صندوق الدنيا
صندوق الدنيا
اصناف
قلت: لست أقصد أن أكون وقحا، ولكن لشعرك رائحة طيبة فهل من بأس أن أشمه؟
قالت: كلا، لا تفعل.
قلت: لقد فعلت وانتهى الأمر.
وبعد قليل قلت: «هل تعلمين أن على وجهك وشعرك سبعة، ثمانية نجوم؟»
فابتسمت ولم ترد، فقلت ومددت إصبعي وأشرت به: «حقيقة. نجمان على شعرك، هنا وهنا، ونجم على جبينك هنا - ثلاثة - ونجم في كل عين - خمسة - ونجم على طرف أنفك - ستة - واثنان على فمك هنا وهنا - ثمانية نجوم - ليت معك مرآة! إذن لأريتك!»
فضحكت، وكنا قد صرنا على الأرض الناشفة فعدنا إلى وسط الطريق وسرنا، ولكن يدها بقيت في يدي، حتى بلغنا بيتها فشكرتني ودخلت.
ومنذ ذلك اليوم صار لهذه الفتاة تأثير في نفسي، لا أعرف له مشبها، ولم يخطر لي قط أنه راجع إلى أية عاطفة خارجة عن حياتي العادية، فكنت كلما رأيتها أشعر بشيء من الدهشة ويعاودني الحنين إلى شمها، أعني شم شعرها.
ولقد عرفت بعد ذلك فتيات كثيرات أجمل منها أو أفتن، ولكن أخطأت فيهن جميعا ذلك العبق الذي كانت تستريح إليه حواسي، والذي كان يفتر له جسمي، كانت تغيب عني أسبوعا وأسبوعين فأنساها، وإن كنت أحيانا أرى صورتها ماثلة في ذهني وفي أحلامي، وصرت أحب أن أراها وهي لا تراني؛ لأرنو إليها مطمئنا وأرى شفتيها الدقيقتين تفتران عن ابتسامة خفيفة، وأشتاق أن أساعدها وأحميها كما ساعدتها يوم تخطيت بها تلك الأرض المبللة، وأن أسمعها تشكرني كما شكرتني يومئذ.
وقلت على الأيام ملاعبتي للصبيان، وكثرت وقفاتي معها على بابها، ثم غابت أسابيع في قرية فيها بعض أقاربها، فشعرت بوحشة لا عهد لي بمثلها، وثقلت الحياة على كاهل صبري، فذهبت أنا أيضا إلى أقاربي وقضيت عندهم شهرا كان من أطيب ما مر بي وأحلى وأندى. ثم عدت ولقيتها مساء يوم على باب دارها كعادتها، وكانت مطرقة وفي يمناها عود من ثمر الحناء تقطع بيسراها أكمامه التي لم تنور، وتفركها بأصابعها وتدعها تسقط على الأرض، فدنوت منها وهي لا تحسني ووقفت برهة، ثم قلت بصوت خفيض مرتعش: «فيم تفكرين؟»
فلم ترفع عينها ولم تولني نظرة واحدة، وقالت وهي مطرقة وأصابعها لا تزال تعبث بما في يدها: «فيم أفكر؟ في مثل هذا، في النور الأصفر تحت أكمامه الخضر، في سحائب التراب على الطريق، في الأغيصان الصغيرة الخضراء النابتة على فروع الشجر، في الأطيار تلقط القش وخيوط الصوف التي ألقيها لها لتحملها بمناقيرها وتصنع منها أعشاشها، في ألوان الفجر على الأشجار والحقول الندية الملتمعة، في الأمساء الصافية الحالية بالنجوم المرتعشة في الغدران يترقرق فيها الماء حول قدمي المدلاتين.» ثم رفعت وجهها إلي وقالت: «في هذا أفكر.»
نامعلوم صفحہ