صندوق الدنيا
صندوق الدنيا
اصناف
ثالثا: أن المرأة أقدم معجم للغة، فهي التي وضعت الأسماء ونحتت واشتقت وصقلت الألفاظ بكثرة الاستعمال.
رابعا: أن الخجل من مقتضيات المعرفة والإدراك.
خامسا: أن الأمومة أقوى وأبرز من الأبوة؛ لأن المرأة هي الأداة لحفظ النوع.
وقد تناولت هذه المعاني من قبل في مقالات عدة، نشر بعضها في «حصاد الهشيم»، مثل: «الجمال في نظر المرأة» و«مقتضيات الخلود»، وفي «قبض الريح» مثل: «المرأة واللغة أول معجم وأقدم ديوان»، ومقالات أخرى نشرتها في «السياسة الأسبوعية» ولم تجمع بعد في كتاب. (1) في الجنة
السبت، وجدت أن ما أغراني به آدم من كتابة المذكرات اليومية قد شغلني عنه، وأتاح له أن يطوف في الجنة وحده، وهو لا يفتأ يصبحني بالسؤال عن مذكرات اليوم السابق هل دونتها، وينصح لي بأن أكتبها قبل أن أنسى ما حدث، ولا أكاد أشرع في الكتابة حتى أراه ينسل ويذهب لا أدري إلى أين، ومن أجل هذا عقدت النية على ألا أكتب إلا في الليل بعد أن ينام.
الاثنين، آدم لغز لا أكاد أفهمه، لم يكن يعرف حتى أن اسمه آدم، ومن قوله أنه لا يشعر بالحاجة إلى اسم ما، ولما قلت له يوما إن اسمي حواء قال: «ربما!» أليس هذا منه عجيبا؟ وأعجب من ذلك أني قلت له إن عليه من الآن فصاعدا أن يدعوني باسمي، فإنه أعذب في أذني من «هش هش» التي لا يزال يفتح فمه بها علي، فقال: إنه يقصد حين يصيح بي «هش هش»، أن أذهب عنه لا أن آتي إليه، وأنه لا يحتاج أن يناديني أو يدعوني لأني لا أكاد أفارقه، فمن العبث أن يكون لي اسم إذا كانت فرصة استعماله لا تعرض أبدا، فلما احتججت عليه بأن لكل شيء في الجنة اسمه الذي يعرف به، زعم أني أنا التي اخترعت هذه الأسماء وأطلقتها على مسمياتها، وأنه لا يدري لماذا أجشمه حفظ هذه الأسماء كلها وتصديع رأسه بها، وزاد على ذلك أنه لا يرى هذه الأسماء منطبقة على الأشياء أو موافقة لها، ودليله على هذا أنه ما من حيوان يجيبني حين أدعوه باسمه، ولكن هذا مع ذلك لا يعنيه، وإذا كان يروقني أن أكلف نفسي مشقة التسمية فأنا وما اخترت لنفسي، غير أنه يرجو مني ألا أشركه في هذا العبث.
وهذه أول مرة سمعت من آدم مثل هذه الكلم فحز في نفسي وآلمني فبكيت وتوجعت، ولشد ما كانت دهشتي حين نهض آدم ودنا مني ورفع وجهي إليه وجعل يتأمل عيني! بل لقد هم بأن يضع إصبعه في عيني، فنحيت يده عن وجهي وقلت له وقد غيض الغيظ والغضب عبراتي: «ألا تكفيك قسوة لسانك حتى تريد أن تفقأ عيني؟»
فادعى أنه لا يفهم كلامي وزعم أنه إنما كان يبغي أن يرى من أين يجيء الماء الذي يسيل من هذين الثقبين في وجهي. وقال: إنه لم ير حيوانا آخر غيري يفيض الماء من ثقوب وجهه، فصدفت عنه وبي من الألم ما لا أحسن وصفه. فلم أر أنه عبئ بصدي عنه شيئا، وطال انتظاري أن يعود إلي ليعتذر، فخرجت من الكوخ أطلبه فألفيته ممسكا هرة يحاول أن يعصر لها عينيها وهي تجاهد تريد التخلص من قبضته القوية، فاختطفتها منه وسألته: «ما هذا الذي تصنع؟»
فلم يجبني على سؤالي، ورفع إلي وجها قرأت في أساريره الدهشة والملل وقال: «ها ها! أو جئت ورائي؟»
فأعدت عليه السؤال فكان جوابه أنه أراد أن يعرف من أين يجيء الماء إلى هذه الثقوب التي أسميها العيون. فأيقنت أنه لم يكن يروم أن يفقأ عيني، وصفحت عنه وزدت تعلقا به.
نامعلوم صفحہ