فتكتمت ضحكة بالعض على باطن شفتها وقالت: قليلا، أذكر أنني رأيت صواريخ مولد النبي مرة عندكم، ولكني لا أذكر ذلك الغرام.
فضحك وهو يطوح برأسه إلى الوراء في حركة خاصة مقلدا دون قصد أحد باشوات الحزب، وقال: ولا أحد يذكر، ولكن المرحوم والدي ضبطني مرة وأنا أحدق فيك بشغف وأخرى وأنا أقبلك! - لا! - نعم .. قبلة بريئة تناسب طفولتك. - لكنك لم تكن طفلا . - لكنك كنت طفلة! ما علينا، قال لي والدي عند ذلك: اجتهد وأنت تتزوجها، كن شابا لائقا بها وأنا أزوجك منها! فسألته عن مدى اللياقة المطلوبة، فقال لي: إن علي بك سليمان قريبه وحبيبه ولكن يجب أن تحوز القبول عند سوسن هانم، وهي غنية لا تهمها الثروة، ولكنها تريد لكريمتها شابا ناجحا، قاضيا مثلا، والحق أن كثيرين بهرهم صعودي السريع حتى صرت من كبار الموظفين، بل ومن رجال السياسة في هذه السن المبكرة، ولكن أحدا لم يفطن إلى البواعث الحقيقية وراء ذلك النشاط الفذ.
فبسطت بحركة رشيقة مروحة عاجية صغيرة، حتى تكشف صفحتها عن صورة بطة في الماء، وقالت في سخرية وديعة: هذا رغم أنك لم تزرنا طوال عشرة أعوام!
فقال جادا: لا تنسي أن والدك اختير مستشارا بعد ذلك، فعمل أعواما ما بين أسيوط والإسكندرية، ولا تنسي انغماسي في السياسة بعد ذلك.
فقالت وهي تبتسم في دلال: وكيف عرفت أن العشرة الأعوام لم تصنع مني شيئا رديئا؟ - قلبي! أنا أومن بشعور القلب، ولما رأيتك تضاعف إيماني به، وعليه فخطبتنا في ظاهرها تقليدية، ولكنها تطوي في أعماقها قصة حب، وإن يكن حبا من جانب واحد.
وهمست وهي تنظر بعيدا: على أي حال لم تعد كذلك!
ضم ذقنها بين أصابع يده، وأدار وجهها بلطف، ومال برأسه حتى تلاقت شفتاه المشوقتان بشفتيها الرقيقتين في نبضة متبادلة، وارتد وهو يبتسم في سعادة حقيقية، وراح ينظر إلى مجامع أصص الزهور في الفرندا بعينين غمرتهما العاطفة كما يغمر الضباب زجاج النافذة. والقصة بعد ذلك ليست اختلاقا على طول الخط، طالما أعجب بجمالها في ذلك العهد البعيد، وهو وإن لم يكن نسيها عشرة أعوام إلا أنه يحبها الآن حبا حقيقيا، فما الضير في سد الفجوة بكذبة بيضاء تشع حكمة وتضفي على علاقتهما جمالا ساحرا! ولكن المحبوبة لا تريد أن تنفصل عن أمها، كأن القابلة نسيت أن تقطع حبلها السري في حينه، وهو يتوجس من ذلك خيفة أحيانا، ويتطلع بإلحاح إلى اليوم الذي يتم له امتلاكها حقا، ونظرة الاسترشاد أو الاستئذان التي توليها إياها عند مقاطع الحديث تقلقه بعض الشيء، ولكن سعادته اكتسحت ذلك كله كما تكتسح الموجة العالية نفايات الساحل ثم تتركه أملس صافيا، وفقرها المدقع في تجارب الحياة العادية أسعده. ولعله تملق شعوره بالاستعلاء، كما لذه حنينها الدائم إلى الموسيقى واطلاعها الغني على الرحلات، وقال: حبك كنز ثمين لا يقدر بثمن، وعندما جئت لمقابلتك أول مرة سألت الله أن أقع من نفسك موقعا حسنا. - كنت أراك قبل ذلك في الصحف.
فقال بارتياح: لو توقعت ذلك في حينه لاستعددت استعدادا أكثر عناية للتصوير. - هذا لا يهم البتة، ولكن سمعت أيضا عن «شقاوتك» في السياسة.
فضحك مطوحا برأسه إلى الوراء مرة أخرى على طريقة ذلك الباشا، وقال: ترى ما رأيك في ذلك؟ .. أنا صديق عتيد لهراوات البوليس، وزنزانات الأقسام، والرفت، والمطاردة، ترى ما رأيك في ذلك؟!
فعضت باطن شفتيها مرة أخرى وقالت: بابا يقول ...
نامعلوم صفحہ