تعبیریت میں شاعری، کہانی اور ڈرامہ
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
اصناف
إنها تمزق القناع عن الرعب الكوني ووحدة الذات البائسة في هذا الوجود الذي يتربص للإنسان بالخطر والفناء. لا مجال فيها للتجانس بين الذات والعالم، ولا مكان للعاطفة ولغتها العذبة الحنون، ولا موضع للتفاؤل بالتقدم والمستقبل السعيد. ويكفي أن شيطان الحرب أو إلهها الخرافي المجهول يحرم الناس من النور والعزاء، ويسحق القمر الذي طالما تعلقت به عواطفهم وتغنت به أشعارهم، ويلقي مدنهم الكبيرة - مدن الفرد الوحيد والقطيع الذي لا وجه له - في ظلام الهاوية وبردها ووحشتها!
إن أكوام الصور البشعة التي يكدسها الشاعر في هذه القصيدة تعبر عن شيء واحد هو واقع الخراب والكارثة والموت؛ واقع الحرب الذي تنطق به الكلمات والاستعارات وبناء العبارات وإيقاع الأوزان. ولكنها ليست حربا معينة في تاريخ معين، ولا هي من نوع الحروب التي يكتب عنها الشعراء بدافع الحماس الوطني أو الاحتجاج على قسوتها أو الرغبة في تطهير البشرية منها، أو التي يسجلون فيها تجربتهم الشخصية ويصورون ما رأوه فيها من مآس وأحزان، والشاعر لا يقصر رؤيته للحرب على دائرة التاريخ والبشرية، بل يجعل منها ظاهرة تتجاوز شخصية الإنسان وهمومه ومصيره، ظاهرة كونية إن شئت، تلتهم الوجود والطبيعة بكل ما يتفجر فيها من عناصر الدمار والخراب. هي الحرب في ذاتها، تحررت من كل زمان ومكان، وابتعدت عن كل هدف أو معنى أو شعور. أما الذي يدبرها ويدير دفتها فهو شيطان خرافي مخيف، يرتفع فوق العالم والتاريخ كأنه برج مشتعل بالنيران، وتتدفق الكوارث من فمه الأسود كما تتدفق الحمم من فوهة بركان.
وليس من قبيل الصدفة أن يختار «هايم» المدينة ليجعلها ميدانا لهذه الرؤية أو هذا الكابوس، فالمدينة هي رمز الضخامة والفساد والمادية والسأم والضيق. وكراهة المدينة كالنبات المريض الذي يمد جذوره في أعماقه وأعماق جيله الوحيد البائس من الشعراء والكتاب والفنانين التعبيريين، بل لعله يمتد إلى أبعد من ذلك في الشعر الأوروبي منذ عهد بولدير ورامبو؛ ولذلك تبدو القصيدة كلها أشبه بالرؤية أو النبوءة أو النذير الذي أكدته حربان عالميتان وما زالت تؤكده الأخطار المحدقة بالبشرية. صحيح أن هذه التنبؤات عن أزمة الحضارة الغربية وانهيارها كانت شائعة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ولا تزال من أحب الموضوعات إلى قلوب الكتاب والقراء في الغرب والشرق. ولقد بلغت ذروة الإحساس بها في كتابات نيتشه ورؤى دستويفسكي وثورة الشعر الفرنسي منذ عهد بودلير ... إلخ، ولكنها لم تكن مسألة حضارية أو فلسفية فحسب، بل كانت لها - كما قلت - جذورها العميقة في تجربة الشاعر وشخصيته وفي قدر جيله المعذب بأكمله، وإحساسه بأنه قد أصبح يعيش على شفا الهاوية. ولقد سقط عدد كبير من شعراء هذا الجيل ضحايا الحرب العالمية الأولى،
3
وفضل بعضهم أن يغادر الحياة منتحرا، واعتزل بعضهم وعاش بقية العمر في صمت. ولكن هذا الإحساس بوحدتهم ومأساة وجودهم العاري من كل معنى أو هدف بلغ في بعض الأحيان حد الاستمتاع بالكآبة وتعذيب النفس والفرار إلى نشوة الرؤى المخيفة، ومنها هذه الرؤية التي تصورها «الحرب». •••
أما جورج تراكل فلم يكتب إلا الشعر، وشعره أشد غموضا وعمقا وهدوءا من شعر هايم، ومع أن قصائده لا تكاد تتجاوز المائة إلا بقليل، فقد أثر تأثيرا كبيرا على الشعر الألماني بعد الحرب العالمية الثانية.
والغريب أن قصائده تبدو للنظرة الأولى على جانب كبير من الصفاء والرقة والعذوبة والانسجام. فإذا أعدنا قراءتها مرة ومرات (فهكذا يريد الشعر الحقيقي حتى يكشف لنا عن سره!) وجدناه من أعقد الشعر وأحفله بالرموز والأسرار والاستعارات الغامضة والإشارات البعيدة والصور المحيرة. إنه يجذبنا - لأول مرة - بسحر موسيقاه وعذوبة لغته وجمال صوره، فإذا سألنا أنفسنا عن سر هذا السحر الغريب واجهتنا مشكلات لا حد لها وأسرار أخرى أكثر غموضا وجمالا. وإذا لجأنا للشروح والتفسيرات التي تتوالى عنه في السنوات الأخيرة ألفينا أنفسنا كمن يهرب من السباحة في النهر إلى السباحة في البحر! إن التفسيرات تكاد تتعدد بعدد المفسرين! هناك من تغريه النصوص الغامضة المؤثرة بتفسير رموزها وصورها تفسيرا دينيا. والحقيقة أن شطحاتها المسرفة تغري بهذا التفسير ... ولكنها ليست شطحات المؤمن بل المدمن على الأفيون، وصاحبها لا يترنم بأنشودة العابد المتبتل لله، بل ينشد مرثية الحداد على صمته ... ويوشك أن يكون شعر تراكل كله عن الشر والألم والموت والذنب والعذاب والفساد والزوال والتحلل والانهيار في عالم مظلم غابت عنه - في رأيه - عناية السماء.
وهناك من فسروا شعره بالرجوع إلى سيرته وحياته التي دمرها القلق والانطواء والخوف من الناس والإخفاق في الاستقرار والتأثر بفظائع الحرب وإدمان المخدرات، وبالغوا في الكلام عن علاقته الحميمة بشقيقته التي حضر وفاتها في نفس السنة التي مات فيها. ولا شك في أهمية تجارب الحياة على الشاعر، ولا شك أيضا في تأثير شقيقته عليه، ولكننا نخطئ كلما بالغنا في تأثير حياة الأديب على إنتاجه أو حاولنا فهم هذا الإنتاج - الذي ينبغي أن تكون له قيمته الخاصة ووجوده المستقل - من واقع سيرته وتجاربه.
وأبسط دليل على هذا فيما نحن بصدده أن تأثير شقيقه تراكل لا يظهر في شعره على الإطلاق. وحاول البعض أخيرا أن يفسر شعره تفسيرا وجوديا، فقام الفيلسوف المشهور «مارتن هيدجر» بهذه المحاولة ولكنه لم يصل إلى نتائج مقنعة (كما فعل مع شعر هولدرلين ولم يستطع أن يرضي الأدباء أو يقنع الفلاسفة!) ولعل الأجدى أن نواجه النص ونلتقي به ونحاوره بغير أفكار سابقة، وننظر في تفاصيله وألوانه ولآلئه، وندرس موضوعاته وصوره، ونحلل أسلوبه، ونبحث عن العوامل المؤثرة على شاعريته المفعمة بالكآبة والشوق والحداد.
إن لغة تراكل تفيض بالرؤى الباطنة والاكتئاب الذي لا حد له، وصور الانهيار الكوني المخيفة، والشوق إلى إنسانية طاهرة نقية تستطيع وحدها أن تخلص العالم. لقد انتهت معه قصيدة الاعتراف الذاتي والجو النفسي، وأصبحت «الأنا» تعبر عن نفسها بلغة موضوعية تقترب من روح الأسطورة التي تجسم رؤاها في صورة محسوسة وملموسة، لغة قريبة من أسلوب هولدرلين (1770-1843) في شعره المتأخر المفعم بالشوق والأسى والحنين إلى عالم أسطوري نقي.
نامعلوم صفحہ