ونعود إلي موضوعنا مرة أخرى فنقول: إن الزهد المادى قد يكون عن عدم الرغبة فى الشىء، وقد يكون عن كبت الرغبة فى الشىء، والنوع الأول لا موضع فيه لجهاد النفس ولا لكثرة الثواب، فالممعود الذى يكره الطعام لأنه لا يستطيع الهضم، والحصور الذى يبتعد عن النساء لأنه لا يحفل بمتعتهن. هؤلاء جميعا إذا اصطبغت حياتهم بمظاهر التقشف والتصوف فلا دلالة فى ذلك على خير كثير! وأولى بأمثال هؤلاء أن يقبلوا على الفضائل الإيجابية وهى- بعد الزهد فى الشهوات المعنوية- أساس الرقى الحق والتسامى الكريم، وعليها تنهض المجتمعات وترشد وتسعد.
أما النوع الثانى من الزهد- الزقد عن قتل للرغبة وكبح لجماحها- فهو موضع تفصيل لا يبعد فى نتائجه كثيرا عن النوع الأول، وذلك أن الكبت الدائم للرغبات الكامنة فى
ص _165
دم الإنسان نحو متاع الحياة الدنيا يعتبر رهبانية قاسية لم يقل بها الإسلام، ولم يدفع إليها أبناءه، ولم ير فيها معانى السمو المزعومة ولا حقائق الفضل المنشود.
وقد أثبتت بحوث علم النفس أن هذا الضرب من الكبت العنيف يعقبه انتكاس مظلم مخيف! فإما تسربت الغرائز المحبوسة من وراء السدود القائمة وأخذت طرقا خفية مجرمة، وإما تحطمت السدود بما وراءها من ضغط واندفع التيار شعاعا بلا ضابط ولا قانون. فالزهد المادى هنا حماقة وشرود، وإلى هذا أشار البوصيرى:
واخش الدسائس من جوع ومن شبع فرب مخمصة شرمن التخم!
غير أن هناك كبتا مؤقتا يلجأ إليه الرجل حتما فى أحوال كثيرة من حياته، يلجأ إليه المؤمن حين يعصم نفسه عن الحرام إذا نزعت إليه، ويلجأ إليه المحتاج حين تتطلع النفس إلى الشىء فيردها العجز والحرمان!
صفحہ 165