وعلى طول العشرة بين الرجلين لم يقع بينهما من الخلاف إلا ما يقع بين الأخوين أو بين الصديقين الحميمين، فاصطحبا في أعمال الدولة حتى قضى الأمير نحبه وأحس جيتي تغير الحال فاعتزل جميع هذه الأعمال، وإن فضل الأمير في هذا الوفاء لفضل يلحقه بأكبر ذوي التيجان وإن كانت إمارته من أصغر الإمارات.
نعم فاسم «فيمار» الآن اسم عظيم بين البلدان يحف به سحر الطبيعة وسحر الشعر وسحر المأثورات، اشتق الألمان اسمها من الكرم فسموها فاين مار
Weinmar
أي سوق الخمرة، واقترن تاريخها الحديث بتاريخ أكبر الأدباء في بلاد الجرمان أجمعين، واتصل عهدها القديم بعهد «لوثر» المصلح الكبير الذي عاش فيها وخطب فيها واتخذها معقلا يناضل منه روما فيما كان لها من سلطان الملك والدين. وأراد الألمان أن يخطوا أساس دولتهم الجديدة بعد الحرب العظمى فلم يجدوا بلدا غير فيمار عاصمة «الروح» في ألمانيا التي لم تتنكر لها الدنيا كلها حين تنكرت لبرلين وملوك برلين. ولكن هذا كله ما كان ليذكر عن «فيمار» لولا مروءة «كارل أوغست» وأريحيته وعلو همته وترحيبه في عاصمته الصغيرة بكل عظيم الفكر والنفس في دولة الجرمان الرحيبة الأكناف، فلولاه لما كانت «فيمار» إلا قرية صغيرة يضيع اسمها بين أسماء الحواضر ولا تحتويها الخريطة إلا من باب الإحصاء. •••
هذه هي القرية التي أوى إليها الشاعر من خامس نوفمبر سنة 1775 إلى اليوم الذي مات فيه، يداول بينها في الإقامة وبين «يينا» القريبة منها، لم يفارقهما إلا لسياحة أو غربة قصيرة، ولم يقع له فيهما من الحوادث ما يستحق أن يسمى بالحوادث؛ إذ كانت حياته حياة الفنان المتملي والحكيم المتأمل، فهي حياة الخوالج والمؤلفات وليست حياة الوقائع والأخطار.
بيت جيتي الخلوي بين حدائق فيمار.
جيتي في إيطاليا.
ولقد عاش في عصر الثورة الفرنسية ولقي نابليون أعظم رجال الدول في ذلك الزمان، ولكنك إذا سطرت تاريخه استطعت أن تحذف ذكر الثورة بأسرها دون أن تختل معك قواعد ذلك التاريخ، واستطعت أن تلغي لقاءه لنابليون ولكنك لا تستطيع أن تلغي لقاءه للأديب هردر أو الشاعر شيلر، بل لا تستطيع أن تلغي لقاءه لحسناء من أولئك الحسان اللواتي غذينه بغذاء الأرباب من نور العيون ووهج القلوب، فكل حسناء عرفها كان لها شأن في آثاره أجل من شأن نابليون.
على أننا نحسب أن أعظم حوادث التكوين والتوجيه في حياة هذا العبقري المعمر إنما يبحث عنها في سنواته العشر الأولى لا فيما أعقب ذلك من سنوات الشباب أو الكهولة أو الهرم؛ ففي سنته السادسة وقع زلزال لشبونة فطال فيه جدال الناس في العدل الإلهي وسقطت بذور الشك في ضمير الطفل اليقظ المستريب، وفي سنته السابعة نشبت الحرب بين النمسا وبروسيا فسمع عنها في بيته كل ما يقال عن مطامع السياسة وحركات الشعوب من الجانبين المتحاربين، وفي سنته العاشرة شهد التمثيل الفرنسي ورأى مظاهر القوة الفرنسية، وهل في عناصر جيتي الشيخ الملقى على سرير الموت ما يزيد على هذه الأصول؟ قد يكون، ولكنه بعد من قبيل الإضافة والتفضيل لا من قبيل التكوين والتوجيه.
ومات الشيخ في مولد الأرض وعرس الربيع، مات وهو يطلب المزيد من النور ويهتف بمن حوله وهو يجود بنفسه أن «افتحوا النافذة ليدخل النور»، ثم عجز عن الكلام فطفق يومئ بأصبعه في الهواء ويكتب بها كلمات وأوائل كلمات، كأنه لا يريد أن يكف عن «التعبير» وفيه رمق حياة.
نامعلوم صفحہ