ص _131 ولكن الميادين التى تحفل بهؤلاء هى ميادين الهزيمة، لا ميادين الشرف.. وعلى كل مجتمع يريد أن يدعم أركانه، بل على كل صف يريد أن يحفظ كيانه أن ينفى هذا الخبث عنه. فما ابتلى الشرق فى نهضاته الأخيرة إلا لأن المعوقين والمهرجين وجدوا المجال لنفث سمومهم، بل وجدوا الفرصة لإقصاء العاملين الصامتين، والشهداء المجهولين. * * * * فى الإصلاح: محاولة إصلاح الكبار وتنشئتهم على أخلاق جديدة جهد ضائع، أو جهد أكبر كثيرا من نتائجه، فإن الخلل العقلى عند هؤلاء يشبه الكسور التى التحمت على عاهة مستديمة أو تشويه لازم، فليس هناك موضع لجراحات التجميل والتعديل، ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر. والجهد النافع حقا هو تلقف الناشئة وهى غضة الإهاب، بيضاء الصحيفة ثم حياطتها بدروس العلم والتربية والتوجيه السديد حتى تشب على ما قدر لها من نضج واكتمال. ولذلك لم أكترث كثيرا لما تبذله الحكومة من جهود تافهة أو كبيرة لمحو الأمية. فما غناء ذلك؟ إن المقصود من التعليم ليس أن يخط التلميذ حرفا أو يقرأ كلمة، بل إن القراءة والكتابة ليست إلا وسيلة للثقافة التى تفتق الأذهان، وتنمى المواهب، ترفع النظر إلى حقيقة الوجود وتجعل المرء يبنى نفسه بناء راسخا سامقا، ويصوغ فى الحياة أمله وعمله، على نور وبصيرة.. وموضع هذا كله فى ربيع العمر لا خريفه. ولو أن الحكومة عنيت بتكوين الجيل الجديد، وفتح آلاف الفصول له لكان ذلك أدنى إلى الرشد من فتح الفصول لمحو الأمية بين الشيوخ والعجزة الذين لا جدوى من تعليمهم القراءة والكتابة، لأنه لا جدوى من استغلال هذا التعليم فى تثقيفهم، وإحياء ما مات من مواهبهم، أو تعديل ما وقر فى أذهانهم من أفكار نحو الحياة والمبادئ والعقائد والأشخاص. إذا المرء أعيته المروءة ناشئا فمطلبها كهلا عليه شديد ص _132 إن الأجيال المدبرة لها تقاليدها التى شبت عليها، ولها أساليبها فى العيش، وهى أساليب اختلطت بدمها فلا فكاك منها. ونقل هؤلاء إلى دعوة جديدة، وإلى حضارة جديدة ضرب من المعجزات، وغاية ما يرجى منهم أن ينفذوا أمرا مجردا، كما تنفذ السيارات أوامر المرور المحدودة بالوقوف أو الانطلاق، وهذه الأوامر لا صلة لها بتعديل الطباخ والعقول. والشرق الإسلامى يحتاج فى نهضته إلى نظام يشرف على رجال المستقبل من نعومة أظافرهم، وإلى استنبات سلالات جديدة من الأجيال التى تترعرع بين أفياء المعرفة والتربية والثقافة الواسعة. ذاك إن أردنا تكوينا صحيحا لأمة حية قوية. وإنه لمن الحزن أن نعالج أمورنا من غير هذه السبيل. وإذا ارتبت فى هذه الحقيقة فسل من جربوا معنا وعظ المسنين والمستضعفين من قعدة المساجد . * * * * نسبية! لا أدرى أهى طبيعة فى وحدى أم فى غيرى من الناس كذلك؟ وعلى كل حال فهى طبيعة سيئة يجب إصلاحها، وذلك أنى أحب إذا لم أدرك الشىء كله أن أتركه كله، وإذا وجدت شيئا كثير الكمال قليل النقص كان شعورى بنقصه أضعاف شعورى بكماله. وقد ينغصنى القذى من صديق، كما ينغصنى الأذى من عدو... ولا أذهب كثيرا فى سرد الأمثال، فإن المهم لفت النظر إلى أن مثل هذا التطرف فى إدراك الأشياء ومعالجتها يشق كثيرا، ويضايق صاحبه كما يضايق الناس منه، فضلا عن أنه مجاف للحق والصواب. فإن شئون الحياة نسبية كلها، قلما يوجد فيها خير محض أو شر محض، وطبائع الأشياء ومعادن الناس من طبائع هذه الأرض ومعادنها، فالذهب لا يعثر عليه خالصا من الشوائب الرخيصة، لكنه على كل حال ذهب، والحديد لا يوجد إلا مقرونا بشتى الأخلاط، ولكنه لا يرمى ولا يهمل بل ينقى وينتفع به، ومعانى الحياة كمعادن الأرض لا يجوز أن ننتظر وجودها بين أيدينا مصفاة من كل شائبة، مبرأة من كل عيب، بل سيقترن الخير بالشر، ويقترن الطيب ص _1 ص بالخبيث، وعلينا أن نأخذ من كل شىء خيره، ونجتنب على قدر الإمكان شره، والإسلام ينظر إلى الأمور هذه النظرة الصادقة، فما غلب خيره شره أبيح، وما غلب شره خيره حرم، وعلى هذا الأساس حرم الخمر والميسر. يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما). * * * * ثلاثة بدل ثلاثة: يوجد عوض طيب عن الأشياء التى تتطلع إليها النفس ويحرمها عليها الدين. وربما كان هذا العوض هو الأصل الذى تشتهيه النفس، ولكنها أخطأت إليه الطريق فلم تحسن الوصول، أو أن الحلال والحرام تشابها عليها فلما عرفت الحرام أولا جنحت إليه، ولو أنها اهتدت إلى الحلال أولا لوجدت فيه متنفسها الطبيعى، وبغيتها المنشودة، ولعافت الحرام، وكرهت الخوض فيه. إن الاتصال بالمرأة مثلا غريزة جياشة عارمة، والصورة التى تهدأ بها وتستقر فيها واحدة فى حالتى الزنا والزواج. والدين يعترف بمظاهر هذه الغريزة من إدراك وانفعال ونزوع، وغاية ما يتدخل فيه أنه يحدد الاتجاه السلوكى لها ويجعله فى الزواج لا فى السفاح. وعلى هذا النحو يحرم الدين أمورا شتى ويحل أمورا أخرى. الدين يحرم الكبر، فهل معنى ذلك أنه يكلف المرء بالهوان؟. لا. فمن حق الإنسان أن يشعر بنفسه، وأن يتسامى بحقه، وأن يحافظ على كرامته على أن يكون ذلك فى حدود العزة التى يصان بها الشخص، ولا يجرح بها الغير، ولا يستهان فيها بأقدار الناس!. والدين يحرم الرياء، فهل معنى ذلك أن يجهل قدر الإنسان أو يعرف معرفة خاطئة، أو تطمس مواهبه، أو توارى أعماله؟. لا. فإن الله أعطى كل ذى حق حقه، وحفظ لكل ذى موهبة موهبته، وأمر أن ينزل الناس منازلهم، وأن يقال ذوو المروءات عثراتهم. وجعل ذلك كله فى حدود الذكرى الحسنة التى هى حق طبيعى لكل مؤمن ينبغى أن يدافع عنه وأن يستمسك به! والذكرى الحسنة ص _134 فى الحياة والممات عوض عادل لا ريب فيه عن الرياء الحقير، وسبيلها الممهدة إخلاص الرجل فى أداء واجباته، وابتعاده عن مواطن السوء وارتفاعه عن مواضع الغفلة، وإدراكه بأن حسن الذكري ونباهة الشأن. نعم يسوقها الله عز وجل إلى من شاء في عباده، وأنه إذا أحب شخصا أوحى إلى الملأ الأعلى فأحبوه، ثم يوضع له القبول فى الأرض. واتباع الهوى يوجد بدله عوض طيب رحيب يقوم على تعرف أنواع الحلال المباح، والتوسع فى استغلالها استغلالا لا تشعر النفس فيه بالحرمان من طيبات الحياة، ولاتسأم فيه من اتباع أوامر الدين!. إذا علمت بأن الدين بعيد عن الحرج، وبأن التزهد الفارغ فى أكثر متاع الدنيا لا دلالة فيه على خير، علمت أن الله لم يكلف عباده ما يغلبهم، فلا ضرورة للكبر والرياء والهوى ما دمنا سنجد ما نريد فيما شرع لنا من عزة النفس، والذكر الحسن، وكفالة الحريات والرغبات والحقوق. * * * ص _135 على أعتاب الشهداء نحن الآن فى الأرض المقدسة وهذه قرية "دير البلح " التى قصدنا إليها لنزور قبور الشهداء! وسمعت الدليل المرافق يضرب الرمال بقدمه قائلا: هنا كانت لليهود مستعمرة. فى هذا الفضاء الذى تسير فيه آمنآ كانت مدافع "كفار ديروم " تقذف الحمم وتثير الرعب، وتمد خطر الصهيونية إلى جنوب فلسطين، وهنا بدأت أول معركة بين فتيان الإخوان المسلمين، وبين بنى إسرائيل الذين احتضنتهم إنجلترا، وسلحتهم أمريكا، ومكن لهم الخونة من أمراء العرب. * السجون والمنافى: فى هذه البقعة التقى اليقين الناضج الحر بالمطامع الجريئة الوقاح. وقد انتهت الجولة الأولى على غير ما نبغى، إن اليهود الآن على مدى سهم منا. وقد اجتثت الإخوان أصول هذه المستعمرة العاتية، وتركوها قاعا صفصفا. ولكن هناك مئات من المستعمرات ظلت قائمة على أصولها تبث القلق حولنا، وتطلق الغيوم على مستقبلنا. أما الإخوان الذين أحالوا جسومهم ألغاما تنسف دعائم المكر، فقد سحبوا من الميدان لتمتلئ بهم السجون والمنافى! هكذا صنعت بهم حكومة "مصر"... وها هى ذى بقية منهم لم تعد إلى مصر. لأنها ماتت فى سبيل الله! لقد اختارتهم العناية الإلهية فأصبحوا شهداء. والشهادة فى منطق المؤمنين منزلة يهنأ بها ويغبط عليها وليست مصيبة يساق من أجلها عزاء. * * * * أرض الشهداء: ما هانت الدنيا فى عينى! ولا هنت فى عين نفسى مثل ما شعرت ساعتئذ وأنا أخطو وئيدا أمام القبور المتراصة الهادئة فى ذلك الوادى الصامت. إننى أمشى فى أرض الشهداء، فيجب أن أطأطئ الرأس إجلالا، وأن أتحدث همسا، وأنا أدلف إليهم فى خشوع وأدب. فى مقابر الناس كنت دائما أشتم رائحة البلى: أما هنا فلا أشتم إلا رواح الخلود!. ص _136 وما هذه الأزهار المنثورة، والأغصان المتهدلة، والأشجار الباسقة؟. ما أجمل هذا الصنيع! أن تغرس حديقة زاهرة فوق قبور الشهداء وحولها... أترى هذا الورد الأحمر قد ارتوى من دمائهم، وهذه العطور الفواحة قد نفحت من شمائلهم؟ أم شاء الله أن يجعل أبصارنا تقع على هذا البستان النضير، ليعطينا فكرة محدودة عن الجنة اليانعة الناعمة التى يمرح فيها شهداؤنا الأبرار، فكأن الأديم الذى نسير عليه مرآة عكست ما تحتها من نعيم مقيم؟. إن الشهداء أعلى مكانا من أوهامى القاصرة!... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم جعل الله أرواحهم فى جوف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ عنا إخواننا أنا أحياء فى الجنة نرزق، لئلا يزهدوا فى الجهاد، ولا ينكلوا من الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم. قال فأنزل الله عز وجل: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله). * * * * مقاتل الصهيونية: لقد انفتحت أبواب الفردوس لهذا المكان من الشرق الأوسط عدة مرات: المرة الأولى يوم انطلق الصحابة الأولون يطوون أعلام الروم ويمدون أشعة الإسلام. والمرة الثانية يوم انبعثت جيوش التحرير يقودها السلطان صلاح الدين لمطاردة الصليبية الغازية، ورد فلولها المهزومة عن بيت المقدس. ثم هذه المرة، فوسط صخور صماء من الإلحاد والفسوق، رشحت قطرات قليلة من الإيمان الزكى، فإذا متطوعة الإخوان يعبرون الحدود التى صنعها الاستعمار ليمزق أوصال الإسلام، ثم يندفعون باحثين عن مقاتل الصهيونية ليصرعوا بغيها، ويكسروا شرها. ص _137 وانفرجت أبواب الفردوس لتستقبل وفد الشهداء الجدد. وهأنذا أقرأ أسماء المصطفين الأبرار على شواهد القبور التى تخفى عنا أشخاصهم. نعم هأنذا أقرأ... اسم من هذا؟ إنه فلان!!. ورجعتنى الذاكرة إلى أيام خلت، كان فيها الشاب الصالح يجيئنى بالمسجد ليطلب منى أن ألقى عليهم درسا بشعبة الحى، كان يعتبرنى أستاذه. أما اليوم، فقد تغيرت الأوضاع، وأصبحت أمام قبره التلميذ الصغير... إنه سبق سبقا بعيدا... إلا أن يتفضل المولى القدير فأرد المصير نفسه. * * * * جلال: إننا فى زمن كثر فيه الهرج، واشتعلت فيه الحروب، وجمهور الضحايا لا يدرى لم قتل ولمن قتل؟ والجيوش الجرارة التى تعبئها اليوم الشيوعية والرأسمالية تسوق الذبائح بين يديها لغير غرض أو لغرض خسيس، وإذا كان القتال الذى بينهما إنما جرى لاستلاب حقوقنا، فما تظن وصف ضحاياه؟ لص خرج للسطو فاخترمت بدنه رصاصة أزهقت روحه، فجثته على عرض الطريق ملقى كجثة دابة نافقة! أولئك قتلى المستعمرين من كل جنس ولون. أما قتلانا، أما الشهيد من رجالاتنا الأمجاد، فذاك مضى كما قيل: تردى ثياب الموت حمرا فما أتى لها الليل إلا وهى من سندس خضر وأما درجته فكما وصف الله: (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا). إن الشهيد رجل عرف كيف يعيش وكيف يموت. كان يمكن أن يكون بشرا صغيرا كسائر البشر. أما بعد أن اتصل بالحقيقة العليا، وربط وجوده المحدود بالوجود المطلق، ونسى نفسه حين ذكر ربه، وركل الأرض حين تطلع للسماء، وبصق على الدنيا حين ص _138 عرضت عليه الآخرة.. أما بعد ذلك فقد أصبح يحلق فى كون آخر عليه من إجلال الله وآلائه نضرة، وضياء وخلود. ذلك لفيف من شهدائنا فى "دير البلح " كانوا أول دم زكى أريق فى هذه الديار، وكانوا مثلا خارقآ لحماسة العقيدة وحماية الذمار. وتذكرت الوطن الذى جحد أولئك الأ بطال، وكيف يزخر اليوم بالمآسى والكروب، تذكرت الأحزاب الطامعة فى الحكم، والتجار الناشدين للغلاء، والموظفين الباحثين عن الترقيات، والطلاب المصروفين عن العلم، والشبان المتعلقين بالأهواء... ثم رجعت البصر إلى القبور الحية القائمة أمامى.. فأدركت أننى هنا يجب أن أرفع مستواى فى حضرة الأبطال، فما ينبغى أن يلم خاطرى بهذه الصغائر التى داسوها من قديم، وتجاوزوها لمن تعلق همهم بالدنايا، إننى هنا أمام الربانيين الذين عاشوا باليقين... حتى أتاهم اليقين. * * * * شهداء فلسطين: ألا فليعلم السفهاء من الحكام أن الطاقة الروحية المختزنة فى كتاب الله وسنة رسوله هى التى صنعت أولئك الرجال. فإذا أصروا على التجهم للإسلام، وحاولوا بناء النهضة على غيره من الأفكار والنظم فلن ينالوا خيرا أبدا. (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم). * وما هو بالهزل: من الغفلة أن تظن الشىء الواحد يباع بأغلى الأثمان وأتفهها فى وقت واحد، فإذا كانت القيمة الحقيقة لسلعة ما ألف جنيه، فإن الحصول عليها بقرش على طريق البيع والشراء يعتبر مستحيلا!. وربما أمكن الحصول عليها بطريق السرقة أو المقامرة أو الاختطاف أو ما أشبه ذلك، وإذا شاء صاحبها التبرع بها فله أن يفعل بماله ما يشاء. ص _139 والمعروف من دلائل الشريعة أن لله جنة تعهد غراسها وحسن مهادها، وأعد فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. والمعروف أن الله لم يجعل نيل هذه الجنة بالمجان، وأنه كذاك لم يطلب لها ثمنا تافها بل جعل الحصول عليها بأغلى ما يمكن لامرىء أن يدفعه وهو نفسه وماله. (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون). وجاء فى الحديث: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ". ومع فداحة الثمن المطلوب لهذا النعيم المقيم، فإن عوام المسلمين يتجاوزون خطره بطريقة حمقاء. فما يدفع فيه الروح يريدون أن يدفعوا فيه قلامة ظفر، وحسب الواحد منهم أن يجرى على لسانه دعاء مأثورا أو ذكرا واردا، لتطير به إلى الجنة الموعودة ملائكة ذات أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وفى غفران الذنوب يقول الله تعالى: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم). ولكن تكفير السيئات الذى سبقته هاتيك المقدمات الجليلة ظل يتضاءل ويتضاءل، حتى أصبح الرجل المحصور وراء ركام من الخطايا السود يستطيع الإفلات منها بتعويذة يهمهم بها فمه، وتختلج بها شفتاه... دون وعى. ونحن لا نستكثر على فضل الله شيئا، ولكننا نحترم أصول الإسلام، ونراعى قوانين الجزاء، ونضع النصوص فى مواضعها التى تتلاءم معها، ونحمى حقيقة الدين من فوضى الأفهام القاصرة. وقديما عرض العلماء الراسخون لأحاديث الذكر، وما اقترن بها من جزاء عريض فشرحوا المقصود بها. قال ابن بطال: الفضائل الواردة فى التسبيح والتحميد ونحو ذلك، إنما هى لأهل الشرف والكمال فى الدين، والطهارة من الحرام وغيره. فلا يظن ص _140 ظان أن من أدمن الذكر وأصر على ما شاء من شهواته، وانتهك دين الله وحرماته، أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازل الكاملين.. بكلام أجراه على لسمانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح. قال صاحب فتح البارى- بعد ما نقل هذا الكلام وأيده-: ويشهد له قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون). ويرى القرطبى أن الذكر يختلف ثوابه باختلاف أحوال الذاكرين. وهذا حق، فمن الناس من تكون الكلمات التى يرددها لسانه صدى عميقا لتأثر بالغ، وقلب مشرق، ونفس أصفى من أن تمر بها خواطر السوء، بله أن تفعله. وعندما يكون الذكر رمزا لليقين المستعلى على الدنيا ومثبطاتها، فهو أخو الجهاد الذى يضحى بالدنيا فى سبيل الدين. والأجر المقترن به عندئذ لا شطط فيه ولا تجاوز. أما أوهام العامة فيما يتصل بالثواب والعقاب، وظنهم أن هذا يرجى بالثمن البخس، أو ذاك يخشى بالأمل القاعد، فخبط لا سند له من دين الله. ص _141 مظاهرة الحج الكبرى تواضع الناس على اعتبار المظاهرات الوطنية النبيلة تقليدا حسنا، ورأوا فى احتشاد الجموع الغفيرة، وانطلاقها إلى هدف مرسوم، وصياحها بكلمات معينة، رأوا فى ذلك ترجمة قوية عما يجيش بأنفسهم من آمال ومطالب، وإذا كانت هذه المظاهرات إبانة صارخة عن روح الجماعة، فهى دافع عميق الأثر فى مسلك الفرد، يقتل أسباب الضعف والتردد فى نفسه. وقد انتشرت سنة المظاهرات فى الشرق والغرب، وانتظم فى مواكبها القادة والعلماء والوزراء وأساتذة الجامعات الكبرى ورجال القضاء، فضلا عن الألوف المؤلفة من الطلاب والعمال. وقد أحسست ببعض الأسرار التى ينشدها الإسلام من فريضة الحج عندما أمر أتباعه بالانتظام فى أروج مظاهرة تسوق الأمم سوقا إلى البيت العتيق، وتدعوهم أن ينطلقوا إليه رجالا وركبانا من كل فج عميق.. أحسست بأن صوت الإيمان الذى كان يهمس فى نفسى قد بدأ يعلو رويدا رويدا، وأن خفوته قد استحال إلى صراخ يهز جوانب القلب كما يهز بطون الأودية... كانت حناجرنا تهتف بقوة- لا بموت فلان أو حياته- بل تهتف لله وحده، منيبة ملبية ذاكرة شاكرة... والحياة الفاضلة والمثل العالية تكسب الكثير من ارتفاع العقائر بهذا الهتاف الجليل، ولا تحسبن صداه ينتهى بانفضاض مواكب الحجيج وانقضاء الأشهر المعلومات. كلا فعجيج الجماهير الحاشدة، تذكر الله حول المناسك المقدسة يترك فى النفوس آثارا لا تنمحى، وإنه ليخيل إلى أن الحج- بهذا الهتاف المفروض فى شعائره- يرتقى باليقين من معنى مستكن فى الضمير، إلى مبدأ يتواصى الناس به ويجتمعون عليه، أو أنه يفتح البراعم المضمومة على أزهارها ليصل بها إلى مرتبة الكمال والنضج، فإذا هى روح وريحان وجنة نعيم... ويخيل إلى أن المناسك كلها أشكال غير مقصودة لذاتها، إنما قصدت لذكر الله عندها، واستقراء الآيات النازلة فى الحج يشهد لذلك، ففى التعليل لحكمة الحج يقول: ص _142 (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله...). ومن هنا حرم من الكلام ما يشغل عن هذا الهدف: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). وفى الوقفة الكبرى يقول: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم). وبعد أداء الأركان يقول: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا). وفى الوقوف " بمنى " يقول: (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه). وفى ذبح الهدى يقول: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف). فذكر الله والهتاف باسمه غاية وعمل، ووسيلة وهدف، وفى هذه المظاهرة التى جعلها الله ركنا فى الإسلام، وقرن بها من الفوائد النفسية والخلقية ما لا يحصى... غير أن المسلمين لا يعرفون من حكم الحج الفردية والاجتماعية إلا القليل التافه، وقد رمقمت ألوف الوافدين إلى أم القرى ودار الهجرة، واندسست فى غمارهم وهم يحلون ويرحلون، ثم طويت القلب على حسرات... * * * ص _143 كان المفروض أنه- كما تمر الجيوش الظافرة تحت أقواس النصر وتحيى قبور الشهداء- تمر جماهير الحجيج بميدان الصفا والمروة، وتطوف حول الكعبة... ولكن أين الساعون والطائفون؟؟ هؤلاء العامة الجهال القادمون من بلاد أكلها الذل إلى بلاد أكلها الذل..! إن النبى صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة ثم قال: "ما أجملك وأجمل ريحك وما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن عند الله أعظم حرمة منك حرمة دمه وماله " أجل! إن حقوق الإنسان غالية، وهى عند الله أقدس من كل شىء، أقدس من هذه الكعبة التى فرض على العباد التطواف حولها- لأنها رمز توحيده. لكن المسلمين الطوافين حول هذه الكعبة جاءوا من بلاد أرخص شىء فيها حقوق الإنسان، لأنها سقطت فى يد الأجانب الغاصبين، إلى بلاد أرخص شىء فيها حقوق الإنسان أيضا، لأن الاستعمار الداخلى كالاستعمار الخارجى سواء بسواء، فيما يفرض من ظلم ويلقى من ظلام. إن الأمم عندما تهون تمسخ ما لديها من تعاليم. والحج اليوم سفر ولقب وضريبة يدفعها السذج أو المكرهون، ليرتزق منها العاطلون، والحكام المترفون. ص _144 فرنسا.. تكرم الحجاج المسلمين قرأت منذ أيام أن المفوضية الفرنسية فى مصر أقامت حفل شاى تكريما لكبار الحجاج المغاربة فى أثناء مرورهم عائدين إلى أوطانهم، وكان فى مقدمة من حضروا هذا الحفل حاكم مراكش، وبعض الوزراء، والقاضى المالكى وشيخ التيجانية، ومفتى الجزائر. وقد حضر هذه المأدبة الممثلون السياسيون للدول الشرقية سوريا ولبنان وإيران.. إلخ.. ولقد شعرت- والله- بشىء غير قليل من الخزى يستولى على نفسى وأنا أقرأ هذا النبأ، وأنظر إلى الصورة المرسومة معه، وقد ظهر فيها الدبلوماسيون الفرنسيون وعلى وجوههم ابتساماتهم الماكرة، وأحد الوزراء الحجاج وهو يرخى يديه إلى جنبيه فى هدوء وأدب! وشعرت بأن فريضة الحج قد خدشت قداستها، وتمنيت لو لم يخرج هؤلاء الناس لأدائها، ولو لم يعودوا من مناسكهم ليطعموا حلوى ربما كانت بعض المسروقات المغتصبة من أوطانهم المسروقة، أو يشربوا شايا كان ينبغى أن يذكرهم لونه الأحمر بالدماء التى سفكت هذا العام ظلما وعدوانا فى بلاد المغرب وفى بلاد المشرق، وكان الفرنسيون الأبطال هم جزاريها العتاة. أنا أدرك كل الإدراك أن الأمم الإسلامية منكوبة بأشخاص يضعون أيديهم فى أيدى المستعمرين ويعاونونهم على إدراك مآربهم اللئيمة، ولكنى لا أفهم مطلقا أن يصل التمكين لهذا التعاون إلى حد التلاعب المكشوف بالمناسبات الإسلامية وفرائض الدين!! إن الحجاج المسلمين ليسوا كالحجاج الهندوس الذين تنساب جحافلهم على شواطئ نهر الكنج ثم يعودون ليستظلوا بحماية الراية الإنجليزية. إننا لسنا أشياع خرافة تحترم فى غيبة العقل وانحطاط الفكر، ونستحق- بهذه الحال- أن نهون ونزدرى. ص _145 إننا أتباع دين يحترم الإنسان ويقدس حقوقه ويأمر بالقتال دونها. * * * ومن المضحك المبكى أن يعود الحجاج العرب المسلمون ليكرم حجهم فى دار الدولة التى تعمل دائبة على سلب الجنسية العربية وتحطيم الجامعة الإسلامية. إن الأعمال لا قيمة لها إن لم يصاحبها الإيمان بالته والإخلاص لوجهه، والإيمان والإخلاص لا يقترن بهما حج باركته فى بدايته ونهايته فرنسا ابنة الكنيسة البكر. والممثلة ا!باقية للاستعمار الصليبى فى الأرض، بعد زوال إيطاليا من عالم الاستعمار. ص _146
ناس طيبون!!
جلس إلى الرجل يقص رؤياه التى كانت أضغاث أحلام، وتبوق جبهته وهو يحدثني كيف قضى أول الليل فى الحضرة الصوفية التى تقيمها "طريقته " وكيف أن "الشيخ " عاب على مريديه تقصيرهم فى العبادة، وذكر لهم أن هناك نسوة من أتباع الطريقة بلغ بهن الصفاء أن رأين النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام... وأنتم أيها الرجال لا تصلون إلى هذه المنزلة!! وهنا فتل الرجل شاربه، وقطب جبينه، وفهمت منه أن هذا التقريع أثر فيه فنام وقام، ثم جاءنى برؤياه الصالحة! قبل أن يخبر بها شيخه العظيم!
وقمت عن الرجل فإذا حلقة صغيرة تضم عددا من الرجال الذين يكثرون التردد على المسجد أبوا إلا أن يشركونى فى حديثهم، فأخذت مكانى بينهم مضطرا ، وسمعت أحدهم يقول- وهو يستأنف كلامه حريصا على أن يسمعنى وأن يمتعنى: لقد كان الشيخ فلان يبنى دارا فى بلدة كذا فكان الغمام يظله فى حر الظهيرة! وتلك بركة الإخلاص ورفعة الدرجة عند الله.
وقال جليس آخر بعد أن أمن على رأى زميله: ولقد دخل الشيخ فلان على جماعة يغنون ويطربون فإذا آلات اللهو تنكسر فى أيديهم، وتخرس أصوات الغناء فى حضرته!! وهل تعلمون أن الشيخ فلانا دعى إلى مأدبة الخديوى فذهب إلى هناك وأمسك بأطباق الطعام يعصرها فإذا هى تقطر دما.
وهنا صاح الشيخ يقول: أنا لا آكل من دم العباد!
صفحہ 145