وتصادف ذات يوم أن أتى لزيارتها كعادته فوجد عندها رجلا آخر، وكان ضابطا، وأحست «هيام» أنه يصوب نظراته النارية إلى الضابط الشاب الذي كان يبدو في قوامه الفارع وملابسه الرسمية رجلا مكتملا يملأ العين، وحينما خرج الضابط سألها مستطلعا فردت عليه «هيام» في غيظ قائلة: «إنه صديق عزيز.» - وما سبب زيارته لك؟ - وما سبب زيارتك أنت؟
وتقلبت هيام تحت الملاءة، ولفحت أنفاسها الساخنة خديها الملتهبين، وابتسمت لنفسها، لقد تخلصت من واحد، وبقي آخرون، منهم ذلك الضابط الشاب الذي أصبح يتردد عليها لأسباب تافهة غريبة، وكان رغم ردائه العسكري وشاربه الأسود يبدو كغلام صغير لا يفتأ يسأل ويستفهم!
وفي كل مرة يسألها عن شيء جديد، حتى الملوخية سألها هل تعرف طريقة طهوها. وابتسمت هيام وهي تسأله: «ولماذا تريد أن تعرف؟» - لأني أحبك، وأحب الملوخية أيضا! - ولكني لا أحب الملوخية، ولا أحبك أيضا!
وضحك من النكتة، لكنه سرعان ما فهمها فاختطف الكاب من على المكتب ووضعه على رأسه ثم اختفى.
وتمطت هيام، وفردت جسمها تحت الملاءة وهي تستعرض أصناف الرجال الذين مروا بمكتبها، وهي محامية ناشئة في السادسة والعشرين، شديدة الجاذبية. ومن العجيب أنك لا تستطيع أن تحدد مركز الجاذبية فيها، هل هو في عينيها السوداوين اللامعتين؟ أم في صوتها العميق الدافئ كأنها تتكلم من أعماقها، وليس من حبالها الصوتية؟ أم في قوامها الفارع وخصرها النحيل، وهي تمشي مشيتها الخفيفة كأنها لا تلمس بقدميها الأرض؟
ولم تكن هيام ترى شيئا من جمالها أو جاذبيتها في المرآة، وإنما ترى صورة مشوشة هي صورة نفسها من الأعماق، وكانت هذه الأعماق مضطربة، ونفسها ضائعة في التيه الواسع الذي يمتد في أعماقها. أشياء كثيرة تدركها بإحساسها ولا تفهمها بعقلها، أشياء كثيرة تراها هامة جدا، وهي في نظر الناس تافهة، وكانت تسأل نفسها كثيرا لماذا لم تحب واحدا من هؤلاء الرجال؟ لقد كانت صديقتها سميرة تصفها دائما بالعبط إذ تراها تتخلص من رجل بعد آخر، وخصوصا حينما رأت عندها «حافظ» ذلك المهندس الطويل العريض الذي أعجبت به سميرة!
لماذا لم تحبه؟ أليست كباقي النساء؟ ألا يعجبها في الرجل ما يعجبهن؟
ولم تشك هيام في قلبها؛ إذ كانت تعرف أي قلب يغفو في أعماقها مستسلما إلى نعاس خفيف، يتثائب كالعملاق الكسول من وقت إلى آخر، ويرفع رأسه من نعاسه أحيانا كأنما يتشمم شيئا ما، لعله رائحة حب انتشرت بالقرب منه، ويزم شفتيه ويمط عنقه ويجذب نفسا طويلا ثم يخرجه زفيرا طويلا، ويضيع حماسه، وينحني رأسه على صدره ويعود إلى نعاسه.
لهذا لم تشك أبدا في قلبها، كانت تحس به وتعرف ما يريد، وأي نوع من الرجال يخرجه من غفوته، ولم تهتم بكلام سميرة: «أليس لك قلب؟!»
وتخلصت هيام أيضا من المهندس الطويل العريض الذي أعجبت به سميرة، كان يدعوها للعشاء في نادي الصيد، وحينما كانا يأكلان اللحم البارد ويشربان الجعة، كانت هيام تختلس إليه النظرات فترى يديه البيضاوين الناعمتين بأظافرهما التي شذبها بعناية فائقة، وتراه وهو يأكل برقة وأناقة ويمضغ بخفة ولين، ويجتهد ألا يبلل شفتيه، وإذا ابتلت شفته السفلى مسحها بالشفة العليا في دقة وبلا صوت. وكان فيه شيئان يلمعان دائما بشدة، الخاتم في إصبع يده اليمنى الصغيرة، ودبوس ربطة العنق، ويلفت نظرها شكل رقبته وهو يبلع، كانت سميكة، محاطة قبل نهايتها بياقة منشاة، يرسم طرفها المنشى مع لحمه النظيف دائرة حمراء خفيفة. - مش بتاكلي ليه يا هيام؟ - أبدا، أنا باكل. - إنت سرحانة خالص. - لا أبدا. - لا أبدا، إيه يا أمورة؟
نامعلوم صفحہ