يحدثك رجل عن القاهرة ساعات متواليات، فيسبق إلى وهمك أنه سكنها وجاس خلالها وأطال المقام فيها، ثم ما هي إلا كلمة يزل بها لسانه حتى تعلم أن ما سمعت بحذافيره إن هو إلا وصف ناقل لا وصف شاهد، وإن حديث صاحبنا عن القاهرة إن هو إلا حديث قارئ أو متلقف من الأفواه.
ويقول لك غيره كلمة واحدة عن القاهرة لا تستغرق الثواني فضلا عن الساعات المتواليات! فتجزم جزم اليقين أنها كلمة العارف الذي زار وأقام وأطال المقام، فهل يلزم أن تكون في هذه الكلمة بلاغة خارقة أو نبرة متكلفة أو كناية ملفوقة؟ كلا! بل لا يلزم حتى أن تكون صحيحة كل الصحة في معناها؛ إذ هناك الخطأ الذي لا يخطئه إلا من شهد واختبر، وهناك الخطأ الذي يقع فيه الإنسان لقلة الرؤية والاختبار، بل هناك الخطأ الذي هو أدل على المشاهدة من الصواب، فالشرط الوحيد إذن في تلك الكلمة أن يقولها القائل بعد رؤية ومعرفة، وفي هذا الشرط وحده قيمتها التي تربى على قيمة الأخبار المسهبة يرويها لك من لم ير ولم يعرف، فأنت حين تنوي أن تذهب إلى القاهرة لا تذهب إليها مع من تلا عليك تلك الأخبار وبسط لك تلك المرويات، وإنما تذهب إليها مع من نبس بالكلمة الموجزة ذات الدلالة وإن لم يكن على صواب.
إن كلمات جيتي عن عالم الحقيقة لهي من طراز هذه الكلمة التي لا طنين فيها ولا كلفة، فإذا سمعتها قلت: «أجل!» هذه كلمة ناظر وعارف، هذه كلمة السر التي يصطلحون عليها في ذلك المكان، هذه «هي الأسرار المكشوفة لكل إنسان ويكاد لا يراها إنسان» كما قال.
فمن شاء أن يستدل على عبقري كهذا بكلامه فليتريث كثيرا ولا يقنع بالنموذج اليسير، فكل فكرة هنا أصغر من المفكر ، وكل ثمرة هنا وراءها شجرة كبيرة ووراء الشجرة حديقة أكبر! وقد تدل الثمرة على شجرة واحدة حملتها، أما الحديقة بما وسعت فلا تدل عليها إلا ثمرات من عدة أشجار. •••
نعم نحن حيال حديقة عامرة لا شجرة واحدة، نحن حيال شاعر وحكيم ومصور وعارف بالموسيقى ووزير وباحث في النبات والتشريح وطبقات الأرض والنور.
وفي كل علم من هذه العلوم كان لبحثه أثر ولرأيه قيمة؛ ففي النبات اهتدى إلى نظرية «التحور» ورد أجزاء الشجرة المختلفة إلى جزأين في أساس التكوين، وراقب النمو المطرد والنمو المعكوس وغيرهما من ضروب الطوارئ على حياة النبات، والتفت إلى أثر العصير الغذائي الكثيف والعصير الغذائي الملطف في اختلاف الجذوع والأوراق والأزهار.
وفي التشريح اهتدى إلى العظمة الوسطى في الفك الأعلى التي تنبت فيها القواطع، وكان المظنون أنها لا توجد إلا في الحيوان، ورجع بتركيب الدماغ إلى الفقار في الحيوان والإنسان، فكان في تقريراته هذه في علمي النبات والتشريح رائدا لمذهب التطور، وطليعة من طلائع العلم الحديث.
أما في طبقات الأرض فقد كان له رأي محترم في تركيب الحجارة المحببة والمعادن، وكان مصرا على مناقضة نيوتن في تعليل الألوان يأبى كل الإباء أن يرتاب في بساطة النور أو يقبل التعليل القائل بتركيبه من عدة ألوان، وإنما اللون عنده مزيج من النور والظلام: يكثر فيه قسط النور ويقل قسط الظلام فهو اللون الأصفر، ويكثر فيه قسط الظلام ويقل قسط النور فهو اللون الأزرق، ومن الأصفر والأزرق يتولد الأخضر، ومن هذه الألوان تتولد سائر الألوان، وكلما قارب اللون الظلام كان أثره في النفس إلى الحزن وكلما قارب النور كان أثره إلى البهجة والانشراح.
وقد أعرض علماء الطبيعة عن هذا الرأي ولم يأخذ به إلا نفر من غير الإخصائين، ولكنه على كل حال رأي لا يستحق الازدراء.
وقد عرف له فضله علماء عصره وما بعده فيما عدا هذا فقال كاروس: «إننا إذا رجعنا إلى أقصى ما نستطيع في تاريخ الجهود التي قام بها الباحثون لإدراك فلسفة ما لتركيب الدماغ وجدنا أن الفكرة الأولى عن تحور أشكال العظم وردها جميعا إلى شكل واحد إنما هي فكرة يرجع فضلها إلى جيتي.»
نامعلوم صفحہ