فالصورة المجردة عن المادة وجودها معقوليتها ، أى وجودها هو أنها عقلت ، فإنها إن لم تعقل لم توجد. كما أن الصورة المحسوسة وجودها محسوسيتها ، وهو أنها أحست. وكما أنك لو أحضرت فى ذهنك صورا تجردها عن موادها ، لكان وجودها فى ذهنك هو أنك عقلتها كذلك إذا كانت مجردة بذواتها لم يكن وجودها إلا أنها عقلت. فالوجود لها هو أنها معقولة ، فإنها إنما توجد عند ما تعقل. ووجود الأول هو عقليته لذاته ، أى أنه تعقل ذاته ، فإن ذاته مجردة ، فموجوديتها له هو أنه تعقلها. فوجود ذاته دائم ، فعقليته لها دائمة. ولما كانت النفس الإنسانية مجردة عن المادة ، وكان وجودها لذاتها ، كانت عاقلة لذاتها ، ومعقولة لذاتها ، إذ كانت ذاتها مجردة عن المادة ، على ما تبين ، ولم تكن ذاتها المجردة مباينة لذاتها المجردة ، كمباينة البياض مثلا ، أو الجسمية لذاتيهما ، فإن البياض والجسمية وجودهما لغيرهما ، أعنى للمادة والموضوع. ووجود ذات كل واحد منهما مباين لذاته ، فالنفس هى عالمة لذاتها ، ومعلومة لذاتها. وواجب الوجود مجرد عن المواد غاية التجريد ، فذاته غير محجوبة عن ذاتها ، أى واصلة إليها ، وغير مباينة لها ، إذ البياض محجوب عن ذاته ، أعنى أن وجوده فى غيره. والمحجوب عن الشىء هو أن لا يكون ذلك الشىء موجودا فى المحجوب عنه ، فإن البياض المحجوب عن البصر هو أن لا يكون حاصلا فى البصر ، فلا يدركه البصر. وأما الحاجز بينك وبينه ، فهو الذي يمنع من حصوله فى حس البصر ، وهو السبب فى عدم حصول ذلك الشىء المحسوس فى حسك ، أو عدم سبب الحصول. فواجب الوجود بذاته عاقل لذاته ومعقول لذاته ، فإنا إذا قلنا : «علم مجرد لشىء مجرد» معناه أن ذلك المجرد إذا اتصل بمجرد ، عقله ذلك المجرد المتصل به ، ولما كانت ذات واجب الوجود مجردة ، ولم تكن مباينة لذاتها ، بل كانت متصلة بها ، أى وجوده له كان عاقلا لذاته ، ومعقولا لذاته ، وهو بالحقيقة وجوده شيئا ، ومعقوليته شيئا آخر ، كالحال فى الصورة المادية ، التي وجودها شىء ومعقوليتها تكون بعد وجودها ، فلا تكون معقولة وهى موجودة ، بل من شأنها أن تعقل. والصور الفائضة عن الأول فإن نفس صدورها عنه هو معقوليتها له ، لا أنها تصدر ، ثم تعقل بعد صدورها. والأول عقليته لذاته ومعقوليتها له شىء واحد ، فهو عاقل ومعقول وعقل ، والعقل بالحقيقة هو المعقول ، فإن المعقول هو الشىء الحاصل فى الذهن. فأما الأمر من خارج ، فهو بالعرض معلوم ومعقول ، لا بالذات ، وإلا لاحتيج إلى علم آخر به يعلم ذلك العلم ، وكذلك المحسوس بالذات هو الأثر الحاصل فى الحس ، فأما الشىء الذي ذكر الأثر أثره ، فهو محسوس بالعرض ، وذلك الأثر المحسوس بالحقيقة هو بعينه
صفحہ 190