشعار ويمثلون: «إنهم ليشبهون الشعراء الحق جد الشبه! فبينما أحدهم غارق في حماسته إذا بالآخر يتثاءب! فإذا جاء دوره في الحماسة راح الآخر يصفر!» ولو أنصف لقال إنهم يشبهون جدهم قبل غيره من الشعراء!
أما كرستيان فقد ماتت وهي في الحادية والخمسين وهو في السابعة والستين، ولا يذكر العارفون بالرجل أنه حزن لفقد إنسان قط حزنه لفقدها ولا جزع في موقف قط جزعه على سرير موتها؛ فقد تخاذل جلده الذي قلما خانه في الشدائد فجثا على ركبتيه وتناول يدها الباردة وهو يصيح بها: «إنك لا تريدين أن تتركيني! كلا! كلا! إنك لن تتركيني ...» ورأته زوج صاحبه كنيبل بعد سنوات أربع فقالت: إنه لا يتعزى. •••
لقد كان في مسلك جيتي مع كرستيان مروءة وكان فيه خطل، فمن المروءة أنه آواها إلى بيته واحتمل في سبيلها غضب قومه، ومن الخطل أنه أخر عقد زواجه بها حتى شب ابنه وهو يعلم حقيقة العلاقة بين أبيه وأمه فأثر ذلك في أدبه وخلقه، وأكبر من ذلك خطلا أنه تعجل في علاقته بالفتاة ولم ينظر إلى أصلها. ولسنا نعني فقرها ورثاثة حالها ففي الفقيرات من هن أشرف وأكرم من الغنيات، ولكنما عنينا وراثتها عن أخلاق والدها وسوء أثرها في ولدها؛ فقد ورثت المسكينة عادة الإدمان وأورثتها الولد الوحيد الذي عاش لها، وكان أشبه بها حتى في ملامح وجهه كما يرى من المقابلة بين صورته وصورتها، فلما مات تبينت الضخامة المفرطة في حجم كبده لإدمانه السكر وما إليه، وكانت هذه الآفة من أسباب الجناية على شبابه. •••
قال أميل لدفج في ترجمته لجيتي: «إن جيتي لم يكن قط بالمغوي الجميل أو الظافر الفخور بغزواته أو «بالدون جوان» المشهور في حلبات الغرام، وإنما كان المتوسل أبدا والمولي الشكر والعرفان أبدا، وأكثر ما كان السائل المردود لا السائل المقبول. وإنما نقترب من فهم الأساطير الذائعة عن عواطفه وتركيب أعماله وقصة روحه كلما عرفنا فيه الرجل المسلم المنقاد وعرفنا فيه إرادة الحب التي لا تروى ولا تزال تروض نفسها حتى تنتهي بالخضوع لحقائق الوجود.»
أوتيلي زوجة أوغست.
أوغست بن جيتي.
ولاحظ أميل لدفج في موضع آخر أنه ما دخل قط في حومة حب إلا اعتصم منها آخر الأمر بالهرب، وكلتا الملاحظتين صادقة نفاذة إلى حقيقة الرجل؛ فها نحن أولاء نرى كيف انتهت علاقاته بخمس نساء على نماذج مختلفات، فأربع منهن آلت علاقاته بهن إلى التراجع والنكوص، ولم تكن العلاقة الخامسة مما يحتمل تراجعا ونكوصا؛ فلذلك بقي متصلا بها أو موصولا إليها، وكان بقاؤه هنا - كما كان نكوصه هناك - خضوعا لحكم الضرورة أو لما سماه لدفج «بحقائق الوجود»، وليست هذه العلاقات الخمس إلا مثلا لعلاقات أخرى لم نعرض لها في هذه الكلمة.
وجيتي مع هذا لم يكن دميما ولا زريا ولا كانت تنقصه وجاهة المحضر والمنصب ولا وجاهة الأمل في المستقبل، ففيم هذا الوقوع الدائم في أسر المرأة وهذا المآل الدائم إلى النكوص عنها؟ نحسب أن في الأمر شيئا من الثقة بالنفس في بعض صورها الغريبة، فالرجل كان على علم بقدره ورجحانه على مزاحميه، فكان لهذا لا يبالي أن يتراجع ولا يشعر بغضاضة الخاسر المدحور الذي يعلق قيمته كلها على نجاحه في هذا الميدان أو إخفاقه فيه، فإذا فاز جيتي في الميدان أو أخفق فليس قصب السبق بالمشكوك فيه؛ لأنه في يديه! فلا جرم يتراجع وهو في صورة الفائز القانع من الغنيمة بالإياب.
ونحسب أن في الأمر سرا آخر يرجع إلى طبيعة الحب الذي كان يحبه والنظرة التي كان ينظرها، فلم يخلق جيتي لحب النزوات ولا لحب الاقتحام ولا لحب الإغواء، وإنما خلق لحب الفنان المتذوق المستطلع المتأمل؛ فليس الفرق بين حبه المرأة وحبه التمثال الجميل إلا أن المرأة تجمع من «الفن ووسائل الاستطلاع» ما ليس يجمعه التمثال الجميل، فهي صورة وشعور وعاطفة وإرادة، وأين له بالتمثال الذي يتذوق معه كل هذه المعاني متفرقات ومجتمعات؟ فالاحتواء الكامل مطلب فوق الرغبة وفوق الطاقة؛ لأن الفنان المتذوق قد ينعم بالتمثال فيغنيه نعيمه به وإن لم يحمله إلى بيته، بل قد ينعم به فوق نعيم مالكه الذي يقتنيه ويحتويه.
وزد على ذلك طبيعة التسليم التي تكره الهجوم وتؤثر مشقة الاحتمال على مشقة النضال، فهي طبيعة «الدب» المسالم المظلوم في حسبانه من السباع إلا حين يغضب ويثور، وحينئذ قد تغضب الهرة الوديعة وقد يغضب الكلب الأليف.
نامعلوم صفحہ
كتب جيتي في شبابه إلى سلزمان يقول: «غرست في طفولتي شجرة كرز وجعلت أرقب نموها وأنا مغتبط مسرور، فلما أزهرت جاء ضباب الربيع فصوح الأزهار، ثم انتظرت سنة أخرى حتى أينعت فجاءت الطير فأكلت الثمر، ثم انتظرت سنة فجاء الدود فالجار الطامع فالآفات، وسأغرس شجرة أخرى كلما وجدت لي حديقة!»
ذلك دأب جيتي في جميع حياته لا في الطفولة وحدها، وفي كل حديقة لا في حديقة النبات وحدها، وغير مستثنى من ذلك حديقة الحب ولا حديقة الفن ولا حديقة التأليف! فإذا اقتضاه الأمر صبرا وانتظارا فهو صابر منتظر! وإذا اقتضاه الأمر دفعا ونضالا فما هو بدافع ولا مناضل.
مؤلفات جيتي
يقسم الأستاذ تيوفيل جوتييه سيرة جيتي من حيث التأليف إلى أربعة أقسام:
الأول:
ينتهي سنة 1775 وهو دور التكوين، وأهم ما كتب فيه رواية «جوتز» التمثيلية وقصة «فرتر»، وكلتاهما مشبعة بروح المدرسة الرومانية الجديدة التي اصطلحنا على تسميتها «بالمجازية الجديدة» أو الزوبعية، وفي هذا الدور أيضا أعد جيتي الأجزاء الجوهرية من رواية فوست الأولى.
والدور الثاني:
ينتهي سنة 1794، وهو دور المدرسة القديمة أو اليونانية، وفيه خلص جيتي من هيمنة المدرسة المجازية واقتفى أثر الإغريق. وأهم ما كتب في هذا الدور معظم قصائده الغنائية وروايات «أفيجيني» و«تاسو» و«أجمونت» التمثيلية، ورحلته إلى إيطاليا، وحكاية الثعلب، وأغاني ومقطوعات.
والدور الثالث:
ينتهي سنة 1805 وهو دور الصداقة مع شيلر، وفيه يظهر روح شيلر الفلسفي وعنايته بالتعميم والنظر والمثل العليا والرمز إلى الخفايا خلافا لجيتي الذي كان يعنى بالحوادث الخاصة والصور المحسوسة والمشاهدات الحاضرة من الوجهة العملية، وأهم ما كتب في هذا الدور من القصص «صبي الساحر» و«الله والراقصة» و«طالب الكنوز» و«تلمذة ولهلم ميستر» ورواية «هرمان ودوروثي» التمثيلية.
نامعلوم صفحہ
والدور الرابع:
ينتهي سنة 1832، وهو دور الشيخوخة أو الدور الذي بدأ بموت شيلر وانتهى بموت جيتي، وفيه اشتغل جيتي بالمباحث العلمية وكاد ينصرف عن الأدب. وأهم ما كتب في هذا الدور قصة «القرابات المختارة» وترجمة حياته التي سماها «الشعر الحقيقية» و«الديوان الشرقي» ورحلات ولهلم ميستر وتتمة فوست، وهي التي غلبت فيها نزعة الرموز والألغاز على نزعة الوضوح والمشاهدة الحاضرة.
جيتي يملي على كاتبه.
وهذا أصح تقسيم وأوجزه لسيرة جيتي الكتابية، إلا أنه لا يخلو من عيوب التقسيمات الحاسمة التي لا تظهر في شيء كما تظهر في فصل أدوار الحياة والتفكير، ولا سيما تفكير جيتي دون سائر المفكرين.
ووجه التخصيص في جيتي أنه كان عبقريا متعدد الجوانب والمشاركات فلا تنحصر أدوار نموه وتقدمه في طريق واحدة، وأنه كان رجلا معنيا بما بين يديه في ساعته الحاضرة، فنظرته إلى الشيء في هذه الساعة قد تختلف عن نظرته إليه في الساعة التي تليها: حسب الطوارئ أو حسب الشعور الراهن الموقوت.
خذ مثلا لذلك انتماءه إلى المدرسة «المجازية الجديدة» الذي كثرت حوله المناقشات والآراء، فهذه المدرسة المجازية الجديدة تثور على السيطرة الفرنسية ولا سيما في التمثيل وشرط التزام «الوحدة في العمل والمكان والزمان» الذي كان النقاد الفرنسيون يشترطونه في الرواية التمثيلية، وهذه المدرسة تعجب بشكسبير لسببين: أحدهما خروجه على ذلك الشرط، والثاني رجوعه إلى أصل جرماني؛ ففي دعوة هذه المدرسة شيء من الثورة الوطنية من هذه الناحية.
وكان دعاة المدرسة المجازية يثوبون إلى قصص القديسين ومأثورات الكنيسة الكاثوليكية ونوادر الأبطال في القرون الوسطى لاستلهام الخيال واختيار الموضوعات، وربما اقتبسوا من أخبار الشرق ومأثوراته لأنهم يطلبون الخيالي البعيد ولا يستريحون إلى الواقعي المشهود، وتلك في لبابها روح دينية موكلة بالمسائل الخفية مطبوعة على النظرة الغيبية: تأخذ من مأثورات الكنيسة الكاثوليكية لأنها تشمل فخامة الدين وتاريخ المراسم والشعائر، وتأخذ من الشرق لأنه ينبوع الأسرار والتواريخ القصية والشعوب التي يلفها البعد في ثياب كثياب الكهانة وظلام كظلام الغيب.
فالمدرسة المجازية الجديدة في لبابها إن هي إلا مدرسة وطن ودين، فكيف كان انتماء جيتي إليها في مؤلفاته الأولى والأخيرة؟
إنه كتب رواية «جوتز» ذي اليد الحديدية وهو أحد الأبطال الألمان المشهورين في القرن السادس عشر، وقد خرج جيتي في هذه الرواية على شرط الوحدة في العمل والزمان والمكان خروجا لا يقاس إليه خروج شكسبير، فهو في اختيار الموضوع وفي أسلوب تناوله على رضا المدرسة المجازية من هذين الوجهين فهل معنى ذلك أنه لم يتأثر بالآداب الفرنسية ولم يستمد منها؟
كلا! لأنه ألف قصة «فرتر» في هذه الفترة وعليها مسحة واضحة من «هلواز الجديدة» والعود إلى الطبيعة الذي كان يبشر به روسو وكتاب الثورة الفرنسية، فهل معنى ذلك أنه لم يتأثر بأدب الإغريق ولم يستمد منه؟
نامعلوم صفحہ
كلا! لأن قصة فرتر نفسها في بساطتها وصفائها تشبه الآثار الإغريقية ولا تمت بآصرة قريبة إلى المدرسة المجازية.
ثم إن جيتي كان لوثريا في مذهبه شكوكيا في عقيدته؛ فحماسته للكنيسة الكاثوليكية تناقض غير معقول، فهل معنى ذلك أنه يناقض المجازيين في كل شيء أو في كل طور من أطواره؟ كلا! فإن الألغاز والأسرار تتردد في الجزء الثاني من فوست وهو الجزء الذي كتبه في دوره الأخير، وتتردد كذلك في رواية «ولهلم ميستر» ومعظمها من آثار أيامه الوسطى.
وقد نظم جيتي ديوانه الشرقي في أيامه الأخيرة، وقد رأينا أن المجازيين كانوا يحبون الموضوعات الشرقية، فهل معنى ذلك أن الشاعر آمن في شيخوخته بالمدرسة المجازية التي استهوته أول شبابه.
كلا! فما تناول جيتي موضوعات الشرق إلا كما يتناولها طالب الحس لا طالب الأسرار، فهو بالإغريق هنا أشبه منه بالمجازيين، وكل ما في الديوان من التصوف الذي يحكي به السعدي وحافظا وأمثالهما لا يخرج به عن هذا النطاق.
وقد امتلأ الجزء الثاني من فوست بأساطير الإغريق ومناظر الإغريق، فهل معنى ذلك أنه خلو من خفايا المجازيين ومأثورات الدين؟
كلا! فربما كان هذا الجزء أدخل في أساليب المدرسة المجازية من أي كتاب كتبه جيتي في إبان الشباب.
وقس على ذلك كل ما يقال عن آثار جيتي ومؤثراته وأطواره وأقسام حياته.
ولعله قطع بالقول الفصل في هذا الباب حين قال عن مآخذه ومصادر أدبه يرد على من يتهمونه بالسرقة والاقتباس: «هذا مضحك! فعلى هذا النحو يجوز لنا أن نسأل الرجل القوي عن الثيران والغنم والخنازير التي أكلها فأعطته القوة! وصحيح أننا نولد وفينا كفاءاتنا ولكننا مدينون في تكويننا لألوف المؤثرات التي تحتويها هذه الدنيا الواسعة التي نأخذ منها ما يوائمنا ويدخل في قدرتنا، وإنني لمدين بالكثير للإغريق والفرنسيين ومدين بما لا حد له لشكسبير وسترن وجولد سمث، ولكنني إذا قلت هذا فليس معناه أنني أكشف للناس عن ينابيع ثقافتي؛ إذ هذا عمل لا آخر له ولا طائل تحته، وكفى المرء أن يكون ذا نفس تحب الحق وتقبسه حيثما كان.»
والنقاد يخطئون في تقدير المشاهد التي رآها جيتي وأثرت في تأليفه كما يخطئون في تقدير المصادر التي رجع إليها واقتبس منها: مثال ذلك رحلتاه إلى إيطاليا اللتان زعم النقاد ما زعموا عن أثرهما في مؤلفاته، فلا خلاف في أن آثار إيطاليا وبلاد اليونان قد زادته علما بالفن القديم وفن النهضة وغيرت نظرته إلى أدب الشمال وأدب الجنوب. ولكن هل معنى ذلك أن زيارة تلك البلاد أفادته في إنتاجه الذهني تلك الفوائد التي يزعمونها؟ كلا بل لعلها بلبلت أفكاره وشغلته بالبحث عن القواعد والنظريات فكلفته التوفيق زمنا بين آرائه وأعماله، ولم تكن هذه الزيارة لازمة لإنشاء قصائده أو أشجانه الرومانية التي اشتهرت بين أشعاره الغنائية، فقد كان في وسعه أن ينظمها وهو في داره على مقربة من زوجه التي أوحت إليه معظم معانيها، فلولا نفحات عارضة لما أنتجت الرحلتان معا غير التفكير والمقارنة، ولولا تسديد شيلر إياه وتوجيهه إلى العمل بعد ذلك لطال بقاؤه في تلك المتاهة.
فصفوة القول فيه أنه كان صاحب عبقرية يقظى تتلقى كل ما يصادفها ولا يعنيها مما تلقاه إلا أن تلمس الحقيقة المباشرة وتتملى الحياة الجميلة، واقتصاره على لمس الحقيقة المباشرة بغير ألفاف ولا مراسم، وعلى تملي الحياة الجميلة بغير خوف ولا تعسف، هو هو الروح الإغريقي الذي لزمه طول حياته في جميع مؤلفاته، فحتى مقاربته للألغاز الدينية ومخلفات القرون الوسطى إنما هي مقاربة الإغريقي القديم لو عاد إلى الحياة ينظر في القرن الثامن عشر إلى بقايا تلك الألغاز والمخلفات. ولكن ينبغي أن نذكر ولا ننسى أبدا أن جيتي لا يكون جيتي حقا إلا في عالم الفن الإغريقي دون الفلسفة الإغريقية، فإذا دخل عالم الفلسفة فربما تركها تتعمق فيه لتبرز في ثوب الفن والجمال، أما هو فلا يتعمق فيها بحال ولا يرضى جهد التعمق في أي مجال. •••
نامعلوم صفحہ