صندوق الدنيا
صندوق الدنيا
اصناف
مقدمة
شذوذ الأدباء
الصغار والكبار
الحقائق البارزة في حياتي
اللغة العربية بلا معلم
أشق المحادثات
من ذكريات الصبا: بين رجال الليل
أبو الهول وتمثال مختار
الحب الأول
حلاق القرية
نامعلوم صفحہ
سحر مجرب
الفروسية
الطفولة الغريرة
مقتطفات من مذكرات حواء
عاطفة الأبوة
كيف كنت عفريتا من الجن
رجل ساذج
ابن البلد
صورة وصفية لصحفي
حلم بالآخرة
نامعلوم صفحہ
مقدمة
شذوذ الأدباء
الصغار والكبار
الحقائق البارزة في حياتي
اللغة العربية بلا معلم
أشق المحادثات
من ذكريات الصبا: بين رجال الليل
أبو الهول وتمثال مختار
الحب الأول
حلاق القرية
نامعلوم صفحہ
سحر مجرب
الفروسية
الطفولة الغريرة
مقتطفات من مذكرات حواء
عاطفة الأبوة
كيف كنت عفريتا من الجن
رجل ساذج
ابن البلد
صورة وصفية لصحفي
حلم بالآخرة
نامعلوم صفحہ
صندوق الدنيا
صندوق الدنيا
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
مقدمة
كنا نفرح «بصندوق الدنيا» ونحن أطفال ... نكون في لعبنا وصخبنا فيلمح أحدنا «الصندوق» مقبلا من بعيد فيلقي ما بيده من «كرة» أو نحوها ويطلقها صيحة مجلجلة ويذهب يعدو متوثبا ونحن في أثره، ونتعلق بثياب الرجل أو مرقعته على الأصح، فما هي بثياب إلا على المجاز، فهذا ممسك بكمه، وذاك بحزامه وآخر يده على الصندوق، وهو سائر وظهره منحن تحت حمله، ولحيته الكثة الغبراء مثنية على صدره، ونحن نتلاغط حوله وتتوثب، حتى يصير بنا إلى الظل، فيضع «الدكة» الخشبية على الأرض فنكون فوقها نتزاحم ونتدافع ونتصايح ونتشاتم قبل أن تستقر على أرجلها، والرجل ساكن الطائر لا يعبأ بنا ولا يولينا نظرة ولا يحفل من بقي منا على «دكته» ومن زحزح عنها فوقع على الأرض فقام يلعن ويسب أو يبكي ويتوجع، أو يمضي إلى الحائط فيلصق به كتفه ويعمل يده في عينه.
ويخلع الرجل الحوامل عن كتفه ويقيمها أمامه ويرفع «الصندوق» ويحطه عليها، فنزحف نحن «بالدكة» إليه وندني وجوهنا من العيون الزجاجية الكبيرة، وننظر وننتظر. فإن صاحبنا لا يعجل، ويطول بنا النظر إلى لا شيء. والانتظار على غير جدوى، فنرتد برءوسنا عن عيون الصندوق، ونرفع إليه وجوهنا الصغيرة، فيبتسم ويبسط كفا كالرغيف ويقول «هاتوا أولا» فتندفع الأيدي إلى الجيوب تبحث عن الملاليم وأنصافها فتفوز بها أو تخطئها، فتبيض وجوه وتسود وجوه وتلمع عيون وتنطفئ عيون، وتفتر شفاه وتمط أخرى أو تتدلى، ويقبل «المعدم» على «الموسر» يستسلفه مليما، ويحدث في عالم الصغار ما يحدث في عالم الكبار، من جود وبخل، ومن مسارعة إلى النجدة أو اغتنامها فرصة للانتقام، ومن مساومة ومشارطة ومطل، ومن تعبير بجحود يد سلفت، ومحاسبة على دين قديم، ويرجع المحرومون كاسفين آسفين، أو ناقمين ثائرين، أو راضين غير عابئين، ويقعد السعداء ويقبلون على «الصندوق» وقد نسوا إخوانهم، فكأنهم ما خلقوا ولا كانوا منذ دقائق قليلة أندادا يتلاعبون ويفرح بعضهم ببعض ويجد في قربه الروح والغبطة والأنس، ويطل الرجل من عين في جانب «الصندوق» ويدير «اليد» فتبدو لعيوننا المشرئبة صور «السفيرة عزيزة» ربة الحسن والجمال، و«عنترة بن شداد» الذي كان:
يهزم الجيش أوحديا ويلوي
بالصناديد أيما إلواء
و«الزير سالم» و«يوسف الحسن».
نامعلوم صفحہ
ويكف اللسان عن الوصف والتحدث، واليد عن الإدارة والعرض، فقد انتهى «الدور» واستوفينا حقنا، فإما «دور» آخر بملاليم جديدة، وإلا فالقناعة كنز لا يفنى.
وقد شببت عن الطوق جدا، وخلفت ورائي طفولتي التي لا تعود.
وصرت غيري فليس يعرفني
إذا رآني الشباب ذو الطرر
ولو بدا لي لبت أنكره
كأنني لم أكنه في عمري
كأننا اثنان ليس يجمعنا
في العيش، إلا تشبث الذكر
مات الفتى المازني ثم أتى
من مازن غيره على الأثر
نامعلوم صفحہ
1
ولكني ما زلت أمت إلى طفولتي بسبب قوي، وما انفكت أخراي معقودة بأولاها. كنت أجلس إلى الصندوق وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني نفر من أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا ساعة بملاليم قليلة يجودون بها على هذا الأشعث الأغبر الذي شبر فيافي الزمان، وما له سوى آماله وهي لوافح، ونجم - سوى ذكرى نورها - خافت.
لهذا سميته «صندوق الدنيا».
ولا أزال أجمع له وأحشد، وما فتئ السؤال الأبدي عندي مذ حملت الصندوق على ظهري «ماذا أصور؟» هذه هي المسألة كما يقول «هملت» في روايته الخالدة، والفرق بيني وبين هملت أنه معني بالحياة والموت، وبأن يكون أو لا يكون، وبأن يبقي على نفسه أو يبخعها، أما أنا فلا يعنيني شيء من هذا، ولست أراني أحفل بالحياة ولا الموت، ولا الوجود ولا العدم، أو لعل الأصح والأشبه بالواقع أن أقول: إني لا أرى وقتي يتسع للتفكير في هذا. ذلك أني صرت كالذي زعموا أنه كانت له زوجة ترهقه بالتكاليف وتضنيه بالأعمال التي تعهد إليه فيها وتأمره بأدائها، قالوا: فأشفق عليه صاحبه ورثى له، فأشار عليه أن يطلقها لينجو بنفسه من هذا العناء، فطأطأ الرجل رأسه ثم رفعه وقال: «ولكن متى أطلقها؟ لا أرى وقتي يتسع لهذا.»
كذلك أنا - أنا زوج الحياة الذي لا يستريح من تكاليفها - أقوم من النوم لأكتب، وآكل وأنا أفكر فيما أكتب، ألتهم لقمة وأخط سطرا أو بعض سطر، وأنام فأحلم أني اهتديت إلى موضوع، وأفتح عيني فإذا بي قد نسيته، فأبتسم وأذكر ذاك الذي رأى في منامه أن رجلا جاءه فنقده تسعة وتسعين جنيها فأبى إلا أن تكون مائة، فلما انتسخ الحلم ورأى كفه فارغة عاد فأطبق جفونه وبسط راحته وقال: «رضينا فهات ما معك.»
وأشتاق أن ألاعب أولادي فيصدني أن الوقت ضيق لا ينفسح للعب والعبث، وأن علي أن أكتب، وأرى الحياة تزخر تحت عيني فأشتهي أن أضرب في زحمتها وأسوم سرحها، ولكن المطبعة كجهنم لا تشبع ولا تمل قولة «هات» وأكون في المجلس الحالي بحسان الوجوه رقاق القلوب وبكل ما كان يتحسر «مهيار» على مثلها ويقول:
آه على الرقة في خدودها
لو أنها تسري إلى فؤادها
فأشرد عنهن وأذهل عن سحر جفونهن، وأروح أفكر في كلام أكتبه صباح غد، وأشرب فلا أسهو، وأضحك لا أراني ألهو، ويضيق صدري فأتمرد وأخرج إلى الطرقات أمتع العين بما فيها مما تعرضه الحياة، فإذا بي أقول لنفسي: إن كيت وكيت مما تأخذه العين يصلح أن يكون موضوع مقال، فأقنط وأكر راجعا إلى مكتبي لأكتب ... وهكذا كأني موكل بفضاء الصحف أملؤه، كما كان ذلك الشاعر القديم المسكين موكلا بفضاء الله يذرعه.
وشر ما في الأمر أن يجيء إلي صديق فيقول: أقترح عليك أن تكتب في «كيت وكيت» وتحاول أن تفهم أن كيتا وكيتا هذين لا يحركان في نفسك شيئا، ولا يهزان منها وترا فلا يفهم؛ لأنه - على الأرجح - يظن أن الكتابة لا تكلف المرء جهدا، وأن القلم هو الذي يجري وحده بما يقطر من مراعفه، وأن العقل والنفس لا دخل لهما فيما يخطه.
نامعلوم صفحہ
وإذا ظللت أكتب وأكتب هكذا فماذا يكون؟ لا أقول: إني سأفلس، فإن الحياة لا تنفك أبدا جديدة في رأي العين والعقل، وهي لا تزال تسفر كل يوم عما يحرك النفس، ولكني خليق أن أجن ... نعم، وماذا عسى أن يكون آخر هذا النصب؟ ودع الجنون، فلو كان إنسان يجن من كثرة ما كتب لكان عنواني قد تغير منذ أعوام جديدة، ولكن تعال نجر حسابا صغيرا نسقط منه كل ما ليس بالأدبي.
أنا أكتب في الأسبوع مقالين، فجملة ذلك في العام تبلغ المائة، وكل مائة مقال تملأ خمسة كتب كهذا، فسيكون لي إذن بعد عشرة أعوام - إذا ظللت هكذا - ثلاثون كتابا غير ما أخرجت قبل ذلك، أي إن كتبي أنا وحدي تملأ مكتبة صغيرة يجد فيها القراء ما يشتهون ولا يعدمون منها متعة أو سلوى، وصاحبها لم يستفد إلا العناء.
والبلاء والداء العياء أن تكتب مرة مقالة فكاهية، والطامة الكبرى أن تكون المقالة جيدة، وأن تكون الفكاهة فيها بارعة. لا أمل لك بعد هذا أبدا ... لأن الناس يذهبون ينتظرون منك بعد ذلك أن تطرفهم بالفكاهات في كل مقال آخر. فإذا أخطئوا عندك ما يطلبون من الفكاهة فالويل لك، وأنت عندهم قد أصفيت، أو ضعيف لا تحسن أن تكتب، أو غير موفق فيما تحاول، حتى ولو كنت تكتب جادا ولا تحاول أن تمزح أو تتفكه. والناس معذورون. فإن وطأة الحياة ثقيلة، وما دمت قد عودتهم أن تسليهم وتضحكهم أو أطمعتهم وأنشأت في نفوسهم الأمل في هذا فماذا تريد أن تتوقع؟ ولكن الناس - أيضا - خلقاء أن يذكروا أن الحياة قد تكون ثقيلة على الكاتب، وأنه لعل في نفسه جرحا وفي صدره قيحا، وأنه عسى أن يكون ممن يودون لو يضحكون ويضحكون غيرهم، ويتمنون لو استطاعوا أن يجعلوا الدنيا جنة رفاقة البشر، ولكن هموما تجثم على الصدور تقلص الوجه وتطفئ لمعة العين وتحبس البشر الذي يريد أن ينطلق، وترد الضحكة التي كانت تهم أن تقرقع.
لقد صدقت فيما كتبت به إلى صديق على صورة لي:
أخوك إبراهيم يا مصطفى
كالبحر لا يهدأ أو يستريح
كالبحر حي الموج يقظانه
لكنه من نفسه في ضريح
من حوله الشطآن لا تنثني
تحبه دون انسياج الفتوح
نامعلوم صفحہ
خلت من المعنى لحاظ له
وكانت البرق المضيء المليح
حواء يا أماه أنت التي
أورثتني هذا البلاء الصريح
كم آدم أخرجت يا أمنا
من خلده، بعد أبينا الطليح
إلخ إلخ إلخ.
وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، كذلك أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون - في عالم الأدب - تمهيدا لما هو أقوى وأتم وأحفل. وليبن غيري القصور، فقد أضناني قطع الصخور، وتفتيت الوعور ...
شذوذ الأدباء
الناس متفقون على أن الأديب على العموم، والشاعر على الخصوص، صنو المجنون ونده وقريعه، وقد لا يقولون ذلك بألسنتهم ولكنهم يقولونه بسلوكهم نحوه، فهم يفترضون فيه الشذوذ عن المألوف ويتوقعونه ولا يستغربونه ويحملون كل ما يصدر عنه على هذا المحمل ويردونه إلى هذا الأصل عندهم، وليس في هذا إكبار منهم له، فإنه بسبيل من سلوكهم نحو صنوف الملتاثين الذين يطلقون عليهم وصف «المجاذيب» كلا الفريقين مقبول عندهم على التسامح والعطف والمرثية، ولو أن الناس رأوا رجلا يلبس ثيابه مقلوبة، أو يمشي على رأسه وقيل لهم إنه شاعر لاقتنعوا ولبطل العجب، كأن المشي على الرأس شيء يوائم الشاعرية أو هو مما تستلزمه حين يزخر عبابها ...
نامعلوم صفحہ
عرفني مرة أحد الإخوان باثنين من الأعيان كانا معه في مجلس ، فكان مما وصفني لهما به أني شاعر، فأبرقت أساريرهما، وغمر البشر وجهيهما واستغنيا عن «تشرفنا» واعتاضا منها «ما شاء الله» و«سبحان الفتاح» وأقبل علي أحدهما يربت لي ظهري ويمسحه لي بكف كمضرب الكرة ويقول: «أسمعنا شيئا» كأنما كنت مغنيا على الربابة، ولو أني كنته لاستحييت أن أجيبهما إلى ما طلبا على قارعة الطريق، ولشد ما خفت - وهما يلحان علي - أن يمد أحدهما يده إلي بقرش ...
وقد يتفق لي أن أكون مع جماعة من الإخوان فأفضي بالملاحظة أو الفكرة، أحسبني وفقت فيها وكشفت عن أستاذية وبراعة ودقة فلا أكاد أفرغ منها حتى أسمع من أحدهم أن هذا «خيال شاعر»، وليته مع ذلك يعني شيئا سوى الفوضى والهذيان، وقد أسكت وأشغل نفسي عنهم بشيء أفكر فيه فأنتبه على التغامز.
والبلاء والداء العياء أن المرء يتحرى أن يجعل سلوكه مطابقا - على أدق وجه - للعرف والعادة في كل صغيرة وكبيرة، فلا يرى أن هذا يزيده إلا شذوذا في رأيهم. كان هذا الشذوذ المفروض فيه يبيح لهم أن يشذوا هم معه. كنت ليلة مستغرقا في النوم - ولعلي كنت أغط أيضا. وإذا بالباب يقرع كأن الواقف به قد استقر عزمه على تحطيمه، ففزعت وقمت إلى النافذة أسأل عن هذا الطارق فقال: فلان. فحل العجب والحيرة محل الفزع، ولم يكن فلان هذا ممن أتوقع زيارتهم في النهار فضلا عن الليل، وفي الصيف فضلا عن الشتاء ببرده القارس ومطره المنهمر، وكانت الساعة الثانية بعد نصف الليل، فلولا دهشة المفاجأة ولجاجة الرغبة في الوقوف على سر هذه الزيارة المزعجة لقذفته من النافذة بكل ما في الغرفة من أحذية ومخدات، بل لفككت السرير وهشمت له رأسه بأعمدته، من النافذة أيضا. فقد كان فوق ذلك كله من أثقل خلق الله.
ونزلت إليه والمصباح في يدي، وفتحت الباب ووقفت في مدخله «حجر عثرة» في سبيله وبودي لو أستطيع أن أكون «حجر منية»، فجرى بيننا هذا الحديث:
هو :
ليلتك سعيدة.
أنا (مصححا) :
نهارك سعيد.
هو :
آه صحيح ... نهارك سعيد. هل كنت نائما ؟
نامعلوم صفحہ
أنا :
نائما؟ وماذا كنت تظنني فاعلا غير ذلك؟ أكنت تتوهم أنني هنا حارس؟
هو :
ها ها ... هأهأهأ ...
أنا :
ها ها؟؟ ماذا تعني بهاهاك هذه؟ ألا تشعر أن من واجبك أن تبين لي السبب في إزعاجي في ساعة كهذه؟ ألا ترى أن ها ها التي تملأ بها طباق الجو لا تكفي، وأن خيرا لك أن تضم فكيك قليلا وتتكلم بلغة مفهومة؟
هو :
لقد كنت أظن أنك ...
أنا :
كنت تظن ماذا؟
نامعلوم صفحہ
هو (وعلى وجهه ابتسامة جعلته كجمجمة الميت) :
لم يخطر لي والله أنك نائم.
أنا (بصوت هادئ ولهجة مرة) :
ولماذا بالله؟
فترك الجواب على هذا وقال: لست أستغرب أن تتركني واقفا بالباب في هذا البرد وإن كنت قد قطعت إليك أربعة كيلو مترات مشيا على قدمي، فإن لكم - معاشر الشعراء - لأطوارا وبدوات غير مأمونة.
فأطار صوابي تحميله إياي اللوم على ذنبه، ولم أعد أحفل أهو أقوى مني أم أضعف، فقبضت على عنقه وصحت به: لقد كان ينبغي أن تمشي إلى جهنم. وسأدفنك حيا إذا رأيتك هنا ليلا أو نهارا. أسمعت؟
ودفعته عني فانطلق يعدو كالقنبلة.
وثم من يراني أنسى شيئا أو أضعه في غير موضعه أو أهمل أمرا أو أطيل الصمت أو أفعل حتى ما يفعله الناس ... آكل أو أشرب أو أنام، إلا أحالوا علي الأدب وتخيلوا فيما أنا فاعل أو تارك شذوذا ملحوظا حتى ضقت ذرعا بهذه الحال وصار وكدي أن أقنع كل من يتيسر لي إقناعه أني لست بالأديب، وأن قرض الشعر لم يكن مني إلا لهوا وتسلية، وعسى أن أكون أفلحت فليس أمض للإنسان من أن يرى الناس يعدونه غير مسئول.
الصغار والكبار
قلت لابني عصر يوم، وفي نيتي أن أزجره زجرا قويا عن العبث بكل ما تصل إليه يده: «أتحب أن تخرج معي اليوم؟» وسبقته إلى الباب الخلفي المفضي إلى الصحراء، وقلما كنت أستصحبه لتعذر السير عليه في الرمال، فرمى الكرة ومضى يعدو خلفي ليلحق بي. فلما اطمأن بنا السير شرعت أستقصي معه ما يعلم وما يجهل وما ينبغي أن يعلم، وكانت خلاصة دفاعه - بألفاظي أنا لا بألفاظه هو - أنه يكلف العلم بأشياء عديدة يجد عسرا في فهمها وإدراكها، مضافا إلى ذلك أنه لا يدري كيف يمكن أن تعنيه هذه المعارف التي يطلب منه الإلمام بها؟! وأن كثيرا مما يشتهي أن يعرفه ويلذ له ويمنعه أن يحيط به، لا يجد من يدله عليه.
نامعلوم صفحہ
هذا فيما يتعلق بالعلوم والمعارف، أما من حيث السلوك والسيرة، فالمسألة أدق والمشكل أشد تعقدا، ذلك أنه لا يزال يلقن - في المدرسة وفي البيت - أن للخير والشر آثارا ونتائج تحيره جدا حين يتأملها أو يحاول أن يردها إلى أسبابها، مثال ذلك: أنه غافلنا مرة واقتطف من الكرمة عنقودا اضطره اقتطافه إلى المخاطرة بالتسلق، وأكله، ولم يكتمني أنه كذب حين سئل في ذلك فقال: إن العنب كان يثب إلى فمه. ومن العجيب - في رأيه هو - أنه كان في ذلك اليوم أصح وأنشط وأنه لم يصبه سوء ما، وأن الله لم يعاقبه لا على الكذب ولا على أكل العنب خلسة، ولا على الخطأ في كظ معدته وإدخال طعام على طعام. ولم أكن أتوقع من ابني هذه المحاضرة التي باغتني بها وعارض لي فيها الواقع بما في الكتب وما على ألسنة المربين، فحرت ولم أدر ماذا أقول له. وتحلل العزم على تأنيبه وألفيتني أفكر في الطفولة وطبيعتها، وفيما نمسخ به هذه الطبيعة بما نحاول من إكراهها عليه وصبها فيه، ثم تملكني روح العبث الذي أنكره عليه والذي كنت أهم أن أزجره عنه، فقعدت على الرمل وأقعدته أمامي وقلت له بعبارة أقرب من هذه إلى مستوى إدراكه: «اسمع. إني أفكر الآن في تأليف كتاب على نمط جديد، كتاب مدرسي ولكنه يخالف كل ما في المدارس من الكتب، كتاب لذيذ ممتع جدا، ولكني لا أستطيع أن أضعه وحدي، بل لا بد لي من معين، فما قولك في معاونتي؟ هل تقبل أن تشاركني في تأليف هذا الكتاب؟»
فنهض إلى ركبتيه وأقبل على وجهي يربت لي خدي بكفيه الصغيرتين ويسألني وهو يضحك : «يا بابا ماذا تقول؟»
أقول: «إني أريد - بمعونتك - أن نصلح هذه الدنيا التي نراها - أنا وأنت - مقلوبة.»
قال: «وكيف تفعل ذلك؟ وكيف أساعدك أنا؟ وماذا يسعني؟»
قلت: «يسعك شيء كثير جدا، فليس كونك صغيرا بمانع أن يكون لك عمل كبير. ولكن لا تربكني بكثرة الأسئلة، وخير لنا وأنجح لقصدنا أن نتقصى الموضوع على مهل. ويجب قبل كل شيء أن أكون واثقا من استعدادك لمعاونتي ومن أنك ستفكر تفكيرا جديا فيما يستقر عليه رأينا.»
فتعهد لي بذلك. فقلت له: «أليست شكواك أن الكبار من أمثالي ...» - «ليسوا من أمثالك يا بابا ...» - «حسن، أليست شكواك أن الكبار - غيري - لا يحسنون تعليم الصغار أمثالك؟»
قال: «نعم.»
قلت ماضيا في كلامي: «وأن الكبار يلزمون الصغار سلوكا يبدو للصغار غير معقول ويعاملونهم معاملة يمكن أن نسميها غير عادلة؟»
قال: «نعم. وأنا أقول لك لماذا ينبغي دائما أن أنام في الساعة الثامنة، لماذا لا يسمح لي بالسهر أحيانا مع الكبار إلى أن أحس بالحاجة إلى النوم؟ وإذا لم أنم كما تريد جدتي - حتى في النهار - فإنها تقول لي: إني ولد عنيد.»
قلت: «هذا صحيح، وإذا اتفق أن دار أمامك حديث وبدا لك أن تقول كلمة كغيرك من الجالسين، زعموا أن هذا منك قلة أدب وسوء سلوك، أليس كذلك؟»
نامعلوم صفحہ
فهز رأسه مرات وهو لا يستطيع النطق من الإغراق في الضحك ومضيت أنا في ملاحظاتي التي شاقته وأعجبته وأرضته فقلت: «وإذا رأوك تلعب بالكرة قالوا لك: إنك شقي وإن اللعب بالكرة غير محمود، وإذا سكت ولم تلعب ولم تتكلم، زعموا أنك سيئ الطبع، أو ادعوا أنك مريض وسقوك على كره منك ملء فنجان من زيت الخروع ...»
فقاطعني متمما لي ملاحظاتي: «وإذا كانوا يبحثون عن شيء ولا يجدونه ظنوا أني أنا الذي خبأته، ثم إذا وجدوه حيث وضعوه نسوا أنهم هم الذين فعلوا ذلك واتهموني أنا، وأجادلهم وأبين لهم أن لا دخل لي في ذلك كله، فيختمون حوارهم معي بأنهم تعبوا من الكلام معي كأني أنا لم أتعب أيضا من سماع كلامهم.»
فقلت بدوري مقاطعا: «وإذا كسروا قلة أو كوبا لم يسألوا عيونهم لماذا لم ترها؟ كأن عيونهم ليست مكلفة أن تبصر شيئا أبعد من أنوفهم، بل راحوا يتساءلون عمن وضع القلة هنا. كأن واضعها هو المسئول ...»
قال: «أما إذا كسرتها أنا فالويل لي من شيطان يجب أن يحبس في غرفته منفردا.»
قلت: «وإذا كلفوك أن تأتي بشيء ولم تجده لأنه ليس في المكان الذي بعثوا بك إليه، أو لأن شخصا نقله، فإنك تكون في رأيهم ولدا خائبا وغبيا لا يفهم.»
قال: «وأنا دائما المخطئ وهم أبدا على صواب حتى صرت واثقا أني لا يمكن أن أكون مصيبا في عمل أو قول، وهذا يحيرني جدا ويربكني يا بابا.»
قلت: «أظن الآن أن موضوع الكتاب صار واضحا ظاهر الحدود بين المعالم، وسنقلب فيه المسألة ونجعل الصغار هم العقلاء الحكماء الذين لا يخطئون أبدا، والكبار هم الأغبياء البلداء الذين لا يصيبون والذين يحتاجون إلى الرقابة والإرشاد والتأديب والزجر.»
فطار الغلام من الفرح، ووثب على رجليه وانهال علي تقبيلا وألح علي بالسؤال: «أصحيح ما تقول يا بابا؟»
قلت: «نعم. وسنسميه «المختار في تهذيب الكبار»، ونجعل الصغار هم الذين يبقون في البيت لتدبير شئونه، والكبار هم الذين يذهبون إلى المدرسة ونلبسهم ما يلبس التلاميذ والتلميذات الآن من البذلات القصيرة ونقص لجدتك شعرها ونخرجها في قبعة من قبعات البنات الصغيرة ونضع لها على صدرها «مريلة» ونبعث بها إلى المدرسة، وإذا لم تحفظ دروسها عاقبناها بالوقوف ووجهها إلى الحائط، وإذا أكثرت من اللعب حرمناها الحلوى، وإذا لم تنم في الساعة الثامنة عددناها سيئة الخلق عنيدة ولم نخرج بها للرياضة يوم الجمعة.»
قال: «ويجب أن نحرم عليها اللعب إلا مع لداتها من الجدات نظائرها، وإذا وجدناها تلاعب واحدة من الشواب عاقبناها بالحبس في غرفتها، وإذا جلست ساكتة أو لم تتناول طعامها بإقبال أنمناها في سريرها وجرعناها ملء كوب من زيت الخروع، وإذا كرهت طعمه أو تقززت من مذاقه قلنا لها: إنه يفيدها وإننا نحن نعرف ما يصلح لها وما لا يصلح، وإذا جلست معنا واشتركت في الحديث انتهرناها بنظرة، فإذا لم تكف أفهمناها أن الكبار لا يصح أن يقاطعوا الصغار ...»
نامعلوم صفحہ
قلت: «وإذا سألتنا - أعني إذا سألت الصغار - عن شيء نجهله قلنا لها: إن هذا الأمر لا تستطيعين فهمه وإدراكه الآن، والسيدة المهذبة يجب ألا تكثر من الأسئلة أو تحشر أصابعها فيما لا تفهم.»
قال: «وإذا أكلت من الشيكولاتة أكثر مما يوافقها لا نأخذها إلى السينما وحرمناها مناظر شارلي شابلن وأضرابه.»
ثم رفع إلي وجهه وقد بدت عليه أمارات التفكير الجدي وسألني: «ولكن هل نسمح لها بالاختلاط بالرجال وملاعبتهم؟»
قلت: «بقدر. وعلى أن يكون لنا - أعني للصغار - حق المراقبة والتدخل إذا وجدنا أن الضرورة تقتضي ذلك.»
قال: «والدروس التي نتلقاها الآن ألا يتغير منها شيء؟»
قلت: «أكثرها يبقى كما هو، ولكن الموضوع من كتب المطالعة والمحفوظات يتغير؛ لأنه في الأصل مجعول للأطفال، وهذا يعود بنا إلى مشروعنا، فإن الذي أفكر فيه وأريد منك أن تعينني عليه، هو كتاب يحتوي طائفة متخيرة من القصص والموضوعات يتعلم منها الكبار آداب السلوك وما لهم وما عليهم في الحياة، والواجبات المفروضة عليهم نحو الصغار أولياء أمورهم، ولذلك ينبغي أن يلغى من الكتب أمثال «سمير الأطفال» و«القراءة الرشيدة» للأطفال، فإنها جميعا لا تصلح لمشروعنا.»
قال: «ومن يؤلف هذه القصص؟»
قلت: «أنا وأنت، ولسنا نحتاج إلى تعب كبير؛ لأن الأمر لا يتطلب فيما أقدر إلا تحويرا قليلا يجعل القصة للكبار بدلا من الصغار.»
قال: «وهل نطبع الكتاب ونبيعه؟»
قلت: «ولم نتكلف وضعه إذا لم نطبعه ونبيعه؟»
نامعلوم صفحہ
قال: «وهل يشتريه الكبار ويقرءونه؟»
قلت: «إذا لم يفعلوا فإن في وسعي أن أوعز إلى نفر من أصدقائي بأن يحملوا في الصحف على الكتاب حملة عنيفة، وبأن يصفوه بأنه مخالف للآداب ومناف لكل ما درجت عليه الإنسانية، وهذا وحده كفيل بترويجه.»
قال: «وهل كل ما يخالف الآداب يطلبه الناس؟»
قلت: «لا أستطيع أن أقول: نعم أو لا، ولكن الذي أريد أن أقوله هو أن حب الاستطلاع يدفع الناس إلى طلب هذا الكتاب الفريد في بابه.»
قال: «وكيف تقرأه جدتي وهي أمية؟»
قلت: «إن الأمية الفاشية بين الكبار من أمثال جدتك مما يسوغ مشروعنا ويجعله ضروريا، أليس الواقع الآن في الأغلب والأعم أن الجهلاء هم الذين يتولون تربية المتعلمين أمثالنا أو توجيههم في الحياة واختيار ما يصلح لهم؟ والأمر ينبغي أن يكون على نقيض ذلك.»
قال: «ولكن إذا لم نحسن تدبير المنزل أو إذا لم تجد الصغيرات مثلا طهي الطعام وتذمر منه الكبار؟»
قلت: «لن يعوزنا كلام نسكتهم به كما يفعلون بنا الآن، وما علينا إلا أن نتهمهم بالبطر والتدلل القبيح ونزجرهم عن ذلك.»
فضحك وقال: «إنك ماهر جدا يا بابا، ولا بد أن يكون الكبار قد ضايقوك جدا في صغرك فأنت الآن تريد أن تنتقم منهم.»
ثم ألقى إلي نظرة خبيثة وهو يسأل: «هل كان أبوك ثقيلا يا بابا؟»
نامعلوم صفحہ
فتماسكت بجهد وسألته بدوري: «ثقيلا مثل من؟»
قال: «لا أعني مثل أحد ولكنه سؤال، فهل أخطأت فيه؟»
قلت: «كلا، ولم يكن أبي ثقيلا فيما أذكر، وعلى أنه لم تتح له معي فرصة كبيرة لذلك، فقد مات وأنا صغير.» •••
وهنا رأيت أن الأحزم أن نعود مخافة أن يسترسل في مثل هذه الأسئلة المحرجة، التي جرها علي التبسط معه في هذا الموضوع. والأطفال - كما يعرف ذلك من كابدهم - لا يستطيع المرء أن يتكهن بما يجري في رءوسهم أو يعرف ماذا يتوقع منهم، فإن لهم وثبات غير مأمونة.
فنهضت وطلبت منه أن يفكر في الموضوع، وبينما كنا عائدين سألني فجأة: «وأنت يا بابا هل نضعك مع الكبار أم مع الصغار؟»
فدفعت الباب ولم أحر نطقا.
الحقائق البارزة في حياتي
تمهيد: حدث منذ عامين، أو نحو ذلك ... أن حرمت الجريدة التي كنت أتولى رياسة التحرير فيها، حقا، ولا داعي هنا لبيان الموضوع فقد مضى أوانه، وليس هذا على كل حال محله، فكتبت على أثر ذلك مقالا قويا - أو لعل الأصح أن أقول: إنه عنيف - نقلته صحيفة فرنسية بفصه ونصه، وبعد يوم وجدت على مكتبي بطاقة «دكتور» يراسل صحيفة نمسوية وكلاما في ظهر البطاقة حسبته في أول الأمر ألمانيا، ثم قيل لي إنه فرنسي، ثم تبين أنه إنجليزي، فاقتنعت ولم أواصل البحث مخافة أن يتضح أنه عربي وأوجز فأقول: إني استقبلت الزميل الفاضل في مكتبي في الساعة التي اتفقنا عليها تليفونيا. ولم يتجاوز الفرق بين ما فهمته أنا وما فهمه هو أربع ساعات لا أكثر، فكنت أنا جالسا أمام مكتبي في الساعة الثالثة مساء ووافاني هو في الساعة السابعة مقدما بين يديه اعتذاره من حضوره قبل الموعد بنصف ساعة، ودار الحديث بيننا فأفضيت إليه بجواب ما أعتقد مخلصا أنه سألني عنه، وبإيضاح ما أشكل عليه فهمه من موضوع الخلاف السياسي ومواقف الأحزاب في ذلك الوقت وما إلى ذلك مما يتصل به من قريب أو بعيد، واعتقدت أن الأمر انتهى عند هذا الحد ولم يخالجني شك في أن الله أرحم من أن يبلوني بحديث آخر.
ولكن المقادير جرت - لسوء الحظ أو لحسنه - بغير ذلك، فعاد الدكتور الفاضل يرجو مني شيئا آخر لا أقل من أن أتفضل عليه بترجمتي أو تاريخ حياتي، وكان الدكتور أظرف وأكبر من أن أرفض له طلبا، ولكن تاريخ حياتي! ... تصور هذا؟ فأحلته أولا على ترجمة كنت قد كتبتها منذ سنوات تمهيدا لمختارات من شعري، وقد نشر ذلك كله في كتاب «شعراء العصر»، ولكنه اعتذر وقال إنه فهم من كلامي أن الترجمة مكتوبة باللغة العربية وأن الكتاب مطبوع في سوريا، ووقته أضيق من أن يسمح له بالسفر إلى ذلك القطر وإن كان لا شك عنده في أنه لو تيسر له السفر لألفى الترجمة التي أشير إليها وافية بالغرض، ثم تفضل فذكر لي أنه علم من بعض من اتصلت أسبابه بأسبابهم من المصريين أني من رجال المدرسة الحديثة في الأدب، وأن هذا هو الباعث له على الإلحاح علي في الرجاء أن أوافيه بترجمتي، فسرني هذا ورأيت فيه فرصة لانتشار اسمي إلى ما وراء مصر واستفاضة ذكري على ألسنة الغربيين. وتوقعت بعد أن أجيبه إلى سؤاله أن يتقدم إلي واحد أو اثنان أو ثلاثة من ناشري الكتب في أوروبا يطلبون السماح لهم بترجمة كتبي وإذاعتها في العالم الغربي، فلا يعود المازني بعد محتاجا إلى وظيفة ثقيلة مضنية كرياسة التحرير في صحيفة يومية. ففركت يدي مغتبطا وقلت له: إني طوع أمره ورهن مشيئته، ولكن بي حاجة إلى يوم أو يومين أجمع فيهما الحقائق البارزة وأحضرها إلى ذهني استعدادا للإجابة، وفي اليوم المعين تلاقينا فدار بيننا الحديث الآتي:
هو :
نامعلوم صفحہ
إني مستعد يا سيدي. تفضل.
أنا :
أرجو أن تغفر لي لهجة الزهو التي قد تحسها من كلامي، ولا شك أن التواضع فضيلة ولكن الحقيقة أسمى وأجل. أليس الأمر كذلك؟
هو :
بلا ريب.
أنا :
والحقيقة أني من بيت قديم عريق جدا يستطيع أن يحدثك عنه آلاف من الناس لو كلفت نفسك سؤالهم.
هو :
لا شك عندي في ذلك يا سيدي (وانحنى لي) .
أنا :
نامعلوم صفحہ
وأنتم - معشر الأجانب - تشمخون علينا بأنوفكم كأن بلادكم هي وحدها التي تعرف الأرستقراطية؛ لأن فيكم من يستطيع أن يعد عشرة أو عشرين من الجدود. ولعل أكثرهم كان من الفتاك وقطاع الطرق. فأنا في مقدوري أن أتلو عليك أسماء مئات من الجدود لا عشرة ولا عشرين ليس من بينهم إلا من هو مستفيض الذكر. ولن تجد أعتق من هذا النجار ولا أعرق من ذلك الفخار.
هو :
آه؟
أنا :
نعم يا سيدي، فإن جدي الأعلى رجل لا شك عندي في أنك سمعت به وقرأت عنه إن كنت قد قرأت شيئا. (فبدا عليه الاهتمام ورفع سن القلم عن الورقة ومنحني أذنه - واحترامه أيضا - وقال، وقد رأى سكوتي ريثما يتم أهبته: «إني مصغ.»)
أنا :
وهو لا أقل من آدم نفسه. (فوقع القلم من بين أصابعه وهوت يده إلى جانبه وخيل إلي لحظة أنه سيسقط عن كرسيه عجزا عن احتمال كل هذا المجد، وسرني أن أرى فعل كلامي في نفسه، ولكنها لم تكن سوى لحظة ثم نهض فجأة ومد إلي يده، فنهضت مثله ومددت له يدي وقد ظننت أنه سيستأذن، غير أنه خيب أملي وقال):
هو :
لي الشرف يا سيدي بأن أقول لك: إني أيضا أمت إلى هذا الشيخ الجليل بسبب، وتحقيقا لذلك أقول: إن جدتي العليا حواء فنحن إذن قريبان. (فهززت يده سرورا بهذه القربى، وقلت):
أنا :
نامعلوم صفحہ
لقد سهلت علي الأمر جدا فما أظن بك - وأنت غصن من هذه الدوحة الفينانة - إلا أنك تعرف كيف كانا في الجنة وماذا أخرجهما منها، وكيف قتل جدي قابيل جدي هابيل وإن كانت الكتب تقول إن أحدهما مات ولم يعقب ولدا، وأظن جدك القتيل، وغير ذلك من الحوادث البارزة التي لا تزال طبقة ترويها عن طبقة وجيل يتلقفها من جيل إلى يومنا هذا، فلنمض إلى من هم أقرب إلينا.
هو :
إن أسرتنا الكريمة أشهر من أن تحتاج إلى تعريف، فأرجو ألا تجشم نفسك ... (فلم يعجبني أن يحشر نفسه في أسرتي بعد أن أخرجته منها ونويت ألا أعده - فيما بيني وبين نفسي - إلا من سلالة معاتيق جدي قابيل، بيد أني كتمت هذا وقلت مقاطعا له):
أنا :
سأقتصر على واحد أو اثنين من مشاهير أجدادي الأقربين لتعرف من أية أيكة كريمة خرج هذا الفرع الذي يتشرف بأن تراه أمامك (انحناء منه ومني)
فمنهم: مالك بن الريب بن حوط المازني، وكان زعيما لقومه وبلغ من قوته وسطوته أنه كان ورفقاؤه - أعني أتباعه - يقطعون الطريق على رعايا الخليفة ويسومون الناس ما شاءوا، غير أن الخليفة لم يحتمل هذه المنافسة ولم يطق صبرا على هذا المزاحم فطلبه، وكان مالك قد رأى أن البلاد لم يبق بها ما يستحق أن يؤخذ فتركها للخليفة ومضى بثلته إلى فارس حيث لم يكف عن ركوب الناس بالأذى حتى أجرى الوالي عليه مبلغا شهريا، فلم توافقه هذه الحياة الوديعة فمات بعد الكف بقليل.
ومن مشاهيرهم: هلال بن الأسعر المازني، كان رجلا فيه فكاهة عملية وكان يحلو له أن يركب الناس بالدعاية، فكان يشحذ سيفه القديم ويخرج في الظلام فإذا مر به أحد شكه بالسيف في بطنه، فيثب ثم يقع على الأرض فيغرب جدي في الضحك ويذهب إليه ويلاطفه ويخفف عنه حمله، ألا لقد كان مفطورا على الفكاهة.
ومن أكرمهم أيضا: مسعود بن حرشة المازني، كان شديد العطف على الناس والمرثية لهم فعاش عمره لا عمل له إلا إراحة إخوانه في الإنسانية من الإبل ومما يحملون، ولكن حساد فضله وشوا به لعامل الخليفة فقطع له نصفه الأعلى وعلقه في مكان ظاهر في سوق كبير، وأتاح له بذلك أن يشرف على الناس ويتأملهم زمنا كافيا.
هو :
قد اقتنعت يا سيدي بأن فرعكم أنبل وأشرف، وبودي لو تسمحون لي بطائفة قليلة من الأسئلة عن شخصكم الكريم مخافة أن تنسوه في وسط هذا العباب الطامي من المجد التليد. (فلم أرتح إلى هذه المقاطعة التي لا شك عندي في أن الحسد هو المغري بها. كنت أريد أن أغمره بسيل من هذه الحقائق التي ترفع الرأس وتطيل القامة، غير أني قدرت أن الفرصة لم تضع، وأنها لا محالة سانحة، فقلت له: تفضل.)
نامعلوم صفحہ