وتحس هيام أنه يقول «أمورة» بطريقة مائعة غاية في الميوعة، لا تلبث أن تتميع معها أمعاؤها ويدركها الغثيان. - ليه بتتكلم كده؟ - عشان باحبك يا أمورة! - لكن إنت مش على طبيعتك. - إزاي؟ - بتغير حاجة في نفسك، في صوتك، في شكلك، فيك إنت، من بره أو جوه، مش عارفة!
والغريب أنه كان يضحك من هذه الكلمات، ويدعوها دائما إلى صحبته، وفي بعض الأحيان كانت تمتنع، منتحلة أسبابا متعددة، كقضية مستعجلة، أو كتاب تريد أن تقرأه، أو راحة تنشدها في النوم، أو أنها على موعد آخر.
وأحست هيام أن أنفاسها الساخنة تحت الملاءة قد ألهبت جسدها فأخرجت رأسها خارج الملاءة في حذر، لكن سرعان ما أعادتها داخل الملاءة ثانية، إن سلسلة الذكريات تنقطع من ذاكرتها بمجرد أن يضيع الجو الحار تحت الملاءة. وودت أن تنهض لتذهب إلى صديقتها سميرة في مجلة «عالم الفن» ذلك أن الدكتور عبد العظيم كان قد وعد بزيارة أسرتها اليوم.
والدكتور عبد العظيم صديق حميم لأبيها رغم أنه في الخامسة والثلاثين، إن ابنة خالته تزوجت من شهور بابن عم زوجة خالها؛ لهذا يعده أهلها من الأسرة، فضلا عن أنه يحتل مركزا مرموقا، فهو أستاذ مساعد في الجامعة، وقد سافر إلى أمريكا منذ عامين، ولم يكن يسعد «هيام» بزيارة الدكتور عبد العظيم سوى تلك الفرحة التي تبدو في عيني أبيها وهو يجلس معه ويناقشه في العلم والسياسة والدين، في الوقت الذي تسمع فيه كركبة في المطبخ، وصينية تلمع بالفيم وأكوابا تغسل بالليفة والصابون مرة ومرتين وثلاثا، وفي كل مرة تشمها الأم وتعيدها إلى الخادمة الصغيرة مع سبة أو سبتين توزعهما بالعدل بين أبي الفتاة وأمها!
وتسمع هيام صوت أبيها: «يا أستاذة هيام تعالي سلمي.»
وتدخل هيام وتسلم وتجلس، وتستمع إلى حديث الدكتور عن أمريكا ومصر، وترى أسنانه الصفراء المشرشرة عندما يضحك، ويقفز لحم وجهه حول عينيه الضيقتين فيسدهما تماما، وتمتلئ صلعته وخداه بخطوط كثيرة.
كان الدكتور عبد العظيم رجلا مثاليا في نظر أبيها، والرجل الوحيد في العالم بعد أبيها في نظر أمها، فهو قريب الأسرة، وهو حائز على جميع شهادات مصر، ومعظم شهادات «بلاد برة» وهو يملك عربة «ستروين» سوداء.
وكان الدكتور عبد العظيم فصيحا جدا وواثقا من كل شيء فيه، إلا شكله! وكانت «هيام» تحس أنه يخجل حينما يسير منفردا أمام مجموعة من الناس، وظل الدكتور عبد العظيم يتردد عليهم حتى أحست هيام أن شيئا جديدا حدث، فقد زادت الفرحة يوما في عيني أبيها، وزادت كركبة المطبخ، وأخذ الحماس أمها، وهي تشم رائحة الأكواب وتعيدها إلى الخادمة بقدر سخي من السب تعدى أباها وأمها وشمل أسرة الخادمة جميعا، وهمست أمها في أذنها وهي فرحة: «الدكتور عبد العظيم خطبك من بابا، ده عريس أد الدنيا! قومي البسي الفستان الوردي وحطي شوية بودرة واحمر، ياللا قومي!»
وقامت العاصفة في البيت بعد هذا اليوم، عاصفة شديدة، تشنجت الأم، وارتعش الأب، وصممت هيام على الرفض، وهدأت العاصفة شيئا فشيئا، وتركت خلفها آثارها، البيت صامت مكتئب، والأب عاكف على كتاب، والأم حزينة لا ترمش لها عين من على مفرش تطرزه، وهيام هاربة من هذا البيت إلى مكتبها، أو إلى مجلة «عالم الفن».
ومددت هيام ساقيها تحت الملاءة، وتثاءبت في خمول، لقد رفضت الدكتور عبد العظيم، لم تكن تتصور كيف ترى منظره يلبس «البيجاما» بجوارها على السرير؟!
نامعلوم صفحہ