تمهيد
البداية
الشعر
القصة
المسرح
النهاية
المصادر
تمهيد
البداية
الشعر
القصة
المسرح
النهاية
المصادر
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
في كل يوم نقول لأنفسنا أو يقول بعضنا لبعضنا الآخر، «نعبر» عن أفكارنا أو مشاعرنا، وقد يفوتنا أن كلمتي: «التعبير» و«التعبيرية» تدلان على حركة أدبية بدأت في ألمانيا في أوائل هذا القرن، وامتدت ما يقرب من عشرين سنة، ثم اختفت في بلدها الأصلي فجأة، ولاذ أصحابها بالصمت، أو تشتتوا في المهجر، أو سقطوا في الحرب العالمية الأولى، أو انسحقوا تحت أقدام الطغيان النازي.
نشأت هذه الحركة أول ما نشأت في مجال الرسم، وكانت رد فعل للمدرسة التأثيرية، وإيذانا بالتحول عن أسلوبها في الرسم والأدب إلى التعبير عن شعور عميق أو إحساس شامل يكشف عن حقيقة الإنسان بأكمله. وتكونت جماعتان من الفنانين: إحداهما في مدينة درسدن، وقد سمت نفسها جماعة «الجسر»، واشتهر من أعلامها: إميل نولده وهيكل وبششتين. والأخرى في مدينة «ميونيخ» وسميت «بالفارس الأزرق»، وعرف من أعلامها: كاندنسكي وباول كليه وفرانز مارك، الذين لا شك أنك رأيت بعض رسومهم على أغلفة المجلات أو في معارض الفن. ثم التقط النقاد الكلمة وأطلقوها على حركة أدبية قامت بها طائفة من الشباب القلق الثائر في برلين وميونيخ وبراغ، عبروا في الشعر والمسرح والقصة عن فزعهم من رعب الحرب، وإشفاقهم من زحف «التكتيك» والعلم الوضعي، ووحدتهم في زحام المدن الكبرى، وشوقهم إلى عالم إنساني جديد يتوفر فيه العدل والكرامة والمحبة والأخوة بين البشر.
بدأت الحركة التعبيرية في الفن والأدب كما قلت في أوائل هذا القرن، ولكنها لم تنته بموت أصحابها أو عزلة من لا يزال منهم على قيد الحياة. إن أصداءها ما زالت تتردد في كثير مما نقرؤه اليوم من الشعر الجديد ومسرح الطليعة، أو نسمع عنه من التيارات الثورية في الفن والحياة. ولعل من مفارقات الحياة الأدبية أن الخلف يمهدون للسلف أو يذكرون بهم على الأقل! فقد تذكرك مسرحيات «لوركا» أو «شحاده» بمسرحياتهم ، وقد تذكرك بعض أعمال الوجوديين والعبثيين والاشتراكيين الثوريين بكثير من أعمالهم التي سيأتي الحديث عنها. والواقع أن التعبيرية كانت «حركة» أدبية، ولم تكن مدرسة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. فلا يمكننا أن نقارنها بمدرسة أدبية محددة المعالم والأهداف كالمدرسة الطبيعية أو الرمزية. وليس من المستطاع كذلك أن نصدر عليها حكما واحدا يصدق على كل الأدباء الذين يمثلونها؛ إذ إن هذا ضرب من التبسيط الذي تلجأ إليه تواريخ الأدب مضطرة أو متورطة. صحيح أن هناك جوا عاما يشترك فيه هؤلاء الأدباء، ولكن لا يجب أن ينسينا هذا أن المعول في الأدب يكون دائما على العبقرية الفردية والشخصية الفردية للأديب. ويكفي أن كلمة التعبيرية تطلق في المسرح على أعمال عديدة تشغل فترة زمنية طويلة تمتد من استرندبرج السويدي إلى برشت (أو برخت!) في مرحلته الباكرة، وتضم مسرحيات متفاوتة في قيمتها وأهميتها تسري عليها جميعا صفة التعبيرية، دون أن يدل هذا بالضرورة على أنها تمثل وحدة واحدة متشابهة العناصر والأجزاء.
لقد أصبحت معظم الأعمال التي يتحدث عنها هذا الكتاب جزءا من تاريخ الأدب، وقنعت بركن منزو في رءوس الدارسين ومراجعهم أو على رفوف المكتبات. فإذا سألت هذا السؤال العسير: وماذا يبقى منهم؟ كانت الإجابة عليه أشد عسرا؛ لأنها في الحقيقة تتوقف عليك أنت! فالعمل الأدبي ينطوي دائما على عنصر الفناء والزوال الذي لا تخلو منه كل أعمال البشر. أما ما يبقى منه حيا ليتحدى المكان والزمان والفناء، ويصمد لتغير القيم والمعتقدات والآراء، فهو رهن بنظرة الأجيال المختلفة إليه، ومدى استعدادها للأخذ منه أو مدى قدرته على العطاء، ولا بد من القول بأن كثيرا من المشكلات والقضايا التي شغلت عقول التعبيريين وقلوبهم قد بليت وعفى عليها الزمن، وأن صرخاتهم المرتفعة وشكواهم النبيلة وكلماتهم وصورهم ورموزهم المتفجرة بالغضب والدموع قد تبدو اليوم - في عصرنا المتعقل الجاف - نوعا من السذاجة المضحكة أو المبكية. ولكن جوهر هذه الأعمال الأدبية أو معظمها سيظل باقيا لا يشيخ ولا يموت، وهو الدفاع عن «الإنسان» المطلق في وحدته وعريه وبراءته، وشوقه للمحبة والسعادة والسلام، والدعوة المخلصة إلى مجتمع جديد يحقق كرامته وكبرياءه، ويحميه من الذل والذبح والانكسار.
وهذا الكتيب لا يطمع في أن يقدم لك التعبيريين بصورة وافية أو شبه وافية، وإنما يكفيه أن يذكرك بروحهم النبيلة، ويبعث إليك نسمة من صدقهم النادر. إن إنتاجهم الخصب أكبر من أن يحصى، والدراسات التي كتبت عنهم لا تزال ناقصة؛ ولذلك فإن أقصى ما تطمح فيه هذه الصفحات هي أن تشير إلى الطريق، أما الطريق نفسه فلا بد أن تسير فيه بنفسك، وتكتشف أشواكه أو زهوره وحدك!
عبد الغفار مكاوي
القاهرة في نوفمبر سنة 1970
البداية
رخاء اقتصادي، تقدم مستمر في العلم والصناعة، زحف التيار الوضعي والمادي، تضخم النزعات القومية والوطنية، غرور الاستعمار ونهبه للثروات والشعوب: تلك هي بعض الظواهر التي اتسمت بها بداية القرن العشرين. غير أن الطليعة الفنية والأدبية تشككت على الفور في هذه القيم، وارتابت في معنى التقدم والتطور المزعوم، وأعلنت احتجاجها على المدنية الزائفة، وصممت أن تكشف القناع عن الطمأنينة الكاذبة التي شعر بها البرجوازي الأوروبي، لا بل انغمس فيها إلى أذنيه، وتجلت واضحة على كرشه الضخم وملبسه الفخم وكلماته الطنانة الجوفاء وشهوته إلى المال والمنفعة والغرور الذي لا يبرره عجز الإنسان وضعفه في هذا الكون.
لم يكن هذا الشك العميق بالشيء الجديد؛ فقد امتدت جذوره في التراث العقلي الأوروبي القديم والحديث. ولسنا بحاجة للرجوع إلى مدارس الشكاك عند اليونان، فيكفي أن نتذكر تمجيد بودلير للقبح والبشاعة واعتبارهما عنصرا من عناصر الجمال الفني، وثورة رامبو على أوربا ومدنيتها في شعره ونثره المتفجر كالبركان المحموم. ويكفي أيضا أن نتذكر الضجة التي أثارها نيتشه عن انهيار الأخلاق وتنبؤه بالعدمية وبدء عصر جديد وإنسانية جديدة تمجد القوة والأرض والحياة والشجاعة، واكتشاف داروين لقوانين التطور وفرويد للوعي الباطن أو اللاشعور. فإذا التفتنا للأدب والفن وجدنا ظواهر أخرى تقابلها وتستجيب لها أو تثور عليها، فهناك صيحات التعبيريين (وسنعود للكلمة بعد قليل!) وبيانات المستقبليين والسرياليين، وبشاعات الدادية وعجائبها الفنية والروحية، وغرائب التكعيبية وتطرفها في تحطيم الواقع الخارجي.
أعلنت كل هذه الظواهر الفنية في بداية القرن العشرين عن احتجاجها على المدنية التي تطرفت في استخدام الآلة إلى حد غير إنساني، ورفعت صوتها بالسخط على مجتمع التجار والنفعيين وآلهة المال وعبيده، والغضب من الظلم الاجتماعي والاضطهاد والبؤس والبطالة والحرب، نعم فقد اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى، وجاءت مآسيها وتجاربها المرة المظلمة تأكيدها لكل ما تنبأ به الضمير الأوروبي وكل ما احتج عليه الفنانون والمثقفون.
ومن الطبيعي أن يكون السخط ملازما للتبشير بشيء جديد، وأن ترتبط الثورة على المدنية والآلية ورجال المال والأعمال وجلادي الشعوب بتأكيد حاد للنزعة الإنسانية المفتقدة. وقد جاء التأكيد الحار من جانب التعبيرية.
التعبيرية إذن ظاهرة ينبغي أن ينظر إليها في إطار أشمل وأعم، وتلتمس جذورها في التراث الروحي والعقلي وأزمة الضمير الأوروبي التي سبقتها بوقت طويل. صحيح أن حديثنا على هذه الصفحات سيقتصر في جملته على التعبيرية الألمانية. وصحيح أن التعبيرية ترتبط في أذهان الدارسين والمثقفين بالروح الألمانية والفكر الألماني، وتمثل جواب الألمان على سؤال أوروبي. ولكن الألمان لم يبتكروها من العدم، كما أنها ليست ظاهرة ألمانية خالصة كما يظن كثير من الباحثين، وإنما هي ثمرة مرة تفتحت على أغصان شجرة الثقافة الغربية العريقة، وقمة حركة عقلية وروحية بلغت ذروتها في العشرينيات، ولا زالت تطبع الفن الأوروبي الحديث بطابعها إلى اليوم. لقد جربت معظم الأشكال والأساليب الفنية والأدبية التي لا تزال حية بيننا: الموسيقى غير النغمية أو ذات الاثنتي عشرة نغمة، الرسم التكعيبي والتجريدي، العمارة الوظيفية، الرقص التعبيري، المونولوج الداخلي، الشعر الجديد بكل ما فيه من غرابة ونشاز وغموض وإلغاز، ولكن هذه الاتجاهات لا تعدو أن تكون أمثلة سريعة تدل على الثورة الهائلة التي تميزت بها تلك المرحلة القصيرة الخصبة من حياة العقل الأوروبي في أوائل القرن العشرين. أقول: القصيرة؛ لأن النهاية جاءت سريعة مفاجئة، بل جاءت أسرع مما تسمح به قوانين الميلاد والحياة والموت! فسرعان ما ذبلت الحركة التعبيرية التي بدأت حوالي سنة 1910 واختنق صوتها حوالي سنة 1925؛ خنقته الأزمة الاقتصادية العالمية، وزحف ذئاب الفاشية وقطعانها الهمجية واندلاع نيران الحرب العالمية الثانية، وكانت النتيجة أن دفنت التعبيرية حية وانطفأت شعلتها التي لم تكد تتوهج. ومع ذلك فقد كان من نتائج هذه الأزمات - ومن العجيب أن مسوخ الشر والقبح تلد في بعض الأحيان مخلوقات رائعة الجمال! - أن الفن قد أصبح بعد الحرب الثانية شيئا عالميا، وأن النزعات والتيارات القومية والمحلية في الأدب الأوروبي قد انتهت إلى الأبد؛ أعني أنها أصبحت شيئا يتجه للإنسان في كل مكان ويهم الناس في كل ركن من أركان أرضنا الصغيرة البائسة ... •••
لا بد أن نتوقف الآن لنسأل: ما هي التعبيرية؟
هي اسم أو اصطلاح يطلق على حركة فنية واسعة لا تقتصر على الأدب وحده، بل تشمل الموسيقى والرسم والرقص والمسرح؛ أي إنه ينطبق على مجموعة من الاتجاهات والتيارات المختلفة التي يضمها بشكل عام غير محدد. ونخطئ لو تصورنا أنه يدل على مدرسة فنية أو أدبية بعينها؛ لأنه في الواقع يدل على جو عام مشترك. ونخطئ أيضا لو حاولنا تغييره أو تعديله، فهو اصطلاح يرجع عمره إلى أكثر من نصف قرن، ومن العبث أن نحاول الإفلات منه. ليس الفنانون أو الأدباء هم الذين وضعوه، بل وضعه نقاد الفنون التشكيلية لتمييز الرسم الجديد عن الرسم التأثري الشائع في ذلك الحين. وتلقف الأدباء والدارسون هذا المصطلح الجديد، ووجدوا أنه يعكس نزعتهم الجديدة؛ نزعة التعبير أو قيم التعبير التي وضعوها في مركز فهمهم الجديد للفن.
ثم سرى على الاصطلاح الجديد ما يسري عادة على كل مصطلح عصري عندما يقع بين أيدي الشعراء الكبار فيتجاوزون حدوده الضيقة وتصنيفاته المحدودة. ويكفي أن نتذكر أسماء فنانين وشعراء وكتاب كبار مثل كاندبنسكي في الرسم، وشونبرج في الموسيقى، وجورج تراكل في الشعر، وكافكا في القصة والرواية. إنهم جميعا يصدرون عن نفس المنبع التعبيري، ولكنهم في نفس الوقت يتخطون حدوده. تلك هي طبيعة كل فنان عظيم، وذلك هو قدره ورسالته. فبينما الناس ينتظرون منه أن يشارك في الاتجاه الجديد بنصيب أكبر من غيره، إذا بهم يكتشفون أنه أول من أفلت من حدوده وتجاوزها؛ أي سبق عصره بمعنى من المعاني. أما المصطلحات المدرسية والأسماء والقوالب الجاهزة فهي دائما من شأن الأوساط من الفنانين والأدباء؛ ولذلك نجد أن التعبيريين الخلص ليسوا دائما أفضل التعبيريين؛ لأن البرامج والبيانات والصيحات لا يمكن أن تحل محل العبقرية أو تغني عنها. ولكن ها نحن أولاء نبتعد عن موضوعنا ... فلنترك هذه الخواطر جانبا ولنعد قليلا إلى التاريخ.
لننظر الآن في حالة الأدب الألماني: في بداية هذا القرن كان هناك تياران أو إن شئت مدرستان رئيسيتان، وكان هذان التياران أو هاتان المدرستان متلازمتين ومتعارضتين في آن واحد. فهناك الطبيعية التي تحاول من ناحيتها أن تنسخ الواقع بدقة توشك أن تكون فوتوغرافية، وتتأثر في القصة والرواية بالكاتب الفرنسي إميل زولا أشد التأثر، وتتطرف واقعيتها وإيمانها بالعلم، وتزعم أنها تصور الإنسان كما تحدده قوانين الوراثة والبيئة والظروف الاجتماعية والتاريخية. فالكاتبان: أرنو هولز (1863-1929) ويوهانيس شلاف (1862-1941) يضعان الأسس النظرية والنقدية لهذه المدرسة الطبيعية، وإن كانت القطيعة قد فرقت بينهما فيما بعد. والكاتب المسرحي العظيم جرهارت هاويتمان (1862-1946) يناقش المشكلات الاجتماعية في مسرحياته الشهيرة (كالنساجين مثلا)، وكانت هناك الرمزية أو التأثرية أو الكلاسيكية الجديدة على الجانب الآخر؛ اتجاه يحافظ على التراث ويرتبط به. ولكنه اتجاه أرستقراطي متعال، رقيق وحساس، ينزع للغموض والأسرار التي تبلغ به في بعض الأحيان إلى معارج الروحانية والتصوف. ويكفي أن نذكر أسماء: ستيفان جئورجه ورلكه وهوفمنستال؛ لنعرف قيمته الشعرية والشعورية الرفيعة.
ولكن لم يلبث أن نشأ جيل جديد؛ جيل غاضب وساخط ومحتج، سئم جمود الطبيعيين وضيق أفقهم وعداءهم للخيال والشاعرية والذاتية، كما كره حساسية الرمزيين وحدتهم مع اللغة والفن المحض وتعاليهم عن مشكلات السياسة والواقع. وأعلنوها ثورة لم تقف عند حدود الأدب والفن، بل أصبحت ثورة سياسية واجتماعية. لم يكون شباب هذا الجيل مدرسة ولم يحاولوا أن يخلقوا مذهبا، بل كانوا مجموعة من الطلاب والنقاد والفنانين ألف بينهم السخط المشترك على المجتمع المنافق، والكره المشترك للحياة الآلية والعملية وقيمها النفعية الحقيرة. أرادوا أن يكشفوا عن فساد الأخلاق البرجوازية وعفن السلوك البرجوازي، ويرفعوا النقاب عن فظائعه ويقفوا بجانب ضحاياه. وكان ملهمهم الأكبر هو «نيتشه» الذي زلزل العصر وهز القرن العشرين بأسره، وسلط على المجتمع والدين والأخلاق والفلسفة التقليدية والمذهبية نيران حكمته الباهرة الطيبة الجسورة. أخذ هؤلاء الشباب بنقده للدين، واحتقاره للنزعات القومية، وتحطيمه للقيم القديمة، وحملته على الأخلاق «غير الأخلاقية»، وهجومه على الفلسفات الغبية التي فقدت الحياة والقوة وشجاعة المغامرة، كما أخذوا منه تشاؤمه العام من الحضارة والثقافة (الذي توسع فيه إشبنجلر بعد ذلك في كتابه المعروف عن أفول الغرب (1918))، وجدوا أفكارهم عند نيتشه، ولكنهم لم يتطرفوا تطرفه؛ أعجبوا بفكرته عن وجوب تجاوز الإنسان ولكنهم لم يذهبوا إلى حد النداء بالإنسان الأعلى (هذا الذي ظلمه وحوش الحكم المطلق وجنوا عليه!) ومع ذلك فقد شغفوا بالحديث عن الإنسان الجديد، وأرادوا أن يصبح الإنسان الحر الخير الذي يعيش من أجل المجتمع ويتضامن مع آلامه ويحس بعذابه وأشواقه، وليس ببعيد أن يكونوا قد تصوروا أنفسهم في صورة الأنبياء المبشرين بهذا الإنسان ...
كانت التعبيرية إذن حركة فنية ثائرة، تجمعت تحت لواء الإيمان بإنسانية جديدة، أرادت أن تمحو كل أشكال الواقع التي أثبتت الحرب فسادها، وتقضي قضاء تاما على كل قيم التراث والحياة البرجوازية والسياسية والفنية التي أدت إلى الحرب، أو على الأقل لم تحل دون وقوعها أو لم تقف في وجهها. كان هناك سخط هائل على كارثة الحرب العالمية الأولى. وكانت التعبيرية هي «التعبير» الفني عن هذا السخط، أراد الفنان - هذا المخلوق الخالق! - أن يشكل العالم من جديد: بالرؤية والحماس المتوهج للقيم المطلقة، بالإبداع الحر، بالروح الطليق، والكلمة الحية المتمردة على الواقع والمدنية والتقدم وكل القيم التي فضحت الحرب كذبها وخداعها.
كتب الناقد هرمان بار - الذي عاصر التعبيرية ودعا إليها - يقول عن تلك الفترة: لم يوجد عصر من قبل هزه هذا الرعب وهذا الفزع المميت. لم يعرف العالم مثل هذا الصمت الذي يشبه صمت القبور. لم يكن الإنسان في يوم من الأيام صغيرا كما كان في تلك الفترة، ولا شعر بمثل ذلك القلق الذي شعر به. أبدا لم يكن السلام أبعد مما كان في تلك الأيام، ولا كانت الحرية أكثر موتا. ها هي ذي المحنة تصرخ: الإنسان يصرخ بحثا عن نفسه؛ العصر كله أصبح صرخة واحدة تنطق بالمحنة. إن الفن كذلك يصرخ معه، يطلق صيحته في أعماق الظلام، يستغيث، يستنجد بالروح: هذه هي التعبيرية.
وصدر عن الحركة التعبيرية عدد كبير من البيانات والبرامج النظرية والنقدية التي تحاول أن تحدد معالم هذا الإنسان الجديد وتوضح ملامح المجتمع الذي ينبغي أن يحل محل المجتمع الفاسد الظالم المنهار. وتكونت الجماعات في مختلف المدن وتفككت، وظهرت المجلات والمجموعات الشعرية والنثرية التي تصور الجوانب المختلفة من الثورة التعبيرية. وتعددت الأفكار والآراء ووجهات النظر. كان هناك المتطرفون والمعتدلون، كما كان هناك الإيجابيون والسلبيون. فلم تكن التعبيرية - كما قلت - مدرسة محددة، ولم يلتئم أقطابها في مذهب موحد، بل كانت حركة أو جوا شعوريا وروحيا عاما لا تقيده أفكار أو نظريات ثابتة. ومن المستحيل أن نتعرض في هذا المجال لكل التيارات التي عاشت في هذا الجو العام، أو لكل البرامج ووجهات النظر المختلفة المتعارضة في بعض الأحيان؛ ولذلك فسأقتصر على تقديم بعض العبارات المأخوذة من أحد هذه البرامج الهامة والإشارة إلى الجماعات، وأبرز الأسماء التي تمثل هذه الحركة الخصبة الشهيدة.
تشترك كل البرامج والبيانات النظرية التي صدرت عن التعبيرية في رؤيتها للإنسان الشامل، ورغبتها المخلصة في أن تلمس منه الروح والجسد والنفس والحس في وقت واحد؛ لذلك اعترضوا من البداية على النزعة الشكلية أو الجمالية الخالصة التي تهدف إلى تحقيق الشكل الكامل وحده (كما نجدها عند غلاة الرمزية مثلا)، وحاولوا التغلغل إلى الأعماق الدفينة في الإنسان، بكل ما يختلج فيها من ظلال وأسرار وإحساسات مبهمة. وفضلوا التدفق المحموم على الوضوح الصارم، والنشوة والعنف على التعقل والنظام.
ويكفي أن نستشهد بما يقوله أحد نقاد التعبيرية وأشدهم تحمسا لها، وهو «كورت بنتوس» الذي أصدر أشهر وأهم مجموعة من الشعر التعبيري وهي المجموعة المعروفة باسم «فجر الإنسانية». يقول هذا الناقد ملخصا الملامح البارزة والأهداف الرئيسية: «تحرير الواقع من الأطر التي يظهر من خلالها، تحريرنا نحن من الواقع وتجاوزه، لا بالالتجاء إلى وسائله الخاصة، ولا بالهروب منه، بل بمعانقته بشدة للانتصار عليه والتحكم فيه بقوة العقل النفاذة، بالمرونة والحركة، بالرغبة في الوضوح، بعمق العاطفة وطاقتها المتفجرة ... تلك هي الأهداف العامة التي يريد أن يحققها هذا الشعر الشاب.»
ويكفي أيضا أن نلقي نظرة سريعة على الرسم التعبيري. لقد سار في نفس الخط الذي سار فيه الشعر أو بالأحرى في خط مواز له. فهو قد مر بتجارب عديدة مشابهة للتجارب التي خاضها الشعر التعبيري، وحاول محاولاته المتعثرة التي تتميز مع ذلك بالجرأة والتهور في سبيل تحطيم الشيء أو الموضوع الخارجي وتحويله إلى ظاهرة مجردة والوصول إلى جوهره أو ماهيته.
أما الشعر التعبيري فقد حاول أن يتجاوز حدود الواقع بالإيقاع السريع المندفع، والصور القوية المجنحة، والانفعال المنغم، والرؤى الغربية، والعاطفة المتفجرة، والصيحات الحادة، التي تكشف كلها عن جوهر الإنسان وحقيقته التي طالما حجبتها المدنية الآلية خلف قناع كثيف من التصنع والكذب والنفاق والفساد والغرور العلمي.
كانت للتعبيرية إذن - وللشعر التعبيري بوجه خاص - رسالتها الكبرى. وكان الشعراء مؤمنين بأنهم لن يستطيعوا تحقيق هذه الرسالة حتى يحطموا القديم. ومن ثم انطلقت صيحاتهم العالية تهاجم الإنسان التقليدي وتبشر بالإنسان الجديد: الإنسان الذي تحرر من نظام حضاري وثقافي جنى عليه وأحاله إلى وحش معتد غبي كاذب.
أخذت معاول التعبيريين تهدم القديم وتنقب فيه عن الفجر الجديد. والحق أنهم نجحوا في الهدم إلى حد بعيد! بل لعل نجاحهم في الهدم كان أكبر من رغبتهم أو من تصورهم للبناء. ومع أنهم قالوا عن أنفسهم: إنهم ثائرون، فلن تكن ثورتهم بالثورة الشاملة. لقد التمسوا روادهم في أشخاص: دوستويفسكي ووالت ويتمان، وفي شعر الباروك، وحركة العصف والاندفاع الألمانية (أو الشتورم والدرانج التي كانت تغلب الاندفاع والجموح على النظام والشكل)، والأساطير والخرافات وحكايات الجن ونصوص التصوف القديم ورؤاه.
ويكفي أن نتصفح «الفارس الأزرق» - وهو الكتاب المشهور الذي نشره الفنانان المعروفان كاندنسكي وفرانز مارك - لنجد فيه بجانب رسوم الفن الحديث لوحات من «الجريكو» وصور تماثيل من الفن القوطي والبيزنطي والفرعوني والأشوري والياباني ونماذج من النحت الإفريقي ... فقد كانت نظرتهما إلى التعبيرية نظرة واسعة الأفق، والتمسوا التعبير المرئي واليدوي السابق على الحرف المكتوب. ولعل التعبيريين هم الذين اكتشفوا الفن البدائي ورسوم الأطفال اللذين كان لهما أثر كبير على تطور الفن المعاصر.
هكذا ارتبط فن الرسم بالشعر والأدب أوثق ارتباط، ولم يسبق في تاريخ الثقافة الألمانية أن كان لهما مثل هذا التفاعل الحي المتبادل. ويمكن أن نستشهد على هذا بالمجموعات الشعرية أو القصصية التي صورها الرسامون، وكتب الرسم التي علق عليها أو استلهمها الشعراء. فالرسام كيرشنر صور أشعار جورج هايم وأقاصيص ألفرد دبلن. وهناك عدد كبير من الفنانين الذين برعوا في الفن التشكيلي والأدب على السواء. فالرسام أوسكار كوكوشكا والمثال المصور أرنست بارلاخ كتبا المسرحية، والرسام ألفرد كوبين كتب المقالة والقصة والرواية الطويلة. والرسامون: باول كليه وهانز آرب وكورت شفيترز كتبوا القصيدة المتأثرة بأسلوبهم التجريدي أو الدادي. والشاعرة القصاصة إلزا-لاسكر شولر والمثال بارلاخ صورا أعمالهما الشعرية أو المسرحية بنفسهما. وهم بهذا قد أكدوا أحد الملامح البارزة في تاريخ الفكر الحديث، ألا وهو التعاون والتجاوب الحميم بين الفنون المختلفة من أدب ورسم وموسيقى. ولقد كانت أهم نتيجة تمخضت عن هذا التعاون بين الفنانين هي تأسيس عدد كبير من المجلات التي توالى صدورها منذ سنة 1910، واستمرت وقتا طويلا وصل في بعض الأحوال إلى خمسة عشر عاما. ونذكر منها مجلة العاصفة التي وردت فيها كلمة التعبيرية لأول مرة، للدلالة على الرسم الجديد، وقد أصدرها الكاتب والموسيقي والناقد الفني هيرفارت فالدن ابتداء من سنة 1910، ومجلة «الفعل» التي ظهرت سنة 1911 تحت إشراف ف. بفمبفرت، و«الثورة» في ميونيخ، و«الصحف البيضاء» في زيوريخ، و«الشعلة» في فيينا. وأيا ما كانت أسماء هذه المجلات، فالذي يهمنا في هذا المجال أنها كانت أشبه بالمعارض الفنية المنشورة، وأن كبار الفنانين التعبيريين كانوا يزينونها بصورهم ولوحاتهم الأصلية. بل إن «فالدن» الذي سبقت الإشارة إليه قد بالغ في هذا فألحق بمجلته قاعة فنية ودارا للنشر ومسرحا للتمثيل! وعرض في قاعته أعمالا من الفن التجريدي لكليه وكاندينسكي وغيرهما، ودافع بحرارة عن الأسلوب التجريدي في الحركة التعبيرية. ولم تخل مجلة «الفعل» أيضا من مظاهر الكفاح السياسي والاجتماعي، فقد أيدت الحركة اليسارية الألمانية، ونشرت المقالات والتقارير السياسية، بل نشرت كذلك نص الدستور السوفيتي! وإن دل هذا كله على شيء فإنما يدل على خصوبة الحركة التعبيرية، وتنوع اتجاهاتها واهتماماتها، واحتضانها لمختلف التيارات الثائرة والأصوات الغاضبة. ويطول بنا الحديث لو ذكرنا الحوليات والمجموعات المنتخبة من الأشعار والمسرحيات والقصص التي نشرها التعبيريون، ومن أهمها كتاب بعنوان: «يوم الحساب»، أصدره ك. فولف أكبر الناشرين لأعمال الحركة التعبيرية، وضمنه مجموعة مختارة من كتابات كافكا وجتفريد بن وفرانز فيرفل وغيرهم. ولم يقف الأمر عند الشعر والرسم والنقد الأدبي والنشاط السياسي والاجتماعي، فقد التفت التعبيريون إلى الفيلم وحاولوا لأول مرة في تاريخ تلك الصناعة الناشئة أن يربطوا بينه وبين الشعر.
وقد يسأل القارئ: وماذا عن الفلسفة؟! هذه الصديقة التقليدية للشعر والأدب الألماني؟ لقد انطلقوا حقا من فلسفة نيتشه، واستلهموه وتعلموا منه، ولكن لا بد من القول بأن الفلسفة لم يكن لها مكان في الحركة التعبيرية؛ أعني الفلسفة بمفهومها الاصطلاحي الدقيق، لا الموقف الفلسفي العام الذي لا يخلو منه بالطبع فكر أو فن؛ فالمذهب الفلسفي يتطلب نوعا من الاتزان العقلي، ويحتاج إلى كثير من الهدوء والروية والدأب الذي لم يكن من طبيعة التعبيريين. ومع ذلك فلا أحب أن أحرم القارئ من جواب قريب من سؤاله وإن لم يكن فيه شيء كثير يرضيه. فقد تحسن الإشارة إلى كتابين تشبعا بالجو التعبيري وتأثر أسلوبهما به، وهما: كتاب «نظرية الرواية» للناقد الاشتراكي المجري الشهير جورج لوكاتش، «وفكرة اليوتوبيا» للفيلسوف الاشتراكي إرنست بلوخ، والكتابان شاهدا صدق على هذا العصر الفائر المحموم، ولكنهما بعيدان عن أي محاولة لتنظيره أو دراسته دراسة مذهبية ومنهجية.
الشعر
ولكن لنعد الآن إلى موضوعنا الأساسي ... لنعد إلى الأدب! الحقيقة الأولى التي تواجهنا في الأدب التعبيري هي أن الشعر يؤلف الجانب الأكبر من إنتاج أصحابه ، فهو يضم عددا كبيرا من القصائد وعددا أقل من المسرحيات، وأقل القليل من النثر القصصي والروائي والنقدي. الشعر إذن وقبل كل شيء! هنا تبلغ التعبيرية ذروتها ويعبر شعراؤها بنجاح لا شك فيه عن خلجاتهم وهواجسهم وأحلامهم وأشواقهم إلى فجر الإنسانية الجديدة ...
لنضرب مثلا لهذا؛ لنتأمل قصيدة تجسد هذا الكلام، ولنفتح معا هذه المجموعة المنتخبة التي أشرت إليها وهي التي أصدرها كورت بينتوس في سنة 1920؛ أي في وقت مالت فيه شمس التعبيرية (أو قمرها!) للأفول. إن أول ما يلفتنا هو عنوانها الذي يدل على الحركة كلها وهو فجر الإنسانية، فإذا تصفحناها وجدنا الناشر يقسمها إلى أربعة أقسام، أو بالأحرى يجعل منها سيمفونية ذات أربع حركات: «سقوط وصراخ، بعث القلب، نداء وثورة، حب الإنسان». لقد رتبها إذن بحسب الموضوعات لا بحسب الشعراء، وضمنها كل ما يعتز به التعبيريون ويعكس رؤيتهم وأحلامهم: الصراخ والثورة والإلهام والحب للإنسان، ولكن ما هو أسلوب هذه الثورة الأدبية؟ بم يتميز؟ ما الجديد فيه؟
لننظر في شعر التعبيريين، ولنفتح فجر الإنسانية مرة أخرى. لن نتعب في البحث كثيرا، فيكفي أن نتأمل الصفحة الأولى من الكتاب، هذه هي قصيدة الافتتاح، قصيدة صغيرة سأترجمها لك (على الرغم من أن ترجمة الشعر مستحيلة؛ إذ كيف تستطيع الترجمة أن تنقل الصوت والإيقاع والظلال الدقيقة والإيحاء المنبعث من الكلمات؟! وماذا يبقى من القصيدة الأصلية التي تعتمد على قيم صوتية في ألفاظ بعينها عندما تتحول إلى ألفاظ أخرى في لغة أخرى؟! لنغتفر لأنفسنا إذن هذه الجناية التي تشترك فيها كل اللغات والثقافات والحضارات على مر العصور، ولنعتبر الترجمة جسرا متواضعا أقصى مناه أن ينقلك إلى شاطئ النص الأصلي أو يغريك بالوصول إليه، فإذا بلغت الشاطئ واستغنيت بالأصل عن الصورة فانس ذلك الجسر البائس المسكين!)
لننظر إذن في ترجمة القصيدة؛ على ما في الترجمة من عجز وقصور محتوم. عنوان القصيدة هو «نهاية العالم»، وصاحبها هو ياكوب فان هوديس، واحد من أولئك الشعراء العديدين الذين كتبوا الشعر في شبابهم ثم انقطعوا عنه بعد ذلك كل الانقطاع (كأنما كانوا يقتدون بالمثال الرائع الشجاع الذي ضربه رامبو!)
قبعة البرجوازي تطير من على رأسه المدببة،
في كل الأجواء تتردد الأصوات كالصرخات،
عمال السقف يسقطون وينكسرون،
وعلى الضفاف - كما تقول الصحف - يرتفع الطوفان.
هبت العاصفة، البحار الوحشية،
تثب على اليابسة لتسحق السدود الضخمة،
أغلب الناس أصابهم البرد،
قطارات السكك الحديدية تهوي من الجسور.
تلك هي القصيدة، ولكن لنتوقف قليلا لنقول كلمة عن الشاعر. ومع أنني لا أحب الكلام عن حياة الأدباء ولا أميل للربط بين حياتهم وأعمالهم، فيبدو لي أن سطورا قليلة عن هذا الشاعر الغريب وشخصيته الغامضة المحيرة لن تخلو من فائدة. إنه شاعر مقل كما قلت، كتب الشعر في شبابه ثم كف عنه إلى الأبد.
وقد ولد ببرلين سنة 1887، في أسرة ميسورة الحال، وقضى صباه السعيد بين أب متشكك مادي النزعة يعمل طبيبا، وأم مثالية رقيقة الحس رفيعة الثقافة. وسرعان ما بدأت التناقضات التي ورثها عن أبويه تظهر في سلوكه؛ فقد ترك المدرسة الثانوية ثم رجع إليها، ودرس العمارة في مدينة ميونيخ، ثم اشتغل فترة لم تزد على نصف عام بالبناء، ولم يلبث أن تخلى عن هذه المهنة الصغيرة ليواصل دراسة الفلسفة واللغة اليونانية القديمة في جامعتي: يينا وبرلين. وأسس مع جماعة من أصدقائه الشبان ناديا يلتقون فيه مرة كل أسبوع ليقرءوا إنتاجهم. وكان من هذه الجماعة شاعر فقدته الحياة الأدبية قبل الأوان وما زالت تتحسر على موته؛ وهو الشاعر جورج هايم الذي مات غريقا سنة 1912، ولم يكد يتم الخامسة والعشرين من عمره. وقد اهتز شاعرنا لموت صديقه، ثم تكفل الإخفاق في الحب بتدمير صحته العقلية (أحب إحدى مصممات العرائس فلم تبادله الحب، وجن بشاعرة فلم يجد صدى لعاطفته)، ولم ينفعه تحوله إلى الكاثوليكية ولا شفاه تنقله بين مصحات عديدة؛ فقد ألح عليه داء شغوف بالفنانين والشعراء، وهو داء الفصام. وامتدت إليه أيدي الأصدقاء بغير جدوى، واختفى فترة ثم ظهر في باريس وميونيخ، ورجع إلى برلين ليجاهر أمه التي كان يحبها ويقدسها بالكراهية والعداء، ويفاجئ أصحابه بقراءة قصائده الجديدة. وأخذ المرض بخناقه فظل يتنقل بين المصحات العقلية المختلفة حتى استقر في مصحة بندورف-ساين بالقرب من مدينة كوبلنس في جنوب ألمانيا. وفي آخر أيام شهر أبريل سنة 1942 نقل المريض رقم 8 إلى مكان لا يعلمه أحد، واختفى بطريقة لم يعلمها أحد حتى الآن. وقد ضاعت معظم أشعاره وكتاباته النثرية، ونشر ما بقي منها سنة 1958 في زيوريخ تحت عنوان القصيدة التي نقلتها إليك في السطور السابقة، ولم يتجاوز هذا التراث ست عشرة قصيدة.
أما القصيدة نفسها فأول ما تلاحظه النظرة الأولى أنها ليست من القصائد ذات البناء التقليدي التي تتناول موضوعا أو تهدف لتصوير فكرة تمهد لها وتطورها وتنتهي بها إلى غاية أو خاتمة. وهي كذلك لا تنمي فكرة ولا تسير على منطق مألوف، بل تجنح إلى نوع من الشذوذ الذي يثير السخرية، وتزدحم بخواطر وتفاصيل يمكن أن نصفها بالسريالية (وهي سريالية لأنها تشوه معالم الواقع أو تتجاوز حدوده، وليس الواقع هو الذي يمليها بل إرادة الشاعر نفسه وخياله المسرف الجامح). هي إذن تضم مجموعة من الصور التي لا تتصل بعضها ببعض. كل بيت فيها وحدة بذاتها، بحيث تصبح وكأنها نوع من «الموازييك» ألف بينها خيال الشاعر وحده، لا المنطق ولا الواقع المألوف، القصيدة إذن توحي ولا تفهم، شأنها في هذا شأن الغالبية العظمى من قصائد الشعر الحديث، وهي بصورها المفككة تريد أن توحي برؤية الشاعر لنهاية العالم؛ ولذلك فليس غريبا أن يتغير العالم المطمئن المنظم وينهار فجأة أمام عيوننا: فالبرجوازي المطمئن الواثق بنفسه وبعالمه ومجتمعه سيفقد قبعته، وهي رمز ثقته واطمئنانه وثباته. وستصبح القبعة التافهة رمزا لهذا العالم أو هذا المجتمع المنهار، أما رأس البرجوازي فهي مدببة، تماما كما صورها الرسامون التعبيريون مثل كيرشنر وموللر وشميت-روتلوف، فأسرفوا في ذلك مبالغة في الاستهزاء به.
وأما عن جو القصيدة - وهو أهم ما في شعر التعبيريين - فهو يصطخب بضوضاء وأصوات وصرخات غامضة. إن اللاواقع قد غزا الواقع وتمكن منه. نفس الشيء الذي نلاحظه في رسوم كوبين ورؤى كافكا المخيفة عن الرعب والتعذيب (كما تبدو بوجه خاص في قصته معتقل العقاب التي تكاد تكون نبوءة صادقة عن أهوال الحرب العالمية الثانية وتعذيب الإنسان في معسكرات الاعتقال أو سجون الإرهاب على يد المستعمرين والجلادين القدامى والمحدثين)، ضوضاء، عواصف، دمار، وخراب، كوارث من كل نوع، كل شيء قد انقلب على رأسه، كل شيء قد تحطم وتمزق، والطبيعة والمدنية المتباهية بآلاتها وصناعاتها قد فقدت الطمأنينة، ودقت ساعة الكارثة، فلنتوقع كل شيء.
إن التفاصيل التي يزحم بها الشاعر قصيدته، وطريقته في عرضها، ومزجه بين عظائم الأمور وتوافهها، وانتقاله من كارثة تدمر الكون إلى أحداث تافهة كسقوط عمال بناء السقوف وإصابة أغلب الناس بالزكام ... كل هذا يوحي بالكارثة ويخلق شعورا غريبا تختلط فيه السخرية المرة بالمزاج الأسود. ولكن هذا الأسلوب ليس إلا جانبا واحدا من جوانب التعبيرية المتعددة قد نجده - على سبيل المثال - في الأفلام التعبيرية، فإذا تأملنا شكل القصيدة وأسلوبها وجدنا أنها ليست من القصائد التعبيرية الخالصة؛ فهي تحافظ على الوزن والقافية وشكل المقطوعة (وهو ما تعجز الترجمة عن أدائه!) كما تحافظ على سلامة اللغة وبنية العبارة، وهي أمور تخلى عنها معظم الشعراء التعبيريين واعتبروها قيودا تحد من انطلاق التعبير، ومع أن الشاعر يشارك معظم الفنانين التعبيريين في رؤيته لنهاية العالم وانهياره، وإبقائه على وحدة الأبيات وانعزالها عن بعضها البعض، إلا أن لغته لا تكشف عن أهم الخصائص التي تتميز بها لغتهم؛ فهي - كما قلت - لغة سليمة والتعبيريون يميلون إلى تشويه اللغة، والاكتفاء بالإيحاء والإيماء والتركيز على الكلمات الدالة باستبعاد الضمائر وحروف الربط والوصل وأدوات التعريف والاقتصار في معظم الأحوال على الأسماء والأفعال وحدها.
ومع هذا كله فالقصيدة تحتفظ بجانب تعبيري لا شك فيه. إن لم يتضح في لغتها وأسلوبها فهو أوضح ما يكون في رؤيتها العامة. وأذكرك بالعنوان الذي وضعه الناشر لهذه القصيدة وغيرها من القصائد التي تدور في فلكها. العنوان هو «سقوط وصراخ»، وهو في الحقيقة بالغ الدلالة على غرض التعبيريين. إن الصرخة هي أبلغ تعبير وأعمقه، وهي - إن جاز القول - تعبير خالص عار ، وكأن الشاعر التعبيري يتمنى أن تكون قصيدته صرخة وحسب. ولكن ما العمل إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يكتب قصيدة من الصرخات وحدها؟ ما العمل إذا كان مضطرا أن يبني أبياته من كلمات اللغة، وأن يحافظ فيها على قدر من المعقولية يكفي لتوصيلها للناس؟ ليكثف لغته إذن (فالفن تكثيف وكشف عن الجوهر!) وليحذف منها كل ما يراه تزيدا، وليقتصر على الكلمة الموحية المتشنجة التي تستطيع أن تفجر كل ما يحتبس في قلبه من عنف وغضب وثورة. ولكن الصرخة ستظل في نهاية الأمر هي الشكل الأمثل الذي يحاول الشاعر التعبيري أن يقترب منه. صرخة الإنسان في عالم منهار، صرخة يوحنا الجديد، صرخة الشوق إلى عالم جديد وإنسان جديد يتحرر من الحرب والموت والبؤس والاستغلال.
لتكن كلمة الشاعر إذن كثيفة، مركبة، مشحونة بالقوة والحركة والغضب، وليركب الكلمة الواحدة من كلمات عديدة (واللغة الألمانية تعينه على هذا، فهي - كما يعلم القارئ - تستخدم الكلمات المركبة، وكتابها المعقدون - وما أكثرهم! - يسيئون استخدام هذا الحق ...) وليحذف من جملته كل كلمة، بل كل حرف لا أهمية له ولا أثر في التعبير، وليكثر من الأسماء والأفعال كما قدمت، وليستبعد النعوت والصفات التي طالما كانت حبيبة إلى قلوب الرمزيين، بل ليمض الشاعر إلى أبعد من هذا - كما فعل الشاعر أوجست شترام (1874-1915) - فيكتب القصيدة التي تتألف من كلمات مفردة وحسب. كلمات مكثفة مشحونة بالمعاني، توحي للقارئ بمجموعة من الصور التي يمكن أن يؤلفها خياله كما يشاء، قد يكون هذا تطرفا، ولكن لنقف معا عند إحدى قصائد هذا الشاعر. عنوان القصيدة هو «داورية»، وكلماتها تقول:
الأحجار تعادي،
نافذة تتلمظ بالخيانة،
فروع «الشجر» تخنق،
جبال الأغصان تحف بضوضاء،
صرخات،
موت.
هذه هي القصيدة، أو هذا هو «الموازييك» الذي صفه الشاعر قطعة بجانب قطعة أو كلمة بجانب كلمة. استبعد من العبارة اللغوية كل ما وجده سطحيا أو تافها. حذف أدوات التعريف (فيما عدا الكلمة الأولى من القصيدة) والضمائر وأدوات الربط. لم يبق إلا على الأسماء والأفعال التي جعل منها كلمات مستقلة تؤدي وظيفة الجملة الكاملة. أما بناء العبارة فقد اختصره إلى أقصى حد ممكن بحيث لم تبق منه إلا كلمات أولية متوترة حادة مركزة، توشك أن تتخلى عن دلالتها الصوتية والمعنوية لتتحول إلى صرخات أو مشاعر من الخوف والرعب والقلق. قد تقول: هي تجربة، وللتجربة حقها المقدس في كل مجال، فلم لا تمارس حقها في اللغة أيضا؟! هذا صحيح. ولكنها تجربة تشرف على حدود الصمت. وهي في الأدب التعبيري نفسه تجربة ثورية متطرفة. ولكن يجب ألا ننسى أن الثورة التعبيرية كانت كذلك ثورة على النحو ومنطق اللغة. لقد ثاروا على البناء التقليدي للعبارة، والترتيب المنطقي للكلمات، بمثل ثورتهم على البناء التقليدي للمجتمع، والنظام المألوف في الطبيعة والواقع. كان كل همهم أن يثيروا القارئ بأقل عدد من الكلمات وأكثره دلالة على المعنى؛ والمعنى يتصل دائما بالغضب والتمرد والرغبة في التغيير. تصوروا أن هذا هو أقرب وسيلة للتركيز على كل ما هو هام وأساسي. حولوا الكلمات إلى شظايا متفجرة وصيحات حادة لتكون أقدر على النفاذ إلى أعماق القارئ. إنهم لا يقدمون الوصف بل الحدث، ولا يعنون بالملاحظة بل بالرؤية. كل ما هو ساكن أو جامد دبت فيه القوة والحياة. الحركة والسرعة والطاقة والعنف والفعل والتفجر، تلك هي المقولات الأساسية عندهم، بهذا يصبح الإيقاع هو أول العناصر الفنية ويفقد الشكل الخارجي للقصيدة أهميته. وهم لذلك يحطمون كل القواعد الكلاسيكية التي تفسد هذا الإيقاع أو تعوق حركته، ويتمردون على كل القيود والأشكال التي التزم بها الشعراء السابقون، ويكرهون الوزن والقافية، ويبغضون أشكال «السوناته» و«الأوده». لا ضرورة إذن للالتزام بالبحور التقليدية ولا التركيب اللغوي للجملة ولا الترتيب المنطقي للعبارات؛ فكلها أشكال خارجية، والكلمات المكثفة وحدها قادرة على إحداث الإيقاع المطلوب، وتعميق الإحساس الذي يريد الشاعر أن يعبر عنه، وهي كذلك قادرة على أن تصدم القارئ وتثيره وتفزعه (وهذه الصدمة هي أكثر ما يحرص عليه الشاعر الحديث منذ عهد رامبو!) أتكون هذه مزايا أم عيوبا؟ لكل شيء بالطبع مزاياه وعيوبه، والأمر يتوقف على الطريقة التي تنظر بها إليه . ولكن أهم ما يميز هذا الفن الشعري عند التعبيريين أنه فن قلق مقلق في آن واحد، يصدم القراء ويسعى إلى ذلك سعيا. وهو فن مفعم بالعاطفة والحماس والعنف الذي يصبح في بعض الأحيان نوعا من الحمى والهذيان، وهو يتعمد البعد عن التجانس والنظام والاتزان والتعقل والحرص على النسب، وكل ما يدخل في قائمة القواعد والأصول التي التزمها الكلاسيكيون؛ أي إنه في النهاية فن ذاتي إلى أبعد حد، شوه فيه الواقع وتحررت اللغة من القواعد الموضوعية والتاريخية وحلت محلها لغة شخصية قادرة على التعبير عن الرؤى العنيفة المتطرفة؛ ولذلك فإن الشاعر لا يخشى أن يخلق كلمات جديدة أو يخلع على الكلمات المألوفة معاني غريبة وجديدة (ولو استطاع لخلق لغة جديدة وأحال اللغة المعروفة إلى شواظ ملتهب أو طلقات رصاص أو صرخات حادة!)
فإذا تركنا الشكل وانتقلنا إلى مضمون هذه القصائد (جريا على التقسيم المعروف الذي نلجأ إليه رغبة في التبسيط لا غير!) وجدنا أن أهم ما يميز أشعار التعبيريين - بوجه عام - هو التحول من الضمير الشخصي إلى ضمير الجماعة؛ أي من «الأنا» إلى «النحن». حدث هذا بعد اشتعال نيران الحرب العالمية الأولى، وأصبحت القصائد أكثر صراحة والرسالة التي يعلنها الشاعر أشد وضوحا. لقد آن الأوان لتأكيد الدعوة للإنسان الجديد. وأصبحت هذه الدعوة - بل الصرخة - أشد إلحاحا، أمام رعب الحرب وأهوالها وفظائعها الدموية، وازداد العطف على الإنسانية الجريحة، وتتابعت النداءات والصيحات والبيانات. لم يعد هناك مكان لوصف الطبيعة. إن القصيدة تعبر الآن عند المدينة أو عن الحرب، المدينة المفزعة الهائلة، المدينة الصناعية المفتعلة بكل وحشيتها وضخامتها وضياع الفرد الوحيد في زحامها، بكل ضجيجها وضوضائها الخانقة، بأحيائها البائسة المزرية التي يتراكم فيها الكادحون والعمال الفقراء، ببيوتها الميتة ونوافذها الخاوية الصامتة كالقبور، المدينة المجنونة بالسرعة والصخب كأنها الكابوس.
والحرب، ألم تشغل أهوالها الشعراء منذ أيام هوميروس؟ ألم تحركهم مآسيها وفظائعها للغناء والبكاء؟ نعم، ولكن الحرب العالمية الأولى كانت في نظر هذا الجيل من الشباب شيئا لم يسبق له نظير (ترى هل من حسن الحظ أم من سوئه أن معظم الشعراء والفنانين التعبيريين سقطوا قتلى في الحرب الأولى أو ماتوا قبل أن يشهدوا فظائع الحرب العالمية الثانية أو فظائع المستعمرين في الشرق الأقصى والأوسط؟) الحرب أحالت الطبيعة الحالمة التي غنى بها أسلافهم الرومانتيكيون والكلاسيكيون إلى جحيم أرضي؛ مزقت الأشجار والأجساد، شوهت ودمرت، ملأت الشوارع بالجثث والأشلاء، أغرقتها بدماء الجرحى وأنينهم، بدأت الحرب فبدأت معها نهاية العالم، وعلى الشاعر الذي لم يسقط في الميدان، أن يكون شاهدا على هذه الفظائع التي يقدم عليها الإنسان، أن ينقل اشمئزازه من القبح والوحشية إلى قصيدته، أن يجعل منها لوحة صارخة مثيرة، أن يحول كلماتها إلى صيحات احتجاج مدوية، بهذا يدفع قراءه إلى الثورة والتغيير، ويحفزهم على الإصرار على عالم جديد يحيا فيه الإنسان أخا للإنسان، حتى الإصرار لا يكفي، بل لا بد من العمل على خلق هذا العالم والتعجيل به.
ولقد فعل الشاعر التعبيري كل ما في طاقته لتحقيق هذا الحلم الأبدي المنحوس، وقدم لوحات غنية بآلام الإنسان وعذابه؛ لوحات تصور الخليقة الجريحة المعذبة المشوهة بألوان صارخة تكاد تصل في صراخها إلى حد الهوس والجنون. والحق أنه لا بد من إنصاف هؤلاء الشعراء حتى لا يبدوا كالأطفال السذج المتشنجين العاطفيين. لا بد من القول بأنهم لم يكتفوا باليأس والصراخ والاتهام، بل نادوا على الدوام بالفجر الجديد والإنسان الجديد، ودعوا بنبرة صادقة حارة إلى محبة الجار والأخوة البشرية الشاملة. وقد يعترض ناقد حديث بأنهم دعوا إلى إنسان كلي مطلق؛ أي لم يدعوا إلى شيء محدد. هذا صحيح في جملته، ولكن هذا النوع من النقد الذي استشرى في السنين الأخيرة أقرب إلى السياسة منه إلى الأدب، ومع ذلك فإن معظم هؤلاء الشعراء قد سقط في الحرب أو انتحر أو جن وتشرد في البلاد، وبعضهم شارك بالفعل في الكفاح في صفوف العمال والفقراء والمستغلين وانضم إلى الأحزاب والحركات اليسارية في ذلك الحين، بل صار فيما بعد من أقطاب هذه الحركات السياسية (مثل يوهانس بشر أو برشت وغيرهما). المهم أن تهمة عدم الانتماء إلى مذهب أو حركة أو ثورة «محددة» لا يمكن أن ينفي عن هؤلاء الشعراء شرف الثورة «الشاملة» ضد الظلم والقهر والاستغلال وتعذيب الإنسان. وأحسب أن هذا هو أقصى ما يمكن أن نطلبه من الفنان والأديب. •••
ولنحاول الآن أن نتعرف إلى الأسماء الهامة في الحركة التعبيرية، ونتحدث قليلا عن بعض أعلامهم بقدر ما يسمح به المجال. ومن المستحيل بالطبع أن أقدم للقارئ قائمة كاملة بأسماء هؤلاء الشعراء والكتاب، أو تفسيرا متعمقا لأعمالهم. إن كتب التاريخ الأدبي أقدر مني على هذا. وأقصى ما أطمح إليه في هذه الصفحات القليلة هو أن يخرج القارئ بفكرة عامة عن الجو الذي أشاعته هذه الحركة الأدبية وقيمتها وأثرها. ولعل الوقت لم يحن بعد لتقديم دراسة شاملة لهؤلاء الشعراء الذين ظلم معظمهم في حياتهم وبعد موتهم، واختفت أسماء بعضهم من الحياة الأدبية ولم تبق حتى في تواريخ الأدب، وتبدد تراثهم القليل أو اندثر أو ما يزال يبحث عن أحد يخرجه للنور.
لنكتف إذن بالحديث القصير عن عدد قليل.
لا يشك أحد اليوم في أن أكبر شعراء الحركة التعبيرية هم «جورج تراكل» و«جورج هايم» و«جوتفريد بن» (في مرحلته الأولى بوجه خاص). والثلاثة الكبار يمثلون نماذج إنسانية وفنية مختلفة، كما يعدون قمما أدبية رفيعة في الأدب الألماني الحديث، وأعمالهم تشغل النقاد والدارسين في الوقت الحاضر وتغري المزيد منهم بالكشف عن أسرارها وتفهم عالمها الساحر الفريد. فأما «هايم» و«تراكل» فقد ماتا في شرخ الشباب؛ غرق الأول في الرابعة والعشرين من عمره مع صديق له أثناء التزحلق على الجليد، وقتل الثاني نفسه بالإدمان على المخدرات التي كانت قريبة منه بحكم مهنته (فقد كان صيدليا)، بعد أن عجز عن احتمال أهوال الحرب التي لمسها بنفسه عندما كان مجندا في الخدمات الطبية. وأما «جوتفريد بن» فهو من الشعراء القلائل الذين امتد بهم العمر بعد زوال التعبيرية (مات سنة 1956)، ونحا في شعره بعد سنة 1925 نحوا أقرب إلى الكلاسيكية.
لنبدأ بالكلام عن «جورج هايم».
إنه من أعمق الشعراء التعبيريين رؤية وأشدهم يأسا وكآبة. وهو كذلك من أقلهم دعوة للإنسان الجديد الذي طالما هتفوا باسمه أو انتظروا مقدمه؛ فالموت يحوم بأجنحته السود فوق أشعاره، والموت يلفها في ظلماته الكثيفة. لقد صور هول المدينة الكبيرة، وتنبأ بفظائع حربين عالميتين. ربما اشتط خياله إلى حد الهذيان والهلوسة، ولكن صوره الشعرية قوية مؤثرة، تكاد تلمس اليد والعين بتفاصيلها الحسية وألوانها الحادة وملامحها البارزة. وقد تكون استعاراته في بعض الأحيان مفتعلة وأساطيره ورؤاه بعيدة شديدة المبالغة، ولكن فيها مسحة من الجلال لا تقاوم. وإذا أمكن أن نقارنه بأحد الشعراء، فلا شك في أن حياته العاصفة وسخطه على المدينة والطبقة الوسطى، وقوة شعره ورجولته وعنفه تقربه من شخصية الشاعر الفرنسي العظيم أرتور رامبو، كما تقربه - في مجال فني آخر - من شخصية فان جوخ الذي كان يحبه ويعجب به. وإنتاجه قليل في مجموعه، فهناك إلى جانب أشعاره مذكراته اليومية الغنية بصدق العاطفة ودقة التعبير عن روح جيله اليائس الساخط الملول، وهناك مجموعة قليلة الشأن من الأقاصيص والحكايات التي لا يمكن أن تقارن بأشعاره من حيث القوة والقدرة على التأثير. وقد يكفي أن نقرأ إحدى قصائده المشهورة - وهي «الحرب» - ونحللها تحليلا سريعا بسيطا. تقول القصيدة:
الحرب
1
نهض من رقاده، من طال نومه،
نهض من الأقباء المنخفضة العميقة.
يقف في الشفق، ضخما ومجهولا،
يسحق القمر في اليد السوداء. •••
في ضجيج المدن عند المساء تنتشر الأنباء،
صقيع وظلال عتمة غريبة.
ودوامة الأسواق تتجمد كالجليد.
يهبط السكون ... يتلفتون، ولا أحد يدري. •••
في الحارات يربت على أكتافهم،
سؤال، ما من جواب، يشحب وجه.
من بعيد ترتعش دقات أجراس نحيلة،
واللحى ترتجف حول ذقونهم المدببة. •••
على ذرى الجبال أخذ يرقص ويصيح:
أيها المحاربون جميعا، انهضوا وسيروا!
وعندما يهز رأسه الأسود تدوي،
صلصلة السلاسل حول آلاف الجماجم. •••
كالبرج يطفئ بقدميه اللهب الأخير،
حيثما يهرب النهار، تمتلئ الأنهار بالدماء.
الجثث التي لا تحصى ممددة فوق الأعشاب،
تغطيها طيور الموت القوية بغلالة بيضاء. •••
بالليل يطارد النار عبر الحقول،
الكلب الأحمر الذي يطلق الصراخ من فمه الوحشي.
من الظلام يثب عالم الليالي الأسود،
تضيء البراكين خافتة بضوء مخيف. •••
وألوف القبعات العالية هنا وهناك،
تغمر السهول المظلمة المضطربة،
والحشود التي تفر إلى الشوارع من تحته،
يطوح بها في غابات النار المتأججة باللهب. •••
والنيران الحارقة تلتهم غابة بعد غابة،
الوطاويط الصفراء متشبثة بفروع الأشجار،
يغرز عصاه في الأشجار كالفحام،
لكي تتوهج النار ويشتد الضرام. •••
غاصت مدينة كبيرة في الدخان الأصفر،
ألقت نفسها بهدوء في جوف الهاوية.
لكن فوق الأنقاض المحترقة يقف وقفة العملاق،
ذلك الذي يهز شعلته في السموات الموحشة ثلاث مرات. •••
فوق ظلال السحب التي تمزقها العاصفة،
في مجاهل الظلمة الميتة الباردة،
حتى جفف الليل المترامي الأطراف بالحريق،
وصب القطران والنار على عمورة.
2
القصيدة تتألف كما ترى من عشر مقطوعات، صيغت أبياتها الأصلية من ست تفعيلات تتميز بالبطء والثقل والجلال، ويقترب الإيقاع في معظمها من إيقاع الموسيقى الجنائزية. ومن الصعب أن نخوض هنا في تحليل شكلها الفني أو خصائصها الجمالية؛ لأن المجال لا يحتمل مثل هذا التحليل؛ ولذلك سنقنع بلمحات سريعة نخرج بها من التذوق البسيط، وأول ما نلمحه منها هو هذه اللغة الخشنة العنيفة المباشرة التي تتفق كلماتها وإيقاعها وصورها الخشنة العنيفة أيضا مع الموضوع الوحيد الذي تكثفه وتضخمه وتبالغ في تأكيد قسوته وبشاعته، وهو موضوع الحرب التي شغلت التعبيريين ونالت أكبر نصيب من ثورتهم وصراخهم واحتجاجهم.
وقد تلمح منها أيضا أنها بعيدة كل البعد عن القصيدة الغنائية التقليدية التي نعرفها من الأغنيات الشعبية أو شعر الرومانتيكيين أو قصائد جوته التي تفيض بصدق العاطفة وعمق الإحساس ورقته؛ فهي تتخلى عن العذوبة الغنائية واللغة التي تفرضها التجربة الذاتية، وتزهد في الشكل المتزن والجمال المنسجم الذي يؤلف بين العالم والذات في وحدة التجربة الباطنة. بل إنها لتمثل في الحقيقة مرحلة جديدة في الشعر تختلف كل الاختلاف عن شعر التجربة والعاطفة، وتنبع من عقلية تحررت من العالم الشعوري والإنساني الذي انبثق منه ذلك الشعر، حتى ليمكن القول بأنها تعانده وتقاومه وتثور عليه. إنها لا تبحث عن الجمال والانسجام في الشكل أو اللغة ، بل تقصد مباشرة إلى التعبير القوي العنيف بالكلمات والصور القوية العنيفة.
وهي كلمات وصور متقطعة منعزلة عن بعضها البعض يكومها الشاعر طبقة فوق طبقة، ويشيد منها هرما فظيعا تنطق كل أحجاره بالدمار والموت، أو نشيدا يتغنى بانتصار العدم ويتصاعد نغمه الكئيب شيئا فشيئا من فم شيطان مخيف شرير.
إنها تمزق القناع عن الرعب الكوني ووحدة الذات البائسة في هذا الوجود الذي يتربص للإنسان بالخطر والفناء. لا مجال فيها للتجانس بين الذات والعالم، ولا مكان للعاطفة ولغتها العذبة الحنون، ولا موضع للتفاؤل بالتقدم والمستقبل السعيد. ويكفي أن شيطان الحرب أو إلهها الخرافي المجهول يحرم الناس من النور والعزاء، ويسحق القمر الذي طالما تعلقت به عواطفهم وتغنت به أشعارهم، ويلقي مدنهم الكبيرة - مدن الفرد الوحيد والقطيع الذي لا وجه له - في ظلام الهاوية وبردها ووحشتها!
إن أكوام الصور البشعة التي يكدسها الشاعر في هذه القصيدة تعبر عن شيء واحد هو واقع الخراب والكارثة والموت؛ واقع الحرب الذي تنطق به الكلمات والاستعارات وبناء العبارات وإيقاع الأوزان. ولكنها ليست حربا معينة في تاريخ معين، ولا هي من نوع الحروب التي يكتب عنها الشعراء بدافع الحماس الوطني أو الاحتجاج على قسوتها أو الرغبة في تطهير البشرية منها، أو التي يسجلون فيها تجربتهم الشخصية ويصورون ما رأوه فيها من مآس وأحزان، والشاعر لا يقصر رؤيته للحرب على دائرة التاريخ والبشرية، بل يجعل منها ظاهرة تتجاوز شخصية الإنسان وهمومه ومصيره، ظاهرة كونية إن شئت، تلتهم الوجود والطبيعة بكل ما يتفجر فيها من عناصر الدمار والخراب. هي الحرب في ذاتها، تحررت من كل زمان ومكان، وابتعدت عن كل هدف أو معنى أو شعور. أما الذي يدبرها ويدير دفتها فهو شيطان خرافي مخيف، يرتفع فوق العالم والتاريخ كأنه برج مشتعل بالنيران، وتتدفق الكوارث من فمه الأسود كما تتدفق الحمم من فوهة بركان.
وليس من قبيل الصدفة أن يختار «هايم» المدينة ليجعلها ميدانا لهذه الرؤية أو هذا الكابوس، فالمدينة هي رمز الضخامة والفساد والمادية والسأم والضيق. وكراهة المدينة كالنبات المريض الذي يمد جذوره في أعماقه وأعماق جيله الوحيد البائس من الشعراء والكتاب والفنانين التعبيريين، بل لعله يمتد إلى أبعد من ذلك في الشعر الأوروبي منذ عهد بولدير ورامبو؛ ولذلك تبدو القصيدة كلها أشبه بالرؤية أو النبوءة أو النذير الذي أكدته حربان عالميتان وما زالت تؤكده الأخطار المحدقة بالبشرية. صحيح أن هذه التنبؤات عن أزمة الحضارة الغربية وانهيارها كانت شائعة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ولا تزال من أحب الموضوعات إلى قلوب الكتاب والقراء في الغرب والشرق. ولقد بلغت ذروة الإحساس بها في كتابات نيتشه ورؤى دستويفسكي وثورة الشعر الفرنسي منذ عهد بودلير ... إلخ، ولكنها لم تكن مسألة حضارية أو فلسفية فحسب، بل كانت لها - كما قلت - جذورها العميقة في تجربة الشاعر وشخصيته وفي قدر جيله المعذب بأكمله، وإحساسه بأنه قد أصبح يعيش على شفا الهاوية. ولقد سقط عدد كبير من شعراء هذا الجيل ضحايا الحرب العالمية الأولى،
3
وفضل بعضهم أن يغادر الحياة منتحرا، واعتزل بعضهم وعاش بقية العمر في صمت. ولكن هذا الإحساس بوحدتهم ومأساة وجودهم العاري من كل معنى أو هدف بلغ في بعض الأحيان حد الاستمتاع بالكآبة وتعذيب النفس والفرار إلى نشوة الرؤى المخيفة، ومنها هذه الرؤية التي تصورها «الحرب». •••
أما جورج تراكل فلم يكتب إلا الشعر، وشعره أشد غموضا وعمقا وهدوءا من شعر هايم، ومع أن قصائده لا تكاد تتجاوز المائة إلا بقليل، فقد أثر تأثيرا كبيرا على الشعر الألماني بعد الحرب العالمية الثانية.
والغريب أن قصائده تبدو للنظرة الأولى على جانب كبير من الصفاء والرقة والعذوبة والانسجام. فإذا أعدنا قراءتها مرة ومرات (فهكذا يريد الشعر الحقيقي حتى يكشف لنا عن سره!) وجدناه من أعقد الشعر وأحفله بالرموز والأسرار والاستعارات الغامضة والإشارات البعيدة والصور المحيرة. إنه يجذبنا - لأول مرة - بسحر موسيقاه وعذوبة لغته وجمال صوره، فإذا سألنا أنفسنا عن سر هذا السحر الغريب واجهتنا مشكلات لا حد لها وأسرار أخرى أكثر غموضا وجمالا. وإذا لجأنا للشروح والتفسيرات التي تتوالى عنه في السنوات الأخيرة ألفينا أنفسنا كمن يهرب من السباحة في النهر إلى السباحة في البحر! إن التفسيرات تكاد تتعدد بعدد المفسرين! هناك من تغريه النصوص الغامضة المؤثرة بتفسير رموزها وصورها تفسيرا دينيا. والحقيقة أن شطحاتها المسرفة تغري بهذا التفسير ... ولكنها ليست شطحات المؤمن بل المدمن على الأفيون، وصاحبها لا يترنم بأنشودة العابد المتبتل لله، بل ينشد مرثية الحداد على صمته ... ويوشك أن يكون شعر تراكل كله عن الشر والألم والموت والذنب والعذاب والفساد والزوال والتحلل والانهيار في عالم مظلم غابت عنه - في رأيه - عناية السماء.
وهناك من فسروا شعره بالرجوع إلى سيرته وحياته التي دمرها القلق والانطواء والخوف من الناس والإخفاق في الاستقرار والتأثر بفظائع الحرب وإدمان المخدرات، وبالغوا في الكلام عن علاقته الحميمة بشقيقته التي حضر وفاتها في نفس السنة التي مات فيها. ولا شك في أهمية تجارب الحياة على الشاعر، ولا شك أيضا في تأثير شقيقته عليه، ولكننا نخطئ كلما بالغنا في تأثير حياة الأديب على إنتاجه أو حاولنا فهم هذا الإنتاج - الذي ينبغي أن تكون له قيمته الخاصة ووجوده المستقل - من واقع سيرته وتجاربه.
وأبسط دليل على هذا فيما نحن بصدده أن تأثير شقيقه تراكل لا يظهر في شعره على الإطلاق. وحاول البعض أخيرا أن يفسر شعره تفسيرا وجوديا، فقام الفيلسوف المشهور «مارتن هيدجر» بهذه المحاولة ولكنه لم يصل إلى نتائج مقنعة (كما فعل مع شعر هولدرلين ولم يستطع أن يرضي الأدباء أو يقنع الفلاسفة!) ولعل الأجدى أن نواجه النص ونلتقي به ونحاوره بغير أفكار سابقة، وننظر في تفاصيله وألوانه ولآلئه، وندرس موضوعاته وصوره، ونحلل أسلوبه، ونبحث عن العوامل المؤثرة على شاعريته المفعمة بالكآبة والشوق والحداد.
إن لغة تراكل تفيض بالرؤى الباطنة والاكتئاب الذي لا حد له، وصور الانهيار الكوني المخيفة، والشوق إلى إنسانية طاهرة نقية تستطيع وحدها أن تخلص العالم. لقد انتهت معه قصيدة الاعتراف الذاتي والجو النفسي، وأصبحت «الأنا» تعبر عن نفسها بلغة موضوعية تقترب من روح الأسطورة التي تجسم رؤاها في صورة محسوسة وملموسة، لغة قريبة من أسلوب هولدرلين (1770-1843) في شعره المتأخر المفعم بالشوق والأسى والحنين إلى عالم أسطوري نقي.
إن العالم المألوف يتفتت عند تراكل إلى أكوام من الصور المتعارضة المتجاورة، تدل صيغها الملغزة المحيرة على عالم باطني غامض يؤثر أن ينطوي على سره، وهو في مجموعه شعر وحيد، يكشف عن الرعب الكامن في الجمال، ويرفع النقاب عن سحر الوجود، ويعبر عن الشوق الأخرس المحموم إلى اللامحدود، والحنين إلى الخلاص من أسر الموت والخطيئة، وانتظار النجاة التي ينعم بها الله أو تأتي بها الطبيعة العظيمة في صبر وتواضع وسكون ...
إن شعر تراكل يفيض - كما قدمت - بالكآبة، ولكنه يعبر عن هذه الكآبة بلغة موسيقية موحية، تجمع بين الجمال الرقيق والرعب الخانق. وهو بهذا التوحيد بين النقيضين يذكرنا بشعر بودلير الذي يصور أبشع ألوان القبح والقسوة والفساد والظلام بأسلوب ينم عن روح جميل نقي طيب شفاف؛ ولذلك فإن مكانة تراكل في الأدب الحديث لا يكاد يشبهها إلا مكانة بودلير أو هولدرلين. ولنقرأ معا إحدى قصائده التي تبين قدرته على التغلغل إلى أقصى أطراف الوجود مع احتفاظه بأسلوبه الرقيق الهادئ العميق، والقصيدة عنوانها الجرذان، وقد رتبها ناشر شعره مع بعض القصائد الأخرى تحت عنوان «الفلاحون».
في الفناء يبدو قمر الخريف ناصع البياض.
من حافة السقف تسقط ظلال غريبة كالأحلام.
في النوافذ الخاوية صمت مقيم؛
عندئذ تظهر الجرذان بغير ضوضاء. •••
وتجري مصفرة هنا وهناك،
وخلفها تزحف أنفاس من البخار،
مغبرة آتية من المراحيض،
التي ترتعش في ضوء القمر كالأشباح. •••
وتتصايح وتصرخ منهومة كالمجانين،
وتملأ البيت ومخازن الغلال،
الرياح الثلجية تعول في الظلام.
ولكن تراكل يبعدنا بعض الشيء عن التعبيريين، لا لأنه يتجاوز حدود المدارس والتيارات والحركات الأدبية كما يفعل أي شاعر عبقري، بل لأن لغته الموحية الهامسة تخلو من صرخاتهم العالية وكلماتهم الثائرة، وإشاراتهم وصيغهم القريبة المباشرة.
ولذلك فإن قصائده المنسجمة الهادئة أشبه بالجزر العجيبة الساكنة وسط الطوفان. •••
لنرجع الآن إلى التعبيريين الخلص، وأول من يخطر على بالنا هو جوتفريد بن (1896-1956) وشعره (على الأقل في مرحلته المبكرة) يضعنا في قالب الحركة التعبيرية . لقد كان طبيبا مختصا بمعالجة الأمراض الجلدية والتناسلية؛ ولذا فلن يدهشنا أن نجد في قصائده الأولى كثيرا من ظواهر المرض والتشوه والقبح، ونصادف فيها الأورام البشعة والقروح المنفرة، والجثث البائسة في المستشفيات والعنابر والمشارح، وكأنما استحالت هذه العنابر والمشارح إلى مسرح فظيع يعرض عليه الشاعر تعاسة البشر ويأسهم في أسلوب بارد وناصع كالثلج.
و«بن» من أبرز الشعراء الذين ينطبق عليهم المبدأ الذي سيطر على الشعر الحديث بعد بودلير وجعله يتخلص بالتدريج من آثار الرومانتيكية، وأعني به تجرد الشاعر (والرسام والموسيقي!) من العواطف البشرية الساذجة، وتعمده أن يكون متزنا دقيقا غير عاطفي، وتخليه عن كل ما يصفه الفيلسوف الإسباني «أورتيجا» جاسيت بالنزعة البشرية - أي تعبيره عن عواطفه وأفكاره - عن طريق ما يقابلها من أشياء واقعية في العالم الخارجي، وهو ما يسميه أيضا الشاعر الناقد الإنجليزي «إليوت» بالمعادل الموضوعي.
و«جوتفريد بن» يكتب شعرا أبعد ما يكون عن العاطفة، بل إنه يبلغ في هذا أقصى ما يمكن أن يتصوره عقل؛ إنه يرد روح الإنسان العاقل وفكره وعلمه إلى أصلها الجسدي، والجسد بدوره يرد إلى العفن والورم والتشوه والسرطان؛ أي إلى كل قبيح فيه، ويصبح العقل الذي طالما مجده الحكماء باطل الأباطيل، والروح التي تغنى بها الشعراء على مر الزمان نوعا من الانحراف في سنن الطبيعة وصورة من صور التحول الفاسد التي لا تلبث أن تختفي من جديد!
وليس من الغريب أن تكثر في شعره رؤى السقوط والانهيار والمرض والتحلل، وتغلب عليه لغة العلم الموضوعية الباردة، لا بل لغة الطبيب الجراح الذي يشق الجلد بلا رحمة ليكشف عما وراءه من أهوال المرض. كل هذا في أسلوب الاصطلاحات العلمية المتخصصة والكلمات الدارجة المشتقة من لغة الشارع، يصفها بجوار كلمات أخرى شاعرية عذبة الرنين، مأخوذة من التراث الرومانتيكي والكلاسيكي. إن الشاعر - مثله في هذا مثل أغلب الشعراء المحدثين - يتعمد أن يصدم القارئ بموضوعه وأسلوبه معا؛ فموضوعاته تثير الخوف والاشمئزاز على الدوام، ولغته قوية حافلة بالصور، شديدة التركيز على الأسماء دون الأفعال، تعتمد على المفاجأة والمونتاج وصف الأشياء إلى جانب بعضها البعض لإبراز رؤياه للقيم المتحطمة والحياة الممزقة والواقع المشوه (ولعله في هذه النزعة العدمية أن يكون وريث نيتشه، وإن خلا مع ذلك من جلاله وغضبه المقدس وإيمانه بالحياة واحتقاره للثقافة والمثقفين!) ولعل أوضح ما يدل على عالم «بن» الشعري هو عناوين قصصه ودواوينه ... ويكفي أن نذكر منها هذه الأسماء: أمخاخ (قصص) مشرحة، لحم، أنقاض، تخدير، صدع ... إلخ. ويكفي أيضا أن نقدم له القصيدتين التاليتين ليجد فيهما القارئ نماذج توضح الكلام السابق، هذه أولا قصيدة عنوانها: رجل وامرأة يمران في عنبر السرطان:
الرجل :
هنا على هذا الصف أرحام عفنة،
وعلى هذا الوصف صدور مهترئة،
سرير كريه الرائحة بجوار سرير،
الممرضات يتغيرن كل ساعة، •••
تعالي، ارفعي هذا الغطاء بهدوء،
انظري هذه الكومة من الدهون والسوائل العطنة،
كانت يوما في نظر رجل شيئا ذا بال،
وكانت أيضا تسمى نشوة ووطنا. •••
تعالي، تأملي هذه الندبة على الصدر،
هل تحسين المسبحة وحباتها الناعمة؟
تحسسيها على مهل، اللحم طري ولا يؤلم. •••
هذه تنزف كما ينزف ثلاثون جسدا،
ما من أحد لديه كل هذا الدم،
وهذه. لقد استطاعوا أن يخرجوا طفلا،
من بطنها المصاب بالسرطان.
إنهم يوصونهم بالنوم، ليلا ونهارا،
يقولون لكل قادم جديد: بالنوم يسترد المرء صحته،
وفي أيام الأحد يوقظونهم قليلا لاستقبال الزائرين. •••
يسمحون لهم بطعام قليل. الظهور جريحة،
الذباب كما ترين. في بعض الأحيان،
تغسلهم الممرضات، كما تغسل الأرائك. •••
هنا تنتفخ الحقول حول كل سرير،
اللحم يستحيل أرضا مستوية، الحرارة تزيد،
السائل (اللمفاوي) يتجمد بالتدريج، الأرض تنادي.
وهناك قصائد عديدة ل «بن» تحفل بالتفاصيل المقززة، ويبدو أنه عند كتابتها لم ينس أو لم يرد أن ينسى أنه عالم وطبيب، صحيح أن تحليلاته الدقيقة للأعراض والأمراض، وأوصافه العادية للقروح والجروح تضفي عليها شاعرية نادرة وتغمرنا بإحساس قاتم بالوحدة والضياع في هذا العالم الكبير المخيف، وصحيح أنها تذكرنا بطريقة بودلير في التغلغل في ألوان القبح والشر والوحل والطين، وإن افتقدت لغته الجميلة الرصينة الخالية من شذوذ المحدثين وإغرابهم ونشاز عباراتهم وصورهم واستعاراتهم، ولكنها مع ذلك تكشف دائما عن حنين رومانتيكي إلى النقاء والصفاء، كما تعبر في المراحل المتأخرة من إنتاج الشاعر عن رغبة في التماس الوحدة والأمن وراء الحطام والخراب، والانتصار على الفساد والخوف والفوضى والعدمية عن طريق الكلمة والشكل الفني الناضج التام.
وقد جاءت هذه المرحلة بعد أن تجاوز «بن» الحركة التعبيرية، كما اتضحت أشعاره التي نشرها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع أن هذه المرحلة المتأخرة لا تدخل في حدود هذا الكتاب، إلا أن الشعر لا يمكن أن يقسم بالمتر والذراع كما تقسم الأرض الزراعية؛ ولذلك فقد يهم القارئ أن يعرف شيئا عنها، وسأكتفي بقصيدة مشهورة بعنوان: «أنا ضائعة»: «أنا» ضائعة، تفجرت من الغلاف الهوائي،
ضحية الأيون: أشعة جاما - لام،
جزيء ومجال أوهام لا نهاية،
على حجرك المعتم من نوتردام. •••
الأيام تمضي بك بلا ليل ولا صباح،
السنوات تقف بل ثلج ولا ثمر،
اللانهائي مهدد وخفي،
العالم ملاذ. •••
أين تنتهي؟ أين تعسكر؟ أين تمتد أفلاكك؟
مكسب، خسارة،
لعبة وحوش، أبد وزوال،
تفر إلى قضبانها. •••
نظرة الوحوش، النجوم أمعاء حيوانات،
موت الأدغال أصل الوجود والخلق،
بشر، مجازر، شعوب، حقول، كروم،
تهوي إلى حلوق الوحوش. •••
العالم فتته الفكر، والمكان والأزمان،
وما نسجت البشرية وما أبدعت،
ليس إلا دالة اللانهاية،
الأسطورة كذبت. •••
من أين، إلى أين، لا ليل، لا صباح،
لا تحية ولا حداد،
تود أن تقترض شعارا،
لكن ممن؟ •••
آه، لما توجهوا جميعا إلى مركز واحد،
والمفكرون أيضا لم يفكروا إلا في الله،
وتوزعوا بين الراعي والحمل،
ومن الكأس ظهرهم الدم. •••
والجميع اندفقوا من الجرح الواحد،
كسروا الرغيف، الذي ذاقه كل من شاء،
آه أيتها اللحظة البعيدة القاهرة الممتلئة،
التي عانقت الأنا الضائعة أيضا ذات يوم.
ولا يعنينا أن نناقش هذه القصيدة التي تستشف فيها صفاء لم نعهده في القصائد المبكرة، ونلمح فيها اتساع الأبعاد الميتافيزيقية والفنية في رؤية الشاعر واستخدامه للاصطلاحات العملية والرياضية بطريقة شاعرية رقيقة، والتماسه للوحدة والمعنى وسط طوفان الظلام والقسوة والحداد؛ لا يعنينا هذا كله، وإنما المهم في هذا المجال هو أن «بن» قد أسهم في شبابه في الحركة التعبيرية، وشارك فيها بنقده الصارخ للمجتمع وتحليلاته القاسية للأمراض، ثم خرج عنها في إنتاجه الذي نشره بعد الحرب العالمية الثانية وأصبح وجها بارزا من وجوه الشعر الحديث في القرن العشرين، وأحد الأعلام الذين أثروا على بنائه الغريب المحير الشاذ، وشغلوا الشعراء والمثقفين في بلادهم وما زالوا يشغلونهم إلى اليوم.
فإذا انتقلنا إلى غير «بن» وتراكل وهايم من شعراء التعبيرية، كان لزاما علينا - لضيق المجال - أن نكتفي بالإشارة إلى بعض الأسماء التي تقل شأنا عن أولئك الثلاثة الكبار. لقد اندثرت بعض هذه الأسماء من ذاكرة القراء وانطوت في زاوية مظلمة من ذاكرة التاريخ الأدبي، وفقد بعضها الآخر ما كان له في أيامه من لمعان الشهرة والمجد، وما أثاره في حينه من ضجيج وغبار.
هناك مثلا هذه الشاعرة الغريبة الأطوار «إلزه لاسكر-شولر» التي لا تزال المنتخبات الشعرية تحتفظ لها بمكان ضئيل، ولا تزال الأجيال القديمة تتحدث عن حياتها العجيبة الشاذة التي تشبه حياة الشعراء الصعاليك.
كانت تطوف بالبلدان الأوروبية كإحدى نساء الغجر المغامرات أو فارسات الأمازون اللائي تتغنى بهن القصص والأساطير، تكتب في المقاهي، وتعيش في عالم أشبه بعالم الخرافات، وتتصور نفسها أميرة أو جنية في إحدى حكايات الشرق القديم. ألفت قصائد يشع منها جمال غريب يعكس رؤى الماضي والحاضر، والشرق والغرب، والواقع والحلم.
كتبت تقول عن نفسها: «ولدت في طيبة (بمصر) وإن كنت قد جئت إلى هذا العالم في «البرفيلد» إحدى بلاد الراين، وترددت على المدرسة حتى بلغت الحادية عشرة، ثم أصبحت روبنسون (وهي تعني روبنسون كروزو!) وعشت في الشرق خمس سنوات، ومنذ ذلك الحين وأنا أحيا كيفما تشاء الصدف.» ولم يكن هذا كله مجرد خيال؛ فقد تصورت أنها تعيش بالفعل في عالم الشرق الخيالي، وراحت تنسج منه أقاصيصها وأشعارها وتتقمص شخصية أمير من طيبة سمته الأمير يوسف، وأخذت توقع خطاباتها باسمه! ولقد كانت على صلة وثيقة بالتعبيريين، فلم تكتف بصداقة العدد الأكبر منهم فحسب، بل تزوجت - بين زيجات أخرى بالطبع! - الكاتب هرفارت فالدن الذي أسس جماعة تعبيرية باسم «العاصفة» وأصدر لها - كما تقدم - مجلة تحمل نفس الاسم، وقد منحت جائزة «كلايست» الأدبية الرفيعة في سنة 1932 للقيم الخالدة التي ينطوي عليها أدبها الذي يقف على قدم المساواة مع إبداع الأعلام الكبار في الأدب الألماني كما تقول وثيقة هذه الجائزة. ولكن النظام النازي لم يلبث أن حرم نشر هذا الأدب الذي أثنى عليه كل هذا الثناء، فهاجرت إلى سويسرا ومنها إلى مصر وفلسطين، ثم عادت إلى سويسرا حيث عرضت مسرحيتها «أرتور أرونيموس وآباؤه» في مدينة زيوريخ سنة 1936، ورجعت مرة أخرى إلى فلسطين حيث تعذبت وماتت بائسة وحيدة في مدينة القدس، ودفنت سنة 1945 في جبل الزيتون.
ولا يمكننا أن نختم هذا الحديث قبل أن نذكر شاعرين تعبيريين تمتعا في حياتهما بشهرة واسعة ولقيا من القراء أعظم نصيب من الإقبال، ويظهر أن حظهما من الأدب دليل على تغير حظوظ المؤلفين على مر العصور؛ فما أبعد الشهرة التي كانا يتمتعان بها من الإهمال الذي يعانيانه من قراء هذه الأيام!
هذان الشاعران هما: يوهانس بشر وفرانز فيرفل. لقد استجابا لمطالب عصرهما وعبرا عن مشكلاته وحاجاته؛ وهما لذلك يستحقان من مؤرخ الأدب كل اهتمام وتقدير. ولكن القارئ الحديث (اللهم إلا في القسم الشرقي من البلاد الألمانية حيث يكاد «بشر» أن يكون كتاب المطالعة للجميع) لا يتذوق اليوم شيئا من مبالغاتهما الساذجة، ولا يستجيب لصيحاتهما العالية، ومع هذا فقد كان كلاهما نموذجا للشاعر التعبيري الذي يتقمص شخصية الأنبياء الملهمين والدعاة المبشرين بالإنسانية الجديدة، وكان كلاهما يدعو دعوته بالطريقة التي تتفق مع مزاجه ونزعته؛ فأولهما «فيرفل» شديد التدين، وقد تحول إلى الكاثوليكية وتحمس لها، وثانيهما «بشر» ثائر سياسي، وقد تحول إلى الشيوعية وصار أحد أقطاب النظام الحاكم في ألمانيا الديموقراطية، وشغل منصب وزير الثقافة قبل وفاته سنة 1958، ومع ذلك فقد كانا قبل هذا التحول الديني والسياسي من رواد الحركة التعبيرية، وكان لهما أسلوبهما الفوضوي العاطفي الثائر على اللغة والمجتمع قبل أن تتمكن الرؤية الصوفية والرمزية من أحدهما والدعوة السياسية الهادفة من الآخر.
ولأكتف هنا بسطور قليلة عن فرانز فيرفل. فقد ولد سنة 1890 في براغ ومات سنة 1945 في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وتأثر في مبدأ حياته الأدبية بلغة التعبيريين، وتميز بأسلوبه البليغ المؤثر الذي يفيض بالرقة والحنان والتدفق العاطفي والشوق إلى الاتحاد بالكل في الكون والمجتمع، والتطلع إلى إنسانية جديدة وقديمة في آن واحد. إنسانية تعيش على المحبة والتواضع والخشوع والصفاء والأخوة، وقد انطبعت مجموعاته الشعرية الأولى
4
بهذا الطابع، وعبرت بلغتها الغنائية العذبة عن أشواقه للخلاص من فساد العصر ومذابح الشعوب وتعاسة الذات المنبوذة المحرومة من نعمة الله، وظل إنتاجه يعاني من التناقض الأليم بين اليأس من الذات والوجود والرغبة العارمة في الحياة «آه أيتها الأرض، أيها المساء، أيتها السعادة، آه من الوجود في هذا العالم!» بين غرور الحاجة إلى الخلق والشك في حقيقة الكلمة وقيمتها، بين التقيد بالأنا البائسة المنقسمة على نفسها، والسعادة التي يشعر بها الفنان عندما يهب نفسه للتعبير عن عذاب الأشقياء المطحونين، ويكرس مواهبه للمنسيين والمضطهدين والمحرومين «يأيها الإنسان! لا أرغب إلا في شيء واحد، هو قربي منك!» وكتاباته تدور حول الخطيئة والخلاص، والشكوى من الذات المتهمة المذنبة، والسعادة التي يتيحها الخلق، والقرب من شهداء الوجود وضحاياه، أراد أن يكتشف الجانب الإلهي في الإنسان ويحرر صورة الله الكامنة في مخلوقاته الترابية الضعيفة، وصور هذه العاطفة النبيلة في أشعاره الحافلة بالرؤى والأحلام والأماني، تجري بها لغة غنائية متدفقة قد لا تخلو أحيانا من نزعة خطابية متكلفة.
كان «فيرفل» يميل إلى الأوبرا، ومسرحياته التعبيرية التي كتبها في المرحلة الثانية من إنتاجه أقرب ما تكون إلى الأوبرات الغنائية والرؤى السحرية. وقد أعاد في سنة 1915 كتابة مسرحية «نساء طروادة» ليوريبيدز، وجعل منها نشيد احتجاج على الحرب وتجاربها المرة، وحاول أن تكون له «فاوست» أخرى، فكتب ثلاثيته المسرحية «إنسان المرآة» (1920)، ولكنه لم ينجح في توضيح الصراع بين «الذات الظاهرة والذات الحقة»، وإنما حمله بالقضايا الفكرية والمشكلات العصرية بأكثر مما ينبغي لمثل هذا الموضوع الإنساني الخالد. ثم حالفه التوفيق في مسرحيته التاريخية «بواريز وماكسيليان» (1924) التي تصور مأساة الحاكم الذي يحطم على صخرة الأطماع والمصالح وبشاعة السلطة. وتوالت بعد ذلك مسرحياته ورواياته (ومن أشهرها أغنية برناديت التي صورت في فيلم معروف) وأقاصيصه التي يدور معظمها حول صدام الأبرياء والبسطاء وأنقياء القلب والروح مع فساد العصر وقانونه الصارم الميت، ولكنه تجاوز المرحلة التعبيرية الخالصة في هذا الإنتاج المتأخر، واستطاع أن يتوصل إلى أسلوب واقعي متميز يحافظ على الشكل التقليدي، ويميل إلى اختيار الموضوعات الدينية والميتافيزيقية والمثالية التي تنطق بعذاب الأتقياء الأنقياء في هذا العالم.
وننتقل إلى اسم آخر من رواد الحركة التعبيرية المبكرة، وهو الشاعر العالم في فقه اللغة إرنست شتادلر (1883-1914) الذي كان أملا مرجوا للشعر الحديث قبل أن تنتزعه الحرب العالمية الأولى، أثر شتادلر على التعبيرية بلغته الصادقة المتفجرة العميقة، ومقدرته على الشكل المحكم الناضج، وأنغامه الشجية الموقعة، وموضوعاته الطريفة المحدثة التي تصور روح العصر كما تبدو في عالم المدن الكبرى والقطارات السريعة والمغامرات والأعمال الهائلة (إنما أنا لهب، عطش وصرخة وحريق ...) وهو من أوائل التعبيريين الذين تأثروا بالمدرسة الرمزية الفرنسية وبالشاعر الأمريكي والت ويتمان، كما ترجم للشاعر الفرنسي المتدين شارل بيجي، والشاعر البلجيكي فيرهارن، والكاتب الفرنسي بلزاك، وقام بتدريس الأدب في بروكسل وأكسفورد، وكتب العديد من الدراسات النقدية، ونشر مجموعته الشعرية «الرحيل» في سنة 1914، وهي من أهم المجموعات التي صدرت للتعبيرين، استطاع شتادلر أن يدخل الأبيات الطويلة إلى الأدب الألماني، كما استطاع أن يعبر عن روح هذا الجيل الباحث عن نفسه وعن الله، الثائر على الحرب المهلكة التي أرغم على الاشتراك فيها، وكان الشاعر نفسه من أول ضحاياها. وأحب أن أقدم للقارئ هذه القصيدة التي سمى مجموعته باسمها، راجيا أن تلقي شيئا من الضوء على ما قلت:
الرحيل
شدت الأبواق يوما قلبي العجلان حتى نزفت دماه،
وأجفل كالجواد الذي راح من غضبه يعض السور،
قديما أطلقت طبول الزاحفين العاصفة في كل الطرقات،
وبدت لنا روائع الموسيقى كأمطار الرصاص،
ثم توقفت الحياة فجأة،
انسابت الدروب بين الأشجار العتيقة،
جذبتنا المخادع،
كان جميلا أن نلبث فيها وننسى أنفسنا،
أن نفك عن الجسد أغلال الواقع التي تشبه لباس الحرب المعفر بالتراب،
أن نضطجع منعمين في فراش وثير من الأحلام الناعمة،
وذات صباح تدحرج عبر الهواء المشبع بالضباب صدى النذير خشنا حادا ذا صفير كأنه ضربة سيف. •••
كان أشبه بالأضواء التي تشع فجأة في الظلام،
وصيحات النفير التي ترن مع الفجر في معسكر الجنود،
فيهب النائمون ليزيلوا الخيام ويسرجوا الجياد،
شد وثاقي للصفوف التي اندفعت في الصباح،
والنار تشتعل فوق الخوذة واللجام،
زاحفة للأمام والمعركة في العيون والدماء،
ربما حفت بنا أناشيد النصر في المساء، وربما تمددنا بين الجثث في أي مكان،
ولكن قبل أن يختطفنا الموت وقبل السقوط، ستشرب عيوننا من العالم والشمس حتى ترتوي وتتوهج بالبريق.
من المستحيل أن نسترسل في الكلام عن بقية الشعراء التعبيريين الذين اختفى بعضهم من الحياة الأدبية كما قلت، ولا يزال بعضهم الآخر طي الأدراج والمكتبات والمخطوطات، ولا شك أن كثيرا منهم يستحق وقفة أطول، بل قد يكون جديرا ببحث مستقل، ولكن ضيق المجال يضطرني إلى الاكتفاء بذكر أسمائهم ذكرا عابرا على الرغم مما في هذا من ظلم شديد، لأذكر لك إذن أسماء شعراء مثل تيودور دوبلر، وأغانيه الصوفية والكونية التي تثير التأمل الهادي العميق وفولفنشتين ولشتنشتين وهاردكوبف وقصائدهم المفعمة بالدعابة والسخرية المريرة، وإيفان جول الذي كتب بالفرنسية والألمانية معا، والشاعر العامل باول تسش، وإيرنشتين وليونهارت وهينيكه وغيرهم وغيرهم، وكلها أسماء لمعت كالنجوم القصيرة العمر، وتألقت سنوات معدودة في حديقة التعبيرية التي لم تكد تزدهر حتى ران عليها الذبول ...
القصة
إذا انتقلنا الآن إلى «نثر» الحركة التعبيرية وجدنا الموقف مختلفا؛ فالقصة والحكاية والرواية الطويلة تحتاج إلى الصبر والعناء والقدرة على البناء والتصميم، والكاتب هنا مطالب بالوصف وخلق الشخصيات وترتيب الأحداث، وما أشقها جميعا على التعبيرية التي كانت في صميمها فورة سخط وصرخة احتجاج! ولا نبالغ إذا قلنا: إن أصحابها قد أبدعوا قصة واحدة في مقابل مائة قصيدة، ورواية واحدة في مقابل عشرين ديوانا! بل إن الأقصوصة في شكلها المحكم الدقيق تغلب على إنتاجهم النثري أكثر من الرواية التي لا نكاد نعثر لها على أثر.
كانت هناك محاولات لتقديم لون من القصة التعبيرية تستحق منا وقفة قصيرة، نذكر من هذه المحاولات قصتين طريفتين، لن يقلل من طرافتهما أنهما قد أصبحتا الآن طي النسيان، فأما القصة الأولى فهي للكاتب كارل أينشتين (1885-1940) - وهو غير العالم المعروف بالطبع! - الذي اشتهر بتخصصه في تاريخ الفن الزنجي، وقد ظهرت سنة 1910 بعنوان «بييكوان أو هواة المعجزة»، وتتألف من مجموعة من المشاهد الساخرة التي تفتقر إلى الحدث الذي يربط بينها، كما تفتقر إلى الحكاية بمعناها المعروف، ويتحدث الكاتب بنفسه عن أسلوبه الفني فيقول: «يجب أن نتناول المحال (أو العبث) كما لو كان واقعة حقيقية»؛ ولذلك نراه يحاول أن يحرر الأقصوصة من شكلها التقليدي ويحولها إلى نوع من «النثر المطلق» الذي جربه «بول فاليري» في كتابه «المسيوتست»، وهو يشترك مع معظم الكتاب التعبيريين في تقديم ما يسمى بنهر الوعي أو تيار الشعور، ومع أن التعبيريين لم يصلوا إلى نتائج ضخمة في هذا المضمار، ومع أنه لا سبيل إلى مقارنتهم بكاتب مثل جويس أو كاتبة مثل فيرجينيا وولف، فلا شك في أنهم حاولوا أن يضيفوا شيئا إلى ما يعرف بقصة تيار الشعور.
أما القصة الثانية فهي للكاتب ألبرت أيرنشتين (1886-1950) وهو من أكثر التعبيريين تشاؤما ومرارة وسخرية، ومعظم شعره يدور حول توحد الذات واستحالة الحب والاتصال بينها وبين الآخرين، وحول الحرب وخرابها والمدينة الكبيرة وزيفها.
وعنوان القصة هو «توبوتش»، ويصف فيها أفكار رجل تنساب أيامه الخاوية وتتوالى عليه الأسابيع والشهور، وهو عاجز عن ملء فراغها الموحش بعمل أو تجربة أو مغامرة. إن الزمن يدور والفراغ المجدب يدير أفكاره في حلقة فارغة مجدبة. وهنا نضطر مرة أخرى للعودة «لجوتفريد بن»، فربما كانت أهم محاولة من جانب التعبيريين لتحليل الوجدان الحديث هي محاولته التي قام بها في بعض قطعه النثرية التي نشرت بعد موته بعنوان: «الدكتور رونه»، والدكتور «رونه» هو اسم الشخصية الرئيسية، وهو طبيب يحمل كثيرا من سمات «بن» نفسه، ويحاول المؤلف أن يشركنا في أفكار هذا الطبيب وتأملاته وعذابه الذي يعانيه من برود المجتمع وعدم مبالاته به، واغترابه في العالم الواقعي الذي يحيا فيه، عالم الأمراض والقروح والآلام.
ويمضي هذا الطبيب في اجترار أفكاره الفلسفية، وتلفيق تركيباته وحيله العقلية المعقدة، حتى ينتهي به الأمر إلى الإدمان على المخدرات، وتنتهي به المخدرات إلى الانتحار.
والغريب أن هذه القطع النثرية لا تنطوي على أي حدث ولا تعنى بأي تحليل نفسي. إنها نوع من المونولوج الداخلي الذي تقوم به شخصية تفكر وتشعر دون أي تدخل من المؤلف، وكأنما هو غير موجود أصلا! والواقع أن «بن» لم يبتكر هذا الأسلوب في الكتابة - إذ لولاه ما وجدت الرواية الحديثة - ولكنه كان أول من جربه في الأدب الألماني.
ونصل للحديث عن «كافكا» (1883-1924) الذي يرتبط في أذهان الكثيرين بالحركة التعبيرية، والواقع أن قصص كافكا المحيرة الغامضة لا تتصل بالتعبيرية إلا بصورة غامضة أيضا.
والمعروف أن كافكا كان على اتصال بأوساط التعبيريين في مدينة براغ مسقط رأسه، ومن أبرزهم فرانزفير فل الذي مر الحديث عنه، وماكس برود الذي كتب الرواية التقليدية، واشتهر بإنقاذ آثار كافكا ونشرها والتصرف فيها أيضا! صحيح أن أقاصيص كافكا المبكرة تنطوي على بعض الملامح التعبيرية، ولكن رواياته وقصصه المتأخرة تتجاوز حدود الحركة التعبيرية، وتأسر العقل والقلب بقيمها الشعرية والرمزية الباقية، وربما استطعنا أن نفسر قصته - الحكم، وهي قصة ابن عادي يحكم عليه أبوه بالموت غرقا؛ لأنه أهمل في مراسلة صديقه الغائب في روسيا - بأنها قد كتبت تحت تأثير الموضوع الرئيسي الذي شغل التعبيريين في مسرحهم بوجه خاص، وهو موضوع الصراع بين الآباء والأبناء، وربما استطعنا أيضا أن نفسر قصته المشهورة «التحولات»، وهي التي تروي تفاصيل واقعية دقيقة عن حادثة غير واقعية، وهي تحول موظف بسيط - قومسيونجي - في إحدى الشركات إلى حيوان مقزز يشبه الجعران أو الخنفساء، وموقفه من العالم المحيط به بعد هذا التحول وموقف والديه وشقيقته منه، قد نستطيع أن نفسرها بأنها من نوع القصص الغريبة المريرة السخرية التي كان يحبها التعبيريون. وقد يمكننا أخيرا أن نقارن بين قصته - أو نبوءته عن أهوال التعذيب في الحرب وفي العالم الحديث «في معسكر العقاب»، وهي تصف آلة تعذيب رهيبة معقدة، وعذاب إنسان يمدد فوقها - وبين قصص التعبيريين وأشعارهم التي تكشف عن فظاعة الإنسان وقدرته الغريبة على القسوة والبشاعة. غير أن كل هذه المقارنات والتفسيرات لا تجعل من كافكا كاتبا تعبيريا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ولا تزيد صلته بالأدباء التعبيريين عن تلك الصلة الغامضة التي تجمع بين الموضوعات المتقاربة التي يعالجها الأدباء بوجه عام. بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول: إن أسلوب كافكا وروحه الشاعرية والرمزية الشاملة تميزه بصورة واضحة عن التعبيرين، وربما وضعته في الطرف المقابل لهم، فأسلوبه يتميز عن أسلوبهم بأنه دقيق هادئ مركز شديد الوضوح والبساطة، بعيد عن التأثر العاطفي، حريص على سرد الدقائق المرهقة والتفاصيل الموضوعية المضنية عن أشياء وأحداث بعيدة كل البعد عن الواقع والمألوف، وما أبعد هذا عن صرخات التعبيريين وصيحاتهم وأسلوبهم الذاتي والعاطفي المسرف! أضف إلى ذلك أن كافكا يروي قصصه ورواياته بطريقة تقليدية، ويقدم أحداثا ذات بداية ووسط ونهاية، بصرف النظر عن كون هذه الأحداث بطبيعتها وهمية أو غير واقعية أو فوق الواقعية. ثم إن بناء قصصه ورواياته أقرب إلى الحكاية القصيرة أو قصص الجن الخرافية أو القصص التي تضرب للمثل والموعظة؛ ولهذا فهي تنطوي دائما على معنى خفي اختلف المفسرون - وما زالوا مختلفين - حول طبيعته الدينية أو الميتافيزيقية أو الاجتماعية أو الصوفية أو التنبؤية، ولكنهم لا يختلفون حول قيمتها الإنسانية التي تتخطى أسوار الزمان والمكان والحركات والمدارس الأدبية المحددة.
وهذه القيم الرمزية والشاعرية الشاملة في أعمال كافكا هي التي تبعده عن أعمال التعبيريين، لا بل تضعه في الطرف المناقض لهم كما قدمت. والسبب بسيط؛ فالرمزية تخالف المبادئ التي سار عليها التعبيريون. إنهم يميلون للوضوح المباشر الذي يوشك أن يكون استغاثة وصراخا، ومعانيهم الخفية دائما على شفاههم وأطراف ألسنتهم، وهم يقولون دائما ما يريدون قوله. قد يكون هناك «جو» مشترك بينهم وبين كافكا، ولكن ما أبعد صيحاتهم المجلجلة عن لمحات كافكا وهمساته الموحية، ودورانه المضني حول الشيء والمعنى خشية أن يحدده أو يفصح عنه ...
وما أعظم الفرق بين صراخ أبطالهم واحتجاجهم البليغ وبين احتجاج أبطال كافكا الوحيدين المنكسرين الضائعين في دوائر ومتاهات عقيمة لا متناهية! (هذا إذا جاز القول بأن لديه أبطالا أو أنهم كذلك يحتجون!)
ويكفي أن أذكر لك هذا المثل من أحاديثه الرائعة مع الكاتب التشيكي جوستاف يانوخ، فقد قدم له هذا مجموعة مختارة من شعر التعبيريين (لا شك أنها فجر الإنسانية التي أشرت إليها) وسأله عن رأيه فيها، فقال له كافكا بصوته الهادئ العميق: «هذا الكتاب يحزنني. إن الشعراء يمدون أيديهم للناس، ولكن الناس لا ترى منهم الأيدي الصديقة، بل القبضات المتشنجة التي تريد أن تصيب الأعين والقلوب.»
ويسري هذا الكلام نفسه على أعمال الروائيين الكبيرين: ألفرد دوبلن (1878-1957) وروبرت موزيل (1880-1942) وهما - إلى جانب توماس مان - من أكبر كتاب الرواية في الأدب الألماني في القرن العشرين.
أما «موزيل» فيشغل القراء والدارسين بصورة هائلة في هذه الأيام؛ فهو يعد من أقطاب الرواية الحديثة (وهي غير الرواية الجديدة المعروفة الآن في فرنسا!) التي تعتمد على المونتاج والمونولوج الداخلي وتضمين الدراسات والمقالات العلمية والفلسفية في سباق القصة والقضاء على وحدة الحدث والشخصية ... إلخ؛ أي الرواية التي لم تعد رواية بالمعنى التقليدي!
ورواية موزيل الأولى «اضطرابات التلميذ تورليس» التي ظهرت سنة 1906 تدور في فلك التعبيرية. إنها تتناول حياة مراهق صغير في مدرسة داخلية، ومشكلاته الروحية والنفسية التي يعانيها، وهي تتصل من هذه الناحية بالمحاولات التي ذكرناها لجوتفريد بن وألبرت أيرنشتين وكارل أينشتين، ولكنها تختلف عنها من حيث أسلوبها الفلسفي الصارم، وقدرتها على مناقشة المشكلات العقلية والنفسية المعقدة، وتمكن صاحبها من التيارات والمذاهب الفكرية والحضارية، وكلها خصائص بلغت غاية النضج والاكتمال في روايته الكبرى «رجل بلا صفات» التي لا شك في أن صاحبها قد وثب بها وثبة بعيدة تجاوزت حدود التعبيرية ومملكتها الضيقة ... ونخطئ لو تصورنا أن «تورليس» من نوع القصص الواقعية والنفسية التي وضعها كثير من الكتاب تحت تأثير فرويد أو غيره من علماء النفس، وتناولوا فيها متاعب هذه المرحلة الهامة من حياة الإنسان. إن الكاتب نفسه يحذرنا من هذا التصور، ويقول: إن التفسير الواقعي للحدث الواقعي لا يهمه في شيء؛ فذاكرته - كما يقول - ضعيفة، والوقائع يمكن أن تحل إحداها محل الأخرى، والذي يعنيه في المقام الأول هو ما يدل عليه الحدث أو تدل عليه مادة القصة من خصائص عقلية أو روحية مميزة وما تنطوي عليه من صفات تخيف كما تخيف الأشباح ... فاضطرابات الفتى تورليس لا قيمة لها عنده؛ ولذلك جردها قبل البدء في كتابة قصته من كل أثر للبيئة أو الواقع، كيف السبيل إذن إلى فهم القصة أو تذوقها بعد استبعاد التفسير النفسي والاجتماعي لها؟ لا بد أن نحاول ذلك من داخلها، أي بدراسة بنائها ومعرفة القوانين التي تقوم عليها.
والقصة - كما قدمت - تختلف عن القصص التقليدية؛ فهي تعنى بالتحليل أكثر من عنايتها بالأحداث. وهي لا تنقسم إلى فصول، بل تمضي كأنما كتبت في نفس واحد، تتخلله فقرات تتراوح بين الطول والقصر، ومع ذلك فيمكن أن تنقسم من حيث البناء إلى ثلاثة أقسام: يصور الأول مساء يوم رحيل والدي «تورليس» اللذين كانا في زيارته، وجلسته مع صديقه «بينبرج» في أحد المحال التي تقدم الحلوى ثم زيارتهما للبغي بوزينا، ويتعرض القسم الأوسط للاضطرابات التي يعانيها الفتى، ويحلل المشاعر والأفكار التي تدور في نفسه والقوانين التي تربط بينها بمناسبة حادثة سرقة ارتكبها زميله الشاذ بازينيس وعوقب بسببها، ثم ينتهي القسم الأخير بخروجه من المعهد الذي كان يقيم فيه إقامة داخلية.
ويلاحظ القارئ أن الحدث والحكاية والشخصية والأوصاف الخارجية والتتابع الزمني وغيرها من مقومات القصة التقليدية لم تعد لها أهمية إلا بقدر ما تتيح للكاتب تحليل المشاعر والأفكار التي تدور في عالم الباطن، ويتفق هذا مع رأي موزيل في الرواية الجديدة التي لا ينبغي أن تهدف للتسلية، بل يجب أن تعين على السيطرة العقلية والروحية على العالم.
وتأتي أهمية هذه الرواية القصيرة من أنها تفتح للرواية العادية - ذات البعد الواحد - آفاقا وأبعادا أخرى جديدة، وتنقلها من عالم الواقع الثابت إلى عالم الإمكان - وهو العالم الوحيد الجدير باهتمام الفن - ومن التسلسل الزمني المطرد إلى تصوير اللحظات الحية الممتلئة التي تضم الماضي والحاضر والمستقبل، والتذكر والإحساس والتنبؤ في لحظة واحدة تنطوي على تجارب عقلية ونفسية لا آخر لها، وتسمح بتحليلات ومناقشات مسهبة يتجاور فيها الممكن والواقع، ويفقد الواقع الخارجي تماسكه، والزمن المألوف تسلسله التاريخي، ويؤثر هذا كله على بناء الرواية ولغتها ومواقفها التي تعكس اضطرابات «تورليس» وأزماته الباطنة وتأملاته الوحيدة.
صحيح أن موزيل لم يحقق نظريته الفنية عن الرواية الجديدة بصورة مرضية إلا في روايته الكبرى التي أشرت إليها، ولكن سخطه على الرواية التقليدية وسعيه لتفكيك شكلها التقليدي كانا شيئا تأثر فيه بالجو التعبيري العام من حوله، وشاركته فيه تجارب قصصية وروائية ظهرت في نفس الفترة بأقلام شعراء وكتاب مثل رلكه وبن وكافكا.
ويسري هذا أيضا على الطبيب والكاتب ألفرد دوبلن؛ فقصصه الأولى التي وضع لها هذا العنوان الغريب: «اغتيال زهرة شقيق أصفر» (1913) تضم مجموعة من الشطحات والهلوسات والتأملات المضطربة التي تدور في ذهن طبيب نفساني وتصدر عن نزعة تعبيرية واضحة، أما رواياته المتأخرة فتبتعد عن التعبيرية بمعناها الدقيق. ويصدق هذا على روايته «وثبات وانج لون الثلاث» (1915) التي تقدم لوحات مثيرة رائعة عن ثائر صيني ينتهي به المطاف إلى العدول عن العنف والبطش والإيمان بالسلام والتسليم بالقدر، كما يصدق على روايته الكبرى «برلين - ميدان ألكسندر» التي كانت جديرة بأن تصبح «الرواية» التعبيرية بحق، لولا أنها كتبت في سنة 1929، أي بعد ذبول الحركة التعبيرية وانطفائها، ولولا أنها تلجأ إلى أساليب وتجارب شكلية عديدة كأسلوب «المونتاج» و«الريبورتاج» الذي يكدس آلاف المعلومات والوثائق وأخبار الصحف والإعلانات وأنباء الطقس وتعليمات السجون والسكك الحديدية وأغاني الأطفال والباعة المتجولين ولغة الدواوين الحكومية إلى جانب لغة الشعراء وكبار الكتاب، كما تلجأ في بعض أجزائها إلى الأسلوب الواقعي الدقيق، وفي بعضها الآخر إلى شاعرية المونولوج الباطني وتضمين المقالات والدراسات العلمية المفككة والقصص والأمثلة الجانبية العديدة، والنصوص المقتبسة من الكتب المقدسة، وعرض الحدث الواحد من زوايا مختلفة وعلى مستويات مختلفة تعكس اضطراب الحياة الحديثة وفوضاها؛ لولا هذا كله لقيل عنها إنها الرواية التعبيرية بحق، ومع هذا فهي تشارك التعبيرية في مهاجمة المجتمع البرجوازي وبيان أخطار المدينة على كيان الفرد، وتتبع حياة إنسان بسيط كادح يتحطم على صخرة المجتمع وتقاليده ونظمه وأفكاره البالية. إنها تمثل ذروة النثر التعبيري وتتجاوزه في آن واحد إلى نوع من الأسلوب الواقعي الذي تطورت إليه الرواية بعد العشرينيات، وأطلق عليه النقاد اسم «الواقعية الجديدة» أو ربما سموه كذلك «الموضوعية الجديدة».
لم تكن رواية «برلين - ميدان ألكسندر» أول رواية يكتبها دوبلن عن المدينة الكبيرة، فقد نشر في سنة 1924 رواية «يوتوبية»
1
بعنوان «جبال وبحار وعمالقة»، تضمنت مجموعة من الرؤى المخيفة التي تصور «التكنيك» أو «التقنية» وجبروت المدينة الكبيرة التي تفوق الطبيعة نفسها قوة وجبروتا. ثم ظهرت هذه الرؤى في صور أشمل وأعقد وأروع في هذه الرواية الكبرى التي تعد بحق بداية مرحلة جديدة في هذا الفن، وتجربة لا تقل عن التجارب التي قدمها جويس الأيرلندي في «يوليسيس»، ودوس باسوس الأمريكي في روايته عن مدينة نيويورك «قطار مانهاتن».
والرواية ملحمة تلعب فيها المدينة الكبيرة دور البطل الحقيقي، ولكنها تحمل عنوانا فرعيا نعلم منه أنها تروي قصة «فرانزبيبر كوبف»، وهو اسم «بطلها» الذي يروي حياته المضطربة في حضيض المدينة الكبيرة ودهاليزها السفلية المظلمة. إنه قاتل ولص ونزيل سجون ومزور وقواد ... كان يعمل شيالا لنقل الأثاث ثم سجن أربع سنوات؛ لأن الغيرة دفعته إلى جرح صديقته جرحا أدى إلى موتها.
وتبدأ الرواية بعد إطلاق سراحه وخروجه كالمجنون إلى الشوارع ليجد العقاب الحقيقي في انتظاره، ويتصعلك ويشقى من عمل إلى عمل، بحثا عن مكان وسط زحام المدينة ورعبها. إنه في صميم قلبه يريد أن يحيا حياة شريفة مستقيمة، ولكنه يضطر أن يتشرد من حرفة إلى حرفة، ويتقلب من تجربة مرة إلى تجربة أمر، ويفقد ذراعه اليمنى ظلما وغدرا، ويقتنع في النهاية بأن النصب والغش والسرقة والاحتيال هي مواد القانون الذي يحكم العالم، وينضم لعصابة من القوادين واللصوص تستغله أبشع استغلال، ويقتل رئيسها صديقته - وهي بغي كانت تحاول أن تساعده وتكشف عن أعدائه - ويلبث فترة في مستشفى للمجانين فريسة اليأس إلى أن يتم اكتشاف القاتل الحقيقي، ويتحدث الناس عن قصة حبه وتروي الصحف مأساته، وتعرض عليه في النهاية وظيفة متواضعة يقبلها ويصبح مساعد بواب في أحد المصانع!
بهذا يختم الكاتب قصة إنسان (من أبطال هذا الزمان!) تقلب بين دهاليز المدينة وحاناتها البائسة ومجرميها ولصوصها وأهلها الكادحين الفقراء، ولكنه لم يقدم قصة هذا الإنسان العادي لذاتها ... ولم يقصد أن تكون تقريرا عن بيئة العمال الفقراء، بل أراد أن تكون مثلا يتأمله كل الذين لم يسمعوا عنه من جمهور القراء، وكل إنسان يسكن مثله في جلد آدمي ويطلب من الحياة شيئا يزيد على الخبز اليومي ... إن «بيير كويف» رجل عادي تافه لا ينفرد بميزة خاصة، يحاول عبثا أن يحيا حياة مستقيمة فيخفق في كل محاولاته. ومع ذلك فإننا نشاركه آلامه ونفهم سلوكه، ونعرف أن ما يحدث له قد يحدث لكل واحد فينا. ومن هنا فهو يمثل نموذج الفرد الذي خربته قيم الجماعة وجنت عليه. إنه بطل عصرنا ومدننا ومجتمعنا، وهو أيضا ضحيته وشهيده، وهو يعرض علينا لوحة بيئة كاملة، تغلي بمختلف التيارات الروحية والفكرية، وتزدحم بألوان من البؤس والضعة والشقاء لم يعد من الممكن السكوت عليها أو الوقوف منها كأنها قدر محتوم لا يتغير، هو في النهاية قدر المدينة الكبيرة التي يتحطم هذا البطل الصغير في أوكارها وجحورها وشوارعها المسفلتة، ويتدحرج في حضيضها المظلم درجة درجة كأنه «أيوب» معاصر ...
وأخيرا فإن قصة هذا الرجل العادي «فرانزبيبر كويف» هي في الحقيقة رمز «كل إنسان» كما عرفته العصور الوسطى المسيحية، قصة ابن آدم المذنب الذي يسير من الظلام إلى النور، ويشق طريقه في هذه الدنيا وسط الخطايا والآلام، ويظل يتخبط في تجاربه وأيامه وأعماله بلا تطور ولا معرفة، حتى يطهره الموت في النهاية ويمنحه المعرفة والبصيرة، ولكنها معرفة الثائر المتمرد لا الخاضع المستسلم، وبصيرة الزاحف المتضامن مع إخوته من البشر لتحطيم «بابل الفاجرة» حتى يبزغ فجر العالم الجديد والحرية الجديدة من بين الأنقاض ...
ولعل هذه الرواية أن تكون هي علامة الطريق البارزة نحو التحول الذي طرأ على الأدب الأوروبي بعد غروب التعبيرية.
ولا أحب أن أختم هذه الكلمات السريعة عن النثر التعبيري قبل الإشارة إلى الكاتب «هانز هيني يان» (1894-1959): إنه من أتعس الكتاب الألمان حظا في القرن العشرين سواء عند القراء أو النقاد! ويبدو أن لغته المعقدة المثقلة بالرموز والتجارب اللفظية والشكلية، وعالمه الفوضوي المشحون بالتجديف والشذوذ والتحليلات المرهقة لنوازع النفس المظلمة وصراعها بين قوى الشر الكامنة فيها وبين أشواقها للخلاص من قيود الواقع والغريزة؛ يبدو أن هذا كله قد ساهم في بؤس حظه وبقائه حتى الآن في الظل على الرغم من نبوغه وتفوقه. وأحب أن أذكر أولى رواياته وهي «بيروديا» (1929) التي كتبها بأسلوب صوفي غني بالرؤى والصور الغريبة التي تجعلها قريبة من الروح التعبيرية شديدة التأثر بها.
المسرح
إذا كان إنتاج التعبيريين في القصة والرواية شحيحا، فهو على خشبة المسرح خصب شديد الخصوبة. إنه ينبع كذلك من خيبة أملهم في المدينة الكبيرة، ومفهوم العلم والتقدم كما شاع في أوائل القرن، وشوقهم للعثور على الإنسان وسط ضجيج الحروب والآلات.
لقد كتبوا عددا هائلا من المسرحيات التي لا تكاد تجد من يذكرها اليوم، فهي لا تعرض على المسرح إلا في حالات نادرة، ولا تكاد تظهر في المجموعات المنتخبة من التمثيليات. قد يكون السبب في هذا هو الحظ البائس الذي يغتال أعمال الإنسان ويحيل شعلتها إلى رماد. وقد يكون ظلما بالغا لحق بعدد من هذه المسرحيات التي لا تزال جديرة بأن تقرأ في الكتب وتشاهد في ملاعب التمثيل. ولكن مهما يكن السبب في هذا الظلم أو هذا الجحود فإن مسرحهم يستحق أن نقف عنده قليلا. وقد كنت أتمنى أن أقدم للقارئ فكرة مفصلة عنه، ولكن ضيق المجال يضطرني مرة أخرى إلى الإيجاز،
1
كما يضطرني إلى شيء آخر تكرهه نفسي وتؤمن بأنه يخنق الأعمال الأدبية والفنية ويشوهها، وأعني به تلخيص هذه الأعمال ...
وعذري الوحيد على كل حال أنني كتبت في موضع آخر دراسة عن هذا المسرح، أرجو أن تظهر مع بعض نماذجه في وقت قريب.
كانت هذه هي حالة المسرح في سنة 1900 على وجه التقريب.
فالدراما الكلاسيكية التي أبدعها كتاب كبار مثل لسينج وجوته وشيلر، ثم واصل السير فيها هيبيل - أعظم التراجيديين الألمان في القرن التاسع عشر - وجريليارزر - أكبر كتاب المسرح النمسويين - قد انتهت إلى نوع من الكلاسيكية الجديدة التي تتسم بالضعف والملل. وكانت المدرسة الطبيعية قد التزمت بالدراما التحليلية والواقعية مقتدية في ذلك بإبسن.
وجاء التعبيريون فأعلنوا ثورتهم على كل النماذج التقليدية، واتجهوا بطبيعتهم إلى النماذج الثورية التي وجدوها في حركة العاصفة والاندفاع،
2
كما وجدوها في صورة رائعة مذهلة في مسرحيات جورج بوشنر، وبخاصة مسرحيته الجريئة فويسك
3
وفي مسرحيات فيديكتد (1864-1918) أو لوحاته الرمزية الساخرة، وأخيرا في أعمال سترندبرج، الكاتب السويدي العظيم الذي أثر على المسرح الحديث كله، كانت مسرحيات سترندبرج المتأخرة أو بالأحرى لوحاته أو «محطاته» الدرامية المفعمة بالتشاؤم والعنف وصراع القوى الدفينة في أعماق النفس المقهورة الثائرة هي التي تركت أكبر الأثر على التعبيريين. وكانت طريقته في رسم مجموعة من الصور والمشاهد المتتابعة التي تستغني عن البناء التقليدي المتطور بالحدث من أهم العوامل التي طبعت أسلوبهم في الكتابة للمسرح. أعجبهم من مسرحياته المشهورة (كالطريق إلى دمشق ولعبة الحلم وسوناته الأشباح) أنها لا تقدم شخصيات فردية، بل نماذج وأنماطا عامة تحمل أسماء عامة كالابن، والمجهول، والشحاذ، والصديق، والشاعر، والعجوز، والميت، وهو، وهي ... إلخ، وكلها تنطق بمشاعر المؤلف وتعبر عن القضايا والأفكار التي شغلته في الدين والنفس والأسرة والمجتمع، وجعلته يضع شخصية الإنسان المعذب بالبحث عن نفسه وخالقه في مركز أعماله، بل في قلب الأدب الحديث من بعده.
أخذ التعبيريون من سترندبرج أسلوبه الفني، وإن لم يأخذوا شيئا من مشكلاته الذاتية الأليمة التي نجمت عن إخفاقه المستمر في الزواج والحياة. لقد كانوا بطبعهم بعيدين عن المسائل الاجتماعية والنفسية المحددة، وكان كل همهم أن يجسدوا أفكارهم العامة وثورتهم المطلقة على خشبة المسرح.
ولكن ما هي هذه الأفكار العامة، وعلى أي شيء يثورون؟ إنهم يثورون على المدنية التي أفسدت الإنسان وعلمته أن يكون وحشا قاسيا شريرا. ويهاجمون الحياة في المدن الكبيرة التي تسحق الفرد (أو إن شئت الفنان) وتدمر حريته، وتحكم عليه بالبؤس والانتحار البطيء ضحية التجار والنفعيين والبرجوازيين الأغبياء المطمئنين. وهم في النهاية يحلمون «بالإنسان الجديد» الذي يستطيع وحده أن ينقذ الإنسان «الأخ» الوحيد البريء العاري الباحث عن نفسه الباطنة الأصيلة، وطبيعي أن يصبح بطل الدراما التعبيرية هو الشاب المتمرد الثائر على عالم الآباء، وأن يكون الصراع بين الابن والأب هو المشكلة الأساسية التي تدور حولها معظم مسرحياتهم، وأن يكافح هذا الابن البريء اليائس في البحث عن الطريق الذي ينقذه وينقذ معه البشرية المعذبة.
تلك هي المشكلة الأساسية كما قلت، تتخذ شكلا دينيا أو اجتماعيا أو فلسفيا أو سياسيا على اختلاف الأحوال، ولكنها تظل مشكلة المشاكل على كل حال.
هنا يصطدم القديم والجديد، والشر والخير، والآباء والأبناء، ولكن التعبيريين لا يريدون أن يقدموا تحليلات نفسية واجتماعية واقعية، بقدر ما يريدون التعبير عن عاطفة الثورة بما هي ثورة، وتجسيد عذاب الثائر ومخاوفه وآلامه، والتبشير بعالم جديد وعهد جديد ومملكة نقية يحيا فيها «الإنسان»، مملكة جديدة يتحرر فيها من كل سلطة وسلطان، ومن كل ظلم واستغلال وامتهان؛ أي يتحرر فيها من كل الآباء ...!
وطبيعي أن التعبير عن الثورة المطلقة أو التمرد الخالص لا يحتاج إلى شخصيات فردية محددة، ذات كيان وتاريخ محدد؛ لذلك نجد التعبيريين يلجئون للنماذج والأنماط العامة، ويديرون الصراع في مسرحهم بين «الأب» و«الابن» والمدير والعامل، والرجل والمرأة. كما نجد الحوار يفقد وظيفته الأساسية، فيشيع في أعمالهم جو شاعري مسرف في شاعريته، وتجري على ألسنتهم لغة مجنحة متوهجة، ويصبح المونولوج (أي حوار الشخصية الوحيدة مع نفسها) هو المحرك الأول للوحات والمشاهد المتتابعة، بحيث يتعذر آخر الأمر أن تسمى هذه المجموعة من اللوحات والمشاهد «تراجيديا» أو «كوميديا» بالمعنى المألوف من هاتين الكلمتين، بل ويتعذر أن تنطبق عليها أية كلمة تدل على نوع من الأنواع الأدبية التي أراد التعبيريون تحطيمها وتمزيق أشكالها. وقد نذهب إلى أبعد من هذا فنقول: إن من الصعب أن نسميها «مسرحيات» ... وربما كان الأوفق أن نسميها رسائل أو اعترافات درامية، أو رؤى عاطفية وفكرية، أو لوحات تبشيرية بالمستقبل الذي لم يولد بعد، والإنسانية التي كانوا يحلمون وما زلنا نحلم بها.
إن الاعتراف والحماس الشاعري يحلان محل التوتر الدرامي، والوسائل المسرحية تبلغ أقصى حد من التطرف والمبالغة، والممثلون يصرخون ويصيحون أو يهمسون ويتمتمون وينشجون بالبكاء، والإشارات والإيماءات تنقلب إلى نوع من «البانتوميم» أو التمثيل الإيقاعي الصامت الذي يغلب على المشاهد المؤثرة، ويغني بالتعبير الجسدي والروحي عن الألفاظ والكلمات، والمناظر تتغير فوق خشبة المسرح أو بالأحرى تختفي منها، فليست هناك تجهيزات آلية معقدة، ولا قطع ديكور ثقيلة من النوع الذي يستخدم في المسرحيات الطبيعية والتاريخية، بل يكاد المسرح أن يكون عاريا من كل شيء؛ رغبة في إثارة خيال المتفرج والإيحاء عن طريق التجريد والتعميم. إن المتفرج مدعو للاستجابة للنداء الذي يتجسد الآن أمامه، مدعو لاتخاذ موقف، ولا بد من إخراجه من تحت عباءة «الوهم» التي أسدلها عليه المسرح الكلاسيكي (الذي كان مسرح وهم بالأصالة).
ومع أن المسرح التعبيري لا يزيل هذا الوهم إلا ليحل مكانه وهما آخر، ولا يقضي تماما على «اندماج» المتفرج في المشاهد والأحداث التي تجري أمامه - وهي مشكلة المسرح الحديث والمعاصر بوجه عام؛ فلا شك أن التعبيريين قد حاولوا شيئا مما نحاول اليوم، وسبقوا إلى نوع من «الإغراب» الذي نسمع عنه كثيرا في هذه الأيام كلما تحدث الناس عن برشت أو مسرح اللامعقول أو المسرح التسجيلي أو المسرح الخالص أو العرض التمثيلي الذي يحاول التخلص من سلطان الأدب ليعطي للجسد حقه في الحركة والتعبير ...
ولعل أهم ظاهرة في المسرح التعبيري هي الضوء. لقد أصبحت له وظيفة أساسية. بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه أصبح البطل الحقيقي في المسرحية. إنه يركز على الشخصيات الرئيسية، ويخلق الظلال والأشباح الغامضة المفعمة بالأسرار، وقد يطفأ تماما فيخيم الظلام المطلق الذي يساعد على زيادة التأثير وتحريك عاطفة المتفرج وتفكيره وخياله، وأخيرا فإن التمثيل يتم على مستويات مختلفة وفي وقت واحد، فيسلط الضوء على جانب آخر من المسرح دون حاجة إلى رفع الستار عن أحد المشاهد (الخالية بالطبع من الديكور) لينقلنا إلى مكان أو زمان آخر. وكلها أشياء يعرفها المتفرج الذي يتردد على المسرح، وتؤكد ما يقوله بحق بعض رجاله من أن المخرج ومهندس الضوء والصوت يساهمون بدور هام في خلق العرض المسرحي أو تأليفه.
والنتيجة التي نخرج بها من هذا كله هي أن عرض الأفكار والمشاعر عرضا مجردا يسمح بالتحرر من قيود الوحدات الثلاث المشهورة التي أشار إليها أرسطو في «فن الشعر» (وهي الزمان والمكان والحدث)، ويسمح كذلك بتصوير ما كان من قبل مستحيلا أو عسيرا، أي بتصوير الحلم والرؤية، والسماء والجحيم، والفقير والمليونير، والمجرم والقديس. إن كل ما تهجس به النفس أو يهمس به القلب يتجسد على المسرح في صورة مرئية. وكل فنون الديكور والإخراج والإضاءة والملابس والرقص والإلقاء تسخر الآن لإثارة وجدان المتفرج وإقناعه بالدعوة الجديدة للإنسانية الجديدة ... أي إنها تشترك في خلق ما يسمى الآن بالمسرح الشامل.
ولعل التعبيريين هم أول من حاول إقامة المسرح الشامل الذي يتردد الحديث عنه في هذه الأيام، وهو مسرح يجمع بين عناصر مختلفة كالكلمة والنغم والرقص والإضاءة والحركة والفن التشكيلي. ويشترك الممثل - الذي يطلب منه أن يكون راقصا كذلك! - مع المؤلف والمخرج والمثال والرسام والموسيقي ومصمم الأزياء والأقنعة ومهندس الإضاءة بنصيب متساو. إنه مسرح مثالي مجرد، أو هو في صميمه تجربة لا تقوم على الكلمة بكل ما تحمله من معان وآراء وفلسفات، بل على الإيقاع الشامل الذي يؤلف بين هذه الفنون المختلفة. وقد قدمت أول تجربة له مع تقديم مسرحية الرسام والكاتب المسرحي النمسوي الشهير أوسكار كوكوشكا «أبو الهول ورجل من القش» (وقد غير عنوانها بعد ذلك فظهرت سنة 1917 بعنوان أيوب على مسرح زيورخ، واستخدمت فيها معظم الوسائل التعبيرية السابقة)، ثم توجت هذه التجارب جميعا في محاولات المخرج الشهير أرفن بسكاتور الذي بدأت فكرته عن المسرح الشامل تحت تأثير التعبيرية، ولا زالت حية إلى الآن فيما يسمى بمسرح الطليعة والمسرح السياسي (الذي تعاون الأستاذان: ألفريد فرج وسعد أردش على نجاحه في بلادنا عندما قدما مسرحية النار والزيتون على المسرح القومي).
غير أن هذا المسرح ظل أقرب إلى الفنون التشكيلية منه إلى الدراما، وإلى العرض منه إلى التعبير؛ ولذلك أراد الأدباء أن يخلقوا مسرحهم الشعري الذي يختلف عنه ويستفيد منه في آن واحد، ويقوم على الكلمة المتفجرة التي تلقى من على خشبة المسرح حاملة رسالة هؤلاء الشباب وسخطهم على عالم ليس كما ينبغي له أن يكون! وكانت مسرحيات «الابن» (1914) - وسيأتي الحديث عنها - لفالتر هازنكليفر، والشاعر لرينهارد زورجه (1912) من أوائل هذه المسرحيات، ثم ظهرت المسرحيات السياسية بعد ثورة 1918 الاشتراكية الفاشلة، في كتابات عدد من التعبيريين الغاضبين على الحرب المنادين بمجتمع إنساني جديد، وظهرت معها الحاجة إلى المسرح السياسي الذي ينقذ المجتمع ويستثير الجماهير إلى العمل والتغيير والكفاح، فكان مسرح بسكاتور السياسي، ومن بعده مسرح برشت الملحمي.
وإذا انتقلنا للكلام عن بعض كتاب المسرح التعبيري وجدنا أسماء عديدة ونماذج مغرية لا حصر لها.
يمكننا أن نبدأ بكارل شتيرنهيم (1878-1942) الذي تميز بكوميدياته «الجيدة الصنع» التي هاجم فيها المجتمع البرجوازي وتقاليده ومثله هجوما ساخرا مرا لا رحمة فيه، ووضعها تحت هذا العنوان الطريف: «مشاهد من الحياة البطولية للبرجوازية»، ومن أهمها: «السراويل» و«المتحذلق»، وهما من أنجح كوميدياته وأكثر رواجا إلى اليوم.
ونذكر كذلك أكبر كتاب المسرح التعبيري وأخصبهم إنتاجا وأكثرهم قدرة على البناء الدرامي وهو جورج كايزر (1878-1945) الذي سيطر على المسرح الألماني في العشرينيات، كما تذكر مسرحياته الفكرية والاجتماعية البارعة مثل «مواطني كاليه»، و«من الصباح إلى منتصف الليل» وثلاثيته «غاز».
ولكن لا بد من القول بأن عددا قليلا من مسرحيات كايزر المبكرة هي التي تنتمي للمرحلة التعبيرية،
4
أما مسرحياته الكبيرة المتقنة المحكمة البناء فهي تتجاوزها من ناحية الزمن والصنعة جميعا.
ثم نذكر رينهارد زورجه (1892-1916) الذي سقط في عنفوان شبابه في الحرب العالمية الأولى، وتميز شعره بالثورة على النزعة الطبيعية والمادية. كما تميزت مسرحياته الرمزية الحالمة التي توشك أن تقوم على المونولوج بالدعوة إلى تجديد الإنسان وإحياء العقيدة في نفسه والعودة إلى تمثيليات الأسرار في العصور الوسطى.
وأوضح مثل لهذا هو مسرحيته «الشحاذ» التي تتحول قرب نهايتها إلى قداس ينشد على المسرح (ولا ننسى بهذه المناسبة أن معظم المسرحيات التعبيرية قريبة من أشكال التأليف الموسيقي وبخاصة الأوبرا).
ثم نذكر مسرحيات: «الشباب» (1916) و«الوحيد»
5 (1917) و«الملك» (1920) للكاتب المسرحي هانزيوست (1890) الذي رأس اتحاد الكتاب وأكاديمية الأدب في العهد النازي، ووجهت إليه تهمة التعاون مع هذا النظام في قضية مشهورة سنة 1949.
وقد بدأ حياته بكتابة مسرحيات تعبيرية خالصة اتبع فيها أسلوب المونولوج والمشاهد المتوالية، وتناول مشكلات الشباب الحائر الباحث عن نفسه، ثم تطرق منها إلى المسرحيات التاريخية، وأصبح كاتب المسرح الأول في ظل النازيين وداعيتهم الأكبر إلى التفوق العنصري، وبذلك سقط السقطة التي لا تغتفر.
وأخيرا نذكر فرانز فيرفل ومسرحيته «رجل في المرآة» وإعداده «لنساء طروادة» ليوروبيدز، وفرتزفون أنروه (1885) الذي عرف بمسرحياته التي وقف فيها من الحرب والاستبداد موقفا شجاعا، ودافع دفاعا بليغا عن السلام والمحبة والأخوة بين البشر، كما في مسرحيته «جيل» و«مكان» ومسرحياته التاريخية التي صودرت في عهد القيصر وليم الثاني. ثم «رينهارد جيرنج» (1887-1936) - (وهو غير مارشال الطيران النازي المفزع!) وقد عمل طبيبا في ميادين الحرب العالمية الأولى وهزته تجاربها الأليمة، فكتب مسرحيات شاعرية معتمة تدور حول فكرة البطولة التي تنتصر على القدر، ومن أهمها: «المعركة البحرية»، «المنقذون».
والمنقذون مسرحية تزخر بألوان التعذيب والاضطهاد والقتل والرعب. إنها تصور عجوزين يحتضران ويستعيدان ذكريات حياتهما الماضية، وقبل أن يجودا بأنفاسهما الأخيرة يسمعان طلقات رصاص وصيحات ألم، ويلجأ إليهما المضطهدون والجلادون واحدا بعد الآخر فيحاولان حمايتهم وإعادة الثقة والاطمئنان إلى نفوسهم، ولكن الشر في هذا العالم غلاب، والقتلة مستمرون في القتل، والجلادون مصرون على التعذيب، وفي النهاية يأتي عاشقان متفانيان في أغنية حب تنسيهما كل شيء، ولكن الموت لا يريد أن يرحمهما أيضا، فما إن يخرجا من حجرة العجوزين حتى يعودا بعد قليل ليموتا من أثر الجراح التي أصابتهما، وعلى شفتيهما نفس الأغنية الحلوة، وفي أجسادهما نفس الرغبة الحارة في العناق إلى آخر لحظة.
6
أما مسرحية «المعركة البحرية» فهي أشهر ما كتب المؤلف، وهي كذلك من أشهر المسرحيات التي تعبر عن الاحتجاج على الحروب. إن لغتها الغنائية المفعمة بالجمال والجلال أشبه بلغة الكورس (الجوقة) في المسرح اليوناني القديم، وهي تصور سبعة بحارة على سفينة أو بارجة حربية يمزقهم الصراع بين أداء الواجب الذي سيدفعهم حتما إلى القتل، وبين العصيان الذي سيعرضهم حتما للموت. وتبدأ المسرحية بصرخة عالية؛ والصراخ علامة دالة على الروح التعبيرية كلها!
ونجد البحارة يشكون ويتذمرون ويصرخون «كالخنازير التي تنتظر الجزار أو العجول التي تنتظر الذبح أو القطعان التي تسحقها الصاعقة». وهم يقاتلون عندما تبدو سفينة الأعداء في الأفق، ويتأملون في معنى الموت والحياة، والوطن والحكام، والطاعة والعصيان، ويشتركون في بكائية أشبه بقداس جنائزي ينشدونه على أصوات المدافع، وتساقط جثثهم واحدا بعد الآخر، أو أشبه بجوقة يونانية مليئة بالفجيعة والعذاب.
وليست «المعركة البحرية» مسرحية فحسب، وإنما هي - في صميمها - تعبير عن وجود الإنسان حين يتأمل نفسه وضميره في ساعة القدر والخطر، وفي موقف لا مفر فيه من الموت ولا مفر أيضا من السؤال عن المعنى والقيمة، وعن المعتقدات الموروثة والكلمات الضخمة والأخطاء والأكاذيب التي دفعت هؤلاء البحارة إلى أتون الحرب.
وقد نجحت المسرحية نجاحا هائلا عندما عرضت لأول مرة (سنة 1918) على المسرح الألماني في برلين. وقام بإخراجها المخرج التعبيري الشهير ماكس رينهارت.
وأخيرا فلا يمكننا أن نغفل تلك الشخصية الثورية الحالمة التي يوشك صاحبها أن يكون نبيا ملهما من أنبياء الثورة الاشتراكية في العصر الحديث، أولئك الذين «تعذبوا وضحوا وذاقوا في سبيلها مرارة البؤس والسجن والتشرد والحرمان»؛ وأعني به إرنست تولر (1893-1939) الذي كتب أعنف مسرحيات التعبيريين هجوما على الحرب، وأشدها سخطا على عبودية الإنسان الحديث للآلة، وأخلصها دعوة إلى نظام اشتراكي يحقق السلام والعدالة وينصف العمال والفقراء. ومن أهم المسرحيات التي كتبها وأشهرها: «الإنسان والجماهير»، «محطمو الآلات» و«هنكمان» و«العدالة» وغيرها من الأعمال التي أعانت المخرج المشهور أرفين بسكاتور على خلق مسرحه السياسي، إذ ألهمته أن يستعين في إخراجها بمكبرات الصوت والصور السينمائية واللافتات، واستخدام المجاميع البشرية الهائلة وغيرها من الوسائل المعروفة اليوم في المسرح السياسي والتسجيلي.
ولا يكاد أحد من المهتمين بالمسرح التعبيري ينسى اسم المثال والرسام إرنست بارلاخ (1870-1938) الذي كتب مجموعة من المسرحيات الغريبة بأسلوب شاعري غامض ولغة مفعمة بعاطفة دينية صادقة ورغبة مخلصة في البحث عن الله وسط حطام هذا العالم. وما دمنا لا نملك الحديث بالتفصيل عن هذه المسرحيات فلا أقل من التنويه بأسماء بعضها مثل: «اليوم الميت» و«اللقيط» وأفراد أسرة زيد يموند الأصلاء، وبول الأزرق، والطوفان.
ثم نصل إلى هذا الكاتب العبقري السيئ الحظ الذي أشرت إليه من قبل وهو «هانز هيني يان»، وقد كتب مسرحيات غريبة محمومة «كالراعي إفراييم ماجنوس»، و«الطبيب وزوجته وابنه»، و«الإله المسروق»، و«ميديا»، و«الفقر والثروة» و«الإنسان والحيوان» ... إلخ.
ولا بد من الحديث أيضا على أعظم كتاب المسرح الألمان في القرن العشرين، ألا وهو برتولت برشت.
7 (1898-1956) الذي خرج من عباءة التعبيريين واغترف في شبابه الأول من نبعهم. وإذا ذكرت المرحلة التعبيرية في إنتاجه المسرحي ذكرت معها مسرحياته الأولى «بل» و«طبول في الليل» - وقد مثلت منذ سنوات قليلة على خشبة مسرح الجيب في القاهرة - و«في أحراش المدن» و«إنسان بإنسان»، ثم الأوبرا المشهورة «القروش الثلاثة» وأوبرا «ماهاجوني»
8
وكلها تفيض بالروح الشاعرية والنزعة العدمية والنقد اللاذع للمجتمع البرجوازي والرأسمالي، كما تحمل الكثير من خصائص الحركة التعبيرية ورفضها وتجاوزها في نفس الوقت، وتمهد للتطور الكبير الذي طرأ على فكر برشت وأدبه من الالتزام الجامد بالمذهب الماركسي إلى النظرة الاشتراكية والإنسانية الرحبة في أواخر حياته، وتنبئ إلى جانب هذا كله بالتحول الهام في تصوره للبناء المسرحي ودعوته إلى التخلص من الشكل التقليدي وتدعيم المسرح الملحمي
9
الذي يحطم قواعد أرسطو ويتخلص من وهم المسرح الكلاسيكي. ويلائم عصر النظرة العلمية والكفاح في سبيل القضاء على الرأسمالية وبناء المجتمع الاشتراكي العادل. •••
وأخيرا فلا بد من الإشارة إلى الكاتب المسرحي الذي استطاع أن يصور المشكلة الحقيقية التي شغلت التعبيريين، وهي مشكلة الصراع بين الآباء والأبناء. هذا الكاتب هو فالتر هازنكليفر (1890-1940) الذي نجحت مسرحيته «الابن» في تجسيد أزمة الجيل الجديد وثورته على سلطة الآباء وحنينه إلى الأخوة والسلام والمحبة بين البشر.
ويوشك «الابن» أن يكون صورة تعكس حياة المؤلف نفسه وتجاربه في لوحات كثيفة متقنة، ولغة دقيقة مركزة تبلغ أحيانا ذروة التوتر والتفجر.
ونحب أن نقف وقفة أخيرة عند هذه المسرحية؛ لنلمس منها روح الحركة التعبيرية، ونعيش لحظات في جوها الحافل بالصور والرؤى والرموز والشعر والهتاف والصراخ ...
كتبت المسرحية سنة 1914، وعرضت لأول مرة على المسرح في مدينة براغ سنة 1916، ومنع تقديمها في أثناء الحرب العالمية الأولى. وهي تشترك مع معظم المسرحيات التعبيرية في أن جميع شخصياتها شخصيات عامة غير محدودة بأسماء معينة ... وذلك باستثناء أربع منها فحسب، فهناك الأب، والابن، والصديق، والآنسة، ومندوب الشرطة، والمعلم، وكلهم يتحدث بأسلوب شاعري تلعب فيه الصورة والاستعارة والرمز دورا كبيرا، ويدخل فيه المونولوج والقصيدة في مواضع عديدة، وتكثر به الإشارات الثقافية التي تتطلب من القارئ دراية واسعة بالتراث الغربي. وتتألف المسرحية من خمسة فصول، وتستغرق أحداثها ثلاثة أيام تصل فيها المأساة إلى ذروتها عندما يقتل الابن أباه في نوبة غضب مجنون.
تبدأ المسرحية بحوار بين الابن ومعلمه الخصوصي، تعرف منه أن الابن أخفق في امتحان المدرسة، وأنه يرجع سبب هذا الإخفاق إلى أبيه الطبيب الثري الذي فرض عليه حياة قاسية تشبه حياة الحبس الانفرادي. والابن سعيد بهذا الفشل الذي سيحرره فيما يعتقد من طغيان الأب ويزيد من غضبه عليه، ويطلب من المعلم أن يبرق إليه بالنبأ لكي تكون فرصة لحضوره والحديث معه وجها لوجه يقول المعلم: لست أفهم أباك.
فيرد الابن قائلا: إذا أصبحت أبا فسوف تصير مثله، الأب هو قدر الابن. إن خرافة الصراع من أجل الحياة لم تعد لها قيمة، فالحب الأول والكره الأول يبدآن في بيت الأسرة . ويسأل المعلم: ولكن ألست الابن؟
فيقول الابن: أجل، وأنا لهذا على حق! لا يستطيع أن يفهم هذا سواي. يا عزيزي الدكتور، ربما لا نتقابل بعد اليوم، فاسمع هذه النصيحة الدامية التي تأتي من القلب. إن رزقت بولد فأهلكه أو مت قبله؛ لأنه لا بد أن يأتي اليوم الذي تصبحان فيه أنت وابنك أعداء. وليرحم الله عندئذ من ينهزم.
ويحاول المعلم عبثا أن يحوله عن حقده على أبيه، وسخطه على جبروته، ويذكره بقسوة الحياة على الأحياء، وتعاستها الطبيعية التي لا تحتمل أن نزيدها بالكره والعداء، يا صديقي العزيز، نحن جميعا سنضل في هذا العالم، لم إذن تريد أن تكون بهذه القسوة؟! انزل إلى الشارع وانظر إلى حيوان يرتعش خوفا من الرعد. أتعرف شيئا عن إحساس المومسات الجائعات؟ أرأيت في حياتك مشوها يضطر للبحث عن الخبز في السادسة صباحا؟ هنالك ينبغي أن تشعر بالامتنان لأن لك أبا. كلنا مظلوم وظالم. فمن الذي يقذف بأول حجر؟ لقد كنت كلبا شقيا، وكان أبي يكدح من أجلي. رأيت كيف مات. وبكيت، من جرب هذا فلن يدين غيره.
ولكن الابن يستمر في عناده وسخطه على أبيه ورغبته في الانطلاق من قيوده لمعانقة الحرية والحياة. ويدخل صديق يضع حطبا جديدا على ناره المشتعلة بالغضب والشوق، ويزين له تجربة الحب مع المربية الصغيرة التي عينها أبوه لترعاه وتعد له الطعام، لا بل يزين له الهروب إلى العالم الواسع، ويختلس الابن القبلة الأولى مع هذه الفتاة التي لم يفطن إلى جمالها وطهرها من قبل، والتي فتحت له الباب لكي يعانق الحياة ويضم الخلود إلى صدره. وتخشى الفتاة عليه وعلى نفسها فتقول له في بداية الفصل الثاني: نحن نسقط ونزداد سقوطا كل يوم وأبوك يضع ثقته في. فيقول الابن: ما أمتع أن أغشه وأخدعه! لقد انتشيت بهذه السعادة عندما قبلتك بالأمس في حجرته. والأريكة التي تعانقنا فوقها قد أحست برغبتي في الانتقام، وقطع الأثاث الميتة الشامتة التي طالما ضربني أمامها قد شهدت كلها، كلها المعجزة. لم أعد ذلك الشيء المحتقر . لقد أصبحت إنسانا.
كل ما يريده إذا هو أن يصبح إنسانا بالمعنى الوجودي المطلق لهذه الكلمة. ولا بد له أن يزيح الطاغية المستبد من طريقه ويفلت من سوطه وجبروته ليحلم كما يشاء؛ وهو لذلك مصمم على أن يواجهه مواجهة الند للند، ويفجر أمامه قنابل الكلمات التي حبسها في صدره طوال حياته.
الأب :
أجبني الآن: ماذا تريد مني؟
الابن :
إنني إنسان يا أبي. مخلوق. لست من حديد، ولا أنا حصاة ملساء إلى الأبد. ليتني أستطيع أن أصل إليك من هذه الأرض! ليتني أقترب منك! لم هذه العداوة المؤلمة؟ لم هذه النظرة الجريحة بالحقد والكراهية؟ أليس هناك عش في السماء؟ أليست هناك وسيلة للصعود إليك؟ أريد أن أشد وثاقي إليك. ساعدني!
ويركع الابن الضائع أمام أبيه ويتشبث بيده. ولكن الأب ينتزع يده ويأمر بالنهوض قائلا: لا أستطيع أن أمد يدي لإنسان لا أحترمه! فينهض الابن على قدميه في بطء ويقول: أنت تحتقرني. وهذا حقك؛ فما زلت أعيش من مالك. لقد كسرت حدود البنوة لأول مرة بعاصفة قلبي. هل أخطأت في هذا؟ أي قانون يجبرني على الخضوع لنير العبودية؟! ألست أنت أيضا مجرد إنسان؟! وأنا، ألست إنسانا مثلك؟! لقد ركعت أمام قدميك وحاولت أن أنال بركتك، ولكنك تخليت عني وتركتني في قمة ألمي. هذا هو حبك لي. هنا تنتهي مشاعري.
ويستمر الابن في ضراعته للأب كي يطلقه ويرد إليه حريته، ويوجد جسر المودة الذي يصله به، ويقضي على الصراع الذي أقامته الطبيعة بين الآباء والأبناء فيعترف برجولته وإنسانيته. ولكن الأب يصر على عناده وإيمانه بأنه يؤدي واجبه نحوه ويمارس حقه الطبيعي في تربيته.
الابن :
لن تثبط عزيمتي. سأظل دائما أتوسل إليك حتى تسمعني.
الأب :
ألم تفهمني؟ ماذا تريد بعد ذلك مني؟
الابن (في حماس ملتهب) :
أريد أقصى شيء! حطم الأغلال بين الأب والابن. كن صديقي، أعطني ثقتك كلها لتعرفني أخيرا على حقيقتي. دعني أكن شيئا مختلفا عنك. دعني أتمتع بما لم تتمتع به. ألست أكثر منك شبابا وشجاعة؟ دعني إذن أعش حياتي! أريد أن تمنحني بركتك.
الأب (ضاحكا باستهزاء) :
من أي كتاب جئت بهذا الكلام؟ من أي صحيفة؟
ويطالب الابن بمال أبيه الذي يجد من حقه أن يرثه ليحيا حياته بعد أن عاش الأب واستمتع بحياته، فيسأل الأب: هكذا! وماذا تريد أن تصنع بمالي؟
الابن :
أريد أن أتعرف على غرائب الأرض، من يدري متى يحين موتي. أريد - على مدى قصف الرعد وخطف البرق - أن أمسك بذروة حياتي بين أصابعي، لن أحظى بهذه السعادة بعد. أريد في أروع وأسمى أنواع الصاعقة أن أطل على ما وراء الحدود، وبعد أن أستنفد الواقع بأكمله، تتجلى لي كل معجزات الروح. هكذا أريد أن أكون. هكذا أريد أن أتنفس. سيرافقني نجم طيب. ولن أسقط ضحية لأوساط الأمور.
الأب :
تجاوزت كل حد. إنك تريني حقارتك كلها. احمد خالقك أنني أبوك. ما هذا التبجح الذي تتكلم به عني وعن مالي؟! وبأي صفاقة تذكر موتي على فمك؟! لقد خدعت فيك. أنت شرير. ليس فيك شيء من طبعي، ومع ذلك فما زلت صديقك لا عدوك؛ ولهذا أعاقبك العقاب الذي تستحقه على هذه الكلمة.
وهنا يتقدم الأب من الابن ويلطمه على وجهه لطمة قاسية. ويهدأ الابن لحظات قبل أن يقول: ها أنت ذا لم تدخر أبشع ما عندك في هذا المكان الذي لا تزال سماء طفولتي تظلله. لقد صفعتني أمام هذه المائدة وهذه الكتب، ومع ذلك فأنا أكبر منك! إني أشمخ بوجهي فوق بيتك في كبرياء ولا أحمر خجلا من ضعفك. لقد كرهت في الإنسان الذي لم تستطع أن تكونه. إني أنتصر عليك. اصفعني مرة أخرى. فالرجولة تتملكني، لا دمعة ولا غضب. كم تغيرت الآن وأصبحت أعظم منك. أين ذهب الحب؟! أين انتهت أواصر الدم؟! حتى العداوة لم يعد لها وجود. إني أرى أمامي رجلا جرح جسدي. ومع هذا فقد خرجت من جسده بلورة حددت حياتي ذات يوم. هذا اللغز الذي لا يفهم! تدخل القدر بيننا. حسنا. إن حياتي أطول من حياتك! ويترنح الابن من هول اللطمة، وتتحرك عاطفة الأبوة في قلب الطاغية فيسرع إليه ليسعفه. ولكن الصدام لا يلبث أن يتجدد. ولا يلبث الأب أن يذكره بأنه إنما يقوم بواجبه ولن يتخلى عن القيام بهذا الواجب الذي تفرضه الطبيعة والتربية نحو الولد العاق، ويذكره الأب كذلك بأنه طالما انحنى على مهده وطالما أحبه، وما يزال يسهر الليالي بسببه، فكيف يمكنه أن يحبه أو يثق به وهو يأتي إليه عاصيا متمردا. ويرد الابن بأنه قد أصبح غريبا عنه، وليس هناك شيء يجمعه به. لقد أراد له الخير، ولكن هذا الخير لم يصل إليه. رباه في حدود مفاهيمه العقلية، ولكن الزمن غير هذه المفاهيم؛ لذلك فهو يلح عليه أن يطلق حريته. ويقول الأب: إن عفن هذا الزمن قد أفسده وسمم عقله ودمه. ويقترب منه ويضع يده على كتفه ويدعوه لنسيان ما حدث، ولكن الابن يجفل منه ويقول: لا يا أبي. إنني أحب زمني ولا أخجل منه. لا أريد عطفا منك. كل ما أريده هو العدل. أريد أن أنطلق إلى بحار المغامرة وأتجرر بالنور من صحراء بيتك، وأواجه أرضا سعيدة أكون نبيها. وتفزع الأب هذه اللهجة فيسأله: كيف يجرؤ أن يحطم هذا القيد المقدس النبيل؛ قيد الأمومة والأبوة؟! وهل يدرك حقا ماذا يترك وراءه وإلى أين يذهب؟! ومن الذي يطعمه في الصباح ومن يقف بجانبه في الشدة؟! وهل مات حتى يخاطبه بهذا الكلام؟! فما يكون من الابن إلا أن يؤكد ما قاله: أجل يا أبي. لقد مت بالنسبة لي. اختفى اسمك. لم أعد أعرفك. لم تعد حيا إلا في ألواح الوصايا. أردت أن أبحث عنك في الريح والسحاب. ركعت أمامك على ركبتي فصفعتني على وجهي وسقطت في الهاوية ... أصبحت عدوي الوحيد المخيف ... علي الآن أن أتسلح للدخول في هذا الصراع ... ولا بد أن ينتصر أحدنا على الآخر! ويطلب منه الأب أن يسمعه للمرة الأخيرة ويسأله: ألم يبق على شفتيك المزبدتين بالغضب نفثة شكر ولا خشوع؟ ألا تعرف من أنا؟
الابن :
لقد كلفتني الحياة أن أنتصر عليك! ولا بد أن أحقق هذا التكليف. إن سماء لا تعرفها تؤيدني وتقف بجانبي.
الأب :
أنت تجدف!
الابن (بصوت مرتعش) :
إني أفضل أن آكل الحجارة على أن آكل من خبزك.
ويستمر الجدل المحموم بينهما حتى يقرر الأب أن يحبسه في غرفته إلى أن يتم شفاؤه من مرضه. ويفرض عليه أن يبقى في مدرسته ويتم امتحانه وإلا حرمه من الإرث وبدده بنفسه قبل أن يقع في يد ابن يلطخ اسمه بالعار. ثم يتركه ولا ينسى أن يغلق الحجرة بالمفتاح قبل أن يتمنى له نوما سعيدا! ولكن الصديق لا يلبث أن يظهر وراء النافذة، ويزين له الهروب إلى العالم الواسع حيث يعانق الحياة والأبد، وينضم إلى جيش الثورة الزاحف لإسقاط الآباء من فوق عروشهم! ويخرج الابن من دولابه بذلة سوداء يستقبل بها الحياة الجديدة، بينما تشتعل أنوار المدينة خلفه، وترتعش الجملة الأخيرة من سيمفونية بيتهوفن التاسعة، ويغني الكورس هذا المقطع من أنشودة شيلر إلى الفرح: أيها الأخوة سيروا على طريقكم، فرحين كما يسير البطل إلى النصر ... وتأتي المربية الشابة لتحضر له الطعام فيعلنها بعزمه على الانطلاق إلى الآفاق المضيئة والليل المصطخب بالعطر والموسيقى، والمواكب الزاحفة إلى مستقبل لا يتحكم فيه الآباء (الموت للآباء الذين يحتقروننا!) ولكن تنهار فيه كل السجون؛ ويختفي من النافذة بعد أن تشيعه المربية بالإشفاق والدعاء.
ولكن رحلة المغامر الصغير لا تستمر سوى يوم واحد! فالفصل الثالث يقدم لنا شخصيات غريبة، تتزعم جمعية لا تقل غرابة يسميها أصحابها «جمعية المحافظة على السعادة»، وزعيمها يتدبر الخطبة التي سيفاجئ بها زوار الحفلة التي يقيمها، ويستعد لإعلان صيحاته المنذرة بتحطيم كل القيود وإطلاق كل الشهوات من جحورها وإسقاط كل السلطات عن عروشها! يحدث زميله عن مخاوفه من «الصديق» وشكوكه في أمره.
ولا يلبث الصديق أن يظهر فيهدد بإفساد الخطبة الموعودة ويهزأ بالجماعة كلها، ثم يلح عليه الأعضاء فيرضى بشرط أن يلقي هو خطبته أو يسمح لثالث بإلقاء خطبته. ولا يكون هذا الثالث غير «الابن» الذي يدخل الحفل دخول الوسيط الذي أخضعه المنوم المغناطيسي لتأثيره الفظيع، ولم يكن هذا المنوم إلا الصديق نفسه . ويلقي الابن خطبته الهائلة التي يعلن فيها الحرب على كل الآباء ويطالب بمحاكمتهم والتحرر منهم! ويهلل الحاضرون ويصفقون، ويغمرون يديه بالقبلات، ويحمله الشباب فوق أكتافهم ويخرجون به إلى الشوارع في موكب الأبطال. وتنشر الجرائد في اليوم التالي أخبار الحادث الرهيب على صفحاتها الأولى ... ونعرف بعد ذلك أن الابن قد جرب تجربته الأولى والأخيرة مع النساء؛ فقد قضى الليلة في حضن مومس ذكية سمعها توصي الآباء أن يرسلوا أبناءهم ليتعلموا الحياة في أحضان المومسات! ويأتي الصديق فيوقظ الابن الحالم من غيبوبته، ويتحدث إليه كما كان يوحنا المعمدان يتحدث عن المخلص الذي سيأتي بعده، وينبئه بأنه هو النبي الذي كتب عليه أن يقود مواكب الثورة على الآباء؛ ليبدأ عصر الشباب والحرية والحياة بغير حدود أو قيود. ثم يكشف له الصديق عن سره المخيف؛ فرجال الشرطة في طريقهم للقبض عليه، وهو الذي أخبرهم! فإذا فزع الابن قال له الصديق: إنه تعمد ذلك لكي يدفعه إلى تقديم الضحية التي ستقدم على مذبح الإله الجديد. وليست هذه الضحية غير أبيه الذي يحرضه على قتله!
الابن :
وماذا ينبغي علي أن أفعل؟
الصديق :
أن تحطم طغيان الأسرة؛ هذه القرحة التي يرجع تاريخها للعصور الوسطى؛ غرفة التعذيب التي تختنق برائحة الكبريت. أن تبطل القوانين. أن تعيد الحرية؛ أعظم ما يملكه الإنسان!
الابن :
عند هذه النقطة من محور الأرض تتوهج ناري من جديد.
الصديق :
تذكر أيضا أن الصراع مع الآباء شبيه بالانتقام من الملوك قبل مائة عام، نحن اليوم على حق! قديما كانت الرءوس المتوجة تسحق رعاياها وتستعبدها وتسرق مالها وتسجن أرواحها. أما اليوم فنحن ننشد «المرسيلييز»! ما زال في مقدور الأب أن يجيع ابنه ويسخره ويمنعه من إنجاز الأعمال الرائعة دون أن يتعرض للعقاب. وهم يرددون الأغنية القديمة عن الظلم والقسوة، ويؤكدون سلطة الدولة والطبيعة. سحقا لهم جميعا! لقد اختفى الطغاة منذ مائة عام، فلنعمل على نشوء طبيعة جديدة! لم تزل لديهم القوة كما كانت لدى أولئك الطغاة. وفي استطاعتهم أن يستنجدوا بالشرطة للقبض على الابن العاصي.
الابن :
فلنحشد جيشا! ما زال من واجبنا أن نفتح حصون الفرسان اللصوص!
وتأتي الشرطة حقا بعد قليل. ولكن بعد أن يكون الابن - تحت تأثير هذا الصديق العجيب الذي سيسلم نفسه للموت بالسم بعد أن يتأكد من أنه حقق رسالته في الحياة - قد اقتنع بأنه يتزعم جيش الخلاص من «الأموات»، ويرفع في يده علم الثورة، ويحقق حلم ملايين الشباب الذين وضعوا مصيرهم بين يديه، وينقذ هذا الجنس التعيس المعذب المظلوم على مر العصور.
ويساق الابن مكبلا بالحديد إلى أبيه، ويحاول رجل الشرطة - وهو الوالد الرحيم الذي يحمد السماء على نعمة الأبناء التي تهبها دائما للآباء بغير استحقاق - يحاول عبثا أن يقنع الأب بأن للأبناء حياتهم التي تختلف عن حياة الآباء. ولكن الأب يصر على حقه في القيام بواجبه نحو ولده العاصي، كما يصر على أن هذا الواجب يقتضيه أن يعامله بمنتهى الشدة والقسوة حتى يمنعه من السقوط وينقذ اسمه من العار.
ويؤتى بالابن ليقف في حضرة أبيه فيواجهه مواجهة الند للند. إنه لم يعد يخاف من السوط الذي يقلبه الأب بين يديه؛ لأنه يضع يده في جيبه ويلمس المسدس الذي أعطاه له الصديق وحشاه أيضا بالرصاص! لم يأت الابن ليسمع من أبيه القاسي موعظة الأخلاق، بل ليتحداه ويخبره بأنه قضى ليلته مع امرأة، وأنه لم يأت إليه كما كان طفلا ذليلا يتحمل تعذيبه وضربات سوطه، بل جاء ليعلن إليه أن ثورة الأبناء قد بدأت، وأنه هو الذي بدأها بالأمس في خطبته الرهيبة التي تحدثت عنها الصحف؛ ولذلك فهو يطلب منه أن يطلق حريته، ويحله من رباط الأبوة الذي لم يربطه به أبدا. أما عن ماله فهو يعلن زهده في الميراث ويوصي به للفقراء. ويستجيب الأب، ويخبره في قمة يأسه وغضبه أنه لم يعد ابنه، ويقذف السوط أمامه؛ لأنه لم يعد يستحق أن يلمسه، ويخبره بأن يستطيع أن يذهب. فإذا سأل الابن إن كان قد أصبح حرا أجابه بأنه سيصبح كذلك، ولكن بعد أن يقضي سنة كاملة تحت إشرافه وسلطانه، حتى يحمي الإنسانية من شره. ويطرده من أمامه، فيأمره الابن ألا يتحرك من مكانه؛ لأنه أغلق الحجرة ووضع مفتاحها في جيبه! ويحاول الأب أن يستنجد بالشرطة عن طريق التليفون فيسدد الابن المسدس إلى صدره وهو يقول كلمة واحدة معناها: الموت. ويبدأ صراع صامت يستمر لحظات خاطفة، قبل أن تنهيه طلقة يسقط الأب على أثرها جثة هامدة. وتدخل المربية الحبيبة فتكتشف جثة الأب وترى شبح المحبوب ذاهلا على كرسيه. ويدور بينهما حوار شعري يفاجئنا بهدوئه وبروده وعذوبته. ونسمع الصديقة الوحيدة التي تواسي صديقها المسكين وهو يخطو إلى الحياة والنجوم فوق جثة لم يعد يربطه شيء بصاحبها. ويسلم نفسه للعدم والفراغ المخيف بعد أن تحدى الموت واتحد بالحياة ... ويمد يده إلى صديقته ويسيران خطوات قبل أن يفترقا ويخرج كل واحد من باب، تاركين الأب الميت وراءهما ...
النهاية
هذه هي نهاية رحلتنا القصيرة في بستان التعبيرية الذابل، أو في قصرها الجميل المهجور. لم تكن رحلة بين روائع الأدب والفن الخالد، بقدر ما كانت نزهة في أرض منسية أو شبه منسية، كشفت لنا عن أسماء وأعمال ليست كلها جديرة بالنسيان. لقد سبحنا معا في قاربنا الصغير، فوق أمواج صاخبة من التجارب والمحاولات الفنية. وعرفنا كيف كانت بالغة الأثر على الحركات الفنية التالية، وكيف سقطت ضحية قدر مظلم اسمه الحرب والطغيان. حقا إن التعبيرية لم تقدم الروائع الخالدة في الفن كما قلت، ولكنها نفخت في روح العصر طاقة ثورية هائلة لم يزل لها صداها إلى اليوم. لقد أضرمت في ذلك الجيل نار الثورة التي هدأت قليلا ولكنها لم تنطفئ، ودفعته إلى الاحتجاج على كل سلطة في الفن والسياسة، وأيقظت فيه الشوق إلى حلم الإنسانية الأكبر؛ شوقها لعالم يحيا الناس فيه إخوة، متحررين من الخوف والقسوة والظلم والاستغلال ... وها هي ذي ثورة الاحتجاج تندلع من جديد في هذه الأيام: ثورة الشباب الأوروبي على كل سلطة ونظام، وثورة الفن والشعر والمسرح على القواعد والتقاليد الموروثة، وثورة الفقراء والزنوج والعرب على آلهة الحرب والمال والاستعمار. وكلها تهدف إلى خلق عالم جديد وإنسان جديد طالما نادى به التعبيريون في شعرهم ومسرحهم وفنونهم، وتعذبوا وتشردوا وجاعوا وضحوا من أجله بحياتهم في السجون وميادين الحرب وعلى أرصفة الشوارع، أو بالانتحار الذي ختم به عدد غير قليل منهم حياته. صحيح أنهم لم يستطيعوا وقف كارثة الحرب ولم يصمدوا في وجه البرابرة الشقر، ولكن متى كانت البراءة قادرة على مواجهة الشر؟ وأين استطاع أصحاب القلم أن ينتصروا على أصحاب السلاح؟ وماذا جنى الأدباء والفنانون من حياتهم وتعبهم غير الثمر المر؟ ... ومع ذلك فإن ثورتهم لم تضع عبثا، وصدقهم وحماسهم وصراخهم لم تكن هباء. وإذا كانت حركتهم قد تعطلت في مرحلة زمنية معينة فإنها في الحقيقة لم تتوقف، وإذا كانت شعلتهم قد خبت في العشرينيات، فإن نارها ظلت حية تحت الرماد. وها هي ذي اليوم تتخذ أشكالا فنية وسياسية واجتماعية جديدة أكثر إيجابية، وتتوهج في كل مكان معلنة عن مشرق فجر جديد يطلع على الإنسانية الحديدة التي طالما حلموا بها وعانوا من أجلها.
لا شك أنهم ليسوا هم وحدهم الذين نفخوا في هذه النار، وليسوا وحدهم الذين رووا شجرة الحرية التي تشرئب الآن في الأفق وتقاوم كل الآفات والحشرات. ولكن من واجب الأبناء أن يذكروا الآباء. ومن واجب الذين يتدفئون بالنار المقدسة أو يستظلون بالشجرة الطاهرة أن يتذكروا أولئك الذين شاركوا بجهدهم في رفع الشعلة وري الشجرة. ويكفي التعبيريين أنهم استطاعوا - على مدى عشرين عاما أو أقل - أن يحركوا الضمير الأوروبي، ويزلزلوا كثيرا من القيم العتيقة، ويمهدوا الطريق - بصورة مطلقة وعاطفية حقا - لأشكال من الثورة والاحتجاج أكثر إيجابا وفاعلية، ويؤثروا على عدد من التيارات التي نعرفها اليوم في القصة والرواية والشعر والمسرح الشاعري والملحمي والتسجيلي ومسرح العبث والطليعة، وإذا كانت معظم أعمالهم الفنية قد أصبحت الآن جزءا من تراث الأدب وتاريخه الحديث، فقد بدءوا شيئا لم ينته بعد، وبثوا أنفاس الحياة في أفكار لم تمت حتى اليوم. وإذا كانت معظم هذه الأعمال تتسم بشيء غير قليل من الفوضى والاضطراب في الشكل والخطابية التي تستهدف التأثير المباشر، فإن المسئول عن ذلك في المقام الأول هو فوضى الحياة التي عاشوا في ظلها، وانهيار القيم والمثل الإنسانية في عصرهم. لقد ظلوا في أعمق أعماقهم ضحايا وحيدين ممزقين مهزومين ثائرين. وحاولوا بكل ما فيهم من عنف الشباب وبراءته أن ينفخوا في رماد العصر ليحيوا جمراته المنطفئة، ويحذروا الأجيال المقبلة من المصير المخيف في عالم خلا من المعنى والقيمة والإيمان، وسيطرت على أقداره حفنة من الجلادين والمشعوذين ورجال المال والأعمال. وإذا كان العالم لم يستمع لهذا النذير، ولم يتعلم من دروس حربين عالميتين وحروب أخرى صغيرة، فيكفيهم - وهم الأدباء والفنانون قبل كل شيء - أن يكونوا قد قدموا الدليل على حيوية الفن وقدرته على بعث الإنسان وتأكيد حقه المقدس في الرفض والتمرد، وشوقه المشروع إلى عالم أفضل وأسعد.
المصادر
فجر الإنسانية، وثيقة الحركة التعبيرية. وهي مجموعة شعرية نشرها كارل بنتوس سنة 1920، ثم أعيد طبعها سنة 1959 في دار نشر روفولت، هامبورج، 383 ص.
صرخة واعتراف، المسرح التعبيري. وهي مجموعة مختارة من المسرحيات التعبيرية نشرها وقدم لها كارل أوتن، دار نشر هرمان لخترهاند، برلين 1959، 1012 ص.
مسرح التعبيرية الألمانية (وتضم ست مسرحيات لفيدكند وإلزه لاسكر - شيلر وجورج كايز وإرنست بارلاخ ورينهارد جيرنج وهانز هيني يان) نشرها يواخيم شوندروف وقدم لها باول بورتنر، لانجن مولر ميونيخ، 1962، 440 ص.
قصائد وقطع نثرية، لجورج هايم، نشره هانز راوشنج، سلسلة كتب فيشر، 1962، 166 ص.
أشعار جورج تراكل، دار نشر أوتو مولر، زالسبورج، 1938، الطبعة الحادية عشرة، 202 ص.
الشعر الألماني، الشكل والتاريخ، مجموعة دراسات نشرها بنو فيزه، دوسلدورف، 1962 ص425-449.
الدراما الألمانية، من الواقعية إلى العصر الحاضر، الجزء الثاني من مجموعة الدراسات التي أشرف عليها ونشرها بنو فون فيزه، دوسلدورف، 1964.
تاريخ الدراما الألمانية، تأليف أوتومان، دار نشر كرونر، شتوتجارت، 1960، ص556-589.
تاريخ الأدب الألماني، تأليف لريتز مارتيني، دار نشر كرونر، شتوتجارت، 1958، ص509-530.
التعبيرية، محاضرة ألقاها بالفرنسية صديقي وزميلي الدكتور كرستوف سيجرست بالمعهد الثقافي الألماني بالقاهرة في شتاء سنة 1968.
ثقوب في الفكر حول بناء رواية تورليس لروبرت موزيل، بحث للدكتور كرستوف سيجرست نشر بمجلة كلية الآداب جامعة القاهرة ، في المجلد الخامس والعشرين، الجزء الثاني، ديسمبر 1963، ص23-32.
أحاديث مع كافكا، تأليف جوستاف يانوخ، سلسلة كتب فيشر، 1961، ص131.
معجم الأدب العالمي لهرمان بونجز.
معجم الأدباء الألمان لجيرو فون فلبرت (دار نشر كرونر).
القاموس الموضوعي للأدب، لجيروفون فلبرت (دار نشر كرونر).
مجموعات مختلفة من الشعر الحديث.
نامعلوم صفحہ