تصدير
مقدمة
شخصية الفاتح
تداعي الدولة البيزنطية
مدينة قسطنطين
قصة فتح القسطنطينية
عوامل النصر
موقف أوروبا إزاء سقوط القسطنطينية
فتوح الفاتح الأخرى
عصر الفاتح وتنظيماته
تصدير
مقدمة
شخصية الفاتح
تداعي الدولة البيزنطية
مدينة قسطنطين
قصة فتح القسطنطينية
عوامل النصر
موقف أوروبا إزاء سقوط القسطنطينية
فتوح الفاتح الأخرى
عصر الفاتح وتنظيماته
السلطان محمد الفاتح
السلطان محمد الفاتح
فاتح القسطنطينية
تأليف
محمد مصطفى صفوت
تصدير
السلطان محمد الثاني الفاتح
من أكبر الشخصيات التي تركت أثرا باقيا في حياة العالم لا نزال نلمسه إلى الوقت الحاضر شخصية السلطان محمد الثاني. وهذه الشخصية عظيمة لأنها حولت مجرى التاريخ الإسلامي والعالمي.
وإذا ذكر أعلام الإسلام في السياسة والحرب فمحمد الثاني العثماني بلا ريب في مقدمتهم، ومن أعاظمهم، فهو الذي بنى ملكا للأتراك ثابت الأركان، وهو الذي ثبت قدم الإسلام في أوروبا بالقضاء على العقبات التي تقف في طريقه. لقد وضع السلطان محمد الفاتح نهاية للدولة التي وقفت في سبيل الإسلام في أقوى أيام جبروته وعظمته، ومنعته من أن يسيطر سيطرة تامة على الشرق الأدنى، وعاقت تقدمه وانتشاره في شرقي أوروبا، وإذا كانت قبائل الفرنجة من الجرمان قد صمدت أمام غارات المسلمين في غربي أوروبا، فلقد وقفت الدولة الرومانية الشرقية أو البيزنطية أمام قوات الإسلام مدة تنيف على قرون سبعة. قابلت هذه الدولة نهايتها أمام قوات السلطان محمد الثاني حين استولى على عاصمتها وأعظم مدنها، بل وأعظم مدن العالم المسيحي في شرق أوروبا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.
ويعد عصر محمد الثاني من أقوى عصور الأتراك العثمانيين، ففيه تركزت النظم العثمانية وثبتت دعائمها، وفيه بدأ تقنين القوانين الذي سيبلغ شأوه في عهد السلطان سليمان القانوني. كان عهد محمد الفاتح عهد فتح وحرب وتنظيم، كما كان عهد أدب وفن وثقافة وعلم، فالسلطان الفاتح كان مجيدا لعدة لغات غير لغته التركية، مجيدا لقول الشعر، مغرما بالموسيقى، ونبغ في عهده في الأدب عدد لا يستهان به، فلقد كان يقول الشعر عدد من كبار رجال دولته، كما نبغ في العلوم الشرعية واللغوية عدد كبير من العلماء الأماثل.
ولقد حاول المؤلف في هذا الكتاب أن يصف حياة هذه الشخصية العظيمة وأن يلم إلمامة موجزة بالعصر وحوادثه.
ويقدر الكاتب كل التقدير فضل أستاذه المؤرخ الكبير حضرة صاحب العزة محمد شفيق غربال بك، فهو الذي وضع أساس هذه الدراسات في الجامعة، وهو مدين بالشكر الجم للمساعدة الحقيقية القيمة التي تفضل بتقديمها الأستاذ إبراهيم صبري مدرس اللغة التركية بجامعة فاروق الأول؛ فلقد زود الكاتب بكثير من المعلومات الطيبة، وترجم له النصوص التركية الشعرية والنثرية. ولا ينسى الكاتب كرم الأستاذ صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم حلمي القادري بالإسكندرية لتفضله بوضع مخطوطاته القيمة ومراجعه الثمينة في التاريخ العثماني تحت تصرفه، كما يشكر زميليه الأستاذين عبدالمحسن الحسيني وجمال الدين الشيال للمساعدة التي تفضلا بتقديمها له.
الإسكندرية في سنة 1948م
مقدمة
تضعضعت قوى الإسلام في الشرقين الأدنى والأوسط منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وأصبح الخليفة العباسي في بغداد - سليل المنصور وهارون الرشيد - لا حول له ولا طول، وتفككت الدولة الإسلامية وانحلت أمورها وتوالت عليها الكوارث من كل جانب.
ولكن بقي اسم العباسيين في بغداد رمزا لمجد قديم، وعز لا يبارى، وملك وارف الظلال، إلى أن زال ذلك الرمز وامحى ذلك العز نهائيا من على ضفاف دجلة والفرات حين قدم التتار إلى بغداد مدمرين مخربين، وجعلوا من دار السلام ومدينة المنصور وحاضرة العباسيين خرابا بلقعا، في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي.
زالت أعظم دولة إسلامية تنتسب إلى أصل عربي صميم، ودكت معالم حضارة ازدهرت فأفادت العالم أجمع، وضاع مجد لم تعرف له العراق مثيلا إلا في عهد الأكاسرة الساسانيين. •••
وفي الوقت الذي كانت فيه قوى الإسلام تنحل من الناحيتين السياسية والحربية وتوشك على الانهيار في الشرقين الأدنى والأوسط، كانت قوى الإسلام في الغرب في الأندلس تتلاشى رويدا رويدا أمام قوات المسيحية، فكان الإسلام وكانت دار الإسلام مهددين بخطرين عظيمين لا يبقيان من ناحيتين شرقية وغربية، من ناحية التتار ومن ناحية المسيحية، ولو اتفق الاثنان ووحدا قواتهما لقضي على الإسلام .
ولكن لحسن حظ الإسلام والعالم أن خصميه العتيدين في ذلك الوقت لم يتفقا، وإن كانا قد حاولا الاتفاق، ولم يحظ واحد منهما بنجاح حقيقي دائم، وإن كان قد ظهر للبشر جميعا في حين من الدهر أن قوة الإسلام ووحدته الدينية ستصبحان كأمس الدابر، لا سيما وأنه في ذلك الوقت الذي تحقق فيه العالم من ضعف الإسلام، هاجمت أوروبا ديار الإسلام بقوتها وزهرة شبانها وأقوى محاربيها ونوابغ فرسانها وكبار صليبييها. •••
كاد الإسلام يسقط أمام هذه القوات الثلاث التي هددته من كل جانب، ولكن ظهرت في الإسلام قوات فتية ذات حيوية فائقة ستنقذه، وتشيد مجده من جديد وترفع ذكره. هذه القوات الجديدة هي قوات الأتراك السلاجقة، وقوة مصر الإسلامية الأيوبية والمملوكية، وقوة المغرب الأقصى.
وكانت أقوى هذه القوات جميعا وأبقاها قوة الأتراك.
لقد أجلت قوة المغرب الأقصى زوال الإسلام من الأندلس (إسبانيا) مدة من الزمن، وأنقذت قوة الأتراك وقوة مصر الإسلام من الصليبيين ومن التتار، وإلى هاتين القوتين يرجع الفضل في إحياء الإسلام.
وقضت قوة الأتراك العثمانيين على آخر دولة مسيحية في الشرق الأدنى، وهي قوة الدولة البيزنطية على يد السلطان محمد الثاني باستيلائه على مدينة القسطنطينية، ولئن كان الإسلام قد خسر عاصمة عظيمة بسقوط بغداد على يد التتار، فلقد أقام السلطان محمد الفاتح عاصمة جديدة للإسلام في أعظم مدن المسيحية. •••
جدد الأتراك قوى الإسلام وأكسبوها حيوية جديدة من حدود الصين ووسط الهند إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وبحر الأرخبيل. لقد استطاع الأتراك فتح آسيا الصغرى لسلطان الإسلام السياسي والديني، وإن هجراتهم التي لم تكن تنقطع لمدة أربعة قرون من أواسط آسيا إلى غربيها هي التي صبغت هذه الأجزاء صبغة تركية وأكسبت الإسلام عناصر قوية نشيطة.
عرفت آسيا الصغرى غزوات للعرب وفتوحات من عهد الخلفاء الراشدين إلى قرب أواخر العصر العباسي، هذه الغزوات ما كانت تفتر، وكانت تتجدد كل عام تقريبا في كثير من الظروف. ولكن هذه الفتوحات كانت أشبه بمد وجزر من ناحية العرب ومن ناحية البيزنطيين، فطورا يتوغل العرب في آسيا الصغرى، وطورا يرتدون إلى حدود الجزيرة والعراق.
ولكن الأتراك السلاجقة وحدهم هم الذين استطاعوا تثبيت قدم الإسلام في آسيا الصغرى بعد أن ضربوا البيزنطيين ضربة حاسمة في موقعة منذكرت في القرن الحادي عشر الميلادي.
ومن ذلك الوقت بدأ الإسلام يتغلغل حقيقة في آسيا الصغرى على يد هؤلاء الأتراك السلاجقة ومن تبعهم من القبائل التركية، ولم تستطع كرات البيزنطيين المتكررة ولا هجمات الصليبيين العنيفة أن تزحزح الإسلام من قواعده في آسيا الصغرى بصفة دائمة، بل بالعكس انتشر الإسلام، ودخل عدد كبير من السكان في الدين الجديد أفواجا، بحيث لم يأت القرن الثالث عشر إلا وقد عم الإسلام وأصبح القوة المتفوقة في آسيا الصغرى، وعبر التجار والجنود المرتزقة من الأتراك إلى أوروبا، وإلى القسطنطينية ذاتها حيث شاهدوا أعظم مدينة على سواحل البحر الأبيض، وأجمل مدينة اختطها يد الإنسان تشرف على قارتين وبحرين، وبهرهم غناها وفخامتها وموقعها الممتاز، وودوا لو أصبحت المدينة الخالدة على ضفة البوسفور معقلا من معاقل الإسلام، عاصمة لملكه وملاذا لأهله. •••
ولكن السلجوقيين ما كانوا مستطيعين القيام بمثل هذه المهمة، وهي أعظم مهمة يستطيع الفاتحون بعد سقوط بغداد القيام بها. فالاستيلاء عليها معناه أكبر انتصار تستطيعه دولة، وسقوطها معناه القضاء على أمة وتحويل مجرى التاريخ العالمي وإحداث انقلاب بعيد الأثر في الحضارة.
وهم لا يستطيعون القيام بمهمة عجز العرب عنها في أقوى عهودهم وأعز أوقاتهم، وإن كانت قد أتيحت للسلجوقيين فرصة لم تتح للعرب من قبل، فالسلجوقيون كانوا مالكين لآسيا الصغرى مقيمين فيها قريبين من القسطنطينية، ولكن قربهم لم يفدهم شيئا، فانقسام دولتهم وتفرق كلمتهم وعدم توحيد جهودهم أضعف من نفوذهم، وجعل من بينهم في آخر الأمر دويلات وشيعا وأحزابا حلفاء للبيزنطيين أنفسهم تعمل في كثير من الأحيان على منافسة زميلاتها، بل والقضاء عليها.
ولكنه بالرغم من ذلك عاش الفرع السلجوقي الذي حكم آسيا الصغرى مدة ثلاثة قرون، استطاع فيها بشجاعته ومهارته السياسية الاستفادة من المنافسة التي قامت بشكل حاد بين البيزنطيين والصليبيين. لقد هزم الأتراك السلاجقة البيزنطيين والصليبيين مرارا، وأقاموا في آسيا الصغرى إلى أن هبطتها قبيلة تركية فارة أمام قوات التتار. كانت هذه القبيلة فئة قليلة تفرعت منها في فترة قصيرة من الزمن الدولة العثمانية.
ومبدأ ظهور الأتراك العثمانيين محوط بالخرافة وتتجمع حوله الأساطير، ويظهر فيه الغموض حتى كأنما هبطوا من السماء أو انشقت عنهم الأرض أو هوت بهم الريح من مكان سحيق. •••
لقد نشأ السلطان محمد الثاني الفاتح في دولة نهضت بسرعة، دولة قامت على أشلاء الدولة السلجوقية، وتفوقت لاختلاف الإمارات السلجوقية وتنازعها فيما بينها، دولة ساعدها موقعها الجغرافي وقربها من الحدود البيزنطية على القيام بالحرب المقدسة؛ فهوى إليها الأتراك من كل جانب، قامت الدولة في عهد عثمان وجعل الإسلام من أهلها ومن بقية الترك أمة موحدة، بل إن الإسلام هو الذي جعل من الترك والإغريق والمجريين والبلغار والألبانيين والصقالبة أمة واحدة، وجعل من كل هذه العناصر المختلفة قوة أصبح اسم آل عثمان لها رمزا وعقيدة.
أنشأ عثمان الشعب العثماني، وجعل أرخان من ذلك الشعب دولة تقوم على أسس إدارية وحربية وطيدة الأركان، وانتقل الجيش العثماني من نظام قبلي إلى نظام حربي ممتاز، والفضل في ذلك يرجع إلى أرخان وأخيه ووزيره علاء الدين، وفي عهد أرخان وضع العثمانيون أقدامهم في أوروبا، وثبتوا مراكزهم فيها حين افتتحوا أدرنة فأصبحت عاصمتهم إلى أن تم لهم الاستيلاء على القسطنطينية.
ولقد قام الأتراك العثمانيون بالفتح في آسيا الصغرى والبلقان معا، وكما أصبحوا أكبر قوة في آسيا الصغرى، صاروا أعظم دولة في البلقان بعد أن تمكن السلطان مراد الأول من كسر قوة الصرب والبلغار في موقعتي ماريتزا وقوصوه في أواخر القرن الرابع عشر، فوقع البلقان تحت أقدام العثمانيين، ولم تعد توجد فيه غير عناصر منحلة، هذا في الوقت الذي كانت تزداد فيه قوة الأتراك باستمرار الهجرة التركية من آسيا تدفعها حركات المغول. وبينا كانت الحالة مضطربة في دول البلقان المسيحية كانت توجد بين الأتراك روابط متينة: دين واحد، ونظام واحد، وغاية واحدة.
ولربما استطاع السلطان بايزيد الأول القضاء على الإمبراطورية لو امتاز بالتبصر وحسن السياسة، ولو لم يواته سوء الحظ بغزو التتار، فلقد لقب بالصاعقة يلدرم، لقد قضى بايزيد على بلغاريا نهائيا وفتح بلدانها الواحد بعد الآخر، كما تمكن من القضاء على قوة الصرب وإخضاع أجزاء من ألبانيا. ثم أعطى أوروبا درسا قاسيا إذا أرادت تحدي قوة العثمانيين، فلقد قضى على قوة التحالف الأوروبي الصليبي في موقعة نيكوبوليس، في أواخر القرن الرابع عشر.
وربما كان بايزيد مستطيعا فتح المدينة الخالدة لولا تردده وضعف أسطوله وعدم استكمال استعداداته ومجيء خطر التتار الداهم. لقد أرسل تيمور رسالته الشهيرة إلى بايزيد وهو يحاصر القسطنطينية؛ الأمر الذي دعاه إلى رفع الحصار عنها، وانهزم العثمانيون أمام التتار في موقعة أنقرة لتفريط بايزيد وسوء سياسته، واستقلت بعض الإمارات التركية مثل قرمان وأيدين وكرميان، وبدأت الدولة البيزنطية تنهض من محنتها.
ولكن حسن الحظ واتى العثمانيين، فلقد مل تيمورلنك الفتوح في آسيا الصغرى، ورجع إلى سمرقند، وفكر في فتح الصين ومات ولم يأسف عليه الإسلام، ولحسن حظ العثمانيين أيضا بالرغم من الحرب الأهلية التي قامت بين أبناء بايزيد استطاع أحدهم أخيرا وهو السلطان محمد الأول أن يوحد قوى العثمانيين، وأن يتبع سياسة السلام لتثبيت دعائم الدولة من جديد. ومن حسن حظ العثمانيين أن زاد عدد الأتراك الهاربين أمام جحافل المغول، فامتلأت بهم آسيا الصغرى وأملاك الدولة العثمانية في أوروبا، وانضم إليهم عدد كبير من أبناء المسيحيين البلقانيين، فازدادت قوة الدولة من الناحية الحربية بهذه العناصر الجديدة.
السلطان مراد الثاني وهو أبو الفاتح سيطر العثمانيون على آسيا الصغرى والبلقان، وانتصروا على البنادقة، واكتسحوا شبه جزيرة اليونان، وهزموا المجريين والألبانيين، وأصبح للعثمانيين التفوق في البلقان، وذهب نهائيا الخطر الأوروبي بعد موقعتي ورنه وقوصوه؛ فأصبح الأتراك في مأمن من ناحية الدانوب، وألزم الإمبراطور البيزنطي بدفع الجزية. ولم يبق من ممتلكات الدولة البيزنطية إلا القسطنطينية وضواحيها. فكان الاستيلاء على هذه المدينة مهمة أعظم سلاطين هذه الدولة، وهو السلطان محمد الثاني الذي سيلقب بالفاتح لفتحه هذه المدينة، وبالقانوني لتنظيمه القوانين العثمانية.
شخصية الفاتح
محمد الثاني من أقوى الشخصيات الممتازة التي تولت السلطنة العثمانية وأعظم معاصريه على وجه الإطلاق ومن أكبر شخصيات العالم.
تولى الإشراف على أمور الدولة العثمانية، وهو أعز ما يكون نضارة في الشباب وقوة في الجسم، تولى الملك وهو في الحادية والعشرين من عمره، ولد في 26 رجب سنة 833 هجرية/20 أبريل سنة 1429 ميلادية، ولا ريب أن هذه سن مبكرة لمن يتولى مهام الحكم الجسيمة لدولة عظيمة ناشئة كالدولة العثمانية. ولكن والده السلطان مراد الثاني كان قد اهتم بتربيته اهتماما خاصا، وأحسن اختيار من يقوم على تعليمه وتدريبه.
لقد تدرب محمد على أمور الملك عمليا قبل وفاة والده؛ فلقد تولى أمور السلطنة فعلا مرتين حينما آثر السلطان مراد الثاني اعتزال الملك والانصراف إلى حياة الراحة والإخلاد إلى السكينة. عرف محمد كيف يتحمل المسئولية في حياة أبيه، وعرف كيف يواجه مشاكل الدولة والحكومة، وخبر الرجال، وكشف مواطن الضعف في نفسه وعمل على معالجتها، ودرس نظم الدولة الداخلية وقدر مهمتها الخارجية ومشاكلها الدولية. ومما يروى أثناء توليه السلطنة في حياة أبيه أنه باشر أعمال الملك بنشاط وحماس، ولم يلتفت إلى آراء ذوي الخبرة ممن حوله من وزراء أبيه مما اضطرهم إلى شكواه إلى والده، فلقد بعث خليل باشا الصدر الأعظم إلى مراد بخطاب يقول فيه: «إن هذا السلطان لا زال صغيرا في السن وليس لديه اضطلاع بأمور الملك، وليست له التجربة الكافية، وخاصة في الأمور الحربية، ومما يزيد الحالة سوءا أنه لا يستمع لغير نفسه ويرفض تقبل النصائح التي تسدى له بدرجة أنك إذا لم ترجع إلى العرش سيصبح شعبنا في خطر عظيم.»
كان هذا درسا للسلطان الصغير لم ينسه طول حياته؛ فلقد عرف كيف يستمع لنصيحة والده، ويقدر من حوله وكيف يدرس الأمور بنفسه، وكيف يحسن سياستها، وينحني أمام العاصفة إلى أن تنتهي، عرف محمد كيف يضبط نفسه، وكيف يدرس خدامه وجنوده، ولا سيما الإنكشارية، فخبر اقتدارهم على الخير والشر، فاهتم بمسائل النظام أعظم اهتمام.
وجد محمد الثاني أبا له من أعظم سلاطين آل عثمان ، وكانت أمه مسيحية كما تقص رواية حياته، فامتزجت فيه أحسن صفات الشرق والغرب في ذلك الوقت، وإذا كان للوراثة والبيئة أثر مهم في حياة الإنسان وصفاته وأخلاقه؛ فلقد ورث عن أبيه الجلد والشجاعة وشدة المراس والصبر على المكاره وعدم اليأس، كما أخذ عنه المعرفة بأمور الحرب، والإتقان في وضع الخطط الحربية وحصار المدن وقيادة العمليات الحربية.
كان السلطان محمد الثاني قمحي اللون، متوسط الطول، متين العضلات، كبير الثقة بنفسه، ذا بصر ثاقب، وذكاء حاد، ومقدرة على تحمل المشاق، يحسن ركوب الخيل واستعمال السلاح. كان محبا للتفوق، ميالا للسيطرة، طموحا سريعا في فهم المواقف، يحسن معالجة الأمور، كبير اليقظة، يحيط بتفاصيل الأشياء ويدرك بسرعة أهم مواضعها.
علمه أبوه فأحسن تعليمه، فنشأ ذلك الرجل مثقفا ثقافة حقيقية كأحسن ما تكون ثقافة إنسانية شرقية في عصره، فلقد كان ملما بجملة لغات أجنبية، فكان يحسن إلى جانب لغته الأصلية التركية: العربية والفارسية والإغريقية، ويفهم الإيطالية، وكان بجانب إلمامه بهذه اللغات واسع الاطلاع في آدابها يتذوق الجميل منها.
نشأ مهتما بدراسة التاريخ مغرما بقراءة سير العظماء والأبطال، فقرأ بإمعان حياة القياصرة أوغسطس وقسطنطين الأكبر وتيودوسيوس الأكبر، وأعجب بشخصية الإسكندر الأكبر المقدوني أيما إعجاب، فلقد لمح فيها صورة من نفسه، رأى فيها قوة النفس وصحة العزم وسرعة التنفيذ بعد إحكام الخطة وعدم التردد. كان ذهنه كذهن الإسكندر من قبله مملوءا بالمشاريع، مكتظا بالخطط، وكان عقله خزانة لأسراره فهو يحتفظ بها، يكتمها ولا يعلن بها إلى أحد إلا في الوقت المناسب حينما يقدم على تنفيذها.
كان محمد الثاني يحب الفنون لا سيما الموسيقى والرسم، ويتذوق الأدب ويحفظ الشعر الجميل ويقوله، ويهتم بدراسة الفلك، وكان يحسن استغلال دراساته في تقويم نفسه وإصلاح عقله والتأثير على المحيطين به.
ولكن حياته كانت حب الحرب فاضطلع بفنونها أيما اضطلاع، وما كان يعلم بأي اختراع حربي إلا ويكون السباق إلى معرفته واستكماله والاستفادة منه، ومن ذلك اهتمامه الكبير بالمدفعية وبالبحرية.
كانت حياته بسيطة لا تعدو القراءة والتدرب على الحرب ثم الصيد ، كان عدوا للترف، منصرفا عن حياة إرضاء الشهوات، كانت عاداته غير معقدة، ومائدته بسيطة، ولم يكن له ندماء ولا محظيات بالمعنى الذي يفهمه سلاطين ذلك العصر الماضي وملوكه، فعاش وحيدا بعيدا عن الاختلاط المبتذل في جو كله هدوء، كله ثقافة وعلم، أو جو صاخب هو جو الهيجاء والنزال والنضال والحرب.
عاش محمد الثاني في جو ساد العالم فيه خشونة وقسوة، في وقت كله حماس ديني وتعصب في آسيا وأوروبا، فلقد دام النضال بين المسيحية والإسلام مدة طويلة زادت فيها الأحقاد وهبطت إلى أعماق النفوس فغذت روح البغض وحب التشفي والانتقام. ولذا ظهر في بعض تصرفات السلطان الفاتح بعض الشدة والعنف، وإن كان ذلك بخلاف والده الذي كان دائما رقيق الجانب مشهورا بالعطف والرحمة وحب العفو. وربما لم تكن هذه الشدة وذلك العنف في طبيعة السلطان محمد الثاني، فهو رجل قد سمت نفسيته وانصقل ذوقه واتسع أفقه، ولكن العصر - كما قلنا - كان عصرا قاسيا وغير رحيم.
فإذا كان قد ظهر أثناء فتوحات هذا السلطان بعض العنف، فربما كان وليد ذلك العصر الذي تحمس فيه المسلمون للجهاد والتوسع والفتح، وتحمس فيه المسيحيون لدينهم وناضلوا نضال المستميت للدفاع عن حرياتهم، واشتد ذلك الصراع والنضال بين الفريقين إلى درجة تلاشى معها العطف والعفو بين الفريقين.
حبا الله ذلك السلطان المواهب الممتازة والمقدرات العظيمة؛ فهو سياسي بعيد النظر يحسن انتهاز الفرص، وكرجل من رجال الحرب هو من الطراز الأول لا يدانيه أحد في عصره.
كان السلطان محمد الثاني يهتم اهتماما خاصا باختيار من يعاونونه في الإدارة والحكم، وهو لا ينظر في ذلك إلى الهوى الشخصي وإنما ينظر إلى المصلحة قبل كل شيء، وكان يرى بنفسه أن أوامره تنفذ بكل دقة.
ولم يكن ممتازا في الناحيتين الثقافية والعسكرية فحسب، فكانت كفايته الإدارية والقانونية عظيمة، فلقد أنشأ دولة عظيمة، وبنى ملكا كبيرا، وقضى على دولة كانت في يوم من الأيام لا تقهر، فلا بد إذن من وضع تنظيم جديد وإصدار قوانين جديدة تتناسب ودولته المجيدة، فمحمد الثاني هو الذي وطد دعائم الملك العثماني في داخل إمبراطوريته الكبيرة، فاكتسب للعثمانيين النصر الخارجي وقنن لهم القوانين، وعمل على استقرار الحالة الداخلية.
لقد ادعى مؤرخو عصر الفاتح من الأجانب أنه لم يكن كبير التعلق بالدين، وقالوا إن ذلك نتيجة طبيعية لثقافته الواسعة والظروف التي قامت فيها دولته، ويدللون على ذلك بتسامحه مع الكنيسة الإغريقية. وهذه الدعوى باطلة من أساسها؛ فالحوادث تظهره شديد التمسك بالدين، عظيم الإكرام لأهله، كريم الخلق، شديد التواضع لله، دائم الحمد له، وإذا كان قد أظهر التسامح مع الكنيسة الإغريقية فهذا لا ينقص من تدينه، ولا يتعارض مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف. ومن المعروف عن السلطان الفاتح أنه كان ينظر إلى الأمور بعين السياسي القدير المتسامح لا المتعصب الضيق الأفق، ومهما يكن من شيء فإن أعمال الفاتح وفتوحاته ومجهوداته كانت كلها في سبيل رفعة الإسلام والسمو بمركزه، ووفق في ذلك توفيقا نادر المثال، وكان أعظم أعماله القضاء على الدولة البيزنطية وفتح مدينة القسطنطينية.
تداعي الدولة البيزنطية
لقد كانت الإمبراطورية البيزنطية التي عرفها العثمانيون واحتكوا بها جزءا من الإمبراطورية الرومانية الشرقية السابقة، كانت دولة قد سيطر البنادقة والجنويون على حياتها الاقتصادية، وكانت كثيرا ما تقع فريسة لعدوانهما وأطماعهما. وكثيرا ما وجدت نفسها حائرة بينهما، إذا صادقت فريقا اعتدى عليها الفريق الآخر.
عمرت الدولة البيزنطية أو الدولة الإغريقية نحو ألف عام، قاست في خلالها من المحن والأهوال ما لم تقاسه دولة أخرى، وداهمتها خطوب لو أنها داهمت دولة غيرها لقضت عليها قضاء مبرما، ومرت في أزمات داخلية وخارجية عظيمة، وأدت للمسيحية ولأوروبا المسيحية خدمات جليلة تكل تحت عبئها أعظم الدول وأقواها.
ولكن الدول كالأفراد تماما لها صباها ولها شبابها، ولها كهولتها وهرمها؛ ففي القرن الرابع عشر الميلادي أخذ الهرم والهزال والسقم يدب حقيقة في جسمها، فشلت قوتها، ونالها الاضمحلال فأوشكت على الانهيار، هذا في الوقت الذي كانت فيه نظم الأتراك العثمانيين تزداد كل يوم إحكاما وقوة، وتسعى للحياة والعظمة ثابتة متفوقة ...
سيطر في هذه الدولة نظام الملكية الإمبراطورية، وهي ملكية مستبدة مقدسة ليس لسلطتها حد، فهي مستمدة من الله مباشرة كما كان يعتقد في ذلك الوقت. فالإمبراطور ملك وقسيس معا؛ فهو إذن فوق القانون، وهو رأس الهيئة التنفيذية، وفي يده تتركز السلطة التشريعية، وهو يشرف على الإدارة ويحكم الكنيسة كما يحكم الدولة.
وتمتع الإمبراطور البيزنطي في ظل ملك ثابت الأوتاد بفخامة وعظمة لا مزيد عليهما، ورأى من أيام المجد ما لم يدانه إلا أيام البؤس، فكانت الثورات كثيرا ما تقوم عليه حتى من أفراد عائلته، بل من أولاده وإخوته فتقضي على قوته وتنزع ملكه، فمات عدد كبير من الأباطرة غدرا، أو هلكوا في ميادين القتال وهم يعملون على قمع ثورات هاجت عليهم.
في الملكية المستبدة يعتمد كل شيء في الدولة على ميول الحاكم وهواه وشخصيته إن كانت ضعيفة أو قوية، خيرة أو شريرة، صريحة أو ماكرة معوجة، وعلى خبرته في الحياة وفي الحكومة، في مثل هذه الملكية يصبح قصر الحاكم مقر الدولة الحقيقي ومركز كل شيء، ومصدر كل سلطة، وفيه توضع المشاريع والخطط، فتنشأ الدسائس وتدور المؤامرات. ففي ذلك البلاط البيزنطي الممتلئ بذوي الأطماع وذوي الأحقاد والحافل بالرقيق المجلوب من كل مكان وبالنساء والموظفين، كثرت الدسائس، وفكر كل شخص في نفسه قبل كل شيء، وتتابع سقوط الوزراء ونبغ ذوو الشخصيات القوية أو من يستطيعون التقرب والزلفى والتقلب مع الزمن.
والواقع أن تاريخ الإمبراطورية البيزنطية مملوء بالثورات والفتن والانقلابات السياسية. وبالرغم من أن النساء حجزن وراء الأسوار والحيطان فقد لعبن دورا مهما في حياة هذه الدولة المديدة الأجل، ومن قرأ التاريخ البيزنطي ولم يذكر اسم تيودورا أو إيرين؟!
وتجمعت مزدحمة حول الإمبراطور أرستقراطية قوية تحل في كثير من الوظائف الهامة في الدولة، وتتمتع بجانب كبير من الجاه والثروة والنفوذ، وتهتم بالمأكل الغذي المتنوع والملبس المترف، وتركن إلى حياة الملذات والشهوات.
قامت إدارة الإمبراطورية في الأصل على أساس نظم حربية، فالبيزنطيون يعتبرون أن قيمة الجيش للدولة كقيمة الرأس بالنسبة للجسم؛ ولذا كان الاهتمام به دائما عظيما، وكلما كان الجيش قويا ومنظما طالت حياة الإمبراطورية ونعمت بمركز قوي في أوروبا وآسيا، واستطاعت أن ترد أعداءها على أعقابهم خاسرين.
وكانت الإمبراطورية تجند في مبدأ الأمر أهالي البلاد، وبجانب هذا لجأت إلى استخدام الجنود المرتزقة لثقتها فيهم؛ فلقد كانوا محترفين للحرب ولهم دراية بفنها، ثم هم أقوى أجساما وأصلب عودا من الأهالي وأقدر على تحمل الصعاب والمكاره، وكان الإمبراطور عادة كريما في معاملتهم، لا يضن عليهم بالمال، بل ويمنحهم الأراضي الكثيرة وجعلها وراثية في أبنائهم من بعدهم.
وتبعا لذلك النظام كان الجيش خليطا من شعوب مختلفة عديدة، مكونا من عناصر غريبة لا يجمع بينها سوى حب المال والثراء والمغامرة، وفي كثير من الأحيان حب السلب والنهب والغنائم، فكانت هذه العناصر متباينة من حيث الميول والجنس واللغة والدين، ففيه الأوروبيون والآسيويون، وفيه القوط والهون والصقالبة، والترك والعرب، والإسبان والإيطاليون، والألمان ورجال الشمال من روسيا واسكنديناوه.
لقد كان لهذه الجنود أحياء خاصة في القسطنطينية تكاد تكون مستقلة، وكان لا بد لهم من قيادة حازمة قوية تستطيع كبح جماحهم وإيقافهم عند حدهم، وحين مس الدولة العجز في هاتين الناحيتين قاست الدولة من هؤلاء المرتزقة الأمرين، فكانوا أخطر الناس على حياتها ونظمها من الأعداء الخارجيين؛ إذ كانوا أدرى من غيرهم بمواطن الضعف في الدولة.
أما من حيث القوة البحرية، فلقد كانت الدولة البيزنطية - بحكم موقعها الجغرافي وإرثها التاريخي - دولة بحرية ممتازة. وإلى القرن الثامن كان أسطولها من القوة بحيث استطاعت الأشراف على البحار الشرقية حينا من الدهر طويلا. وإلى الأسطول يرجع الفضل في إنقاذ حياة الدولة مرارا. ثم أهمل الأسطول نسبيا فترة من الزمن؛ أولا: لأن الحرب مع الخلافة العباسية - أكبر أعداء بيزنطة - كانت حربا برية قبل كل شيء، ثانيا: لخشية الأباطرة ازدياد قوة رجال الأسطول إلى درجة يخاف منها على الإمبراطورية نفسها. ومن هنا كانت الدولة البيزنطية عاجزة عن المحافظة على جزر الأرخبيل اليوناني من غارات المسلمين حين سيطر هؤلاء على جزيرة كريت ثم على جزيرة صقلية.
وفي نهاية القرن التاسع الميلادي عاد للدولة رشدها فقررت إعادة تنظيم الأسطول، وبهذا أصبحت أول قوة بحرية في البحر الأبيض المتوسط، واستمر ذلك التفوق غير منازع إلى أوائل القرن الثاني عشر ثم عاد إلى الدولة الضعف في هذه الناحية بصفة خاصة حين فتح الأتراك السلاجقة معظم آسيا الصغرى، فحرمت بيزنطة من هذه المناطق البحرية التي كانت تجلب منها أحسن بحارتها؛ ولذا اعتمدت على بحريات الدول الأخرى، مثل بيزا والبندقية وجنوة، وأهملت تماما الإنشاء البحري، بل واعتبرت الأسطول مجرد مضيعة للوقت والمال.
ولم تعد للملكية الإمبراطورية في العهد الأخير هيبتها ولا مقدرتها على الإدارة والحكم. ولم تكن الأمور بمستقرة للإمبراطور البيزنطي في داخل الدولة، ولم تكن ظروفه الخارجية بأحسن حالا؛ فلقد تعددت الثورات السياسية العنيفة، وقام على العرش نزاع يكاد يكون مستمرا بين أفراد العائلة الإمبراطورية، واستعان كل مطالب بالعرش بالفرق والأحزاب المختلفة، بل وبالعناصر الأجنبية من الجنسيات المتباينة المحيطة بالدولة، واستخدم كل منهم الجنود المرتزقة واعتصم بأعداء الدولة، وتدخلت الجمهوريات الإيطالية لصالحها الخاص، كما تدخل الكتلان والإمارات التركية المبعثرة في الأناضول.
تدخلت كل هذه العناصر تنصر فريقا على فريق وتقوم بالسلب والنهب إذا سنحت لها الفرص؛ فتخربت أراضي الدولة مما فت في عضد الإمبراطورية وألحق بها الضعف الذي أنهك قواها ولم تجد منه برءا.
كذلك لم يكن استخدام الجنود المرتزقة في آخر الأمر في مصلحة الإمبراطورية، فهؤلاء جنود غرباء لا تربطهم بالوطن البيزنطي ولا بأهالي الدولة وشائج القرابة والنسب، ولم يدفعهم لخدمة الدولة سوى رغبة واحدة هي الكسب المادي؛ ولذا فهم لا يرعون إلا ولا ذماما، ولذا فهم مستعدون في كل لحظة للثورة وللانضمام إلى أعداء الدولة إذا لم تستطع بيزنطة إجابة مطالبهم التي لم تكن تنتهي. أصبح هؤلاء الجنود خطرا وبيلا على الدولة، فاستولوا على مدنها وخربوا قراها. لقد نهب المرتزقة من الأتراك مرة سرادق الإمبراطور نفسه حين فكر في التخلص منهم.
ثم إن فقدان الدولة البيزنطية اهتمامها بالبحرية جعلها تحت رحمة البنادقة والجنويين الذين لم يكونوا مخلصين لغير مصالحهم المادية، بل انتهزوا كل فرصة للنيل من هذه الدولة المنحلة وانتزاع الامتيازات منها والانتقاص من حقوقها، فأشرفت الدولة على الإفلاس المادي، ولو تمكنت الدولة من المحافظة على تفوقها البحري لما استطاع الأتراك العبور بسهولة إلى الشواطئ الأوروبية أو تثبيت أقدامهم فيها. •••
ومن أهم العوامل التي زادت في ضعف الدولة البيزنطية نمو دولتي الصرب والبلغار وتقلص ممتلكات الدولة في البلقان على أيديهم.
ولم يستطع هؤلاء الصرب أو البلغار بعد أن قضوا على الملك البيزنطي في البلقان أن يقفوا متحدين أمام الهجوم العثماني. وفي نفس الوقت الذي وضع فيه الأتراك العثمانيون أقدامهم في جاليبولي، كان على الدولة البيزنطية التي حاقت بها النكبات من كل جانب أن تصد هجمات إخوانها في المسيحية الصرب والبلغار ثم إغارات التتار. لقد حاولت الدولة البيزنطية محاولة اليائس أن تضم صقالبة البلقان إلى جانبها لتكون جبهة متحدة متراصة لمقاومة العثمانيين وطردهم من الأقطار الأوروبية التي احتلوها، ولكن مساعيها ذهبت هباء منثورا، فما كانت رغبة صقالبة البلقان في دمار بيزنطة لتقل عن رغبة الأتراك العثمانيين.
ويضاف إلى انحلال النظم وضعف الحكومة سوء سياسة الدولة من الناحية الخارجية، فكان أمامها فرص ثمينة لو انتهزتها وساعدها الحظ لاتقت شر الأتراك إلى حين. ولم تستفد الدولة من انقسام الأتراك على أنفسهم في مبدأ حياتهم، بل تدخلت تنصر فريقا على فريق، ولم تتركهم يحاربون مواقعهم بأنفسهم، لم تحاول بيزنطة الاتفاق مع التتار في الوقت الذي تداعت فيه أمامهم قوات العثمانيين، بل من الغريب حقا أن تتفق مع فريق من العثمانيين لتثبيت دعائم ملكه وتقوية سلطانه.
كذلك لم تعمل الدولة مخلصة على توثيق صلاتها بالغرب الأوروبي بترددها في الاعتراف بتفوق رومة، فلقد كان فريق كبير من سكانها يفضل سيطرة السلطان العثماني على سيطرة البابا. كان عزيزا على بيزنطة أن تقبل راضية سيطرة رومة. لقد قبل الإمبراطور قسطنطين اتحاد الكنيستين في آخر الأمر، واحتفل بذلك في كنيسة سانت صوفيا، ولكن بعد فوات الوقت، وحين انتهى أجل الدولة فلم تستطع أن تستقدم ساعة أو تستأخر.
ثم توالت الظروف السيئة على الدولة فتضرعت للغرب الكاثوليكي وقبلت شروطه ، ولكن الغرب لم يقدم لها المساعدة الكافية ولا التأييد الخالص في محنتها العظيمة. بل إن الجنويين تعهدوا للسلطان مراد الثاني بنقل ستين ألفا من جنوده إلى الشاطئ الأوروبي.
وما كانت الفوضى في الإدارة والحكم لتعمل على انتشار الأمن واستتباب النظام في أجزاء الدولة الباقية، بل لقد دعتها الحروب المستمرة إلى الإمعان في فرض الضرائب الفادحة؛ مما دعا السكان إلى التذمر وتفضيل الحكم العثماني حيث يستطيعون أن يتمتعوا في ظله بالهدوء والسكينة والعدالة.
ومما أنهك الدولة وامتص حيويتها كفاحها الطويل المستمر أمام أعداء أشداء غلاظ كثيرين لا يعصون أطماعهم ما أمرتهم، فمن قبائل جرمانية إلى جموع صقلية إلى خصوم من الآلان والأفار والهون والتتار والبلغاريين، إلى غزوات العرب والصليبيين والبنادقة والجنويين إلى هجمات الأتراك التي لم تكن تنقطع، وكل هؤلاء كانوا لا يرومون إلا دمار الدولة والقضاء عليها والاستيلاء على عاصمتها إلى أن كلت نهائيا، وساءت حالتها المالية وفقدت معظم بلادها وخسرت قومها ورجالها وسقطت في آخر الأمر صريعة الظروف أمام الغزو العثماني العنيف المنتصر.
ولكن إذا كانت الدولة البيزنطية ضعيفة مفككة، فلقد ظلت عاصمتها مدينة قسطنطين، تحتفظ بجانب كبير من رونقها وبهائها.
مدينة قسطنطين
عمرت مدينة القسطنطينية ألف عام بعد أن بناها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأكبر بتوسيع بيزنطة المدينة الإغريقية القديمة، ولقد اختار قسطنطين عاصمته الجديدة في مكان منيع يصعب الدنو منه ويسهل الدفاع عنه. وأصبحت رومة الجديدة - كما كان يطلق على القسطنطينية - حاضرة دولة عظيمة، ومركز حضارة سامية، ورمزا لرقي باهر، ومصباحا وهاجا امتد نوره إلى الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، فترك فيهما آثارا جليلة باقية، وكانت مصدرا لا ينضب لإلهام ولوحي جديد في الغرب كما كانت مصدرا للإعجاب والتقدير في الشرق.
لقد كانت هذه الحاضرة ناضرة مضيئة في وسط الظلام الحالك الذي كان يغمر العصور الوسطى في معظم أجزاء أوروبا ما عدا إسبانيا الإسلامية.
كانت القسطنطينية مركز الذوق والفن والجمال والتفكير في كل أنحاء أوروبا المسيحية ولم تكن مجرد ناقلة للحضارة الإغريقية القديمة؛ فهي مدينة امتازت باتصالات مستمرة وثيقة بالشرق والغرب معا، ففيها تقابلت الهلينية الإغريقية بالمسيحية الشرقية فكونت حضارة بيزنطية، تأثرت بالشرق الفارسي ثم الإسلامي وانتفعت بحضارته وتركت أثرا واضحا في حياته.
كانت القسطنطينية عاصمة للدولة البيزنطية، ورمز حضارتها، ومركز ثقافتها، وعنوان تمدينها، وقلبها النابض، وعقلها المفكر.
كانت القسطنطينية محط أنظار العالم الشرقي والغربي بأجمعه لمدة ألف عام، هذه المدينة «المحروسة» الضخمة العظيمة الزاهرة، باريس العصور الوسطى وموطن العلم والفن واللذة والقداسة. هذه المدينة بجمال موقعها حيث يتقابل الشرق والغرب، البر والبحر، بجوها المعتدل الصحي، وبمينائها المحمية، هذه المدينة العظيمة بميادينها العامة المتسعة وبواباتها، وتماثيلها المبثوثة في كل مكان، وعظيمة بكنائسها الفخمة المتعددة وأسواقها التي لا تقف حركتها، وملاعبها وحماماتها، هذه المدينة الشهيرة بحصونها المنيعة ومعاقلها المشيدة وقفت أمام البرابرة من هون وأفار وبلغار وروس وصقالبة، وحالت أمام آمال الغزاة والفاتحين من فرس وعرب وترك.
هذه المدينة كان يقصدها الناس من أقصى جهات أوروبا، ويتغنى بها الروسي على ضفاف أنهاره، ويردد ذكرها الأوروبي، ويطمع في الاستحواذ عليها الشرقي.
هذه المدينة الخالدة بنيت على تلال سبعة تشرف على شواطئ أوروبا وآسيا، وتنحدر بجمال وروعة إلى بحر مرمرة، وعلى انحدارات هذه التلال لمعت القصور الإمبراطورية.
أم هذه المدينة الناس من كل جانب، وسكنتها أجناس مختلفة، فوصل عدد سكانها في أوج عظمتها المسيحية إلى المليون.
ففيها الإغريق سكان المدينة الأصليين، وفيها الأجانب، فمن آسيويين بلحاهم الممتدة اللامعة وشعورهم السوداء، إلى بلغاريين برءوسهم المحلوقة وسلاسلهم التي تمنطقوا بها، إلى روسيين بملابسهم الفرائية الثمينة، إلى اسكندناويين بوجوههم البيضاء وشعورهم الذهبية المتموجة، إلى أرمينيين وصقالبة، ازدحم فيها الناس من كل جانب وغشيها التجار من كل صوب، المسيحيون منهم والمسلمون فازدحم البنادقة إلى جانب الجنويين والإسبان والفرنسيين والمسلمين من بغداد وسوريا.
ويرى الناظر فيها الجنود المرتزقة بأشكالها المخيفة وصلابتها وخشونتها تسير في الميادين والشوارع الممتدة، من فرنسيين وصقالبة وجرمان وإيطاليين وإسبان، فاختلطت فيها الأديان وتعددت اللغات واختلفت وتباينت المشاعر والإحساسات.
عاشت هذه الأجناس الغريبة فيها جنبا إلى جنب كجاليات أجنبية، بعضها قوي عديد والبعض منزو قليل، عاش البعض في أحياء مستقلة، وتمتعت بعض هذه الجاليات بامتيازات كبيرة فلم تخضع لقوانين البلاد الأصلية ولا لتقاليدها.
وكانت حياة الأرستقراطية في المدينة حياة الأبهة والترف فرفلت في ملابس الحرير يحليها الذهب، وتبخترت على جيادها الفخمة المنتقاة واشتركت في الدسائس وقامت بالثورات.
كانت القسطنطينية في أوروبا مدينة الدنيا والدين؛ فإلى جانب فخامة البلاط الإمبراطوري وقصور النبلاء الجميلة وملاهي الهبودروم والملاعب المكتظة باللاعبين والنظارة، كانت عظمة الاحتفالات الدينية وأبهتها، فلله كانت كنيسة سانت صوفيا، وللدنيا وللهو كانت الملاعب، وحول هذه جميعها دارت الحياة في القسطنطينية.
في هذه المدينة الهائلة تمثلت حياة الدين بأجلى مظاهرها وأروعها وأرهبها، وقامت الدراسات والمجادلات الدينية بنشاط واهتمام وحماس منقطع النظير، فمن الإمبراطور إلى النبلاء إلى رجال الدين إلى التجار، أحب الناس جميعا المناقشات الدينية وشغفوا بها. وكانت هذه المناقشات تنقلب في كثير من الأحيان إلى تنازع شديد وقتال تسيل فيه الدماء، فلم تخل هذه المناقشات والمجادلات الدينية من المطامع والأحقاد الشخصية والرغبات الدنيوية والمصالح الخاصة.
وظهرت في المدينة شتى الاعتقادات من أسماها إلى أدناها، فكان فيها احترام الأولياء والاعتقاد في قدرتهم الربانية ومعارفهم الغيبية، ووثق الكثير من الناس في تنبؤاتهم، وبنوا على توجيهها حياتهم، وانتشرت الخرافات والأساطير وصدقها الجم الغفير من أهالي هذه المدينة الزاخرة.
في هذه المدينة العظيمة كان الاهتمام كبيرا بتشييد الكنائس والأديرة والوقف عليها، فكانت هذه منتشرة في أنحاء المدينة رمزا للإحساس الديني العميق المتأصل في نفوس السكان، وكان رجال الدين والرهبان موضع الاحترام الزائد والإكبار، ولهم تأثير كبير على عقول الناس وسلطة واسعة وقوة حقيقية؛ فلقد اعتقد الناس فيهم قوة إلهية ومواهب ربانية. وكان الأباطرة أنفسهم يظهرون التعلق بالدين ويوقرون رجاله توقيرا كبيرا ويقدسون أماكنه؛ ففي سانت صوفيا التي شادها الإمبراطور جستنيان كان يتوج الإمبراطور، وفيها يحتفل بالأعياد، وهي فوق صفتها الدينية كانت مركزا كبيرا من مراكز الحياة العامة.
كانت هذ الكنيسة من عجائب القسطنطينية؛ فقبتها العالية وصفها المعاصرون وكأنها «معلقة من السماء بسلسلة ذهبية»، وكان جمال زخارفها ورونقها وأعمدتها ورخامها يبهر النظر. وأما مصابيحها الوهاجة وبخورها العبق، وأما الحفلات الدينية التي كانت هذه الكنيسة عامرة بها والآيات والأناشيد التي ترتل فيها والصلوات التي تقام فكانت تبعث في النفس الروعة وتشعرها بالجلال وتملؤها بالخضوع.
وبجانب ذلك الجلال والبهاء قامت القصور الفخمة العامرة بالملذات والترف وانتشر الفساد الخلقي والرشوة، وقامت أماكن كان يباع فيها الشرف والعرض وكل فضيلة إنسانية في سبيل متاع وقتي زائل.
واهتم الأغنياء بإشباع البطون واقتناء الأيقونات وأدوات الزينة وبالشهوات، وقامت أماكن اللهو والملاعب يمر فيها القواد المنتصرون، يسير خلفهم أسرى الحرب، هذا في وقت عز القسطنطينية. وجرى في الملاعب سباق العربات ومنازلة الرجال ومصارعة الحيوانات وأعمال الأكروبات ومهازل المضحكين. وفي هذه الملاعب عبر الناس عن أفكارهم، عن رضاهم واستيائهم. وفيها كانت توضع بذور الثورة وتقوم الثورات التي قد تهز عروش الأباطرة البيزنطيين.
وقامت بيوت الفساد والدعارة إلى جانب الكنائس والأديرة، وكما فاقت هذه المدينة المدن الأخرى في العظمة والفضيلة فاقتها في الفوضى والرذائل. فمن الميادين العظيمة تعرجت الأزقة المظلمة الموحلة وامتلأت بالكلاب واللصوص وقطاع الطرق، وكثرت فيها حوادث السرقة والاغتيال والغدر والقتل.
كانت القسطنطينية مدينة ثقافية ممتازة، فمركزها في شرقي أوروبا كمركز رومة في غربيها، وهي في ثقافتها متأثرة بالقديم إلى حد كبير، محتفظة بالتراث الإغريقي. فمكاتبها الكبيرة مملوءة بالكتب الإغريقية، مزدحمة بالقارئين والدارسين، وكان الأدب اليوناني محور الثقافة والتعليم، بجانبه دراسة الكتاب المقدس وقصص القديسين والشهداء والحساب والموسيقى والآجرومية والبلاغة. لقد كانت جامعة القسطنطينية مركز الثقافة اليونانية موئل الدراسات الكلاسيكية.
ومن هذه المدينة العظيمة تعلمت إيطاليا فلسفة أفلاطون، ومنها أخذ العرب القانون وجانبا كبيرا من الثقافة اليونانية، وإذا كان لهذه المدينة تراث يخلد ذكرها في العالم فهو الأدب الإغريقي والقانون الروماني، فأباطرة القسطنطينية هم الذين جمعوا القوانين الرومانية - إرث رومة العظيم - وقننوها ونشروها.
وتمتع سكان هذه المدينة العظيمة بامتيازات لا يشاركهم فيها أحد، فكانوا معفين من الضرائب، توزع عليهم الحكومة مجانا ما يلزمهم من الخبز والنبيذ والزيت، وذلك حين كانت ثروة الإمبراطورية عظيمة ورزقها متوفرا وجانبها مهابا .
والقسطنطينية مدينة صناعية وتجارية عظيمة بحكم موقعها الجغرافي المنقطع النظير في ذلك الوقت. فهي تقع في موضع ممتاز للاتصال بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، وبين البحر الأسود والبحر الأبيض؛ فهي من مراكز العالم المهمة في ذلك الوقت للتجارة، تأتي إليه المتاجر عن طريق البحر الأبيض والبحر الأحمر والبحر الأسود، من فارس والهند والشرق الأقصى وأواسط آسيا، من اسكنديناوه وشرقي أوروبا وغربيها، متاجر العالم المعروف في ذلك الوقت تجمعت في القسطنطينية وآوت إليها السفن من كل فج فكانت ميناؤها في القرن الذهبي تعج بحركة دائمة، وسهلت الحكومة البيزنطية كما سهلت الحكومة العثمانية من بعدها وسائل العيش والاتجار وتبادل المنافع، واشتهرت أسواقها بمواد الترف والزينة والمصوغات والأيقونات والعطور والمنسوجات الحريرية والكتانية الجميلة ذات الألوان الساطعة اللامعة، وإلى جانب التجار وجد الصيارفة يزاولون مهنتهم بنجاح كبير.
لقد تفوقت القسطنطينية - كما رأينا - على غيرها من المدن في مظاهر الحياة، وكان موقعها ومناعتها وغناها وثروتها ومبانيها ومباهجها ومركزها في العالم المسيحي من الأمور التي دعت الشرقيين من العرب والأتراك إلى محاولة الاستيلاء عليها وتحويلها من حاضرة للمسيحية إلى مركز مهم للإسلام.
قصة فتح القسطنطينية
كان فتح القسطنطينية أمنية من أكبر أماني المسلمين منذ نشأة دولتهم. فلقد حاولوا الاستيلاء عليها مرارا قبل عهد السلطان الفاتح. ففي دمشق كان معاوية بن أبي سفيان يمني النفس بالاستيلاء على مدينة القياصرة، ويرى في ذلك تثبيتا للخلافة الأموية ومجدا لا يماثله مجد، فأرسل قوة عظيمة إلى البوسفور لم تبال بما قاسته من المرض وقلة الزاد، وأمدها بابنه يزيد.
كان القتال حول هذه المدينة دائما عنيفا، وكانت خسارة المسلمين فيه دائما كبيرة، وظل معاوية يرسل بحملات سنوية استولت فعلا على إحدى الجزر القريبة من القسطنطينية لمدة سبع سنوات ثم تركتها حين تولى يزيد الخلافة. أنقذ المدينة تفوق البيزنطيين البحري ثم النار الإغريقية التي عرفت في ذلك الوقت، وفي هذا الحصار وتحت أسوار المدينة العظيمة استشهد أبو أيوب الأنصاري الصحابي المشهور، فأصبح لمدينة قسطنطين مركز خاص في نفوس المسلمين.
ولكن حلم الأمويين بالاستيلاء على هذه المدينة لم ينته بموت معاوية، فما إن استقر لهم الملك حتى عادوا يعدون العدة لتحقيقه، فكانت المحاولة الثانية في عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك، وكان الوليد قبل مماته قد أعد تجهيزات عظيمة برية وبحرية لتحقيق هذا الغرض المنشود. هاجم مسلمة بن عبد الملك المدينة برا وبحرا في عهد الإمبراطور ليو الثالث. وكان ذلك الرجل ممتازا في الحرب والسياسة فاستطاع أن يضم البلغار إلى جانبه، كما استطاع أن يهزم المسلمين برا وبحرا، ولعبت النار الإغريقية دورها بنجاح في هذه المرة أيضا.
كانت محاولة مسلمة آخر محاولة جدية قام بها العرب لفتح هذه المدينة، فلقد اضطرب أمر بني أمية، وجاءت الدولة العباسية فشغلت عن مدينة القياصرة بسكنى ديار الأكاسرة، ولم تعد تهتم بأمر الأسطول وظلت مدينة القياصرة الشرقيين منيعة باقية إلى أن جاء الأتراك العثمانيون.
فكان أول من حاصرها منهم السلطان بايزيد الأول ولكنه اضطر لرفع الحصار عنها حينما بلغه غزو التتار لبلاده، ثم حاصرها السلطان مراد الثاني، ولكن ضعف الأسطول العثماني وعدم وجود المدفعية القوية كانا عاملين على تركها، ويكفي أن ننظر إلى الاستعدادات العظيمة التي قام بها السلطان محمد الثاني وإلى المشقة التي وجدها في الفتح حتى نعرف إلى أي حد كانت القسطنطينية منيعة قوية.
ولم يكن العرب والترك وحدهم هم الذين تاقت نفوسهم لفتح هذه المدينة؛ فلقد حاصرها الأفار والبلغار وفشلوا في الاستيلاء عليها، ثم في أوائل القرن الثالث عشر غزاها اللاتين والصليبيون وفتحوها عنوة، ثم عادت الدولة البيزنطية للظهور في القسطنطينية مرة ثانية بعد أن ضعف اللاتين وذهبت ريحهم.
الممهدات للحصار
ثم قضى الله أن يستولي الأتراك العثمانيون على هذه المدينة الخالدة في منتصف القرن الخامس عشر.
ففي 3 فبراير سنة 1452 مات السلطان مراد الثاني عدو المسيحية الأكبر الذي كان اسمه يبعث الرعب في الدولة البيزنطية وفي أوروبا، مات في أدرنة عاصمة دولته الأوروبية بعد حياة حافلة بالانتصارات الرائعة على المجريين ومن حالفهم من سكان شبه جزيرة البلقان.
وكان ابنه محمد لا يزال مقيما في مدينة مغنسيا في آسيا الصغرى، قد أبعد عن أمور الحكم والسلطنة بعدما تولاها مرتين، وكان لا يزال حديث السن لم يمض بعد الحادية والعشرين من عمره، وكان لا يزال قريب عهد بالزواج من بنت الأمير التركي نورجاتير، وصلته أخبار وفاة والده فلم يعلنها خوفا من ثورة الإنكشارية، وأسرع بمغادرة هذه المدينة إلى جاليبولي فوصلها بسرعة كبيرة، وفي غاليبولي أعلن نبأ وفاة أبيه، ثم دخل مدينة أدرنة حيث أعلن سلطانا للأتراك العثمانيين باسم محمد الثاني، وفي أدرنة استبقى وزراء أبيه خليلا وإسحق بالرغم من حقده الشخصي عليهما، فكثيرا ما كان هذان الرجلان يخشيان بأسه ويحذرانه ويثنيان أباه عن عزمه في التخلي عن السلطنة له، ولكن محمدا الثاني أراد الاستعانة بهما في أمور الحكم لتجاربهما الواسعة ولدرايتهما بشئون الدولة ولتعلق الجنود بهما.
وأما معاصره قسطنطين فقد ولد قبل محمد الثاني بنحو ربع قرن من الزمان ليرث أضخم المسئوليات وأخطرها، ليرث إمبراطورية قد بقي منها الاسم والرمز، وغادرها العز والمنعة، إمبراطورية لم يبق منها إلا مدينة، ولكنها مدينة تملك سحرا وبهاء وجمالا وجاذبية لم تكن لأي مدينة أخرى في أوروبا في أواخر العصور الوسطى.
كانت السنة الأولى التي تولى فيها السلطان محمد الثاني لحظة رهيبة في حياة الإمبراطورية البيزنطية، هذه الدولة التي انحلت قواها أمام هجمات الأتراك المتوالية العنيفة، لقد فقدت هذه الدولة كل ممتلكاتها تقريبا، واستطاع الأتراك - رغم أنفها ورغم أنف الأمم البلقانية - نقل عاصمتهم إلى أدرنة - التي اتخذوها مقرا لحكمهم، ومعسكرا عاما لجنودهم - لشن حروبهم وغزواتهم في كل جهات البلقان، وتمكنوا من الإشراف على المضايق، على الدردنيل وعلى البوسفور، وفرضوا الجزية على الدولة البيزنطية البائسة.
لقد كان مجيء السلطان محمد الثاني مثيرا للرعب والفزع في القسطنطينية؛ فلقد كان أهلها يعلمون حق العلم أنه أقسم ليستولين على هذه المدينة، وأن ذلك سيكون أول مهمة يكرس حياته في سبيل القيام بها. لقد كان الاستيلاء على هذه المدينة الخالدة حلم أحلامه منذ صغره. وكانت عنده القوة العظيمة وأمامه الظروف المواتية للنجاح في تنفيذ مشروعه الخطر.
ما كانت العلاقات العثمانية البيزنطية حينما تولى محمد الثاني علاقات إخلاص وصداقة، فكان الأتراك العثمانيون موقنين بأن البيزنطيين سينقضون مواثيقهم إذا أتت أول فرصة، فكثيرا ما اتفقت بيزنطة مع أعداء العثمانيين إن لم يكن علانية فسرا، وأباطرة بيزنطة ينتهزون كل الظروف للإيقاع بين العثمانيين وإثارة الانقسام بينهم، فهم دائما يعضدون الأمراء الثائرين المطالبين بالعرش العثماني. ومحمد الثاني يذكر جيدا موقف بيزنطة حين أغار التتار. وقسطنطين لم يحسن التصرف حين تولى السلطان الجديد، فلم يعمل على كسب ثقته، بل لقد ظن فيه الضعف، واعتقد فيه التردد والخوف، فتقدم إليه بمطالب أثارت غضبه وحفيظته، فلقد أيقن أن قسطنطين يريد الانتقاص من كرامته وأنه يهدد ملكه، لقد طلب قسطنطين زيادة المرتب الذي يدفعه السلطان للدولة البيزنطية نظير تكفلها بأحد أبناء سليمان بن بايزيد الأول واسمه أرخان، ولمح الإمبراطور البيزنطي بأنه إذا لم يجب طلبه سيطلق سراح ذلك الأمير ليطالب بالعرش العثماني ويثير المشاكل للسلطان الجديد.
إذن فالمسألة مسألة حياة أو موت في نظر السلطان محمد الثاني، فكيف ينسى لقسطنطين ذلك الموقف، وخاصة وأنه كان في ذلك الوقت مشغولا بإخماد ثورة في آسيا الصغرى، ولكنه رد بأدب، وحذر البيزنطيين الضعاف عواقب سياستهم وسوء تصرفاتهم، وبين لهم أن الفرق شاسع بين خلق السلطان الجديد وخلق أبيه مراد، فمراد يمتاز بالهدوء، ولكن السلطان الجديد لا يحتمل الإهانة ولا يصبر على ضيم.
وكان السلطان محمد الثاني قد وطد العزم على فتح العاصمة الإغريقية؛ ولذا رأى توطيد دعائم ملكه قبل القيام بذلك المشروع الخطير.
رأى محمد أن البيزنطيين ليس لهم عهد ولا يمين، فلقد كان يذكر لهم المواقف السيئة في عهد أبيه؛ ألم تؤيد القسطنطينية فعلا مطالبا بالعرش العثماني؟ ألم تمده بالسفن وتسهل له العبور؟ ألم تعمل بيزنطة على إثارة القلاقل ضده في آسيا الصغرى؟ إذن ففتح القسطنطينية والقضاء على هذه الدولة أمر لا بد منه إذا أراد العثمانيون ثبات ملكهم وحرصوا على مستقبلهم.
وكانت حال المدينة العامة سيئة للغاية؛ فهي وضواحيها كل ما اشتملت عليه الإمبراطورية الإغريقية، وليس لديها من الجنود المدربين إلا العدد القليل، وأما من السفن فبضع لا تغني فتيلا في وقت المحن ولا ترد جليلا من الخطوب.
وكثرت البعثات السياسية التي أرسلتها القسطنطينية إلى أوروبا طالبة الغوث والنجدة - كما يقول مؤلف تاريخ الصليبيين في العصور الوسطى المتأخرة
1 - لكن كانت هناك مصاعب عظيمة في سبيل نجاح هذه البعثات، وأهم هذه المصاعب اختلاف الكنيستين الشرقية والغربية، الأرثوذكسية والكاثوليكية، والنزاع بين بيزنطة ورومة.
ولقد بذلت مساع دبلوماسية هائلة في سبيل التوفيق بين الشرق البيزنطي الأرثوذكسي والغرب الروماني الكاثوليكي. ولكن البابوات لم يستطيعوا قبول ذلك التوفيق إلا إذا اعترفت رسميا الإمبراطورية البيزنطية ورجال الدين البيزنطيون بتوحيد الكنيستين على حساب بيزنطة طبعا. وعلى أساس ذلك الشرط وحده تستطيع البابوية أن تعمل على إثارة العالم المسيحي الغربي لمساعدة بيزنطة في حربها ضد المسلمين.
وربما لم يكن لدى الإمبراطور البيزنطي قسطنطين مانع من قبول هذا الشرط المهين، ولكنه كان يعلم حق العلم أن الأكثرية من سكان مدينة القسطنطينية ومعظم قساوستها معارضون لهذه الفكرة، عاقدوا العزم على رفضها ومحاربتها.
ولم تكن هذه المحاولة أول محاولة من نوعها؛ ففي المدة الواقعة بين سنتي 1054 و1453 كانت هناك ثلاثون محاولة لاتحاد الكنيستين، وكان هذا الاتحاد غاية ما يصبو إليه أباطرة الغرب والبابوات؛ فلقد كان هذا التوحيد في نظرهم أنجع علاج للأمراض العضال التي تعاني منها المسيحية ولضعفها المتزايد. فإذا تم ذلك التوحيد بتنازل الشرق عن كنيسته وقبول سيطرة رومة؛ إذن تعود للمسيحية قوتها الأولى ووحدتها، وإذن تستطيع الوقوف أمام قوات الإسلام التي يزداد خطرها يوما بعد يوم.
قامت محاولات، ولكن قامت في سبيلها صعوبات، فهناك مواضع للخلاف كبير على الكنيسة الشرقية قبولها، واختلطت المصالح السياسية بالمصالح الدينية إلى حد كبير، بحيث لم يكن من السهل الفصل بين المصلحتين أو تغليب إحداهما على الأخرى.
ولم يستطع أحد من الفريقين التخفيف من تعصبه، فعامل كل واحد الآخر كملحد وخارج على الدين المسيحي، ووصل الأمر إلى درجة أن الغرب الكاثوليكي لم يكن يهدد بحروبه الصليبية الإسلام وحده ، بل كان يهدد الأرثوذكسية ذاتها والقسطنطينية بحرب صليبية لا تبقي ولا تذر. ولم يكتف الغرب بحملته الصليبية الرابعة على هذه المدينة، بل كان يفكر متأثرا بالبابوية في إعداد حملة صليبية أخرى تقضي هذه المرة القضاء المبرم على الأرثوذكسية.
ولكن تهديد الأتراك المستمر للقسطنطينية جعل الأباطرة البيزنطيين ينزلون مرغمين عن كبريائهم، ويطلبون النجدة والعون أيا كان الثمن، فأعلنوا رغبتهم في توحيد الكنيستين وقبول سيطرة رومة، وحاولوا تبرير تحالفهم في بعض الأوقات مع الأتراك بأنهم مستعدون للقيام عليهم ومحاربتهم متى نفذ الغرب وعده وفي الوقت المناسب الموعود.
وإزاء ذلك جاهد البابوات في سبيل إثارة العالم المسيحي على المسلمين والإسراع بنجدة بيزنطة، ولكن هذه المجهودات كانت فاشلة في كثير من الأحيان حتى مع الجمهوريات الإيطالية: البندقية وجنوة، وحتى مع فرسان رودس. ذهبت معظم هذه المجهودات هباء منثورا.
وكان أباطرة القسطنطينية يسعون جادين إلى الاتحاد مع الغرب كلما هددهم الخطر التركي، فإذا خف ذلك الخطر أهملوا الغرب كلية، فلقد كانوا يرون في ذلك الاتحاد سلاحا ضد الأتراك، فكانوا معنيين قبل كل شيء بالمساعدة المالية والحربية التي يستطيع الغرب أن يقدمها لهم. ولكن أهل المدينة أنفسهم وقساوستها رفضوا اتحاد الكنيستين، وكانوا مستعدين للتضحية باستقلالهم السياسي في سبيل استقلالهم الديني. فلقد كانت ذكرياتهم عن سيطرة اللاتين ذكريات ساخطة ممعنة في الإيلام، ففرض الوحدة بالقوة في سنة 1204 أثار حقد الإغريق الهائل، ورغبتهم في الانتقام.
وعلى أي حال لم تنجح دعاية البابوية إلا في تكوين حملة صليبية واحدة كانت نهايتها المحزنة في نيكوبوليس، ولم يعد من السهل بعد ذلك تكوين حملات صليبية أخرى لنجدة القسطنطينية.
ولكن في هذه المرة كان الخطر عظيما على القسطنطينية إلى درجة تهدد حياتها، وكان لزاما على البابوية أن تقدم بعض المساعدة، لا سيما وأن قسطنطين كان مستعدا للاعتراف رسميا بتوحيد الكنيستين الشرقية والغربية توحيدا نهائيا. فوعد البابا بإرسال أسطول وأرسل فعلا الكاردينال إيزيدور مندوبا عنه ليقبل خضوع الكنيسة الشرقية الرسمي. •••
بدأ الكاردينال إيزيدور رحلته إلى القسطنطينية الخائفة في أواخر سنة 1452، ووصلها في ديسمبر من هذه السنة، وأقيم حفل عظيم في كنيسة سانت صوفيا حضره الإمبراطور البيزنطي والبطريرك جريجوري يساعده ثلاثمائة قسيس للاحتفال بتوحيد الكنيستين ووحدة المسيحية.
وبجانب ذلك الفريق الراضي عن التوحيد أو المتظاهر بالرضا، وجدت معارضة قوية غاضبة ثائرة على رأسها جناديوس، هي في ريب مما يدعو إليه الفريق الأول، وهي تنذر بالويل والثبور إذا تم ذلك الاتحاد. وكثرت النبوءات عن العذاب الذي سيلحق بيزنطة إذا تم اتباع الملة الغربية، وهي تقول بسقوط الإمبراطورية وبغضب الله إذا سيطرت رومة على مدينة قسطنطين، ونادى أتباع جناديوس بالموت والدمار لمن يعتنق الكاثوليكية، وسحقا لمن يقبل الاتحاد معها، ودعوا العذراء مبتهلين أن تنجي المدينة العظيمة من الخطر التركي الداهم، كما أنجتها من قبل من الأكاسرة الفرس، والخلفاء العرب.
ما كان جم غفير من أهل القسطنطينية يعتقد مخلصا في الملة الجديدة، وهي الكثلكة الغربية، بل هم منها في شك مريب، وحتى الإمبراطور قسطنطين نفسه الذي تربى تربية إنسانية بمعنى الكلمة، وتثقف ثقافة حقيقية كان عنده نفس الشعور، إلا أنه قبل ذلك الاتحاد لأسباب سياسية قبل كل شيء على أمل مساعدة الغرب الكاثوليكي في محنته الوشيكة الوقوع.
وأما السلطان محمد الثاني خصمه العنيد فلقد استعد للحرب بكل ما لديه من قوة ومن عتاد الخيل وأدوات الحصار، ولكن الكثيرين من أهل القسطنطينية رأوا أن إمبراطورهم قسطنطين قد ارتكب شيئا إدا تخر له الجبال هدا بقبوله اتحاد الكنيستين، ورأوا في ذلك محنة المحن ومهزلة الدهر، وخطوة غير عملية، وخطة خاسرة. بل لقد قال أحدهم والخطر محدق بمدينتهم إنه يفضل أن يرى في مدينة قسطنطين الأكبر عمامة السلطان على أن يرى قبعة البابا. وكان يشارك هذا الرأي الكثيرون من أهل المدينة الذين كانوا يمقتون اللاتين مقتا شديدا.
وفي ذلك الوقت العصيب كان الشغل الشاغل للسلطان محمد الثاني هو الاستعداد لفتح أم المدن وملكتها، فهو يفكر ليل نهار في فتح هذه المدينة العظيمة، كما يروي هامر
2
عن أحد خصوم السلطان المعاصرين. فهو يقضي النهار وزلفا من الليل قلقا مضطربا مفكرا في كيفية الاستيلاء عليها، وهو لا تكاد تفارقه خرائط المدينة التي جعل دراستها عمله اليومي، وهو يدرس مواضع أسوارها ومواطن الضعف فيها، وهو يضع الخطط تلو الخطط للتغلب على قوة دفاعها، وهو يدرس التفاصيل الدقيقة بصبر واهتمام لا مزيد عليهما.
لقد عرض عليه الإمبراطور البيزنطي السلام، ولكن محمدا ما كان يعتقد في سلام البيزنطيين، ولا يعطي أهمية كبيرة لكلمة زعماء المسيحية؛ فهم في نظره لا يربطهم مع المسلمين عهد ولا ذمام، ألم يصرح أحد الكرادلة في عهد أبيه السلطان مراد الثاني بأن المسيحيين في حل من نقض معاهداتهم مع المسلمين، وقال: إن نقض المعاهدات مع المسلمين ليس مخالفا للدين المسيحي؟! فكيف يستطيع السلطان أن يصدق إذن كلمتهم أو أن يرتبط بوعد من وعودهم؟
ثم مسألة ثانية، لقد وفقت الدولة البيزنطية موقفا غير ودي في محنة الدولة العثمانية حين غزا التتار بقياد تيمورلنك آسيا الصغرى، أليس وجود الدولة البيزنطية حجر عثرة في سبيل إشراف العثمانيين التام على البلقان وقاعدة ضد العثمانيين في وسط بلادهم؟ وجودها وحده عامل على تشجيع الغرب على محاولة طرد العثمانيين من أوروبا.
لقد عرف محمد الثاني أن مهمته حقيقة خطيرة وخطرة، ولكنها واجبة النفاذ، فعمل على تمهيد الطريق لتنفيذ مهمة حياته وأكبر آماله.
فعمل أولا على استقرار الأمور في أراضي الدولة العثمانية. فأقر من عاونوا أباه في الحكم كما ذكرنا، وتخلص ممن ظن أنهم سيوجدون له مشاكل عاجلة أو آجلة أو سيكونون مصدر ثورات عليه في المستقبل، فهو يؤمن بضرورة استقرار الملك قبل كل شيء مهما بذل في سبيل ذلك من تضحيات ومهما أراق في سبيل ذلك من دماء. فماذا يهم في نظره دماء جملة أشخاص في سبيل القيام بمهمته العظيمة، وهي مهمة ترفع من شأنه، وتخلد ذكره، وترقى بمركز الإسلام.
ولم يغفل السلطان محمد الثاني الوسائل السياسية، فالأمور الدولية تحل بوسائل السلم كما تحل بوسائل الحرب، وكل منهما له وقته المناسب وظروفه الخاصة، ولا بد من تأمين حدوده وإسكات أعدائه. ولذا أخضع الثورات في ولاية قرمان، وعمل على استصلاح النفوس في آسيا الصغرى، هذا في ممتلكاته الآسيوية. أما في أوروبا فلقد عقد صلحا مع أكبر عدو وأخطر منافس للعثمانيين في البلقان، وهو هونيادي المجري، صلحا يضمن به السلام على حدوده لمدة ثلاث سنوات. وهو وإن لم يكن يثق كثيرا في مثل هذه المعاهدات إلا أنه يعرف أن موقعة ورنه ثم موقعة قوصوه في عهد أبيه الغازي قد أعطتا لهونيادي المجري درسا قاسيا لن ينساه، فلقد أضعفتا قوة المجر إلى درجة لا تجعلها تفكر جديا في الحنث بالعهد أو النكث بالاتفاق أو الانتقام.
وبين السلطان محمد الثاني في نفس الوقت أنه لا ينوي الغدر بالإمبراطور البيزنطي، وهدأ من روع صقالبة البلقان الذين كانوا قد ذاقوا من قبل سيوف العثمانيين.
وإذا كان السلطان محمد يستخدم الوسائل الدبلوماسية لخدمة أغراضه، فما كان الإمبراطور البيزنطي بمغفلها، فقسطنطين شخصية عظيمة، جم النشاط، عظيم الصبر، بطل من أبطال العصر، ولكن مولده لم يكن سعيدا وطالعه لم يكن ميمونا، وصفقته بإرث بيزنطة ومصائبها وآلامها كانت صفة خاسرة. ضحى قسطنطين أولا بالأرثوذكسية حتى يقنع الغرب بمساعدته في أزمته، وحلول التزوج إلى الغرب حتى يوثق أواصره به، ولم يكن هذا الزواج أول زواج أو ثانيه لذلك الإمبراطور الشجاع التعيس الحظ.
وفي أثناء ذلك كان السلطان محمد الثاني قد ثبت قواعد ملكه في آسيا وفي أوروبا، وكان عليه أن ينفذ وصية والده، وأن يحقق رسالته بفتح المدينة الخالدة. فحول مدينة أدرنة عاصمة العثمانيين في أوروبا إلى مصنع هائل للأسلحة، وجعلها مركزا لجيوشه المتجمعة من كل أنحاء دولته، وبنى دار السعادة الجديدة لسبك المدافع الكبار وصنع الأسلحة، واهتم بجعل عاصمته مركزا لتموين جنوده. ثم كان عليه أن ينشئ مركزا جديدا من مراكز قوته في أوروبا، حتى يستطيع الإشراف التام على البوسفور من ناحية الشاطئ الأوروبي.
وكان السلطان بايزيد الأول الغازي قد شيد على ساحل البوسفور الآسيوي حصنا منيعا هو أناضولي حصار لكي يشرف على مدخل البحر الأسود، فالحصن الذي شيده السلطان محمد الثاني - وهو روميليا حصار - بني لكي يواجه ذلك المعقل بحيث يستطيع الأتراك من هذين المعقلين أن يشرفوا إشرافا تاما على البوسفور، وعلى مدخل البحر الأسود. وبذا يسيطرون سيطرة تامة على الطرق الشمالية إلى القسطنطينية.
وهذا المعقل الجديد سيكون مركزا مهما من مراكز العمليات الحربية في أوروبا، ومحطة كبيرة للمعدات والذخائر، وشحنه السلطان محمد بالآلات النارية والمدافع والمرامي الرعدية والمكاحل، وهي مدافع يقول عنها صاحب صبح الأعشى إنه يرمى عنها بالنفط ... وبعضها يرمى عنه بأسهم عظام تكاد تخرق الحجر. وبعضها يرمى عنه ببندق من حديد من زنة عشرة أرطال بالمصري إلى ما يزيد على مائة رطل. وبهذا المعقل يستطيع السلطان بسلام تام وأمان نقل رجاله ونقل المؤن الحربية والعتاد الحربي بسهولة في ذلك الحيز من الماء الذي يقع بين شاطئ البوسفور والذي يبلغ نصف الميل.
وكانت الدولة البيزنطية عاجزة إلى حد أنها كانت ترى تنفيذ مثل ذلك المشروع الضخم، ولكنها ما كانت مستطيعة منع السلطان من إنجازه.
لم يصبح السلطان محمد الثاني بذلك الحصن الحصين مسيطرا على البوسفور فحسب، بل يصبح مسيطرا على بحر مرمرة أيضا؛ ولذا كان يؤمل أن يكون في مقدوره غلق البوسفور، والإشراف على الطرق البحرية المؤدية إلى المدينة من ناحية الجنوب ومن ناحية الشمال، وعزلها نهائيا بجيوشه البرية، فلا تستطيع استقبال أي مدد أو أية معونة من أي ناحية. ومن الغريب أن ضعف الدولة من الناحية البرية والبحرية وصل إلى حد أن حاول الإمبراطور البيزنطي التقرب إلى السلطان زلفى بإمداد عماله بالمواد الغذائية حتى يسهل إتمام المشروع بسرعة!
واستغرق إتمام ذلك المشروع الكبير بضع شهور. فذعر أهل القسطنطينية وأحسوا بالخطر الداهم يهدد حياتهم ومصيرهم، وشعروا بأن نهاية الدولة آزفة لا محالة. وتكرر احتجاج الإمبراطور على ذلك العمل وأشار إلى أن ذلك العمل ليس وديا بأي حال إزاء دولة تربطها بالدولة العثمانية رابطة الجيرة، ولكن ذلك الاحتجاج لم يكن بذي جدوى إذ لم يستمع إليه السلطان، بل قابله بالتهديد والوعيد، فهو يعلم أن الجيش الإمبراطوري البيزنطي لا يستطيع رد العثمانيين؛ فليست له قوة خارج أسوار المدينة العظيمة، ولقد ذكر السلطان قسطنطين - كما يروي هامر - بأن كل الأراضي الواقعة خارج أسوار القسطنطينية ملك له يتصرف فيها كيفما يشاء، فهو له الحق في كلا جانبي البوسفور الشرقي لأنه يقطنه العثمانيون والجانب الأوروبي لأن البيزنطيين لا يحسنون الدفاع عنه، وأنه مضطر اضطرارا إلى بناء ذلك الحصن، وبين له كيف حاولت الدولة البيزنطية أن تمنع العثمانيين من العبور حين قامت الحرب بينهم وبين المجر في عهد أبيه السلطان مراد الثاني.
ولم يستطع قسطنطين دفعا للخطر المجاور له، ولم يستطع منع العمال من السير في عملهم بهمة ونشاط، ولم يستطع منع الجنود العثمانيين من اكتساح كل القرى والضياع المجاورة للقسطنطينية ومن هدم المباني والمساكن لإتمام بناء حصنهم على ضفة البوسفور.
ولقد أخذ السلطان محمد الثاني على عاتقه الإشراف على إنجاز ذلك الحصن، وأعلن لرعايا سلطنته في آسيا وأوروبا أن يمدوه بالصناع والعمال للإسراع في إتمام مشروعه الكبير. فسار العمل بدقة وسرعة غريبتين، ولم يترك السلطان مجالا لأي شيء شأنه في كل مشاريعه الحربية.
اختار السلطان المكان بنفسه، وأظهر باشاواته وكبار موظفيه ولاءهم وإخلاصهم بالاشتراك مع العمال في نقل الأحجار والملاط والأدوات اللازمة للبناء.
وتقول بعض الروايات إن خمسة عشر ألف عامل قاموا بإنجاز ذلك المشروع، وتروي الأخرى بأنهم كانوا ستة آلاف فقط. وربما كان الرأي الثاني هو الأصح. ولقد كلف السلطان محمد قواده بأن يشرف كل منهم على جزء خصصه له، وأشرف بنفسه هو على الجميع.
وبذا لم تعد تصل إلى القسطنطينية الغلال التي كانت تأتيها عن طريق البحر الأسود. ولقد تم إنجاز المشروع في أغسطس سنة 1452 ولم يستطع الإمبراطور البيزنطي غير إمداد العمال الأتراك بالأغذية حتى يسترضي قلب السلطان الغاضب الثائر. ثم حاول بعد ذلك أن يلجأ إلى مهاجمة هؤلاء العمال وطردهم وتدمير ما أنشئوه، ولكن قوات السلطان كانت تقضي على هذه المحاولات بالقوة. ولا تزال آثار التحصينات العثمانية باقية إلى الوقت الحاضر كمظهر من مظاهر النشاط الهائل الذي عرفه التاريخ عن ذلك السلطان القاهر.
وكانت النتيجة الحتمية لبناء ذلك الحصن ولمقاومة البيزنطيين أن أعلن السلطان الحرب رسميا على الإمبراطور البيزنطي على أساس اعتداء البيزنطي على جنوده وعماله.
لقد عمل إنشاء ذلك الحصن على إدخال الذعر والخوف في قلوب البيزنطيين سكان المدينة وبقية رعايا الدولة. فلقد ترك السلطان في ذلك الحصن حامية قوية من جنود مختارين بقيادة فيروز آغا، وأمره بإيقاف جميع السفن التي تمر ببوغاز البوسفور، وأن يفرض عليها إتاوة، هي ضريبة المرور، وجهز الحصن بالمدافع القوية التي تجعل إرادته وأوامره محترمة.
وأخذت حامية ذلك الحصن تعتدي بانتظام على الجهات المجاورة، وفهم الإمبراطور البيزنطي أخيرا أن محاولته المحافظة على السلام بأي ثمن لن تفيده شيئا، فلا شيء يرضي العثمانيين غير القضاء على ملكه وغير الاستيلاء على مدينته؛ ولذا عقد العزم على الموت في عاصمته هو ورعاياه فأغلق أبواب القسطنطينية وبعث إلى السلطان محمد الثاني بما عزم عليه؛ ففي 6 أبريل كتب قسطنطين رسالة للسلطان العثماني يقول فيها:
لما كان من الجلي أنك تريد الحرب أكثر من السلام، ولما كنت غير مستطيع أن أقنعك بإخلاصي واستعدادي لأن أكون تابعا لك؛ لذا فالأمر لله، وسأحول وجهي إلى الله، فإذا كانت إرادته تقضي بأن تصبح هذه المدينة مدينتك، فلا مرد لقضاء الله وقدره، وأما إذا ألهمك الرغبة في السلام، فسأكون سعيدا ما بقيت، ومع ذلك فإني أعفيك من كل تعهداتك واتفاقاتك معي، وسأغلق أبواب هذه المدينة وأدافع عن شعبي إلى آخر قطرة من دمي ...
هذه كانت روح مدينة القسطنطينية أو الفريق الأكبر فيها حين قررت عدم الخضوع، وصممت على الدفاع إلى النهاية. أقفل الإمبراطور أبواب المدينة وقبض على كل الأتراك الموجودين في داخلها، فأرسل إليه السلطان محمد الثاني بإعلان الحرب، ويروي خصوم السلطان المسيحيون المعاصرون له أن السلطان أمر بقطع رءوس مبعوثي الإمبراطور البيزنطي، وهذه الرواية تحتاج إلى دليل، وظهر السلطان بعد ذلك بجيش يبلغ خمسين ألفا بجوار الأسوار، ثم رجع إلى أدرنة فلم يقم الإغريق بأية حركة معادية. كان غرض السلطان من هذه الزيارة القصيرة التي دامت ثلاثة أيام الاستطلاع ، وبحث موقع القسطنطينية، ودراسة قوة الأسوار والأبراج.
رجع السلطان إلى أدرنة حيث أتم استعداداته، وعمل على منع أخوي الإمبراطور في شبه الجزيرة الإغريقية من مده بالمساعدة. وذلك بأن أرسل جيشا قويا إلى المورة بقيادة طورخان فاكتسح بلاد المورة من أقصاها إلى أقصاها، وتمكن من وقف أي إمدادات مقصدها المدينة المحاصرة.
وكان لبناء ذلك الحصن على ضفة البسفور أثر كبير في حركة المرور بالبوسفور، فلما حاولت بعض السفن الآتية من البحر الأسود ومقصدها القسطنطينية، لما حاولت هذه السفن المحملة بمواد التموين المرور ولم تأبه لأوامر الحصون العثمانية دمر بعضها وقتل الكثير من رجالها. وبذلك ثبط العثمانيون من عزم أصحاب السفن التجارية، وشلوا حركة النقل.
ولقد جمع السلطان محمد الثاني في قصره في أدرنة قواد جيشه، ورسم لهم خطته، وذكرهم بمجد أسلافه وبانتصاراتهم الباهرة، وبين لهم أن قوة الإمبراطورية البيزنطية قد ضعفت واضمحلت، وأنه لم يبق أمامهم سوى عقبة واحدة في سبيل فناء هذه الإمبراطورية، فيجب الاستيلاء على مدينة القسطنطينية بأي ثمن، وأن الظروف السياسية والحربية مواتية، ولدى الأتراك القوة الكافية لتحطيم أي مقاومة، وأنه يجب الإسراع بإنجاز هذه المهمة قبل أن تستعد أوروبا للقيام بنجدة هذه المدينة، وقبل أن تصلها الإمدادات والمؤن التي قد تطيل أمد الحصار؛ ولذا لا بد من بدء هذه الحرب والسير فيها إلى أن ينزل الله نصره.
ونفذ السلطان محمد الثاني مشروعه بقوة وعزم منقطعي النظير، كان قادرا بطلا ذا جراءة، وشكيما منظما حديدي الإرادة، وتم استيلاؤه على كل الحصون التي لا زالت باقية في تراقيا حتى يحمي مؤخرة جيشه، وكذلك احتل كل المدن الواقعة على البحر الأسود وبحر مرمرة، واكتسحت جنوده ضواحي العاصمة، فبلغ الذعر فيها منتهاه، وعم القلق، وتناقل الناس الأقاصيص والخرافات والأساطير، وكثرت التنبؤات عن مصير المدينة المنكودة الحظ، وتزايدت النذر باندثار أعظم مدينة مسيحية، وأحس المسيحيون بهزات أرضية عنيفة، وفي السماء كثر الرعد والبرق، وهطلت الأمطار المتدفقة، وخيل للقوم أن نجوما جديدة في السماء قد ظهرت، لقد عمت الهستريا في الواقع عقول سكان المدينة المحاصرة، فكثرت أقاويلهم، وتبلبلت ألسنتهم وهلعت نفوسهم، وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون.
ولكنه في نفس ذلك الوقت العصيب كان الإمبراطور الشجاع قسطنطين وزمرة من الشجعان من أهل المدينة قد أخذوا في تحصين المدينة، وإعداد وسائل الدفاع بكل ما استطاعوا من قوة حسبما سمحت لهم الظروف، وكان أول واجب هو إصلاح الأسوار المتهدمة التي أبلاها الدهر، وعفت أمام إغارات الغازين المتكررة. واستعملت لذلك أحجار القبور وكثير من الآثار القديمة والمنازل، وجمعت الذخائر والأسلحة بكل سرعة، وكذا الغلال والزيت، وجمعت الأموال التي يمكن الحصول عليها، وبعثت البعثات الصارخة إلى أوروبا، تطلب القوت والنجدة وتبكي حظ المسيحية في كل مكان فيه للمسيحية سلطان وقوة، واستمر ذلك طوال ذلك الشتاء الكئيب المكفهر، وكان معظم سكان المدينة قد فقد الأمل من وصول أي نجدة، وإن كان المسيحيون في أوروبا قد ظلت لديهم بعض الآمال في حدوث معجزة تنقذ حصن المسيحية الشرقي.
وثابر السلطان على تجهيز استعداداته للهجوم وتنظيم وسائله، فجمع جيشا عظيما ربما بلغ ربع المليون أو أكثر كما يرى هامر، وأنشأ أسطولا ضخما، وشحن حصونه بالأسلحة والذخيرة للقضاء على هذه المدينة البائسة. ومن شهر فبراير سنة 1453 بدأ بإرسال مدافعه وأخذ في الإسراع بإنشاء السفن. وقامت بعض السفن الإغريقية بالهجوم على الشواطئ التركية الإسلامية، فأخذت من قدرت عليه، وقتلت من قتلت، وخربت ما خربت، وباعت في الأسواق من باعت، فلما علم السلطان بذلك استشاط غضبا، وأقسم لينتقمن من سكان المدينة شر انتقام.
وكان الإمبراطور قد علم بهذه الاستعدادات العظيمة - كما يقال - عن طريق خليل باشا وزير السلطان، الذي يرى بعض المعاصرين أنه لم يكن مخلصا للسلطان بدليل اتصاله بقسطنطين وإخباره بما يعتزم عليه السلطان محمد الثاني من إيقاد نار الحرب والاستيلاء على المدينة. ولكنا لا ندري إذا كان خليل باشا قد كشف للإمبراطور البيزنطي عن أسرار مولاه أو عن خططه الحربية حتى تستطيع اتهامه بالخيانة. وعلى أي حال لقد ظل السلطان يثق به ثقة كبيرة طوال وقت الحصار وإن لم يأخذ برأيه في فك الحصار عن المدينة. ولكن حين تجمعت له الأدلة عن اتصاله بالأعداء وذلك بعد سقوط القسطنطينية أمر بضرب عنقه.
ولقد استمرت استعدادات كل من الأتراك والبيزنطيين طول وقت الشتاء، وجاءت إلى القسطنطينية بعض الإمدادات الضعيفة مثل سفينتين بندقيتين استطاعتا بصعوبة أن تنفذا من البوسفور وتلقيا مراسيهما في القرن الذهبي.
وجاء الكاردينال إيزيدور مبعوث البابا بمائتي مقاتل لنجدة المدينة ولإتمام توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، وتبعته ثماني سفن من كريت تحمل النبيذ للمحاصرين، وكثرت اجتماعات المجالس واللجان في القسطنطينية وزاد طلب النجدات، وبعثت البعثات إلى المجر تطلب العون من بطلها هونيادي بألا يترك إخوانه البيزنطيين يسقطون صرعى في أيدي الأتراك العثمانيين. ولكن هذه الاستغاثات لم تجد استجابة ولم تلق غير التأييد اللفظي.
ثم جاء جون جوستينياني الجنوي على سفينة محملة بالمؤن والذخائر، ومعها أخرى وخمسمائة من رجاله فكانت جملة من معه سبعمائة. ولقد استقبله الإمبراطور استقبالا عظيما، وعينه قائدا لقوات البرية.
وسيظهر ذلك المغامر الكونديتيري الحقيقي مهارة وشجاعة ممتازين، كما سيبدي نشاطا بالغا الحد، ولقد أعجب السلطان بشجاعته - كما يقول هامر - وحاول الاتصال به. لقد قدم متطوعا للدفاع عن حصن المسيحية الشرقي، وكان هو ورجاله نخبة المدافعين عن المدينة الخالدة وخيرتهم. وأخذ جون جوستينياني على عاتقه من وقت تعيينه أمر تنظيم الدفاع عن القسطنطينية. فنظم وضع مدافعه الصغيرة على الأسوار في نقط معينة، وقسم المدافعين عن القسطنطينية حسب شعوبهم وأجناسهم، وخصص لكل واجباته، وقام بمهمة ليست بالبسيطة وهي تدريب هؤلاء الرهبان والمدنيين الذين يجهلون فن الحرب كلية، وليس لديهم من وسائلها إلا الحماس لها والرغبة في النضال ضد المسلمين لإنقاذ مدينتهم الجميلة، والتضحية بأرواحهم فداء لها.
وعمقت الخنادق الموجودة في الناحية الشرقية، وكان الإمبراطور يشجع هؤلاء المجندين ويقوي من ثقتهم بأنفسهم ويبين لهم أن العذراء لن تترك مدينة المسيحية الخالدة لتسقط في أيدي المسلمين الطامعين.
وخصص الإمبراطور لجون جوستينياني الجنوي وأتباعه مهمة الدفاع عن النقط الخطرة والأبواب المهمة. وأجمعت كلمة الجميع إغريق وبنادقة وجنويين وكتلان كاثوليك وأرثوذكس على ضرورة الدفاع عن مدينتهم إلى آخر رمق من حياتهم، وإنقاذ أكبر حصن في أوروبا من أن يقع في أيدي الآسيويين الغازين.
وقرر الإمبراطور وضع سلسلة لإغلاق القرن الذهبي أمام السفن الفاتحة، تبدأ من طرف المدينة الشمالي الشرقي، وتنتهي عند ضاحية غلطة، وهي مدينة جنوية مستقلة، وترك لهؤلاء الجنويين أمر حمايتها عند طرفها الشمالي. وهذه السلسلة هي التي وقفت أمام الأسطول أو الأرماد التركي وعملت على حماية السفن التي تجمعت وراءها، لقد لعبت هذه السلسلة دورا هاما في الدفاع عن المدينة المحصورة.
وفي نهاية شهر مارس كانت استعدادات السلطان محمد الثاني لفتح القسطنطينية قد تمت، وكان قد دمر كل القرى المجاورة لها، فلم تعد المدينة الكبيرة تستطيع الاتصال بالبلاد المجاورة لها، أو تستفيد منها وكان عليها أن تعتمد الاعتماد كله على المؤن والذخائر الموجودة بداخلها، وأن تنتظر ما قد يستطيع أن يصل إليها من إمدادات من الخارج، وكان وصول الإمدادات صعبا، إن لم يكن مستحيلا كما سنرى.
تمت استعدادات السلطان محمد الثاني للحصار؛ ففي أدرنة عاصمته الأوروبية ومعسكر الأتراك العظيم تجمعت الجنود العثمانية الآسيوية والأوروبية الفرسان والمشاة، النظامية وغير النظامية، وبين هذه الجنود الغير النظامية والباشبوزق عدد كبير من المسيحيين الذين لا هم لهم غير القتال والقتل والغنيمة والسلب والنهب، وهم لا يخضعون في سلوكهم لقانون ولا نظام ولا عرف ولا دين ولا إنسانية، وإنما يتبعون غرائزهم البهيمية قبل كل شيء والأوامر التي يصدرها قائدهم إليهم.
كان حماس الجيش العثماني للقتال عظيما، وكان عدده كبيرا، ويعتقد رجاله أنهم يؤدون مهمة سامية في الحياة، ويقومون بتنفيذ مشروع مقدس، ويعملون على رضا الرب، ويبتغون المثوبة من الله، وينتظرون النصر، وينتقمون للمسلمين. كان بين هذا الجيش عدد كبير من الملات (القضاة) والمشايخ والعلماء والدراويش يقوون روح الجهاد والحماس في الجنود، وكان السلطان قد استصحبهم على عمد لا لاستغلالهم فقط في سبيل إنهاض القوى المعنوية للجنود، ولكن تبركا بهم، وتيمنا بصحبتهم واحتراما لهم وإكبارا.
كانت الحركة دائمة والنشاط عظيما في كل من مدينتي أدرنة والقسطنطينية، لم تكن تغمض لمحمد الثاني أو لقسطنطين عين.
لقد كانت استعدادات الأتراك الهائلة التي لم تخف على البيزنطيين عاملا على نشر الذعر والخوف في المدينة المسيحية، وخاصة ما تناقلته الأخبار عن قوة مدفعية السلطان العثماني ومدى تدميرها العنيف. كان الأتراك أول من استعمل الأسلحة الحديثة وأحسن استخدامها، ولم يكن أحد من السلاطين يهتم بالمدفعية مثلما كان يهتم بها السلطان محمد الثاني. لقد علم سكان مدينة القسطنطينية أن الأتراك يحاولون صنع مدفع عظيم لم يسبق له مثيل، وأن السلطان يستخدم لذلك صانعا مجريا اسمه أربان، وكان ذلك الرجل قد عرض خدماته قبلا على الإمبراطور البيزنطي، فلم يمنحه المكافأة التي كان ينتظرها، فأسرع إلى الأتراك يعرض عليهم اختراعه. ما كان البيزنطيون يستطيعون الاستفادة من اختراع ذلك الرجل، فحالة أسوار مدينتهم ما كانت تسمح بوضع مدفع كبير عليها. على أي حال استقبل محمد الثاني ذلك الرجل استقبالا حسنا، وأغدق عليه الأموال والخيرات وكل ما يصبو إليه من شرف، وعرف السلطان كيف يستغله أكبر استغلال، وسهل له كل الوسائل لإتمام مخترعه. واستخدم السلطان المدفعية في ذلك الوقت على نطاق لم تعرفه من قبل.
حصار القسطنطينية
3
وفي أوائل أبريل، في اليوم الخامس منه، ظهر الجيش العثماني أمام أسوار مدينة القسطنطينية، بين دعاء العلماء والأشراف من آل بيت الرسول
صلى الله عليه وسلم . ظهر الجيش العثماني منظما تنظيما رائعا على نسق منقطع النظير في ذلك الوقت. وبدت الفرق بجانب الفرق في أعلامها وطبولها وأبواقها وموسيقاها وخيلها ومدافعها المكونة من أربع عشرة بطارية، واثنين وستين مدفعا ودواب الحمل الكثيرة العدد.
ونصب السلطان سرادقه محاطا بالخنادق على الشاطئ الأيسر لوادي ليكوس أمام الباب المشهور بباب القديس رومانوس. وسلطت على ذلك الباب المدافع القوية البعيدة المدى. ثم اتجه السلطان نحو القبلة وصلى ركعتين، وصلى الجيش كله، وبدأ الحصار الفعلي.
وانطلق العلماء وأهل الدين إلى الفرق العسكرية المختلفة يحثونها على القتال، واحتل العثمانيون الخط الممتد من بحر مرمرة إلى القرن الذهبي محيطين بأسوار المدينة، ولم يهتم السلطان بإعداد جنوده وتموينهم بالأسلحة والمدافع العظيمة والغذاء فحسب، بل اهتم اهتماما زائدا بتنسيق عمل القوات، ووضع الخطط المنظمة التي يتعاون فيها الفرسان مع المشاة مع المدفعية في الحصار والهجوم.
ولقد وضع السلطان محمد الثاني الفرق الأناضولية، وهي أكثر الفرق عددا بحيث تعسكر عن يمينه إلى بحر مرمرة. وإلى شمال هذه الفرق وعن يساره عسكرت الفرق الأوروبية إلى القرن الذهبي. والتف الحرس السلطاني المكون من نخبة الجنود وهم الإنكشارية، خمسة عشر ألفا حول السلطان في الوسط، وكان عليهم تعضيد الهجوم في جهة باب القديس رومانوس، وهي أضعف نقطة في الدفاع.
وشاهد سكان القسطنطينية ذلك المنظر المخيف من أعلى أسوار مدينتهم. وفي الوقت نفسه جمع السلطان أسطولا عظيما هو أول أسطول تركي بالمعنى الصحيح في مدينة جاليبولي وهي قاعدة العثمانيين البحرية في ذلك الوقت، وأمر السلطان ذلك الأسطول فعبر بحر مرمرة إلى البوسفور حيث ألقى مراسيه هناك، حيث انضمت إليه بعض السفن العثمانية من البحر الأسود، فأضاف منظره إلى منظر الجيوش المحاصرة روعة على روعة، وقوة على قوة، وعمل على زيادة الذعر في المدينة المحاصرة.
واقترب العثمانيون من الأسوار، وعندئذ طلب السلطان من الإمبراطور أن يسلم المدينة للأتراك ويتعهد السلطان بأن يحترم حياة سكانها وممتلكاتها، وطلب محمد من قسطنطين ذلك الطلب حقنا للدماء ورحمة بالسكان، ولكن الإمبراطور قسطنطين رفض ذلك الطلب رفضا باتا، فلم يكن للسلطان مفر من الحرب.
درس السلطان محمد الثاني حالة الأسوار وقوتها من القرن الذهبي إلى بحر مرمرة بنفسه لكي يكشف عن النقط الضعيفة، ثم استعرض جنوده وقوى من روحهم المعنوي ووعدهم بالنصر، ثم قسم القيادة فجعل زغنوس باشا - وأصله ألباني - على رأس الجيش غير النظامي الذي يعسكر على أعالي بيره، وعليه مراقبة سكان غلطة الجنويين، وعليه أن يمنعهم بالقوة إذا استلزم الأمر من مد يد المساعدة إلى المدينة المحاصرة.
وجعل صاريجه باشا على الميسرة وهو بايلرباي «حاكم» روملي وواجبه الهجوم على المدينة من أعالي القرن الذهبي، وجعل الإشراف على المدفعية العثمانية وجعل على جنوده الآسيويين أو الأناضولية إسحق باشا بايلرباي الأناضول هو ومحمود باشا ، وكل منهما عظيم الامتياز كبير التجربة في أمور الحرب، وجعل السلطان لنفسه هو وخليل باشا قيادة الوسط. وكانت المدفعية العثمانية في ذلك الوقت أكبر مدفعية عرفها العالم.
وجعل السلطان مهمة الأسطول تنحصر في منع وصول التموين الغذائي والحربي عن طريق البحر إلى المدينة، ومهاجمة السفن المسيحية التي تحرس السلسلة التي تغلق القرن الذهبي، ومحاولة اقتحام القرن الذهبي والقضاء على السفن الراسية فيه، والتعاون مع الجيش البري في حصار مدينة القسطنطينية. كان ذلك الأسطول مكونا من حوالي ثلاثمائة سفينة هي بطبيعة الحال أصغر بكثير وأقل قوة من سفن أعدائه وإن كانت أكثر منها عددا.
لقد هوجمت القسطنطينية من كل ناحية ما عدا ناحية القرن الذهبي فلقد كانت محمية بالسلسلة وبالأسطول الراسي في الميناء.
كانت أسوار القسطنطينية بالرغم من الخراب الذي لحق بعض أجزائها منيعة، استطاعت أن تدفع عنها الأعداء في كل العصور؛ فهذا السور العظيم الممتد من القرن الذهبي إلى بحر مرمرة من عجائب الدنيا حقيقة في ذلك الوقت، تعاهده الأباطرة في مختلف العصور بالإصلاح والترميم أمام مرور الزمن وجحافل الأعداء العديدين. وهو لا يزال إلى الآن مظهرا من مظاهر عظمة هذه المدينة الخالدة بأبراجه ومرتفعاته ومنخفضاته التي تنحني حسب الأودية والتلال مستندة إلى سماء زرقاء صافية، وفي كل زاوية من ذلك السور العظيم يقوم حصن قوي، ولكن ذلك السور كان في حالة سيئة نوعا، ويحتاج إلى إصلاح وترميم في الوقت الذي حوصرت فيه هذه المدينة. وكما تقول المصادر الإفرنجية المعاصرة لم يقم المهندسان اللذان كلفا بالإصلاح والتعمير بمهمتهما كما تقضي النزاهة والواجب، وأما السور الداخلي فظل على حالته من الخراب لم يرمم الترميم الكافي. لقد اعتمد سكان المدينة كلهم على السور الخارجي بحصونه وأبراجه القوية.
وأمام الجيش العثماني العظيم ومدفعيته الهائلة، وأمام ذلك الأسطول الكثير العدد وقف عند باب القديس رومانوس - أخطر نقطة في السور - ثمانية آلاف من المدافعين كما تقول المصادر الإفرنجية، ولكن يجب ألا ننسى أن عددا كبيرا من سكان المدينة قد جند للدفاع عنها أو لمساعدة الدفاع ونقل أدواته، بل وترميم الأجزاء التي تخربها المدافع.
ولا يجب أن ننسى أيضا أن هؤلاء المدافعين كانوا يدافعون من وراء أسوار مدينة أقل ما يقال فيها أنها من أمنع مدن العالم في ذلك الوقت، ولا ريب في أن حامية صغيرة منظمة مجهزة بوسائل الدفاع الحديث تستطيع القيام بمهمة الدفاع خير قيام، وتستطيع رد الغازين على أعقابهم خاسرين.
كانت أهم فرقة في المدافعين عن المدينة العظيمة فرقة الأجانب، وهي مكونة من ثلاثة آلاف مقاتل من الطراز الأول، وهي تتألف من جنويين وبنادقة وعناصر من كريد ورومة وإسبانيا وبعض المرتزقة من الأتراك أنفسهم. وهنا نسأل: هل جاء المدينة مدد حقيقي من الدولتين اللتين يهمهما مصير القسطنطينية: جمهوريتي البندقية وجنوة؟ لم تقدم الدولتان مساعدة حقيقية للمدينة في محنتها العظيمة. وهذا لا يمنع أن أفرادا من هاتين الجمهوريتين قد قبلوا عن طيب خاطر التطوع للدفاع عن هذه المدينة المسيحية الكبيرة، وبذل دمائهم في سبيلها. ربما كان دافع هؤلاء دينيا الحماس للكاثوليكية، وربما كان المصالح المادية والتجارية، وربما كان حب المغامرة ومقابلة المخاطر الجسيمة وركوب الصعب. وربما كان هذه الدوافع كلها مجتمعة.
بالرغم من ذلك وقفت مستعمرة غلطة الجنوبية، وجارة القسطنطينية من ناحية الشمال، وقفت موقف الحياد التام حرصا على رضا السلطان القوي، وتمسكت به، فلم تساعد أحدا من الفريقين، ولم تنصر أحدهما على الآخر.
ونندهش للمساعدة الضئيلة التي قدمها الغرب، فهل أصبح مصير قاعدة المسيحية في الشرق لا يهم الغرب؟ لم تكن مسألة اتحاد الكنيستين الشرقية والغربية محبوبة حبا جما. ولذا قاتل أفراد ذلك الفريق القليل المتطوع وحدهم بقوة وشجاعة وحماس إلى النهاية، إلى أن بذلوا دماءهم فداء للمدينة، ولكن ذكراهم لم تنس، ولم يندثر تاريخهم، فلقد أرخ لهم أحد زملائهم ومواطنيهم ممن قاتل وضحى معهم وهو باربرو، وبجانب هذا الفريق ألفان ممن عسكروا في السفن الراسية في القرن الذهبي والسفن التي كلفت بالدفاع عن الميناء.
لم تجد أوروبا العظيمة غير ثمانية آلاف من الجنود المدربين حقيقة لدفع أكبر خطر عرفه العالم على مدينتها العظمى بينهم عدد قليل لا يزيد عن الألف من الجنود المدرعين.
وعسكر الإمبراطور وحشد جنوده في ناحية وادي ليكوس، وهي المنطقة الضعيفة في الأسوار عند باب القديس رومانوس، وعقد المجالس الحربية لتنظيم أمور الدفاع عن المدينة، وعهد إلى جون جوستنياني الدفاع عن هذه الناحية، ولم يكن لدى المدافعين مدفعية قوية، وحتى مدافعهم الصغيرة لم يستطيعوا نصبها على الأسوار التي أصبحت في حالة رثة، فهي لا تحتمل المدافع ولا طلقاتها.
كان تسليح المحاصرين بصفة عامة سيئا، فلم يكن لديهم السلاح الكافي ولا السلاح الجيد، ولكن كانت عندهم النفوس القوية والعزائم الحديدية قد جعلوا نذرا قتال الأتراك حتى الممات.
وفي هذه الأثناء كان بلطه أوغلي قائد الأسطول العثماني قد نفذ أوامر سيده بدقة وراقب بأسطوله حركات الأعداء عند مدخل القرن الذهبي، وبعث جزءا من أسطوله لمهاجمة الجزر القريبة في بحر مرمرة، فأحرق بعضها وباع سكانها الذين نجوا من عذاب الحريق.
وتمكن العثمانيون من نصب مدافعهم الضخمة القوية أمام الأبراج وأخذوا في ضرب المدينة ودق أسوارها بقنابل زنتها مائتا رطل وساروا في عملهم بنشاط وحماس لا نظير لهما.
وكان على المحاصرين أن يراقبوا بحزن عميق وقلق ضرب مدينتهم الجميلة، وهذه القنابل الكبيرة تنهال على أسوارها فتحدث الخراب والدمار، وتحدث رجة وهزات عنيفة، كما كان على سكان المدينة أن يراقبوا حركات الأسطول العثماني، وأخذوا يدأبون على إصلاح الأسوار وتعمير ما دمر منها من جديد، وكان الجهد الذي يبذلونه قاتلا، لا يستطاع معه الصبر مدة طويلة، وعانوا من الذعر والفزع والتعب ما لم يعانه سكان مدينة أوروبية في العصور الوسطى.
وكانت هناك بعض مناوشات في أول الأمر من ناحية الإنكشارية الذين كانوا يسخرون من الموت، كما يقول معاصروهم من الإفرنج؛ فلقد كانوا يغشون ساحة الوغى كالأسود الكاسرة التي لا تفكر في شيء، وإذا سقط وحدان منهم حملهم الآخرون على ظهورهم متعرضين للموت، متجشمين الخطر، مسارعين إلى الهجوم، فإذا قتلوا حملهم آخرون من زملائهم بحيث لا يبقى منهم أحد ثاويا بجانب الأسوار.
ولذا لم يستطع المحاصرون النوم لحظة من الوقت أمام الضرب المتواصل وأمام خطر الهجوم الذي يهدد من لحظة إلى أخرى، وأمام الهجوم البحري الذي قد يقتحم القرن الذهبي.
وفي أثناء الحصار جاءت مكاتبات من هونيادي المجري يعلن فيها إلى أهل القسطنطينية أنه قد أعاد أمور الدولة إلى الملك فلاديسلاف، وأنه أصبح من أجل ذلك في حل من اتفاقه مع السلطان محمد الثاني، ربما ظهر ذلك الموقف الجديد في مصلحة البيزنطيين فقد يهدد هونيادي ومن معه من المجر حدود بلاد السلطان من الشمال الغربي مما قد يدعو السلطان إلى رفع الحصار عن المدينة فترة من الوقت تستطيع معها التنفس. ولقد أطلع السلطان مبعوثي المجر على مدفعيته العظيمة وانصرف المبعوثون سالمين إلى بلادهم، وانتهى الأمر عند هذا الحد.
وبعد مرور أسبوع من الحصار كان التلف بجدران الأسوار قد وصل إلى درجة ظن فيها أن الترك سيقومون بهجوم لاقتحام أسوار المدينة عنوة. ولذا في 18 أبريل بدأ هجوم عنيف على الأسوار هلك فيه جم غفير من الأتراك، وإن كانوا بأصوات طبولهم وأبواقهم وتكبيراتهم يظهرون أكثر عددا مما هم. وبلغ الأمر حدا أن الإمبراطور البيزنطي كاد يهلك من الجزع، ولم يجد غير الدموع يطفئ بها لهيب جزعه على مدينته وعاصمته الكريمة. لم يكن المدافعون مستعدين تماما لهذا الهجوم غير المنتظر، ولكن كما يقول باربرو مؤرخ فتح هذه المدينة: «لم يسمح الله بدخول الأعداء المدينة هذه المرة.» وانتهى الهجوم دون نتيجة بعد أربع ساعات في نضال مستمر عنيف ومحاولات لتسلق الأسوار ونقبها.
وكان هذا الفشل المؤقت الذي لحق محاولة الأتراك داعيا إلى تقوية نفوس البيزنطيين وحلفائهم من الأجانب، وزيادة ثقتهم بأنفسهم وتضاعف مجهوداتهم لإصلاح العطب الذي نال الأسوار، وشكر الإمبراطور قسطنطين وقساوسته الله على ذلك النجاح.
وقامت مع هذه المحاولة محاولة من الأسطول العثماني لاقتحام القرن الذهبي، وكان الأسطول مجهزا بكل وسائل الحرب المعروفة في ذلك الوقت، ويحمل عددا كبيرا من المحاربين ويسير معظم سفنه بالمجاديف، تقدمت السفن العثمانية بعددها ورجالها لمهاجمة السفن التي تحمي مدخل القرن الذهبي ، ولكي تقطع السلسلة ومن القرن الذهبي تحاصر المدينة من ناصيتها الغير محمية.
ويظهر أن رجال البحرية العثمانية لم تكن لهم الدراية الكافية ولا العدة اللازمة للحرب البحرية، وأصابهم كذلك بعض الزهو والغرور بكثرة عدد سفنهم، ولم يقدروا تماما ما لعدوهم من قوة وخبرة ومعرفة بأمور الحرب البحرية. هاجمت السفن العثمانية أعداءها، وألقت بأحجارها ورمت بأسهمها النارية وطرحت بقوارير النفط نيرانها ومشاعلها، اقتربت من سفن الخصوم تحاول إحراقها وتدميرها، حاولت قطع حبال سفن الأعداء ومراسيها، وأضاء الجو بالنور، بالمشاعل فكان منظرا باهرا.
وأما سفن المسيحيين فلقد أظهرت جلدا وصبرا كبيرين، وكانت أكبر وأضخم وأعلى من السفن العثمانية، فكانت تستطيع إصابة سفن العثمانيين، ولا تستطيع سفن العثمانيين إصابتها بسهولة، وكانت مستعدة بعد ذلك للقتال تمام الاستعداد، ونظمت مواقفها بحيث تجعل الدفاع سهلا، ودفعت أحجار الترك بأحجارها وأسهمهم بأسهمها ونيرانهم بالأواني المعدة لصب الماء. حاول الترك اقتحام السلسلة، وحاول المسيحيون منعهم ونجحوا في ذلك، واضطر الأسطول التركي إلى الانسحاب يتبعه صياح الأعداء وتهليلهم بفوزهم ونصرهم.
ولكن عزيمة السلطان محمد الثاني لم تكن تعرف الكلل أو اليأس فحاول اختراع وسيلة لضرب أسطول الأعداء من البر بمدافعه الكبيرة وإغراقه في مراسيه، ولكن هذه الخطة لم تكن ناجحة وإن كانت أحرزت بعض النجاح، فلجأ إلى غيرها.
ثم حدث في 20 أبريل أن أقبلت ثلاث سفن جنوية كبيرة وأربعة أخرى تحمل جنودا ومؤنا وبضائع وسلاحا، وهي آتية من الجنوب، ورأى الأتراك هذه السفن الثلاث تقترب من المدينة المحاصرة. عند ذلك أمر السلطان قائده البحري بمهاجمة هذه السفن مباشرة ومنعها من الوصول إلى المدينة المحاصرة والاستيلاء عليها أو تدميرها، وختم السلطان أمره إلى قائده: «إذا لم تنجح في ذلك فلا ترجع لي حيا.»
وكان عدد السفن العثمانية التي أمرت بمهاجمة السفن الأربع الجنوية مائة وخمسين من أحجام مختلفة، فكيف استطاعت سفن الأعداء القليلة العدد الهرب أمام ذلك الأسطول الضخم؟ تم ذلك بمعجزة من المعجزات ما كانت منتظرة.
لقد أصاب العثمانيين الغرور هذه المرة بشكل أوضح من المرة السابقة، فعددهم يتفوق تفوقا حاسما، وكانوا واثقين تماما من الانتصار وبلوغ مرادهم. ولقد دقت طبولهم ومزاميرهم، وعلت أصواتهم وتكبيراتهم وكان سكان المدينة يرون من على أسوارهم وبقلق متزايد السفن التي أتت لتقضي على سفن أصدقائهم، لقد ظن بلطه أوغلي أن قوته ستقضي على الأعداء بسهولة.
طلب الأسطول التركي من هذه السفن التسليم وإلا يصيبها الدمار، ولكن السفن المسيحية رفضت بإباء وشمم، وقامت معركة دامية زاد فيها الصخب وعم الهدير وكثرت اللعنات من الطرفين، وسقط القتلى والجرحى من الأتراك، كانت الريح في أول الأمر تساعد السفن الجنوية، ثم وقفت الريح فجأة فتحول الموقف لصالح الأتراك وقام قتال عنيف بين السفن.
ولكن الإيطاليين كانوا مدرعين بالصلب وسفنهم متفوقة في الحجم والقوة؛ ولذا ظل الأتراك بالرغم من وفرة عدد سفنهم في مركز ضعيف. وكان سكان المدينة يشاهدون الموقعة، ولا يستطيعون لمن جاءوا لمساعدتهم نصرا، ولكنهم كانوا يدعون لهم بالفوز ويرجون لهم الملائكة والقديسين بالعون، وكان السلطان هو الآخر ينظر إلى الموقعة من الساحل، وينتظر من حين لآخر القضاء على السفن المسيحية.
ظلت الموقعة مدة ساعات غير معروفة النتيجة، وهاجمت السفن التركية بقوات متجددة تحفزها أوامر السلطان وهتاف الجيوش العثمانية على الساحل، وكادت تقضي فعلا على سفن الأعداء، لولا أن عادت الريح فتحركت في صالح الأسطول المسيحي فأبعدت سفن الخصمين عن بعضهما، فسفن المسيحيين سفن شراعية، بينما معظم السفن التركية تعتمد في الغالب على التجديف؛ ولذا انتهت الموقعة رغم أنف الأتراك فلقد بعدت سفن جنوة عن الأسطول التركي، وتمكنت من دخول الميناء آمنة مطمئنة، فكانت هذه معجزة في مصلحة أهل القسطنطينية الذين أذهلهم الفرح لنجاة إخوانهم من هلاك محقق محيط، ثم لوصول المدد إليهم، وظنت مدينة القسطنطينية لحظة من الزمن أنها قد أنقذت.
وجاءت بعد ذلك مقابلة بلطه أوغلي للسلطان الثائر الغاضب، وكان أمير البحر التركي قد فقد إحدى عينيه في الموقعة، وبذل قصارى جهده، ولكن الحظ خانه.
ولكن غضب السلطان في ذلك الوقت لم يكن يعرف حدا، فعاقبه أشد عقاب، فأمر بجلده وانتزاع أملاكه ونزعه من منصبه .
وليكن مجيء هذه السفن المحملة بالمؤن جعل أهل القسطنطينية يظنون أن ذلك مقدمة لمدد آخر آت في الطريق أو على وشك المجيء، ولكن هذه الآمال لم تحقق فلم يظهر أي أسطول آخر.
هذه الهزيمة التي لحقت بالأسطول العثماني زادت في تصميم السلطان محمد الثاني وعزمه على الانتقام، فزاد ضرب المدافع للمدينة إلى درجة أصبح دويها يصم الآذان، وإلى حد أن أحدث تلفا كبيرا بالأسوار وخاصة من ناحية باب القديس رومانوس. وفي هذه الأثناء كان السلطان يجري تجربة على جانب عظيم من الأهمية، وكان أهل القسطنطينية قد ظنوا أن السلطان سيقوم بهجوم عام على مدينتهم، ولكن التجربة التي كان يقوم بها محمد الثاني سيكون لها أثر كبير في سقوط المدينة الحصينة.
وإذا كانت محاولة الأسطول العثماني اقتحام مدخل القرن الذهبي لم تنجح فلا بد في نظر السلطان من تجربة يستطيع بها تحاشي الاصطدام بالسفن الموجودة في فم الميناء. ففكر في نقل جانب كبير من أسطوله عن طريق البر من وراء غلطة وبيرا من البوسفور إلى داخل القرن الذهبي.
فقد جمع السلطان الأخشاب اللازمة، وعمل حسابا للدفاع عن المشروع إذا حاول أهل القسطنطينية عرقلته؛ فمهدت الأرض أولا، ووضع الخشب بطريقة يسهل عليها انزلاج السفن وجرها. وكان أصعب جزء في المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفع. ولكنا يجب أن نلاحظ أن السفن العثمانية كانت بصفة عامة صغيرة الحجم خفيفة الثقل نسبيا.
تم المشروع بسرعة قبل أن يستطيع البيزنطيون التدخل والعمل على إتلاف السفن، فالسلطان قد أخذ حذره تماما ولم يترك شيئا للظروف. ولذا في 22 أبريل نجح السلطان في نقل حول سبعين سفينة من البوسفور إلى القرن الذهبي.
وكان هذا العمل عظيما بالنسبة للعصر، بل معجزة من معجزاته في سرعة التنفيذ. ولو أن فكرته ليست من خلق السلطان محمد الثاني؛ فهي فكرة قديمة استخدمت في الماضي، ولكن تطبيقها وتنفيذها بهذه السرعة وبهذه الدقة يدل بلا شك على عقلية ممتازة ونفس واعية تستطيع الإحاطة بتفاصيل الأشياء، وهمة عظيمة، وإرادة فولاذية وعزيمة صادقة، ونشاط متدفق لا يعرف الكلل والملل، ثم إلهام الناس بالطاعة التامة والتضحية بكل ما تمتلك النفس من عزيز. وكان المحاصرون في مدينة القسطنطينية أكثر الناس تقديرا لذلك العمل الأجل واهتماما، فما كان يستطيع التصديق به إلا من رآه، فلقد كان منظر هذه السفن تسير وسط الحقول كما لو كانت تمخر عباب البحر من أعجب المناظر وأكثرها إثارة للدهشة.
وأعجب من هذا سرعة نقل هذه السفن على منحدر الجبل؛ مما يدل على كثرة الأيدي العاملة التي كانت تقوم بتنفيذ ذلك المشروع الضخم وحماسها ونشاطها. لقد تم كل ذلك في ليلة واحدة! وبهذا أصبح القرن الذهبي تحت رحمة مدافع زغنوس باشا. والفضل في ذلك للمهندسين الأتراك؛ فلقد شهد معاصروهم حتى من الأجانب بمواهبهم ومقدرتهم الممتازة.
وفي أثناء نقل الأسطول العثماني عبر البر لم تقف المدافع العثمانية لحظة عن الضرب حتى لا تحاول السفن الإغريقية الراسية في الميناء التحرك لمهاجمة السفن العثمانية الهابطة في القرن الذهبي.
ولا يمكن تقدير الذعر في مدينة القسطنطينية حين ظهر الأسطول التركي في القرن الذهبي؛ فكان من الضروري تحصين جبهة القرن الذهبي وترميم الأسوار الخربة، ووضع من يقومون بالدفاع عنها، وخاصة وأن هذه الجهة كانت موطن الضعف في المدينة؛ إذ من هذه الجهة استولى الصليبيون عليها في سنة 1204.
ما هذه الظروف المؤلمة لحامية قليلة العدد نال منها القتل والجراح والتعب! عليها الآن أن تقسم نفسها لتدافع عن أخطر نقطة في أسوار المدينة. لقد حوصر الأسطول الإغريقي فلم تعد له حرية الحركة، ووقع في خطر عظيم.
لقد كان الموقف ميئسا للغاية. فماذا تعمل بيزنطة أمام عدوها الهائج القوي؟ وكان على المحاصرين أن يراقبوا بدقة حركات الأسطول التركي في القرن الذهبي خوفا من أن تدمر سفنهم، وأخذوا يفكرون في كيفية تدمير الأسطول العثماني، ولكن هناك مغامرة في تنفيذ مثل ذلك المشروع، لقد قال فريق بجمع السفن المسيحية ومهاجمة السفن الإسلامية الراسية على الجانب الآخر للقرن الذهبي.
ولكن لتنفيذ مثل هذه الخطة كان من الواجب تعاون الجنويين في غلطة، ولكن الجنويين في غلطة ما كانوا يجرءون على إعلان الحرب على السلطان أو القيام بعمل يرى فيه السلطان أي اعتداء على حقوقه.
وقال فريق بإرسال قوة لمهاجمة السفن التركية وتدمير البطاريات الموجودة هناك. وقال فريق ثالث بأن تقوم السفن المسيحية بمهاجمة الأسطول العثماني دون استشارة جنويي غلطة أو موافقتهم، ويكون ذلك بسرعة قبل فوات الوقت. وأقر ذلك المشروع وقرر تنفيذه.
وفي 24 أبريل قامت سفينتان تؤيدهما سفينتان أخريان لتأدية هذه المهمة، ويقول المؤرخ المعاصر باربرو بأن الجنويين أصحاب بيرا وغلطة «أعداء المسيحية» قد أعلموا السلطان بالمشروع البيزنطي، فأخذ السلطان حذره واستعد استعدادا كافيا بتحصين المكان الذي تجمع فيه الأسطول العثماني وأعده بالأسلحة اللازمة. لقد رأى الجنويون في هذه الحملة البيزنطية حملة للبنادقة يجب معارضتها والعمل على إخفاقها.
فإلى هذا الحد تدخلت الأحقاد والمنافسات بين الجمهوريتين الإيطاليتين جنوة والبندقية، وكان غرض الجنويين التقرب للسلطان على حساب بيزنطة والبنادقة.
كان على البيزنطيين الآن تقسيم قوات دفاعهم وتوجيه جانب لا بأس به من هذه القوات إلى الدفاع عن ناحية القرن الذهبي، ولما كانت قوات الدفاع قليلة العدد كان اقتطاع جزء منها معناه إضعاف الدفاع في النواحي الأخرى.
وأحس البيزنطيون بذلك الخطر الجديد، ولا بد من العمل على مقاومة الأسطول التركي الموجود في القرن الذهبي قبل أن يستفحل خطبه؛ ولذا وضع مشروع لتدمير السفن العثمانية في مراسيها. ولم ينفذ المشروع البيزنطي الجديد إلا في 28 أبريل، فكلفت ثلاث سفن كبيرة وسفن أخرى صغيرة بمهمة الهجوم، واختلف قباطنة السفن فيما بينهم، فأراد البعض التقدم في الهجوم لينال شرف الفوز، فأصابهم جميعا الفشل الذريع، وانطوت سفنهم في اليم غرقى بمن فيها، وانهزمت الحملة وسقط المشروع، ورجعت السفن المسيحية التي نجت بصعوبة من مدافع الأتراك.
وكان لهذه الهزيمة أثر كبير على نفوس المحاصرين، فلقد فشلت آمالهم وتحطمت، وضاع جانب كبير من ثقتهم بأنفسهم، وأما من استطاع من البحارة الإغريق أو الأجانب الوصول إلى الشاطئ فلقد قبض عليهم الأتراك وضربوا أعناقهم تحت أسوار المدينة المحاصرة وتحت أنظار البيزنطيين، وأجاب الإمبراطور البيزنطي على ذلك بأن أتى بمائة وخمسين من الأتراك وشنقهم على الأسوار بمرأى من الجيش التركي. وقام النزاع الحاد بين البنادقة والجنويين في القسطنطينية، وتحزب لكل من الفريقين بعض الأهالي، واتهم كل واحد منهما الآخر بأنه سبب الفشل البحري السالف الذكر، وكادوا يتشاجرون لولا تدخل الإمبراطور البيزنطي في الوقت المناسب، ونصحه للفريقين بأن يراعيا قبل كل شيء مصلحة المسيحية التي تعاني الآن من خطر كبير لا يرحم حياتها ولا ضعفها.
واستمر الأتراك في دق أسوار المدينة وفي محاولات نقبها، واستمر البيزنطيون في محاولة إصلاح العطب ليل نهار دون هوادة، ولكي يسهل السلطان محمد الثاني الاتصال بين جنوده على الضفة اليسرى للقرن الذهبي وجنوده حول الأسوار، أنشأ قنطرة عظيمة عائمة ينتهي طرفها عند نقطة ضعيفة في الأسوار البيزنطية؛ مما دعا المحاصرين إلى اتخاذ وسائل الحيطة في هاته النقطة وتقسيم الدفاع الصغير العدد من جديد.
لقد زاد مركز المدافعين ضعفا على ضعف، فعددهم قليل ويتناقص باستمرار وبسرعة، وعليهم الدفاع عن أسوار طويلة ضعيفة في بعض النقط، أمام مدفعية متفوقة، وعدو لا يرحم، فكان لا يهدأ للمحاصرين بال، ولا يسكن لهم روع، ولا تطمئن لهم نفس أمام ذلك الضرب المتواصل من كل جانب، بينما كان عددهم يقل، ورعبهم يزداد في كل وقت خشية مباغتة الأتراك لهم، واستمرت الحال على هذا النحو إلى آخر اليومين الأولين من مايو، فبدأ يظهر للعيان جليا عجز المؤن داخل المدينة وخاصة الخبز والنبيذ وكل ما يلزم لتقوية الجنود المدافعين المرهقين.
وكان على المدافعين أن يتركوا مواضعهم في كثير من الظروف ويقطعوا المسافات الطويلة داخل المدينة لاكتساب رزقهم وتناول الطعام مع عائلاتهم، ورأى الإمبراطور البيزنطي خطر الموقف، فعمل على توزيع الطعام على الجنود في أماكنهم، وفي الوقت نفسه كان السلطان محمد الثاني حريصا على تغيير المهاجمين ومن يقومون بالضرب بحيث يستطيعون الاستراحة والاستجمام واستعادة النشاط.
وفي أثناء هذه الظروف القاسية فكر الإمبراطور في بعث سفينة لحث أسطول البندقية في بحر الأرخبيل على الإسراع لمعونة القسطنطينية في أيامها الأخيرة، وبذل آخر مجهود لإنقاذ أعظم مدينة مسيحية في البلقان، ولكن هذه السفينة التي تحمل آخر أمل للعاصمة البيزنطية لم تجد الأسطول البندقي ورجعت خائبة حزينة آسفة.
ثم أمر السلطان بالهجوم على الأسوار مرة أخرى هجوما عنيفا، حينئذ طلب البطريرك وعظماء القسطنطينية وجستنياني إلى الإمبراطور قسطنطين أن يترك العاصمة نهائيا وأن يذهب إلى مكان آخر يستطيع منه إثارة الأمور على العثمانيين، فقد يضطرون إلى رفع الحصار عن العاصمة، ووضع جستنياني إحدى سفنه تحت تصرف الإمبراطور، ووعد بمساعدته على الخروج من عاصمته المحبوبة. وكان الغرض من هرب قسطنطين أن يجمع حوله شتات رعاياه، فربما استطاع الاتفاق مع إسكندر بك الألباني أو البابا، ولكن الإمبراطور أنصت لهذا النصح ساكنا، ثم أطرق مليا يفكر تفكيرا عميقا، ثم شكر أتباعه على النصيحة القيمة التي أسدوها وقال:
ربما يكون في خروجي من المدينة بعض الفائدة لي ... ولكنه من المستحيل أن أخرج، وكيف أترك معابد لله يذكر فيها اسم الله؟ وكيف أترك موالي الرب ورجال الدين والعرش والشعب في هذه المحنة العظيمة؟ ماذا يقوله العالم عني؟ إنني أرجوكم ألا تذكروا في المستقبل هذه الكلمة «اخرج»، وإنما قولوا لا تتركنا، ولن أترككم ما دمت حيا، فلقد عزمت عزما لا رجوع فيه على الموت معكم.
ثم بكى الإمبراطور وبكى معه البطريرك وكل الحاضرين.
في هذا الوقت تبدت شخصية هذا الإمبراطور العظيم وبطولته أمام أهوال ومحن تكل عن تحملها الجبال الرواسخ.
وفي 12 مايو قام الأتراك بهجومهم العنيف، وكانت الأسوار قد نالها عطب كبير، ولكن ذلك الهجوم لم يصب نجاحا كبيرا، وامتلأت الكنائس داخل المدينة بالمصلين الذين يدعون الله قياما وقعودا بإنقاذ المسيحية في بلائها العظيم.
ووجد السلطان محمد الثاني أن يركز الضرب في منطقة باب القديس رومانوس، وهاجم العثمانيون مرارا الأسوار على فم القرن الذهبي دون جدوى. وحاولوا حفر سراديب تحت الأسوار ونجحوا في ذلك إلى حد ما، ولكن الإغريق نجحوا في القضاء على ذلك المشروع. ولكن محاولات الأتراك هذه أقضت مضاجع السكان، فكانوا يخشون كل ليلة دخول الأتراك المدينة فجأة بهذه الوسيلة، وتصوروا سراديب خيالية نجح الأتراك في إنشائها.
ولقد لجأ السلطان إلى بناء حصن متحرك سريع أمام الأسوار مما أدخل الرعب في قلوب المحاصرين، وأنشأه بطريقة بحيث لا يمسك به اللهب، ويصيب كل آلات الرمي والضرب في المدينة؛ مما جعل الدفاع في خطر شديد، فلقد تحطمت أربعة أبراج وامتلأ الخندق، وقام الأتراك بهجوم عظيم في ناحية باب القديس رومانوس، ولكنهم اضطروا إلى الانسحاب مرة أخرى أمام دفاع البيزنطيين اليائس؛ وبذا نجت المدينة، واحترق حصن الأتراك المتحرك بأكمله مما زاد في فرح الإغريق، فعادوا يشكرون العذراء على إنقاذها لهم.
فتح القسطنطينية
ولكن السلطان محمد الثاني ما كان يعرف اليأس أو يتسرب إلى نفسه القنوط، فعاد إلى اتخاذ خطط جديدة. وفي أثناء ذلك الوقت رجعت البعثة التي كانت أرسلتها القسطنطينية لتستحث أسطول البندقية الذي كان يظن أنه موجود في البحر الأرخبيلي. لم تجد هذه البعثة الأسطول، ورجعت متحطمة الآمال. ولما عرفت المدينة المحاصرة ذلك النبأ العظيم سكنت قلوب أهلها لحظة وذرفت عينا الإمبراطور البيزنطي بالدموع، وكان ذلك آلم خبر تلقته المدينة البائسة المفزوعة التي توشك أن تقع في أيدي أعداء حلفوا جهد أيمانهم ليستبيحنها. كان ذلك الأسطول آخر أمل لهؤلاء المحاصرين المرهقين الذين لم يذوقوا طعم النوم ولا الراحة، كان آخر أمل لهم مجيء أسطول البندقية لنصرتهم وإمدادهم وإعطائهم فرصة للأمل في الحياة والراحة والهدوء بعضا من الوقت، ولكن توفي ذلك الأمل كما توفيت الآمال السابقة.
كان ذلك في مساء 23 مايو، وعرف أهل القسطنطينية أن المسألة مسألة أيام للهجوم التركي العام والاستيلاء على المدينة. ولقد عقد الإمبراطور مجلسا للنظر في الحالة، فنصح أعضاء ذلك المجلس له بالهرب، وإذا لم يمكن حماية المدينة، فيجب حماية الإمبراطور. عند ذلك أغمي على ذلك الإمبراطور الذي ناءت به المخاوف وأنهكه بذل النشاط المتواصل، وكاد يقتله التعب المستمر فما عرف راحة ولا هدوءا عقليا أو جسميا، ولكنه أبى إلا أن يشارك أهل المدينة مصيرهم، وقال «إن عددا كبيرا من الأباطرة قد مات وهو يحمل السلاح ويقاتل في ميدان الحرب ، ولن يكون هو الوحيد الذي يفر من ميدان القتال خوفا من الموت أو حرصا على الحياة.»
وأما في الجانب الإسلامي، فلقد عرف الأتراك العثمانيون أن المدفع وحده والصبر هما اللذان سيقضيان على هذه المدينة؛ ولذا فالضرب مستمر ليلا ونهارا، واشتغل أهل المدينة رجالا وشبانا وشيبا ونساء وأطفالا في تعمير العطب الفادح الذي لحق الأسوار، وانتظروا جميعهم في هلع متزايد من ساعة لأخرى هجوما عاما للأتراك لا يبقي أمامه شيئا ولا يذر.
وكثرت الأوهام والخيالات، وتصور الناس ما شاء لهم التصور، فبعضهم تصور جيشا مجريا عظيما بقيادة هونيادي قد زحف لتخليص القسطنطينية، وتوهم البعض أسطولا عظيما قادما من البحر، وظن الآخرون أن الملائكة سيتدخلون في آخر لحظة ويدمرون الأعداء تدميرا.
ولكن هذه الخيالات كانت سرعان ما تنقشع وهذه الأوهام سرعان ما تتبدد وأصبحت هباء لا قيمة له ولا غناء أمام الوقائع والحقائق التي تراها أعينهم ويحسونها. لقد مضى زمن المعجزات وخارت قوة الدفاع، ولم يبق في قوس الصبر منزع، وكيف يحيا أمل أمام قوة الأتراك الساحقة وتصميمهم على أخذ المدينة، وأمام مدافعهم الضخمة التي تحدث من الدوي ما تهلع له القلوب، وتحدث من التخريب والتحطيم في أسوار المدينة ما شاءت أن تصنع؟
وركز ضرب المدافع الشديدة في ثلاث نقط من ناحية باب أدرنة، وباب القديس رومانوس، والثالثة ناحية الباب الثالث الحربي، ووضع سكان المدينة أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، وكان أكثر النواحي عطبا الناحيتين الأوليين.
ثم أرسل السلطان محمد الثاني قائد هذه القوة العظيمة وزعيم ذلك الشعب القاهر المنصور، أرسل رسوله إسماعيل حمزة اسفنديار أوغلي لكي يحمل إلى الإمبراطور البيزنطي نصيحة سيده فيقرر له أنه لم يعد هناك فائدة من الاستمرار في الحرب، وأن المدينة ستسقط عنوة، وتنهب، وتنتهك حرماتها، يقتل رجالها وتصطفى نساؤها وأطفالها، أو تباع في الأسواق، وأن السلطان محمدا يقترح أن يخرج الإمبراطور من المدينة هو وأهله وحاشيته وبلاطه إلى البلوبونيز، ويحكم هناك، ومن شاء من أهل المدينة فليخرج في أمان، ويتعهد السلطان بحماية الباقين والمحافظة على حياتهم وممتلكاتهم، وذلك إذا قبل الإمبراطور تسليم المدينة.
وكان يربط اسفنديار بقسطنطين صلات معرفة قديمة، فنصحه بالتسليم، ويظن بعض المؤرخين أن السلطان لم يكن مخلصا في دعوته هذه، وما كان يريد فعلا تسليم قسطنطين، وإنما كان يريد أن يدرس الحالة النفسية في القسطنطينية، ولا يوجد شيء يدعو إلى الشك في إخلاص السلطان في دعوته قسطنطين؛ فهو يعرف أن المدينة قد تستطيع الدفاع مدة أخرى، وهو بلا شك يرغب في حقن دماء الفريقين ما دام يستطيع الوصول إلى غايته، وهي أخذ المدينة، ولكن كان السلطان يفهم أنه لن يخسر شيئا من وراء إيفاد هذه البعثة؛ فهي إذا لم تصل إلى غرضها تستطيع التقرير عن حالة المدينة.
على أي حال كان الإمبراطور قسطنطين يفهم ما يقضي به عليه واجبه، ويعمل على المحافظة على مركزه؛ فهو لن يقيم على ضيم يراد به مهما كانت النتائج، لقد كان يستطيع الفرار إذا كانت الحياة الدنيا قد ملكت عليه نفسه، ولكن قسطنطين بين لمبعوث السلطان أنه لن يستطيع قبول هذه الشروط المهينة، وأنه لم يطلب ولن يطلب بديلا بمدينته، وعاصمة ملكه، وحاضرة من سبقوه من الأباطرة ألف عام، ثم بعد ذلك ليس لديه أي سلطة تبيح له تسليم المدينة، وأنه قد وطد النفس على الموت.
وبذا يئس السلطان محمد الثاني نهائيا من تسليم المدينة صلحا، فلا بد إذن من بذل كل جهوده لدخولها عنوة.
ولذا في 27 مايو سنة 1543 عقد مجلسا حربيا في معسكره أمام الأسوار وتناقش هو وقواده فيما ينبغي عمله، ويقال إنه عرض رأيان في ذلك المجلس العسكري، فكان الرأي الأول رأي خليل باشا، وهو رجل مسن قد ازداد حذره بقدر ما ازدادت تجاربه، ولكن السلطان لم يكن بكبير التعلق به بالرغم من أنه أبقاه في منصبه، وكان البعض يتهمه بممالأة المسيحيين.
بين خليل باشا أنه لا داعي لبذل هذا المجهود العنيف في أخذ هذه المدينة، ولا داعي لكل هذه العمليات الحربية، ولا مبرر لإراقة الدماء بهذا الشكل للاستيلاء على المدينة، فهي ستسقط من تلقاء نفسها إن عاجلا وإن آجلا، ثم بعد ذلك هل ستقبل أوروبا سقوط القسطنطينية؟ ففي نظر خليل باشا لن تسمح أوروبا بسقوط هذه المدينة بسقوط حصن المسيحية في يد المسلمين، فالبندقية ستتدخل بأسطولها، وكذا هونيادي المجري، ثم المدينة بعد ذلك حصينة، واللاتين متفقون فيها مع الإغريق، ولقد مضى وقت طويل، وبذل مجهود كبير، ولم تسقط المدينة بعد، ولقد بذل الأتراك تضحيات كبيرة بدون فائدة، وأن من الخير ترك المدينة مؤقتا، حتى يزداد مركز العثمانيين قوة وتسقط المدينة فريسة سهلة فيما بعد.
وكان الرأي الآخر رأي زوغنوس باشا الألباني، قائد الجنود غير النظامية، وهذا الرجل من أصل ألباني، اعتنق الإسلام وحسن إسلامه وجاهد في سبيله جهادا مشكورا، وسما مركزه، فأصبح ثالث اسم في الدولة العثمانية بعد السلطان، هذا الرجل لا يزال قريب عهد بالشباب؛ فهو ممتلئ قوة ونشاط وأطماعا، وكان بينه وبين خليل باشا حقد دفين ومنافسة حادة، لقد نصح هذا القائد الهمام بالصبر والمثابرة وتقوية الهجوم، وتمثل بالإسكندر الأكبر المقدوني الذي استطاع فتح آسيا بجيش صغير، واستهزأ زوغنوس بالخطر الذي سيأتي من ناحية الغرب، فبين أن الدول الأوروبية المسيحية - وخاصة الجمهوريات الإيطالية - منقسمة على نفسها، وهي تضيع الوقت الثمين في مشاجرات على مسائل تافهة، ووضح أنه حتى لو استطاعت أوروبا أن تتفق فيما بينها فهي لن تقدر على إرسال قوة كبيرة لتخليص القسطنطينية في الوقت المناسب؛ ولذا لا يجب التفكير في ترك المدينة قبل أن يتم فتحها للإسلام وللأتراك ولآل عثمان.
وأيد ذلك الرأي قادة الجيش الآخرين وضباطه، كما عضده العلماء بكل قوة وعلى رأسهم الشيخ آق شمس الدين والشيخ أحمد الكوراني خوجة السلطان.
ولقد كان السلطان محمد الثاني من نفس ذلك الرأي، حتى قبل انعقاد المجلس العسكري، ولكنه أراد أن يجمع ذلك المجلس ليختبر قوة رجاله ويمتحن عزيمتهم وليعمل على تقوية ثقتهم بأنفسهم.
وكانت النتيجة ما يريد السلطان، فلقد زاد جنوده عزما على عزم للقضاء نهائيا على البيزنطيين وحلفائهم من اللاتين؛ ولذا فكر في هجومه الأخير الذي سيضع المدينة تحت أقدامه.
وفي 27 مايو أعد السلطان الهجوم العام على المدينة فصام الجيش كله، وعلت الدعوات بإنجاز الفتح، وأمر مدفعيته بالإمعان في تحطيم الأسوار عند وادي ايكوس، ونظم الفرق التي ستقوم بالهجوم العام، فعلى كل فريق القيام بالهجوم من جهة معينة، ثم إخلاء الطريق للفريق الآخر الذي سيقوم بالهجوم بعده؛ وبذا تستطيع الجنود المهاجمة أن تأخذ بقسطها من الراحة، وزار السلطان كل أقسام جيشه المحاصر للمدينة وشجع الجنود وأثار فيهم روح التضحية، وقوى فيهم الثقة بالنفس وبالنصر، وطلب من الجنويين المقيمين في غلطة أن يمتنعوا تماما عن تقديم أي مساعدة للمدينة المحاصرة.
وأرسل من نادى بين الجنود بأن المدينة ستترك لهم ثلاثة أيام يستبيحونها كيفما شاءوا، رجالها ونساءها وأطفالها وكنوزها ستكون جميعها تحت تصرفهم لمدة ثلاثة أيام كاملة، وأقسم بالله جهد أيمانه ليبرن بوعده، وكان لذلك القسم أثر كبير في نفوس الجنود الذين سيقومون بالهجوم.
ولقد أمر السلطان كل جندي بالمحافظة على الموقف المخصص له وعاقب بالقتل كل من حدثته نفسه بمخالفة الأوامر أو الإخلال بالنظام.
واستمرت المدافع العثمانية في ضرب المدينة البائسة دون هوادة أو توقف، وبشدة وعنف لا مثيل لهما في ذلك الوقت، فجرح جون جوستينياني الجنوي زعيم المدافعين وبطلهم الغير مدافع، واضطر سكان العاصمة المسيحية إلى نقله إلى داخل المدينة، ولكنه رجع ثاني يوم ليعاود القتال. وفي أثناء ذلك أضاء المعسكر العثماني كما كان يضاء كل ليلة بآلاف المشاعل التي تحول الظلام نورا باهرا يأخذ بالأبصار، وكانت الجنود العثمانية قد جمعوا كل المواد اللازمة للصراع المقبل وللهجوم ولتسلق الجدران. وتعالت الأصوات للحي القيوم تنادي «الله أكبر الله أكبر»، وتنطق بالشهادتين وتلعن المسيحيين وتنذر بالويل والثبور. وضربت الطبول ونفخت الأبواق والمزامير، وحدث الجنود أنفسهم بالغنائم الهائلة العديمة النظير التي سيستحوذون عليها.
وبجانب هذا الحشد الهائل والأنوار الباهرة والطبل والزمر والتكبير بدت المدينة الحزينة المتألمة تترقب نهاية مفزعة، تنتظر الفناء وتدعو الله أن ينقذها من العذاب الأليم، ومن ذلك الخطر لعظيم الذي لم تعرف مثله.
ثم أطفئت أنوار المعسكر الإسلامي فجأة وعم الظلام، ولم يبق أمام المحاصرين سوى البكاء والتوسل إلى الله وطلب رحمته، وجمعت الأيقونات، وطلب توسطها هي والقديسين لدى مريم العذراء أن تنقذ المدينة من العذاب الذي أحاط بها سرادقه، ولكن ضرب المدينة كان مستمرا بدرجة ظن معها المحاصرون مجيء يوم القيامة.
وأمر السلطان أن يتعاون الأسطول مع الجيوش البرية فيقرب من البر ويهاجم الأسوار على ضفة القرن الذهبي؛ وبذا يشغل عددا كبيرا من المحاصرين في هذا الجانب.
وقام السلطان بتفتيش الجيش واستعداداته بدقة وعناية كبيرتين فهو من الشخصيات القيمة التي تظهر قوتها في المواقف الجليلة الحاسمة، وهي التي تستطيع خلق الثقة في النفوس وحفز العزائم، والعبقرية هي التي تستطيع الاستفادة من التجارب السابقة وتحيط بالمواقف دراسة وتعرف مواضع النقص فتعالجها.
في هذا اليوم نظم محمد الثاني جيوشه على نسق نادر المثال، ثم جمع ضباطه وقواده في اليوم السابع والعشرين من مايو، وخطب فيهم كما تقول قصة أخذ القسطنطينية لشلومبرجر فقال:
إنني لم أجمعكم في هذا المكان لأبعث روح الحماس فيكم، فما ينقصكم هذا الروح، ولقد أظهرتم هذا الروح في أكثر من موضع، ولقد سرت عدوى هذه القوة إلى نفوس جنودكم، ولكني جمعتكم لأعرض أمامكم المكافأة والثواب الذي سينالكم بعد الهجوم القريب المنتظر، فأمامكم مدينة الكنوز والثروة والجمال والغنى والنفائس التي تزدحم بها الكنائس العديدة والقصور الكثيرة. ستأسرون سادة القوم وتستعبدونهم، وهناك النساء الجميلات والحور العين اللاتي لم تقع عين إنسان على مثلهن، ستتزوجون بمن تشاءون منهن وتستخدمون من تشاءون.
وصور السلطان جمال قصور القسطنطينية وقال إنه:
يعدهم بمدينة عظيمة هي عاصمة الرومانيين القدماء، مدينة المجد والترف والعز، مركز العالم - هذه المدينة ستستبيحونها بما فيها من كنوز ورجال ونساء، وذلك بعد أن وقفت أعواما طوالا أمام الأتراك وأمام الإسلام وعملت على إضعافه واتحدت مع أعدائه. «إن سقوط القسطنطينية سيعطي للعثمانيين الطمأنينة النهائية، ويفتح لهم كل بلاد الإغريق» وبين السلطان لجنوده «أن فتح هذه المدينة ليس بالأمر العسير، فهي لن تقف أمام هجومهم» لقد سدت خنادقها وتهدمت أسوارها، وانفتحت فيها ثغرات كبيرة، وأن الطريق أمامهم واسعة لنيل المجد والعز واللذة، فالمدافعون قليلو العدد قد أرهقوا إلى الموت، وليس لديهم من السلاح أو عدد الحرب ما يستطيعون أن يناضلوا به مدة طويلة «ولذا فالنصر مكفول لنا».
وأشار إلى أنه بالإرادة القوية والعزيمة الصادقة والطاعة العمياء في تنفيذ الأوامر واتباع النظام، فالنصر مضمون لا مراء فيه.
ثم أمرهم عند ذلك بالرجوع إلى أماكنهم وتناول طعامهم والاستراحة والإخلاد إلى السكينة التامة حتى مطلع الفجر فتأتيهم الأوامر بالقتال وعندئذ عليهم بالهجوم العام.
وأعطى تعليماته لقواده العظام؛ فالأسطول يقترب من الأسوار ويهاجمها من ناحية القرن الذهبي، وزوغنوس باشا يهاجم الأسوار التي تقع في ناحيته. وعلى صاريجه باشا أن يقوم بهجوم عام في المنطقة التي تكثر بها الثغرات، وأما إسحق باشا ومحمود باشا اللذان يقودان الجيوش الآسيوية أو جيوش الأناضول فيقومان بالهجوم من ناحيتها. ويقوم فريق بتسلق الأسوار يعضدهم فريق آخر بجانبهم، وأن يشتد الهجوم في منطقة باب القديس رومانوس حيث يوجد جون جوستينياني وتابعوه من الإيطاليين والأجانب.
وفي نفس المدينة الحزينة قامت الاستعدادات اليائسة، فلقد علم سكانها بالهجوم العام الذي سيباغتهم، ووقف كل منهم في موضعه المخصص. وتخيل فريق آخر من أهالي القسطنطينية أن سكون المعسكر التركي معناه استعداده لترك الحصار ومغادرة المدينة، ولكن الفريق الأكبر كان على يقين بأن الهجوم التركي العام قادم لا ريب فيه.
وعم الحزن المدينة، وأيقنت بالهلاك، وبكى رجال الدين عاقبة الفساد في هذه الدنيا، وسوء تصرف المسيحيين حتى حاق بهم هذا الوبال، وأحاط بهم العذاب وتضاعفت عليهم الهموم من كل جانب. وظن الكاثوليك أن سبب ذلك الوبال رفض الأرثوذكس قبول المذهب الكاثوليكي، وظن الأرثوذكس أن ذلك العذاب نتيجة لقبول الدولة اتباع مذهب رومة، وظن ثالث أن ذلك العذاب نتيجة لإهمال الدين وعدم تقديم فروض الاحترام الكافي للقديسين. وعنت كل الوجوه للحي القيوم الباقي، وأما الإمبراطور فلقد أوضع في الحرب، وشمر فيها مستميتا، ورضي بما قسم الإله وقدر، وسار في موكب عظيم من الكاثوليك والأرثوذكس من القسس والرهبان، من الرجال والنساء يبكون بالدمع الغزير ويمزقون شعورهم معلنين خطاياهم، داعين الله أن يخفف عنهم ويغفر لهم، وألا يوقعهم في أيدي الأتراك، وسار الموكب على هذا الحال منشدا الأدعية الدينية، وردد ذلك من تبعهم من العامة والناس، وحملت الأيقونات على الأسوار ذاتها.
وحث الناس في المدينة الخالدة بعضهم بعضا على الموت وعلى بذل النفس في سبيل الدفاع عن مدينتهم، وخطب الإمبراطور البيزنطي في عظماء من الإغريق واللاتين، وكانوا كلهم قد وطنوا النفس على الموت. حاول الإمبراطور تقوية نفوسهم وتعزيتهم وبث روح التضحية في سبيل مدينتهم المسيحية المعذبة، فطلب منهم أن يستعدوا من الآن للموت، وقال لهم: «إن الساعة قد أزفت وإن الأعداء الأتراك القساة مصممون على ابتلاعها.» وطلب منهم التيقظ ومدافعة الأعداء بكل ما أوتوا من قوة وصبر، وبين لهم أنهم سيبذلون أرواحهم في سبيل الدفاع عن مدينتهم المحبوبة، ملكة المدن «للدنيا وللدين وللإمبراطور ولأولادهم ونسائهم، وإذا منحنا الله الرحمة والقوة سيولي عدونا الأدبار أمام سيوفنا، وإذا كان الله سيعاقبنا بخطايانا بنصر هؤلاء الأعداء، فسيفقد المسيحيون حريتهم وكل عزيز لديهم.» «إن المسيحيين - كما خطب الإمبراطور - لهم الله، بينما للمسلمين قوتهم ومدفعيتهم وفرسانهم ومشاتهم» وخاطب البنادقة الموجودين ومدح شجاعتهم وعدد صفاتهم النبيلة، وطلب بذل كل شيء حتى النفس في سبيل الدفاع عن القسطنطينية مدينة المسيحية. وواجه رجال جنوة بنفس الكلام.
وقال لمواطنيه: «لا تفقدوا شجاعتكم. إن للأتراك البرابرة عددهم وسيحاولون بهجومهم العام القضاء عليكم، ولكنكم أنتم القليلو العدد عندكم قوة أسواركم، ومعاونة حلفائكم الشجعان، وعون الله القادر على كل شيء، لقد تدربتم على النضال والصراع ... وأظهرتم عظيم إخلاصكم لوطنكم.» عند ذلك لم يفكر هؤلاء الجنود الأسود لا في أطفالهم ولا نسائهم ولا مصالحهم في ذلك العالم، وإنما جعلوا هدفهم الوحيد الموت في سبيل القسطنطينية.
واجتمع العدد الكثير من سكان المدينة ومعهم الإمبراطور والقساوسة والقواد تحت قباب كنيسة سانت صوفيا يدعون ويبتهلون، وكان هذا آخر حفل مسيحي في هذه الكنيسة العظيمة، نسي هؤلاء كلهم أحزانهم أمام الموت المحقق القريب، ومزجوا صلاتهم بالحماس العظيم ، ثم عاد الكل إلى مواضعهم على الأسوار وإلى حماية الأبواب.
وفي أثناء الظلام الدامس اقترب الجنود الأتراك من الأسوار، وقرب بزوغ آخر فجر رآه الإمبراطور، وتقدم الأسطول العثماني، واحتل بالقوة المواضع التي خصصت له. وهجمت الجيوش هجوما عنيفا من كل جانب في نقط عديدة، ولكن الهجوم الرئيسي كان في ناحية وادي ليكوس. كبر العثمانيون أثناء هجومهم، وصدحت موسيقاهم فملأت الجو، وعمت الضوضاء بين الهجوم والدفاع، ودقت نواقيس الكنائس.
بدأ الباشبوزق بالهجوم أولا، وكان بينهم عدد كبير من المسيحيين الكاثوليك من الألمان والهنغاريين والإغريق واللاتين. وكانت غاية الأتراك من بعث هذه الفرق في الطليعة استنزاف دماء الأعداء وإنهاكهم واستهلاك ذخائرهم الحربية.
هاجم الباشبوزق في الظلام، وحاولوا تسلق الأسوار في جبهة طويلة، وكانت أسلحتهم مختلفة كاختلاف أجناسهم ولغاتهم وأشكالهم. وحاولوا نشر الفوضى بين صفوف المدافعين، واستمر هجومهم ساعة أو ساعتين وهلك منهم عدد كثير بالرغم من قوتهم وجرأتهم، ولكنهم أنهكوا المدافعين الذين لم يذوقوا طعم الراحة لمدة طويلة.
ثم هاجمت جنود الأناضول عند باب القديس رومانوس، وكان هذا بدء الهجوم الحقيقي، وكان هذا عند بزوغ الفجر، فأحدثوا بالدفاع عطبا جسيما، واخترقوا الخنادق وهاجموا السور الخارجي واشتبكوا برجال الدفاع، هاجم الأتراك في كتل بشرية عظيمة منظمة من جنود وهبوا حياتهم للحرب ودربوا للحرب، ولكن الأتراك لم يستطيعوا دخولها من النواحي الأخرى ولكنهم أحدثوا في الدفاع ثغرات، كما أحدثت مدفعيتهم في القتال ثغرات.
ولاحظ السلطان أن ما يبتغيه من إحداث الفوضى بين صفوف المدافعين قد حدث، عند ذلك دفع بجنوده الإنكشارية، وكانوا لم يشتركوا في القتال بعد، فتقدموا في وادي ليكوس كالأسود الضارية لا كرجال، ليقابلوا رجالا قد أنهكهم التعب والجوع وأثخنتهم الجراح، تقدموا بصياحهم الداوي، وتكبيراتهم القوية، وقربوا من الأسوار الداخلية وقتلوا من وجدوهم من المدافعين وداس بعضهم بعضا ووصل بعض الإنكشارية إلى داخل المدينة وارتقى الأسوار وأزال علم الإمبراطور وعلم البندقية، ورفع علم الأتراك.
وفي هذه الأثناء جرح جوستنياني جرحا مميتا فحمل وهو في النزع، وتدفق الأتراك إلى داخل المدينة . وأما الإمبراطور البيزنطي فإنه حمى أنفه ومات كريما لم تذم خلائقه. ولو شاء لعاش ملوما ذليلا مهينا. وقتل الإمبراطور البيزنطي وسنه تسعة وأربعون عاما، فكان آخر الأباطرة البيزنطيين، وأما سراة المدينة فمنهم من غودروا صرعى تعاورهم الرياح، ومنهم من هرب، ومنهم من مات كمدا، ومنهم من عاش ذليلا بحسرة نفس لا تنام همومها. وأما المدينة فاستبيحت حرماتها وكل شيء فيها للفاتحين. لقد قتل أربعون ألف مسيحي في الحصار والهجوم، وأخذ خمسون ألفا، وسلم عشرة آلاف، وقتل عدد كبير من الأرستقراطية الإغريقية، وأخذ أبناؤهم ليتعلموا اللغة التركية والدين الإسلامي وضم النساء إلى حريم السلطان وحريم تابعيه.
ولقد عم الفزع المدينة حين دخلها الأتراك، فحاول عدد كبير من سكانها بمختلف أعمارهم الهرب إلى الميناء، والتجأ جم غفير إلى سانت صوفيا وغيرها من الكنائس معتقدين أنهم وجدوا الأمان، وأن الآلهة ستحميهم من عدوان الترك، وأن الملائكة ستنزل من السماء وتجعل العدو ترابا، وأغلقوا الأبواب وتوسلوا إلى الله، ولكن الأتراك حطموا الأبواب واستولوا على كل شيء، واستمر القتل اليوم الأول، واستبيحت المدينة ثلاثة أيام.
تمكن السلطان من الانتصار لقوته وعزيمته وحماس جنوده وتفوق مدفعيته، فوقعت المدينة تحت أقدامه.
وفي الظهر دخل السلطان محمد الثاني الفاتح المدينة من باب القديس رومانوس يمتطي صهوة جواده في موكب حافل يتبعه وزراؤه وقواده وجنوده، وسار في الشارع المؤدي إلى كنيسة سانت صوفيا، وترجل أمام الباب وانحنى ووضع حفنة من التراب على رأسه خضوعا لله وشكرا، ودخل الكنيسة فبهره جمالها وبهاؤها، ودخل إلى المذبح حيث قابله رجال الكنيسة وكانوا مختبئين فأحسن استقبالهم وأكد حمايته لهم، وطلب من المسيحيين الفزعين الموجودين في الكنيسة الذهاب إلى مساكنهم آمنين.
ثم طلب من أحد المؤذنين أن يؤذن للصلاة، فصعد المنبر وأذن للصلاة لأول مرة في هذه الكنيسة العظيمة، فأصبحت أياصوفيا مسجدا جامعا من أعظم مساجد الإسلام.
ثم طاف السلطان بالمدينة وشاهد آيات جمالها وعظمتها، ومر بالقصر الإمبراطوري فهاله مغادرة أصحابه له وزوال العز عنه، فتمثل بأبيات للفردوسي في هذا المعنى. وفي القسطنطينية أعلن السلطان محمد الثاني الفاتح زوال الدنيا القديمة ومجيء العالم الحديث.
وبعث إلى أمراء المسلمين وسلاطينهم ينبئهم بذلك الفتح العظيم، فيقول ابن إياس صاحب بدائع الزهور إنه أرسل إلى مصر بهذا الفتح «فلما بلغ ذلك دقت البشائر بالقلعة، ونودي في القاهرة بالزينة، ثم إن السلطان عين برسباي أمير خور ثاني رسولا إلى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح.»
ويحاول كثير من المؤرخين الإفرنج المبالغة في وصف أعمال السلب والنهب والقتل التي قام بها الأتراك العثمانيون في المدينة الخالدة، ونسبوا ذلك إلى قسوة في المسلمين ووحشية في الأتراك، ونسوا أن هذا روح العصر كله، وأن هذا العصر عصر الحروب الصليبية، وعلى أي حال لم يرتكب الأتراك العثمانيون في هذه المدينة ما ارتكبه اللاتين الصليبيون حين استولوا عليه في سنة 1204، وقد كانت دائما محط أطماعهم، وهذا هو وصف البابا أنسنت الثالث للبلوى التي حلت بالمدينة في هذه السنة فيقول: «إن أتباع المسيح وناصري دينه الذين كان يجب أن يستلوا سيوفهم ضد عدو المسيحية الأكبر، قد سفكوا الدم المسيحي الحرام وغرقوا في بحاره، هؤلاء لم يحترموا الدين ولا السن ولا الجنس، فارتكبوا الزنا في وضح النهار ... لقد سلمت الراهبات والعذارى والأمهات الطاهرات لوحشية الجنود ... ولم يكتف هؤلاء بسلب ذخائر الإمبراطور ولا نهب متاع الأفراد، بل لقد وضعوا أيديهم على أرض الكنائس وثروتها ... وانتهكوا حرمات الكنائس وسلبوا أيقوناتها وصلبانها وآثارها ومخلفات القديسين.» وأضاف الأستاذ شارل ديل: «لقد دخل الجنود السكارى كنيسة سانت صوفيا، وأتلفوا الكتب المقدسة، وداسوا بأقدامهم صور الشهداء ... وجلست عاهرة على كرسي البطريرك وارتفع صوتها بالغناء ... لقد قضي على آيات الفن في المدينة، وأذيبت التماثيل لتسك نقودا ... ولقد اعترف أحد الرهبان الذين شاهدوا هذا الحادث الأليم فقال: إن أتباع محمد ما كانوا يعاملون المدينة مثلما عاملها جنود المسيح، ثم نظمت الحكومة الجديدة اللاتينية أعمال السلب والنهب وقسمت الإمبراطورية بين اللاتين وفرضت الكثلكة بالقوة على اتباع المذهب الأرثوذكسي ...»
عوامل النصر
ما هي الأسباب التي جعلت من العثمانيين في عهد محمد الفاتح قوة متفوقة من الطراز الأول إن لم تكن أعظم قوة في القرن الخامس عشر الميلادي.
لقد تحدثنا عن شخصية السلطان محمد الثاني وعبقريته وقوته الدافعة، وهناك عوامل مهمة ساعدت هذه العبقرية على الوصول إلى مآربها، منها أن الدولة العثمانية دولة نشأت في حوض البحر الأبيض المتوسط في ملتقى الطرق العالمية فتأثرت بحضارة الشرق والغرب معا، فمن الوجهة التاريخية تعتبر آسيا الصغرى التي أصبحت فيما بعد مركزا للأتراك العثمانيين، تعتبر جزءا من الغرب منذ ذلك الوقت الذي خاض فيه الإسكندر موقعة إسوس ضد الفرس إلى الوقت الذي قامت فيه موقعة منذكرت بين السلطان ألب أرسلان السلجوقي والدولة البيزنطية وانتهت بانتصار السلاجقة الحاسم. فليست الدولة العثمانية التي نشأت وترعرعت في الأناضول دولة شرقية فحسب، ثم إن ممتلكاتها نمت في أوروبا وآسيا في وقت واحد، كما أن سكانها لم يكونوا ينتمون إلى العناصر الشرقية وحدها، بل كان عدد كبير من الأتراك العثمانيين أوروبيين بلقانيين صقالبة وإغريق. وحتى سكان آسيا الصغرى نفسها لا يرجعون كلهم إلى أصل تركي نقي، ففيها العنصر المسيحي الأوروبي الأصلي لا يستطاع إهماله، فيخطئ من يظن أن الدولة العثمانية في عهد الفاتح أو قبله بقليل كانت دولة شرقية بحتة، حضارتها شرقية خالصة.
ومن ناحية ثانية الدولة العثمانية دولة مسلمة حنيفة حديثة العهد بالإسلام شديدة التمسك به؛ فهي كبيرة الحماس له، سباقة إلى الجهاد في سبيل نشره، فكان الدين الإسلامي مفخرتها وأداة وحدتها، والجهاد في سبيل الله وسنة رسوله من الدوافع التي تحفزها للحياة وللبقاء والانتصار.
جعل الأتراك العثمانيون في باكورة حياتهم الجهاد غرضا من أسمى الأغراض التي ترمي إليها دولتهم، وتوسيع رقعة الإسلام من أهم أهدافهم، وزيادة عدد الذين ينطقون بالشهادتين من أعظم عناياتهم؛ فهم كالعرب في بدء حياتهم الإسلامية كل تركي ككل عربي محارب بطبيعته، لا قيمة للرجل إلا بسلاحه، ولا مركز له إلا بسابقته وجهاده وانتصاره.
وبعد ذلك فالأتراك لا يزالون في شبابهم، ولا يزالون يملكون القوة الكافية، ولديهم حيوية لم ينضب بعد معينها، ولم تفارقهم طوال تاريخهم حتى في أشد أوقات محنتهم؛ فهم شعب جديد لا يزال يتمتع ببساطته الأولى لم تفسده المدنية، ولم تفتنه الحضارات المضمحلة التي كانت منتشرة في كل البلاد التي هاجر إليها والتي فتحها. ولكنه استفاد من كل هذه الحضارات أحسن ما فيها. فلقد ورث عن التتار صفات السيطرة والميل للفتح والقهر، وتشرب الميول والأفكار التي تساعد على القوة والميل للتجمع حول زعيم لغرض الفتح والانتصار الحربي، وكانت عنده المقدرة على الحكم والإدارة، واستفاد من الحضارة العربية نظاما دينيا واجتماعيا وقانونيا إسلاميا لا زال محتفظا بحيويته ونقائه وصلاحيته للبقاء، وأخذ عن الإغريق والبلقانيين بعض نظمهم وتقاليدهم. لقد اكتملت لدى الأتراك العثمانيين كل الصفات القوية التي أصبحت تنقص معظم الشعوب المعاصرة لهم.
أما من حيث نظام الحكم فلقد بلغ درجة كبيرة من الإتقان والدقة في عصر الفاتح، هذا النظام يشبه إلى حد النظام المملوكي في مصر وإن كان يختلف عنه من بعض الوجوه. نظام وضع لاختيار من يرشحون لتولي أمور الدولة، نظام يعنى أولا بانتقائهم ثم بتدريبهم وتثقيفهم، ثم اختيار ما تؤهله صفاته العقلية والجسمية ومواهبة للوظائف التي تتناسب وهذه المؤهلات.
يشمل نظام الحكم الهيئة التنفيذية، وهذه على رأسها السلطان وتتكون من البلاط والإدارة والجيش القائم من فرسان ومشاة.
والسلطان هو رأس نظام الحكم كله ومركزه وقوته الدافعة، وهو أداة توحيده وتسييره، وهو صاحب التصرف المطلق في الأموال والأنفس، وهو الذي يصدر الأوامر ويمنح الرتب ويفرق النعم والخيرات، لا توجد سلطة أو قانون يحد من سلطته ولا رقيب عليه إلا الله والشرع، فأوامره تأتي في الأهمية بعد كتاب الله وسنة رسوله، ومجموعة خطوطه الشريفة ومراسيمه وأوامره هي قوانين الدولة بعد القانون الإسلامي.
ولذا فالسلطان بالرغم من اتساع سلطته لا يجرؤ على مخالفة الشرع الشريف، فهو يستفتى في أمور الدولة المهمة وفي الأمور التي لها صفة دينية، ومن هنا نشأت وظيفة المفتي في الدولة العثمانية، وأصبحت هذه الوظيفة مهمة جدا بالرغم من أن ذلك الموظف الكبير كان كبقية الموظفين الآخرين قابلا للعزل، إلا أنه لم يكن هناك مفر للسلطان من أن يستشيره حتى يكون مطمئنا أمام نفسه وأمام الرأي العام الإسلامي.
فكان السلطان إذن حريصا على رضاء الله وعلى استرضاء الرأي العام.
وكان الأتراك محبين لسلاطينهم مخلصين لهم متعلقين بهم إلى درجة التقديس أحيانا، فلم يفكر الأتراك لمدة سبعة قرون في تحويل السلطنة عن آل عثمان إلى عائلة أخرى.
وكان السلطان يعين في إدارة الدولة الوزراء، وهم على عهد السلطان الفاتح أربعة، رئيسهم الصدر الأعظم، ويليهم رجال الشرع وهم يعاونون السلطان في الأمور الدينية والقضاء.
وبجانب السلطان مجلس الدولة وهو ديوان مكون من الوزراء والقضاة وموظفي المالية الكبار، ورياسة هذا المجلس للصدر الأعظم في حالة غياب السلطان.
أما من حيث الإدارة فالسلطنة مقسمة إلى ولايات على كل منها بك.
وأذن للهيئة التنفيذية أن ينتمي أعضاؤها كلهم باستثناء السلطان إلى أصل غير تركي وغير إسلامي، إلى أصل مسيحي صرف. تكونت الهيئة التنفيذية من أولاد وشبان نشئوا في أحضان المسيحية وتربوا في أوساط مسيحية بحتة من آباء مسيحيين خلص، أخذ هؤلاء الأولاد والشبان من ديارهم الأصلية كرقيق للسلطان، ودخلوا في خدمته ليعيشوا في ظله وكنفه وتحت رعايته.
لقد أخذ الأتراك العثمانيون أولاد الفلاحين من وراء المحراث وأبناء رعاة الغنم والخنازير ليجعلوا منهم جنودا وسادة، قوادا وحكاما ووزراء، أخذوا أولاد المسيحيين ليجعلوا منهم قوادا للإسلام وزعماء، همهم الوحيد وغاية حياتهم نصرة الهلال والدين الإسلامي وخدمة أكبر دولة إسلامية والقضاء على أعداء الإسلام.
فالنظام العثماني كان يفصل بين هؤلاء الأبناء وبين آبائهم وبيئتهم الأصلية إلى الأبد، فكم من قلب جريح ونفس مكلومة وحزن طويل حين يغادر هؤلاء الشبان أوطانهم وآباءهم وأمهاتهم! سيذهب هؤلاء الأبناء إلى مكان غير معروف، حيث يربون على غير ما عهد الآباء والأجداد.
ومع ذلك فلم يكن أخذ هؤلاء الأولاد شرا لا يمتزج به الخير، فلقد كانت سلوى الآباء والأمهات أن هؤلاء الأبناء سيفارقون فراقا نهائيا حياة الفقر والضنك والبؤس التي عاشوها هم، سيكون لهم مستقبل كبير ومجد عريض وعيش رخي، فلقد كان الكثير من هؤلاء الأبناء إذا وصل إلى مركز كبير يذكر أهله بالخير، ويعاملهم في الدنيا معروفا لا يبتغي منهم جزاء ولا شكورا.
كان العثمانيون يختارون هؤلاء الأولاد والشبان من سن الحادية عشرة إلى سن العشرين، ولم يكونوا يختارونهم حسب أسمائهم أو جنسهم أو عائلاتهم أو أحسابهم، وإنما نظروا إلى وجوههم وقوة أجسامهم وبراعة عقولهم، وقالوا لهم ستكونون جنودا لهذه الدولة التي اختارتكم، وإذا أسلمتم وأثبتم كفاية جسمية أو عقلية فستكونون قوادا لها وزعماء، وإذا أقمتم الدليل على كفاية عقلية ورغبة في الثقافة صرتم علماءها وحكامها ووزراءها. ثم يأخذون هؤلاء الأولاد والشبان ويعملون على تربيتهم في طاعة قانون وتدريب واحد، وفي ظل دين واحد هو الدين الإسلامي الحنيف.
كان هؤلاء الأولاد الشبان يؤخذون كذلك من الأسرى، فكان السلطان ينتقي خيرة الأسرى وأولاد الأرستقراطية المسيحية ليضمهم إلى حكومته وجيوشه، أو كانوا يشترون أو يفرضون على أهل الذمة كضريبة، واتبع نظام خاص في جمع أولاد الجزية هؤلاء، فعين موظفون لذلك الغرض يذهبون كل أربع سنوات إلى القرى وعين لكل منهم العدد الذي يجمع.
كان هؤلاء الأولاد والشبان يجمعون عادة من الجبال ومن الأماكن الفقيرة والقرى الصغيرة في سن لا تربطهم بالأهل فيها روابط كثيرة متينة، في سن فيها الشك في الدين، وفيها انتقاد التقاليد، ويغلب فيها حب المغامرة والانتقال والسفر وتغيير نمط الحياة، يسمو فيها الخيال إلى العظمة والمجد، في سن أصلح للأخذ من السن التي قبلها سن الطفولة والسن التي تليها سن الاستقرار وتكوين العائلة، فكانوا يؤخذون في سن المراهقة.
يؤخذ هؤلاء الأولاد ليدربوا أحسن تدريب عسكري عرفه العالم في ذلك الوقت، ولتفتح أمامهم سبل الحياة، ويبتسم لهم المستقبل الزاهر.
وهؤلاء الذين اختيروا يصيرون عبيدا للسلطان، رقيقا له من يوم ما جمعوا، يصبحون مماليك السلطان بكل معاني الكلمة، هم مماليكه مدى الحياة ومهما ارتفعوا إلى مراكز عظيمة فهم يظلون دائما رهن إشارته وتحت تصرفه لا يعتبرون حياتهم ملكا لهم، فهو الذي اختارهم وهو الذي رباهم، وهو الذي علمهم، وهو الذي رقاهم. وهم مخلصون له الطاعة، مدينون له بكل شيء .
خلق هذا النظام المحكم للدولة العثمانية خداما مخلصين للسلطان، يتبعون أوامره، ويلتفون حوله، ويدافعون عنه ويحاربون في صفوفه، ولما كانوا قد تلقوا أحسن تدريب عرفه العالم في ذلك الوقت، كانوا خيرة جنود العالم، يخاف سطوتهم العدو، ولا يقف أمامهم شيء، هذا إذا كانت شخصية سيدهم والمدبر لشئونهم السلطان قوية محبوبة محترمة مهيبة الجانب، ولقد كان سلاطين الدولة العثمانية إلى عهد الفاتح من أقوى الشخصيات التي عرفها التاريخ في أي دولة ناشئة.
وهذا النظام، فضلا عن أنه ينشئ للحكم أفرادا صالحين، فهو يضيف إلى الأتراك والمسلمين عناصر سليمة فتية قوية، ويقول البعض إنه قد يشوب إخلاص هؤلاء للدين الإسلامي بعض الشوائب. لقد أثبت التاريخ العثماني أن كثيرا من هؤلاء خدموا الدولة واشتركوا في إقامة صرحها وفي رفع ذكرها وكانت لهم يد طولى في بناء مجدها.
وعلى أي حال فأولاد هؤلاء من بعدهم يربون في بيئة إسلامية صرفة فينشئون مسلمين وينضمون إلى بقية أفراد الشعب التركي؛ إذ لم يكن مسموحا لهم أن يصبحوا كآبائهم أعضاء في هيئة الحكم.
فليس الرق في الدولة العثمانية إذن نظاما شائنا أو عارا، ولم يكن نظاما للمستضعفين، فالوزير في الدولة يفخر بأنه عبد السلطان، وأصحاب القوة والسطوة والنفوذ كان معظمهم - إن لم يكن كلهم - رقيق السلطان.
وأما الجيش فكان مكونا من عناصر مدربة أحسن تدريب لا تعرف عملا لها سوى الخدمة العسكرية وأمور الحرب والإخلاص في طاعة السلطان، يمنحها المستقبل الزاهر والثروة والجاه. ونظام الجيش يقوم على أساسين؛ النظام الإقطاعي: فالسلطان يهب الأرض على شرط أن يقوم صاحبها بالخدمة العسكرية في الوقت الذي يطلبه فيه السلطان، وعليه أن يعد الخيل اللازمة له ولأتباعه الذين يتحدد عددهم بمقدار إيراد الأرض، وهذا النظام يشبه النظام الإقطاعي الأوروبي ولكنه أصلح منه من الناحية الحربية، فهؤلاء المقطعون يخدمون السلطان في أي وقت يشاء، ولأي مدة يريدها لا لمدة أربعين يوما كما هي الحالة في أوروبا.
والأساس الثاني هو أساس الرق: وجنود هذا النظام يختارون كما تختار هيئة الحكم، ولم يكن أفراد الجيش حين يدخلون خدمة السلطان مجبرين على اعتناق الدين الإسلامي، ولكن أحيط قبول الدين بكل مظاهر الإكرام، فلقد مهدت لمن يعتنقون الإسلام السبل للترقي المستمر وأبعدوا عن الوسط المسيحي، وتربوا في جو إسلامي بحت؛ وبذا نسي هؤلاء تقاليدهم القديمة، وأثر في ميولهم وعقليتهم الدين الجديد.
ومن أهم عناصر الجيش العثماني في عهد السلطان مراد الثاني والفاتح فرقة الإنكشارية، فأفرادها كلهم من أصل رقيق مسيحي، وترجع نشأة هذا النظام إلى عهد السلطان أرخان، فلقد اقترح وزيره قره خليل خلق جيش جديد مكون من فتية مسيحيين، وبرر ذلك العمل كما تقول القصة بأن سكان البلاد المفتوحة ملك للقاهرين هم وأزواجهم وأطفالهم وما ملكت أيديهم، وهو عمل صالح بعد ذلك، فهو يجعل من أبناء النصارى مسلمين، ولقد دعا لهم الشيخ بكتاش ببياض الوجوه وقوة السواعد وحدة السيوف وإصابة الهام، وأن يكون النصر حليفهم في الحرب وسماهم بالعسكر الجديد.
هذا العسكر الجديد تدرب على أمور الحرب، فأصبح أفراده مقاتلين من الطراز الأول وخصوما عنيدين يقاتلون في خط واحد كأنهم بنيان مرصوص. هذا الفريق تدرب أفراده جسميا أكثر مما تدربوا عقليا، وقوتهم هذه جعلتهم مرهوبي الجانب يخشى بأسهم إذا غضبوا، وكانوا عادة ينظمون في أود أو أرط، ولكل أرطة ضباطها وعلى رأس الضباط جميعا الآغا.
هؤلاء الجنود كانوا حرس السلطان الخاص، يتبعه منهم في كل مرتحل مائة وخمسون، ومن يكبر في السن من هؤلاء الجنود أو يصيبه الضعف أو الوهن يرسل إلى حراسة الحصون.
فنظام الحكم ونظام الجيش - كما رأينا - نظام تعليمي، هو مدرسة للحياة بالحياة، فيها التدريب، وفيها التثقيف، وفيها النظام الدقيق، وفيها مستويات معينة يرقى فيها المتعلم.
وقام هذا النظام على مبدأ الجدارة والاستحقاق، فالذي يرقى هو الذي يملك المواهب والمؤهلات الخاصة ويحسن استغلالها، ويظهر كفاية ممتازة. وقام ذلك النظام على أساس مبدأ المكافأة فهو يجازي الذي أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وهو يهتم بكل مناحي التربية من عقلية وجسمية وروحية، فيه تدريب للجسم وصقل للعقل وغرس لمبادئ دينية واجتماعية جديدة .
فبرجرام التعليم شامل، وكما اهتم بالمتعلم اهتم بالمعلم، فعني باختيار المعلمين من مدرسين وضباط وعلماء، ولا مكان في ذلك النظام للضعيف أو الكسول أو البليد أو الخائن لأنه في أول فرصة تظهر فيها سمة الخيانة أو الغدر عقابها الوحيد الرادع هو الاستئصال، هو ضرب الرقاب.
وبجانب الإنكشارية الجنود السباهية أو الفرسان، وبجانبها أنواع أخرى من الجنود كالباشبوزق والأكنجي والغرب.
وكان يسود الجيش العثماني النظام والهدوء؛ ففي المعسكرات حين يأمر السلطان لا يتكلم الجنود إلا همسا، ويمتاز ذلك الجيش بالطاعة والخضوع والصبر على المكاره وتحمل الجوع والظمأ وقطع المسافات الطوال، كما يمتاز بخفة وسرعة حركاته، فالحصان التركي كالحصان العربي خفيف وسريع، بينما الجيوش الأوروبية في ذلك الوقت تمتاز ببطء حركاتها؛ نظرا لثقل الملابس الحديدية التي يلبسها الدارعون ولثقل الفرس الأوروبي.
وشهد بتفوق الجيش العثماني معاصرو الأتراك من أوروبيين ومسيحيين؛ فالحكومة العثمانية كانت في الواقع كلها جيشا قبل كل شيء، فالأتراك جنس ولد للحرب، وتوحد للحرب، ونظم للحرب، فالحرب كانت أهم وظيفة تقوم بها الحكومة.
فهي منظمة للدفاع عن نفسها داخل البلاد وخارجها. ولقد فاق اهتمامهم بالحرب أي دولة أخرى معاصرة لهم. وكان اهتمامهم بالمدفعية بالغا، وكذلك باقتباس كل المخترعات الحديثة في الأسلحة وأدوات الحرب، وعنوا بكل الأمور المتصلة بالحرب من إعداد فرق خاصة بمسائل تموين الجنود وإعداد الطرق التي تمر فيها الجيوش، وبنظام المعسكر ووسائل النقل والترفيه عن الجنود.
ويصف المعاصرون كثرة الأغذية والعتاد الحربي في معسكرات الجنود وكذا دواب الحمل والنقل، ولم تعن دولة لا في أوروبا ولا في بقية أجزاء العالم في ذلك الوقت مثلما عني العثمانيون من ناحية إعداد الجنود وتدريبهم ونظامهم وغذائهم وملبسهم ومكافأتهم.
لم يوجد في نظام الحكم هذا شيء يعرف بالوراثة، فكل الحقوق والامتيازات التي ينالها الأفراد شخصية لا تورث من بعدهم، فالنظام العثماني الحاكم لا يعرف الوراثة، ولا يعترف بغير الكفاية والجدارة الشخصية، ومن هنا كان الباب مفتوحا أمام الكفايات، ووجدت الهمم ما يحفزها ويكافئها، ولم تتركز القوة أو السلطة في يد عائلة واحدة أو عائلات قليلة كما هي الحال في البلاد الأوروبية، فلم تكن هناك أرستقراطية ثابتة متوارثة - كما هي الحال عند المسيحية - وإنما الأرستقراطية الموجودة هي أرستقراطية للكفاية والجدارة والعلم. فالدولة في عهدها الأول قوة يسيطر فيه السلاطين على كل شيء، ورعيتهم كلها مستوى واحد هي رعية السلطان، تتساوى أمامه، ويرعى أفرادها بعنايته، وأكد هذه المساواة الدين الإسلامي، فهو يقول بتساوي الناس جميعا، فلم يجد الأتراك غضاضة إذا رفع السلطان أضعفهم وأفقرهم إلى أعلى مراتب الدولة، فهناك شعور عام بالمساواة بين رعايا السلطان.
وعناية الحكومة كما ذكرنا كانت موجهة إلى الدفاع عن نفسها داخل البلاد وخارجها، ثم توسيع رقعة البلاد والعمل على زيادة عدد سكانها؛ وذلك عن طريق الحرب في دار الحرب، وهنا تظهر قوة الدافع الديني، فقوة الدولة هي قوة الإسلام، وفتوحات الدولة هي فتوحات الإسلام، وهنا تظهر أيضا قيمة الحرب في ضمان رفاهية السلطان وتابعيه من هيئة الحكومة بما يحرز في الحرب من غنائم وأسلاب.
ووظيفة هذه الحكومة بعد الاضطلاع بأمور الحرب وفنونها العمل على إنماء النظم التي تسير عليها، وتنظيم الدولة والحصول على المواد اللازمة لقيام الحكومة وبقائها، وفض المنازعات التي تنشأ بين رعايا الدولة والتي لا يستطيع نظام الملات - الذي سنتكلم عنه - الفصل فيها.
ومن أسباب قوة الدولة حياة البساطة التي كان يعيشها السلاطين الأول، فلم يهتموا كثيرا بمظاهر الأبهة والمدنية كما اهتم قبلهم الفرس أو البيزنطيون، أو كما اهتم بها السلاطين المتأخرون، فكانوا حريصين على اتباع أوامر الدين ونواهيه، وكانوا يذهبون إلى الصلاة فرادى في ملابس عادية لا يميزهم في المساجد عن غيرهم من الأفراد شيء؛ إلى حد أن الأجانب ما كانوا يستطيعون التمييز بينهم وبين سائر الناس، هذه البساطة كانت من مظاهر القوة إلى أن فتح السلطان محمد الثاني القسطنطينية، فلم يعد سلطان الأتراك سلطانا للأتراك فحسب، بل أصبح بجانب ذلك خليفة للإمبراطور البيزنطي فبدأت تدخل الحكومة العثمانية مظاهر الأبهة والعظمة.
موقف أوروبا إزاء سقوط القسطنطينية
لقد استولى الذعر على أوروبا حين علمت بسقوط القسطنطينية في يد الأتراك العثمانيين، هذه المدينة التي أسسها قسطنطين والتي قامت بحماية المسيحية.
قد يفترض بعض المؤرخين الأوروبيين أنه لو اتفقت أوروبا المسيحية فيما بينها وبعثت بالنجدة في الموقف المناسب لربما تأخر سقوط القسطنطينية، بل ربما لم يستطع الأتراك الاستيلاء عليها كلية ولا تهديد وسط أوروبا وفينا.
وهذا افتراض لا يقوم على أساس صحيح، فلقد كان للأتراك كما رأينا كل وسائل الانتصار في ذلك الوقت: القيادة الممتازة، والقوة الساحقة، والعزم الصادق، والمركز الاستراتيجي، فكانت ممتلكاتهم تحيط بالعاصمة الإغريقية من كل مكان.
ثم إن الأتراك استطاعوا أن يقضوا قضاء عزيزا مقتدرا على كل الدول القريبة من بيزنطة والتي ربما وقفت حجر عثرة في سبيلهم، لقد قضوا تماما على قوة الصرب التي كانت تبشر بمستقبل كبير في البلقان، وقضوا على قوة البلغار، وسيطروا على البلقان سيطرة لا ينافسهم فيها أحد، ولم تستطع المجر القيام بأي خطة هجومية بعد موقعتي ورنه وقوصوة، هاتين الموقعتين اللتين انهزمت فيهما المجر انهزاما ساحقا.
وبعد ذلك ما كانت دول أوروبا تستطيع أن توحد صفوفها، وما كانت تستطيع أيضا أن تبعث بنجدة قوية في الوقت المناسب لبعد المسافة وسوء وسائل المواصلات في ذلك الوقت، لا سيما وأنه قد ظهر لها أن ذلك الاتفاق وتوحيد الصفوف لو تم ما هو بمستطيع قهر الأتراك أو التغلب عليهم، فقد سبق أن دمر الأتراك قوة هذه الاتفاقات تدميرا ذريعا في أكثر من موقف، وما ذكريات نيقوبوليس الحزينة ببعيدة عن أذهان الأوروبيين، لقد دافع الأتراك عن مركزهم بنجاح أذهل ملوك أوروبا وشعوبها، وكانت نتيجة هذه الموقعة محزنة للمسيحيين بدرجة لم يعد معها من السهل استثارة الأوروبيين من جديد لحرب مع المسيحيين.
ثم إن مثل هذه الحملات كانت تستلزم جمع المال الوفير للاستعداد للحرب ولتحرير أسراها بعد الحرب، ولم يعد الأوروبيون يطمئنون بسهولة إلى إنفاق أموالهم في حملات غير مضمونة النتائج ولا مأمونة العواقب.
كانت موقعة نيقوبوليس - كما يقول مؤرخها الدكتور عزيز سوريال عطية - انتهاء الحملات الصليبية كحركات مسيحية منظمة ضد الأتراك العثمانيين؛ ولذا تعتبر هذه الموقعة فاصلة في مصير الدولة البيزنطية وفي مصير عاصمتها مدينة القسطنطينية.
ولكنه بالرغم من ذلك لم تكن البابوية زعيمة المسيحية لتنصرف إلى البأس أو تخلد إلى السكون؛ فهي ما كانت تسمح بقضاء المسلمين على الإمبراطورية البيزنطية مهما كانت كارهة لأرثوذكسيتها، فهي تخشى اعتداء العثمانيين على البلاد المجاورة لهم والتي تخضع للنفوذ البابوي الديني فتحولت الفكرة الصليبية إذن من محاولة انتزاع الأراضي المقدسة من المسلمين إلى صراع دفاعي، الغرض منه إنقاذ أوروبا الكاثوليكية من الأتراك. لقد كان القيام بالحروب الصليبية سياسة البابوية الخارجية.
ولذا حاول البابا بيوس الثاني بكل ما أوتي من مقدرة خطابية ومهارة سياسية تأييد الفكرة الصليبية الجديدة، وحاول توحيد أوروبا ضد الأتراك، وتركزت مجهوداته في ناحيتين: حاول أولا أن يقنع الأتراك باعتناق الدين المسيحي، ولم يقم بإرسال بعثات تبشيرية لذلك الغرض وإنما اقتصر على إرسال خطاب إلى السلطان الفاتح يطلب منه أن يعضد المسيحية كما عضدها من قبله قسطنطين وكلوفيس، وأن يكفر عن خطاياه باعتناق المسيح له مخلصا. ولم يكن معقولا نجاح مثل هذه المحاولة.
ولما فشل البابا في خطته هذه لجأ إلى الخطة الثانية؛ خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، وذلك عن طريق إقناع الدول المسيحية بتكوين حملة صليبية جديدة ضد الأتراك، حملة برية وبحرية تبين للأتراك تماسك أوروبا وتضافرها على الأخذ بناصر المسيحية.
ولكن الدول الأوروبية والجمهوريات الإيطالية ما كانت لتقوم بتنفيذ مثل هذا المشروع بالرغم من الخطر الذي يهدد معظمها، وبالرغم من أن فكرة القيام بحرب صليبية لا زالت مثلا من المثل العليا الأوروبية. لقد وعدت بعض الدول فعلا بالاستعداد لتحقيق فكرة البابا، ولكن لما جاء وقت الجد اعتذرت دول أوروبا بمتاعبها الداخلية ومشاغلها. لقد أنهكت حرب المائة سنة إنجلترا وفرنسا، وفوق ذلك فإنجلترا منهمكة في مشاغلها الدستورية وحروبها الأهلية، ولم تكن حالة فرنسا الداخلية تسمح لها بإشعال نار حرب مع الأتراك، فلقد أضعفتها المنازعات الداخلية. وأما إسبانيا فهي لا تزال تناضل في سبيل وحدتها القومية ضد المسلمين. وعلى أي حال كانت الفكرة العالمية المسيحية آخذة في الزوال، فكرة إمبراطورية مسيحية عامة، وأخذت تحل محلها بالتدريج فكرة القومية.
وأما الجمهوريات الإيطالية فكانت تهتم بتوطيد علاقاتها مع الأتراك أكثر من اهتمامها بالدخول معهم في حرب صليبية، وأخذت صحة البابا في الاضمحلال، وسرعان ما مات وانتهى مشروع الحملة الصليبية بموت صاحبها، وترك للمجر وللبندقية منفردين مهمة وقف الأتراك والدفاع عن حدود المسيحية.
وكيف تستطيع أوروبا إنقاذ القسطنطينية والحرب فيها مستعرة بين شعب وشعب، بين بابا رومة وبابا أفينيون، وبين مجمع ديني ومجمع ديني آخر. لقد اتفقت الملكيات الأوروبية والجمهوريات الإيطالية في لودي على الاتحاد ضد الأتراك في سنة 1454م، ولكن ذلك الاتفاق لم يقف أمام تجارب الزمن؛ فلقد انفصلت البندقية عن الاتحاد وعقدت معاهدة صداقة مع الأتراك وحسن جوار رعاية لمصالحها في الشرق الأدنى، وقامت الحرب على قدم وساق في شبه جزيرة إيطاليا، واهتم الكاثوليك باضطهاد أتباع يوحنا هوس أكثر من اهتمامهم بمحاربة الأتراك المسلمين. •••
كان سقوط القسطنطينية يمثل انتهاء حقبة من الدهر؛ فلقد قضى على الدولة البيزنطية التي عاشت حول أحد عشر قرنا من الزمان، وأزال منافسا خطيرا للدولة الرومانية المقدسة في الغرب، وقضى على حضارة بيزنطة المسيحية وعلى المثل والمبادئ التي كانت رمزا لها.
وتمثل كنيسة أيا صوفيا العظيمة التطور الديني الذي حدث؛ فلقد أصبحت مسجدا جامعا للمسلمين، وحل هلال بيزنطة القديم محل الصليب، واستطاع الأتراك أن يمدوا سلطانهم بعد ذلك إلى بلغراد والدانوب وما يسمى حاليا رومانيا، أصبح إذن غربي آسيا في قبضة الأتراك، وكذا جنوب شرقي أوروبا، فكانت الدولة العثمانية خطرا دائما على أوروبا مهددا لكيانها وحياتها، فلقد كانت قوة الأتراك الحربية لا نظير لها، وما كانت أوروبا التي ذهبت وحدتها لتستطيع الوقوف أمامهم.
في القسطنطينية وفي البوسفور والدردنيل وضع الأتراك أقدامهم في مركز استراتيجي مهم سيجعل تقدم روسيا أو نمو النمسا من ناحية الشرق أمرا مستحيلا لمدة تقرب من الخمسة قرون، امتلكوا أجزاء من العالم تسيطر على أوروبا وآسيا وأفريقية، كما سيطروا على معظم طرق المواصلات البرية والبحرية المهمة بين الشرق والغرب .
وتعتبر أوروبا تثبيت أقدامهم في ذلك الجزء من العالم كارثة لا تماثلها كارثة؛ ففي سنة 1453م ولدت المسألة الشرقية التي شغلت أوروبا إلى الوقت الحاضر ولا تزال تشغلها. كيف تستطيع أوروبا وقف تقدم الإسلام في أوروبا؟ ثم لما عاد الإسلام يتراجع من هذه الديار كيف تعمل أوروبا على توزيع ممتلكاته؟ ما كانت أوروبا تحير لهذه الأسئلة جوابا نهائيا.
فتوح الفاتح الأخرى
فتح بلاد الإغريق
لقد استولى السلطان محمد الثاني على القسطنطينية وسنه لا تزيد على ثلاثة وعشرين عاما، فكان أكبر من المقدوني بسنة واحدة في الوقت الذي فاز فيه بانتصاره الباهر على الفرس في موقعة جرانيكوس، وكان أصغر من القائد العظيم نابليون بونابرت بثلاث سنوات حين قاد الفرنسيين إلى النصر ضد النمسا في موقعة لودي في سهل لمبارديا بإيطاليا.
على أن السلطان الفاتح لم يهدأ له روع، ولم يخلد إلى السكينة بعد ذلك الفتح العظيم؛ فهو ابن الحرب، نشأ في ميادينها ونبغ فيها، وقضى بقية حياته يستعد لها أو يخوض غمارها. وكانت الظروف السياسية في البلقان ترغمه على السير في فتوحاته، فكان عليه أن ينظف البلقان وشبه الجزيرة اليونانية من بقايا الدولة البيزنطية الغابرة، ومن المستبدين البيزنطيين، والمغامرين الإيطاليين. لقد كانت هناك إمارات أو دوقيات مشتتة مبعثرة بعيدة عن بعضها لم تحاول قط جمع قواها لمواجهة الخطر العثماني الجارف، ولم تستفد شيئا من الدرس القاسي الذي خبرته بيزنطة ومدينة قسطنطين الأكبر.
لقد كان البنادقة في أوائل القرن الخامس عشر يسيطرون على معظم البلوبونيز وأبيروس وعدد كبير من جزر بحر الأرخبيل وجزيرة كريت. وسقطت أجزاء من شبه جزيرة المورة في يد الفرنسيين. ولكن جمهورية البندقية كانت متمسكة بالأشراف على السواحل، وتركت السيطرة على جزر بحر الأرخبيل لأفراد منها مغامرين.
وكانت الفوضى في هذه الأجزاء جميعها منعدمة النظير، فقامت الحروب والثورات والمنازعات الداخلية التي لا تنقطع بين الكتلان - من الإسبان - وبين الإيطاليين والفرنسيين، وكان في آخر الأمر أن أخلى العنصر الفرنسي السبيل أمام العنصر الإيطالي، كما حل محل الكتلان الإيطاليون عن طريق الفتح أو الشراء أو إقراض المال. وتدخل الأتراك أنفسهم فيما بين هؤلاء الأمراء ينصرون فريقا على فريق، ثم يأخذون في آخر الأمر ممتلكات الفريقين إذا وجدوا ذلك أمرا هينا أو إذا ضعف الفريقان أمام قوتهم.
لقد كثرت في البلقان وشبه الجزيرة اليونانية الهجرة وانتقال السكان من مكان إلى مكان، وحلت عناصر وجنسيات محل أخرى أو طغت عليها فظهر الألبانيون والأفلاقيون، واستقروا في جاليات قوية في معظم أجزاء البلقان، وحوصرت المدن وفتحت أو تركت، وسكنت أو خربت.
ولم يكن السلطان محمد الفاتح هو أول من غزا هذه البلاد؛ فلقد غزاها من قبله عدد من السلاطين، غزاها السلطان بايزيد الأول، ثم السلطان مراد الثاني، بعث إليها من قواده من استطاع اكتساحها من أقصاها إلى أقصاها، ولكن العثمانيين لم يثبتوا أقدامهم فيها نهائيا إلا في عهد الفاتح.
كان من أكبر الإمارات الإغريقية إمارة أثينا، وكانت فوضى الحكم فيها على أشدها، فلقد مات دوقها وخلف الحكم لزوجته وابنه، فأما زوجته فلقد جعلت من عرش الإمارة فراش غرام، فأحبت أحد الدوقات الآخرين ولم تقبل الزواج منه إلا إذا طلق زوجته الأصلية وأهلكها، وفعلا تم لها ما أرادت، وذهب الساخطون على ذلك السلوك إلى السلطان يطلبون منه النجدة والتدخل، فأرسل لهم دوقا آخر لم يفتر حتى قتل الدوقة المولعة بالغرام، وقامت فوضى لم يرض معها السلطان الفاتح إلا أن يرسل قائده عمر بن طرخان لاحتلال أثينا ونشر الأمن والنظام في هذه الأرجاء وحماية هؤلاء الطغاة والمستبدين من أنفسهم.
وظهر السلطان محمد الثاني في أراضي الإغريق كالحكم القوي العادل الذي يقبله الجميع، ويخضع له الجميع راضين. لقد وصل إلى بلاد المورة في سنة 1458م لكي يعطي الطغاة والمستبدين الإغريق واللاتين درسا قاسيا في فن السياسة والحكم، فاستولى على حصونهم، وقضى على محبي الفوضى قضاء عزيز مقتدر، وفتحت القساوسة أبواب مدنهم له، وتلقوه بالترحاب حتى يحظوا بحمايته، ويطمئنوا إلى رعايته. ثم زار مدينة أثينا وهاله جمال آثارها القديمة، فمكث فيها مليا. وفي السنتين اللتين تلتا سنة 1458م تمكن من إخضاع شبه جزيرة الإغريق إخضاعا تاما فأصبحت جزءا من الإمبراطورية العثمانية إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر.
إخضاع الصرب
أما مع أمراء البلقان - وخاصة الصرب - فكانت سياسة السلطان محمد الثاني قبل فتح القسطنطينية هي توثيق علاقات الود والصداقة بهم والعمل على كسب رضاهم حتى ينتهي من مهمته العظيمة، وحينئذ يستطيع إخضاعهم الواحد تلو الآخر. كان يعرف أن الصرب الشمالية بصفة خاصة الصرب التي يحكمها برانكوفتش مذبذبة بين الأتراك والمجريين، تحالف هذا الفريق حينا، وتدفع عنها بالمال حينا خطر الفريق الآخر.
ولذا نجد السلطان محمدا يعترف بالمعاهدة التي عقدها السلطان مراد الثاني مع إمارة الصرب الشمالية، هذه المعاهدة التي لا تفرض على هذه البلاد إلا جزية سنوية تدفعها للدولة وتتمتع في نظيرها بالاستقلال التام في أمورها الداخلية، كما أرسل إحدى زوجات أبيه السلطانات وهي صربية، إلى بلادها محاطة بكل مظاهر الحفاوة والإكرام، وأجرى عليها النفقات الكثيرة.
وكان هدف السلطان من وراء ذلك منع برانكوفش الأمير الصربي من الاتفاق مع المجريين على نقض الهدنة التي عقدها السلطان معهم أثناء حصار القسطنطينية، وفعلا تم له ما أراد.
فوفى برانكوفتش بما عاهد عليه السلطان، كما لم يقم بأي مساعدة للقسطنطينية وقت محنتها، هذه المدينة التي اشترك بنفسه في تجديد أسوارها وتحصيناتها. بل وأرسل رسله للسلطان يهنئونه بهذا الفتح العظيم ويقدمون له الجزية. ولكن السلطان كان قد قرر إخضاع هذه البلاد نهائيا للحكم العثماني. فالصرب بلاد زراعية، غنية بالمعادن وخاصة الفضة وبمراعيها الجيدة ومدنها المزدهرة، ثم بعد ذلك أصبح يرى أن ضم الصرب أمر لا محيص منه لمهاجمة الأفلاق والمجر.
ولذا قام السلطان محمد الثاني الفاتح بقوة كبيرة إلى بلغراد للقضاء نهائيا على الصرب، ولتهديد المجر في وقت واحد. ولكن إذا كان السلطان لم يفلح في الاستيلاء على مدينة بلغراد إلا أن خصمه العنيد هونيادي مات بعد وقت قصير، وقرر مصير برانكوفتش والصرب نهائيا. فلقد أسر ذلك الأمير وسجن، وترك الإمارة لزوجته إيرين وابنه فقام النزاع بينهما إلى درجة أن الابن رفض أن يفتدي أباه من الأسر، ثم ماتت إيرين، ودفع ابن برانكوفتش الجزية، ولكنه لم يكن مخلصا لا لرعاياه ولا للسلطان! ثم فارق الحياة، فقام نزاع شديد على تولي الإمارة، وقرر السلطان وضع حد لهذه الفوضى فضم الصرب إلى الدولة نهائيا في سنة 1459م، فأصبحت مجرد بشاليق، تركي، وانتهى بذلك تاريخ آخر إمارة صربية في العصور الوسطى، وظلت الصرب هكذا جزءا لا ينقسم من الدولة العثمانية إلى أوائل القرن التاسع عشر حتى أيقظتها الثورة الفرنسية وحروب نابليون إلى طلب الحكم الذاتي والاستقلال.
العلاقات العثمانية المجرية في عهد محمد الفاتح
كانت المجر مجاورة للدولة العثمانية من الجهة الشمالية الغربية، وكانت أقوى دولة مسيحية في وسط أوروبا من الناحية الحربية؛ فالشعب المجري ظل محتفظا - كالأتراك - بحيويته ونشاطه وقوته، وكان ملوكه يعتبرون أنفسهم زعماء المسيحية، وأصبحت المسيحية تعتمد على المجر إلى حد كبير في وقف تقدم الأتراك إلى وسط أوروبا.
ولكن هذه الدولة القوية لم تكن متفرغة تماما لهذه المهمة الخطيرة، فلقد كانت دائما مهتمة بمد نفوذها على ساحل البحر الأدرياتي؛ مما دعا إلى اصطدامها بجمهورية البندقية، ثم من ناحية ثانية كانت حكومة المجر قد وجهت عنايتها إلى القضاء على المنقسمين على الكنيسة الكاثوليكية، فكانت تعمل جادة على فرض نفوذها على الصربيين المجاورين لها حتى تستطيع أن تدخلهم في حظيرة الكثلكة وتخرجهم من الأرثوذكسية، وكرس الإمبراطور لويس حياته لخدمة ذلك الغرض ولم يقم بمساعدة الإمبراطور البيزنطي باليولوجوس؛ نظرا للاختلاف المذهبي، فأعطى العثمانيين فرصة لوضع أقدامهم في أوروبا.
ثم انشغلت المجر بمنازعاتها مع بولونيا ونضالها ضد التتار، ولقد حاول ملوك أنجو الذي حكموا المجر على عهد العثمانيين الأوائل إدخال العادات الغربية فخبرت هذه البلاد فوق مشاكلها الخارجية نضالا داخليا بين النظم المجرية الأصلية والنظم الغربية كما شغلت بمسائل النزاع على العرش، وأخيرا اختار الديت المجري الأمير سجسمند، ولكن عهده لم يكن عهد استقرار أو اطمئنان، فقامت الثورات في أوائل عهده وأخذ الترك يغيرون على حدود بلاده وخاصة بعد أن سقطت الصرب. كان على المجر أن تتخذ في أول الأمر ضد الأتراك خطة الدفاع ولكنها عادت فرأت أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، ولكن قوتها الحربية لم تكن تستطيع وحدها الوقوف أمام قوة الأتراك؛ ولذا طلبت النجدة من ألمانيا وفرنسا، ووجدت هاتان الدولتان تعززهما البابوية ضرورة تعضيد هذه الدولة التي يقع عليها عبء المحافظة على أبواب أوروبا الوسطى، وكانت نتيجة هذا الاتفاق موقعة نيكوبوليس في سنة 1396م، في هذه الموقعة قضى الأتراك على زهرة فرسان ألمانيا وفرنسا والمجر، وأصبح الترك سادة الدانوب الأدنى، وهرب سجسمند، ولولا مساعدة البندقية له على الهرب لوقع في يد الأتراك وهلك.
كان سجسمند من غلاظ القلوب، عاش حزينا محتاجا مضطهدا، ولم يكن محبوبا من شعبه، فقامت ضده المؤامرات والثورات وقبض عليه وسجن ثم أطلق سراحه فعاد إلى العرش، ولسوء حظ المجر انتخب ذلك الملك البائس في سنة 1411م إمبراطورا لألمانيا، فلم يعد للمجر كيان مستقل كامل وأصبحت مصالحها جزءا من مصالح العالم الألماني، وزادت مشاكلها وثارت المنازعات من جديد بين المجر وجارتها البندقية، خسرت فيها المجر دلماشيا.
ثم تعقدت المهزلة فاختير سجسمند ملكا لبوهيميا فتجمعت ثلاثة تيجان على رأس شخص ينوء تحت عبء تاج واحد ولا يحسن التصرف في أمور مملكة واحدة.
وزادت مشاغل سجسمند وكثر اضطراب الأمور عليه حين حاول القضاء على أتباع مذهب حنا هوس، وكانوا كثيرين في المجر لأنهم نادوا بالمساواة بين الناس، وبأن الملكية يجب أن تكون عامة.
وبالرغم من كل هذه المشاغل والمشاكل كانت المجر دولة قوية؛ أولا: لأن سجسمند اهتم بتحصين الحدود الجنوبية الملاصقة للأتراك وجعل مدينة بلغراد عند ملتقى الدانوب بالسافا حصنا منيعا من الطراز الأول. ثانيا: عملت النظم المجرية على وجود جيش دائم قوي يجتمع وقت الحاجة، ثالثا: اهتمت الحكومة بإنشاء أساطيل نهرية قوية في نهر الدانوب لحماية الحدود الجنوبية. رابعا: تجمع النبلاء حول هونيادي وقبلوا زعامته مخلصين له الطاعة، وأخيرا: هاجر عدد كبير من الصربيين الأشداء إلى بلاد المجر وخدموا في الجيش المجري.
ومن أجل ذلك كانت المجر قادرة على الوقوف أمام العثمانيين مدة طويلة، في الوقت الذي لم يستطع فيه الإغريق والصرب والبلغار تحمل ضربات الأتراك القوية، ولكنها بصفة عامة لم تستطع بنجاح اتخاذ خطة الهجوم ضد الأتراك وتحملت الفشل المرير، حتى في أوج عظمة زعيمها القدير جانوس هونيادي الذي سجله التاريخ كأكبر عدو للأتراك، وأعظم وأقدر خصم قابلهم وجها لوجه في ميدان القتال.
تحت زعامة جانوس هونيادي ارتفعت المجر إلى مركز المدافع عن المسيحية أمام قوة الأتراك الجارفة، لقد كان هونيادي من الشبان الافلاقيين البارزين الأرستقراطيين الذين دخلوا في خدمة سجسمند، فأعجب بمقدرته أيما إعجاب، ورقاه في بلاطه واقترض الأموال منه ومنحه إقطاعات على الحدود المجرية العثمانية؛ الأمر الذي جعل لذلك الرجل مصلحة دائمة في مناضلة الدولة العثمانية ودفعها عن الأراضي المجرية. والواقع أن الحرب التي كانت سجالا بين المجر والأتراك قامت على أكتاف ذلك البطل.
لقد كان هونيادي رمز الفروسية المسيحية في ذلك الوقت، وبطلا من أعظم أبطال المجر، وزعيما كبيرا من زعماء المسيحية، عرف كيف ينظم الجيوش، وعظم اهتمامه بفن الحرب: مواقعها وأماكنها وحركاتها، أكثر مما اعتمد على الشجاعة وحدها أو الحماس الحربي، وهو رجل تحت المتوسط في الطول، أبيض الشعر، له ضفائر طويلة فضية ووجه ممتلئ بالدم والحيوية، وعيون سوداء قوية مبتسمة، لقد كان فارس الأفلاق الأبيض - كما كان يطلق عليه - خصم الأتراك العنيد في ميدان الحرب وميدان السياسة.
لقد استطاع هذا الزعيم المجري في موقعة سمندريا أن يخلص الصرب من الحكم العثماني وهزم العثمانيين مرارا إلى درجة أن اضطر السلطان مراد الثاني والد الفاتح وكان كبير الميل إلى السلم، اضطر أن يطلب عقد صلح معه لمدة عشر سنوات لمصلحة المسيحيين دون ريب.
وكانت زعامة هونيادي في المجر تامة حين ورث العرش بعد سجسمند طفل لا زال في المهد صبيا، ولكن سلطته عادت فضعفت حين اختير فلاديسلاف ملكا للمجر، فلم يستمع الملك الجديد لنصيحة هونيادي وحنث في عهده للأتراك، وأعفاه مندوب البابا من اتفاقه مع مراد الذي كان قد أخلد إلى حياة الراحة والهدوء فاضطر السلطان العثماني إلى معاودة الحرب من جديد وقاتل بعنف قوة المجرين في موقعة ورنه وقتل جنوده الملك المجري وحملوا رأسه على رمح، ولم ينج هونيادي نفسه من الموقعة إلا بكل صعوبة وفي نفر قليل.
قتل ملك المجر إذن في ميدان القتال وقرر مجلس الدولة المجري قيام حكومة مؤقتة على رأسها هونيادي، وحاول هونيادي الانتقام لشرف المجر المنهار في ورنه، ولكن في مكان موقعة قوصوه حيث قضى السلطان مراد الأول على قوة الصرب، قابل مراد الثاني قوة المجريين وقضى عليها في سنة 1488م، فلم تجرؤ المجر على اتخاذ خطة الهجوم ضد العثمانيين أو تفكر جديا في الانتقام مرة ثانية، وظلت الحال على ذلك إلى أن جاء السلطان محمد الثاني.
لم تؤثر موقعة قوصوة التي هزم فيها هونيادي في مركزه أو تعلق الشعب المجري به أو التفافه حوله، بل جعلت ذلك الشعب ينظر إليه كالشخصية الوحيدة التي تستطيع إنقاذ المجريين من الأتراك إذا حاولوا الاعتداء عليها، وشغل هونيادي بمشاغل عديدة داخلية وأخرى خارجية، أهمها صلات المجر مع النمسا وبوهميا، وهزم هونيادي أمام أعدائه الأشداء؛ ولذا قبل الزعيم المجري راضيا الهدنة التي عرضها عليه السلطان محمد الثاني.
ولما سقطت القسطنطينية في يد الأتراك اجتمع الديت المجري في بودا وقرر إعداد النفقات اللازمة في حالة هجوم الأتراك العثمانيين على البلاد. واستنجد برانكوفتش الصربي بالمجر، وقامت حركة صليبية تدعو المجر إلى مقاومة العثمانيين، ولكنه لم يكن للمجر حلفاء تستطيع الاعتماد عليهم، وكان مركز هونيادي نفسه آخذا في التزعزع، فله في البلاط منافسون حاقدون عليه، ولم تكن الملكية براضية عنه، فلم تكن الدولة المجرية إذن في مركز يسمح لها بالهجوم على الأتراك.
ولكن الأتراك لم ينتظروا هجوم المجريين بل قاموا هم بالهجوم، لقد زحف السلطان محمد الثاني الفاتح على بلغراد - مدينة الجهاد في نظر الأتراك - في سنة 1456م بقوة كبيرة ومدفعية ضخمة، وكانت بلغراد في ذلك الوقت تعتبر مفتاح بلاد المجر، وبذل هونيادي كل ما يملك من قوة وحماس وصبر وحذر في سبيل الدفاع عن هذه المدن، ولقد أيدته أوروبا تأييدا عظيما؛ فسقوط المجر في ذلك الوقت معناه سقوط وسط أوروبا بأجمعه في أيدي الأتراك، ولهذا هرع لنجدته ستون ألف صليبي بقيادة الراهب كابستران، وناداهم البابا فلبوا نداءه، فلقد ملأ فتح القسطنطينية أوروبا بالعار والغضب والخوف.
وكانت ظروف بلغراد غير ظروف القسطنطينية، فوراء بلغراد العالم المسيحي متحفز للوقوف أمام الأتراك والدفاع عن مسيحيته وتقاليده وما يملك. ومن ناحية ثانية حارب العثمانيون أمام بلغراد في منطقة لم يملكوها هم، كلها معادية لهم، ومن ناحية ثالثة طالت خطوط المواصلات والتموين، بينما كان المجريون يحاربون في بلادهم، ويظهر أن الأتراك في هذه المرة أصابهم بعض الغرور بانتصارهم الحاسم على البوسفور، وحملوا معهم مدفعية ثقيلة عاقت سرعة حركاتهم، وانهزم أسطولهم النهري انهزاما حاسما أمام أسطول المجريين.
كانت الموقعة في أول الأمر في مصلحة العثمانيين؛ فلقد تمكنت المدفعية العثمانية المتفوقة من تحطيم أسوار المدينة، وتمكنت بعض فرق الإنكشارية من دخول بلغراد، وظن العثمانيون أن الموقعة قد انتهت بينما كانت المدينة ملأى بالجنود توجههم قيادة ممتازة؛ ولذا اضطر الأتراك إلى الانسحاب من الجزء الذي احتلوه، وحاول السلطان إقناع جنوده بالثبات، وحارب في صفوفهم بنفسه، وقتل بيده أحد زعماء الصليبيين، ولكنه اضطر في آخر الأمرإلى الانسحاب بعد أن تمكن من تنظيم التقهقر. وبعد أن قتل من الإنكشارية العدد الكبير.
ولكن السلطان كان سعيد الطالع؛ فلقد تمكن من التقهقر ومن إعادة تنظيم قواته، ومن مدافعة أعدائه بعنف بحيث لم يستطيعوا تتبعه، ومن ناحية أخرى مات هونيادي بعد عشرين يوما من الموقعة، كما مات زعيم الصليبيين جون كابستران الذي جاء لنجدة المجر.
وبموت هونيادي انتهى أقوى عدو للأتراك وللمسلمين، فبموته كما يقول البابا سلفيوس «ماتت آمالنا»، ولقد أبنه معاصروه، ووصفوا شجاعته وقدرته وقيمته للمسيحية في ذلك الوقت الخطر؛ فلقد قام هذا الرجل بحماية المجر، بل وحماية ألمانيا من الفتح العثماني، كما أخر مشاريع محمد الفاتح بالنسبة لإيطاليا.
لم تكن موقعة بلغراد بعظيمة الخطر على مركز العثمانيين في أوروبا وإن كانت قد أنقذت مدينة بلغراد والمجر من أن تقع في أيديهم مدة من الزمن، ولكنها لم تمنع العثمانيين من نشر نفوذهم في بقية أجزاء البلقان في البوسنة والهرسك والصرب وألبانيا، فما كانت المجر التي ذاقت قوة العثمانيين مرارا تجرؤ أبدا على اتخاذ خطة الهجوم ضد السلطان الفاتح، فنشاطها استنفذ من ناحية، ومن ناحية ثانية هلك أكبر رجالها الحربيين الذي تستطيع أن تثق فيه وأن تضع مقاليد أمورها بين يديه.
وبعد ذلك فملكها كان لا يزال حديث السن لا يحسن التصرف في أمور الملك، ولم يوجد بين الأرستقراطية المجرية من يقوم مقام هونيادي، بل لقد قابل الملك أعمال الزعيم الراحل بالجحود والنكران، فلقد أمر بقتل ابنه وتشويه سمعته وتصوير خيانته وصب عليه اللعنات.
ولكن الملك المجري لم يعش طويلا فمات سنة 1458م، وشاءت الأيام أن تعترف المجر بجميل فارسها، فقرر الديت المجري تعيين ابنه وهو ماتياس كورفينوس ملكا على المجر.
ولئن كان ماتياس ورث عن أبيه فروسيته وقدرته على قيادة الرجال إلا أنه لم يرث عداوته للأتراك. وكان مهتما بالأمور الداخلية، مهتما بالقضاء على ثورات من حاولوا منافسته، ولكنه لم يستطع أن يعمل شيئا أمام قوة الأتراك؛ فلقد قام السلطان محمد الفاتح بالهجوم مرة ثانية فافتتح البوسنة وثبت أقدامه فيها رغم أنف المجر، وحاول ماتياس أن يضم البابا والبندقية إلى جانبه فلم يفلح، ولما اقترح ملك فرنسا تكوين عصبة دول مسيحية ضد الأتراك رفض كورفينوس الانضمام؛ لأنه كان موقنا أن الحرب ستكون على حساب المجر وحدها.
ومن الغريب أن ماتياس لم يهتم بالخطر التركي بقدر ما اهتم بالقضاء على حركة هوس في بوهيميا؛ فهو كاثوليكي متعصب قبل كل شيء وشغلته نزاعاته مع الإمبراطور الذي حاول التدخل في شئون المجر الداخلية، كما شغلته اختلافاته مع بوهيميا.
ولقد هاجم الأتراك فعلا جنوب المجر، وعاونوا الثائرين على ماتياس ولكنهم أجلوا هجومهم النهائي عليها إلى عهد السلطان سليمان القانوني الذي سيقضي على قوة المجر ودولتها نهائيا في موقعة موهاكز في آخر الربع الأول للقرن السادس عشر.
فتح البوسنة
أما مملكة البوسنة فلم يقدر لها البقاء كإمارة مستقرة بعد اختفاء الصرب إلا أربع سنوات، فلقد قامت فيها المنازعات على العرش، وثارت الحرب الأهلية، وعم الخوف على مصير البلاد أمام قوة الأتراك المرابطة على الحدود والتي تتدخل في أمور البلاد من حين لآخر وتجبرها على دفع الجزية، واضطرت البابوية في ذلك الوقت، وكانت ملاذا للمسيحية وملجأها الأخير، اضطرت إلى التدخل في سبيل تثبيت العرش بعد أن زار ملك البوسنة البابا، وأخبره بأن الأتراك يعاملون سكان البلاد بالحسنى لينالوا ودهم ورضاهم وأنهم يعدون الفلاحين - وكانوا رقيقا للأرض - بالحرية، وأن مطلب السلطان الفاتح ليس هو البوسنة وإنما هو المجر والبندقية، ثم الزحف بعد ذلك على إيطاليا واكتساح رومة عاصمة المسيحية الباقية. كانت هذه الزيارة في سنة 1461م.
حاولت البابوية تثبيت مركز ذلك الملك، كما حاولت معاونته لدرء الخطر العثماني الذي يهدد استقلال بلاده، وعلم السلطان الفاتح بما بينه ذلك الملك من نقض عهوده مع الدولة العثمانية وعزمه على منع إرسال الجزية.
ولذا فأرسل إليه يطالبه بدفع الجزية، وشعر ملك البوسنة بقوة في نفسه؛ فالبابوية تؤيده. ولم يكن يدري أن البابوية لن تستطيع له نفعا إذا ما دهمته جحافل الأتراك، أخذ ملك البوسنة الرسول العثماني فأراه كنوزه وبين له باحتقار أنه لا يستطيع التنازل عنها للأتراك.
فقرر فاتح القسطنطينية معاقبة البوسنة على عدم وفائها بتعهداتها، وفي سنة 1463م جهز جيشا عظيما لذلك الغرض، وعلم ملك البوسنة بما وقع فناله الفزع وأرسل للسلطان في آخر لحظة ينفذ أوامره، ويطلب منه هدنة لمدة خمسة عشر عاما، فقبل السلطان ذلك العرض، ولكنه صمم سرا على ضم البوسنة نهائيا إلى الدولة.
ولذا بعد ارتحال رسل البوسنة بأربعة أيام سار السلطان بجيوشه بسرعة هائلة وأخذ البوسنة على غرة فلم يقف أمامه دفاع، وفتحت العاصمة أبوابها له، وجازى السلطان حاكمها على خيانته لوطنه بأن ألقى به من شاهق صخرة لا تزال تحمل اسم «راداك» إلى اليوم.
وأما ملك البوسنة فلم يجد بدا من التسليم، وساعد السلطان على إتمام عثمانيا، وأما ملكها فلقد عاقبه السلطان بالإعدام وضرب أعناق أبنائه، وكان قد أمن على نفسه، ولكن مفتي الدولة أفتى بضرب عنقه لأنه غدر بالسلطان فلا أمان له، واستشهد بالحديث الشريف: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين.»
وسقطت الهرسك بعد البوسنة، فالقصة السائدة في البلقان كانت قصتها قصة التنازع على الملك والاختلاف؛ ولذا اضطرت إلى دفع الجزية للسلطان، وتم منحتها نهائيا في عهد ابن الفاتح السلطان بايزيد الثاني، ولقد كان لفتح البوسنة أهمية خاصة، فلقد اعتنق نبلاؤها وأرستقراطيتها الدين الإسلامي وأصبحوا بكوات يحكمون إقطاعاتهم على الطريقة السائدة في الغرب في العصور الوسطى.
فتح ألبانيا
بعد البوسنة جاء دور ألبانيا، والألبانيون أقدم جنس في البلقان، وخضعوا للدول التي سيطرت على البلقان خضوعا تختلف درجته. وفي القرن الرابع عشر خضعوا للإمبراطور الصربي، ولكن بعد سقوط إمبراطورية الصرب انقسموا كعادتهم إلى قبائل متنافسة متنافرة لا تعترف لشخص واحد بسلطة، ولا تحترم غير نظمها الخاصة وتقاليدها التي أملتها عليها طبيعة البلاد الجبلية.
وفي أوائل القرن الخامس عشر كان ينتظر ألبانيا مصيران، إما الخضوع لجمهورية البندقية أو الخضوع للأتراك. ولقد كانت جمهورية البندقية تتوسع في البحر الأدرياتي بينما كان الأتراك يتوسعون في البلقان، فوقعت ألبانيا بين خطرين عظيمين. ولقد استولت البندقية بالتدريج على الأجزاء الساحلية، وتم لها ذلك في منتصف القرن الخامس عشر تقريبا. وأصبح البحر الأدرياتي بذلك بحيرة إلى حد كبير بندقية.
ولم يكن من مصلحة البندقية - وهي دولة بحرية - أن تتوغل في داخل ألبانيا، في داخل بلاد مقفرة جبلية، سكانها أقوياء أشداء ولكنها استخدمت أموالها في سبيل إثارة القبائل الداخلة على الأتراك، ولكن هذه السياسة وإن نفعت وقتا ما فلم تنته إلى نجاح، فبالرغم من شجاعة القبائل ومناعة بلادها ما كانت تستطيع الصمود أمام قوة الأتراك مدة طويلة.
وفي أوائل القرن الخامس عشر بدأ الأتراك فتوحهم في ألبانيا، وكان من بين ما أخذوا كضمانات جورج كاستريونس، وكان لا يزال حديث السن، فأكرموا وفادته وعلموه الدين الإسلامي فاعتنقه، وسموه إسكندر، وأعطوه لقب بك فصار إسكندر بك.
خدم إسكندر بك في الجيش العثماني وبرز فيه، حارب ضد الصرب والبنادقة، وأظهر شجاعة ممتازة. وبينما كان يخدم في الجيش الذي استخدم ضد المجر في سنة 1443م علم بقيادة ثورة في ألبانيا، وهرب من العثمانيين إلى أحد الحصون الألبانية، وتنصر ثانية، وأعلن حربا صليبية على الأتراك، وساعدته على النجاح طبيعة الجبال التي كان محتميا بها.
أصبح إسكندر بك من أقوى خصوم الأتراك، ومن أشدهم حقدا، وهو يشبه في هذه الناحية هونيادي المجري، كما يشبهه في ذكائه العسكري ومقدرته على قيادة الرجال، وأصبح مثله زعيما قوميا. كان إسكندر بك الزعيم الوطني الألباني الوحيد. لقد التف حوله الزعماء الألبانيون كما التف الزعماء المجريون حول هونيادي. ولقد أيدته في خصومته للأتراك دولة البندقية ودولة نابلي.
لقد حارب إسكندر بك العثمانيين مرارا وهزمهم ومنعهم من أن يسيطروا على ألبانيا سيطرة تامة، ولكنه لم يستطع اتخاذ خطة الهجوم أو محاربة العثمانيين في السهول.
ولكن السلطان محمد الفاتح ما كان يستطيع أن يقبل تفوق إسكندر بك في ألبانيا، فيحاول أن يستفيد من الحزازات الموجودة بين الزعماء الألبانيين، وهزمهم هم وحلفاؤهم من نابلي. ولكن إسكندر بك نجح في إثارة الألبانيين وعقد صلحا مع الأتراك ثم نقضه؛ لأن البابا وعده بالمساعدة فحارب الأتراك إلى أن اضطر إلى أن يرحل إلى روما يطلب المساعدة والعون، ولكنه مات في أوائل سنة 1468م، وبذا استطاع الأتراك أن يخضعوا بقية ألبانيا بسهولة.
لقد كلف إسكندر بك الأتراك غاليا في الفتح، وإذا كان قد نجح في شيء فلقد نجح في تأخير فتح ألبانيا، وأوقف مد التيار التركي العنيف الذي ربما كان اكتسح إيطاليا.
بعد موت إسكندر بك سيطر السلطان محمد الثاني على ألبانيا تماما وطرد البندقية من مملكاتها الساحلية فبدأ انكماشها واضمحلالها.
فتوحات السلطان الفاتح في آسيا
وأما في آسيا فلقد كان نجاح السلطان محمد الثاني تاما. فاستطاع أن يقضي على بقايا الإغريق في آسيا الصغرى، فاستولى على سينوب وطربزون. وكان لطربزون إمبراطور إغريقي ليست له إلا المدينة وضواحيها فحاول تقوية مركزه بالاتفاق مع أوزون حسن الذي كان يسيطر على بعض أجزاء من أرمينيا والعراق وفارس. ولكن لما علم أوزون حسن بمجيء السلطان بجيش كبير طلب السلام وترك الإمبراطورية الإغريقية في آسيا الصغرى لتلقى مصيرها المحتوم. فلقد توجه السلطان إلى المدينة وحاصرها برا وبحرا، وبعد فترة صغيرة سلمت المدينة في سنة 1461م وبذا تلاشت دولة الإغريق نهائيا في آسيا الصغرى، وأصبح الأناضول تركيا إسلاميا لا سيطرة فيه للإغريق إلا في فترة صغيرة تلت الحرب الأوروبية الكبرى الأولى.
وأصبح للعثمانيين السيطرة التامة على بحر مرمرة وبحر الأرخبيل والبحر الأسود، وخاصة بعد أن أرسل السلطان الصدر الأعظم لفتح بلاد القرم وتم له ذلك.
وأما فيما يختص بإمارة قرمان ففي سنة 1463م مات أمير هذه البلاد، وكان يدفع الجزية للسلطان محمد الفاتح. وترك أبناء سبعة، اختلفوا فيما بينهم على وراثة الحكم، فتدخل السلطان وقضى قضاء مبرما على استقلال هذه الإمارة في سنة 1471م. وبذا أصبحت الأناضول عثمانية وانتهت نهائيا بقايا النظام السلجوقي القديم.
ولكن حدود العثمانيين الشرقية ما كانت آمنة؛ أولا: لغزو جنود التتار، ثانيا: لعداوة أوزون حسن السابق الذكر للعثمانيين؛ فلقد حاول هذا الرجل نهب البلاد الواقعة على الحدود الشرقية، وفعلا نجح في ذلك وفي إحراق بعض المدن الأخرى، وهاجم قرمان، فقابله الأمير مصطفى بن محمد الفاتح، وأسر قائد الغزاة، وكبله بالحديد وأرسله إلى أبيه، وقامت وقائع أخرى كان النصر فيها حليف الأتراك أيضا. وحاول أوزون حسن هذا - وقد أحس بالخطر على بلاده - فتح باب المفاوضات مع رودس والبندقية، وطلب منهما إمداده بالمدافع وبعض رجال المدفعية، وفعلا أنجدته البندقية فعاد إلى غزو الحدود العثمانية، ولكن قواته دحرت، وهرب هو من ميدان القتال بحياته، فعاد إلى الحدود الشرقية أمنها وسلامها.
على أن فتوحات محمد الفاتح وضعت أساس الخطة التي سيتبعها خلفاؤه فيما بعد؛ فلقد أصبح للعثمانيين حدود غير مستقرة مع كل من مصر وفارس والمجر، وكان لا بد من وقوع الاصطدام بين العثمانيين وهذه الدول عاجلا أو آجلا.
علاقة السلطان الفاتح بجنوة والبندقية وإيطاليا
كان لوجود العثمانيين في أوروبا وحلولهم محل الإغريق في البلقان وفي القسطنطينية أثر كبير على علاقاتهم مع جنوة والبندقية.
لقد عمل السلطان محمد الثاني فعلا على المحافظة على العلاقات السلمية بينه وبين هاتين الدولتين أثناء حصاره لمدينة القسطنطينية، فلم يهاجم غلطة، وهي مستعمرة جنوية مستقلة على حدود القسطنطينية، ولكنه عندما انتهى من فتح مدينة قسطنطين طلب من الجنويين هدم حصون غلطة وأسوارها وفرض عليهم الجزية؛ مما عمل على سوء العلاقات بينه وبين جنوة.
وعلاقة السلطان السيئة مع جنوة هي التي دعته إلى التفكير في القضاء على ممتلكاتها في البحر الأسود؛ ولذا أرسل حملته المشهورة إلى بلاد القرم إلى ثغر كافا. كانت الحملة بقيادة الصدر الأعظم ومكونة من أسطول ضخم وأربعين ألف مقاتل.
وكانت مدينة كافا قوية وغنية؛ فلقد كان يطلق عليها اسم القسطنطينية الصغيرة. ولم تستطع المدينة الوقوف أمام قوات السلطان العظيمة، فسلمت بعد حصار أربعة أيام، وكانت الغنائم والأسلاب كثيرة، واصطفى السلطان محمد الثاني ألفا وأربعمائة من أبناء نبلائها للخدمة في صفوف الإنكشارية، ثم استولى الأتراك على شبه جزيرة القرم كلها، وأصبح خانات التتار في هذه الأجزاء الواقعة في شمال البحر الأسود تابعين للدولة العثمانية لمدة تقرب من ثلاثة قرون.
ولم تكن علاقة السلطان محمد الثاني بالبنادقة خيرا من علاقاته مع جنوة، فلقد اصطدم بقوات البندقية على سواحل بلاد الإغريق، وفي جزر بحر الأرخبيل، وكانت نتيجة ذلك الاصطدام المسلح أن استولى العثمانيون على إيبويبا ولسبوس ولمنوس وسفالونيا وبعض الجزر الأخرى.
وبعد أن استولى السلطان على ألبانيا والبوسنة والهرسك زاد اتصاله بممتلكات البندقية على الشاطئ الشرقي للبحر الأدرياتي، وأراد السلطان الفاتح أن يعاقب البندقية على موقفها العدائي إزاءه في كثير من الظروف، فأرسل في سنة 1477م جيشا قويا إلى ممتلكاتها يحاول تهديد المدينة نفسها، ففزعت البندقية وأقامت التحصينات المنيعة، ولكن الأتراك اخترقوا كثيرا من هذه التحصينات وهزموا جنودها مرارا واكتسحوا بلادها إلى قرب المدينة، وارتجف شيوخ المدينة في قصورهم لهول الأنباء التي وصلت إليهم ورأوا بأعينهم النيران تشتعل في قراهم، ولكن لحسن حظهم لم يكن السلطان الفاتح ينوي الاستيلاء على هذه المدينة، ورجعت جنوده وسراياه محملة بالأسرى وبالغنائم الكثيرة.
ولذا أسرعت البندقية فعقدت صلحا مع السلطان محمد ، وتعهدت بأن تساعد السلطان بأسطول مكون من مائة سفينة إذا هاجمته دولة أخرى، ووافق السلطان على أن يساعدها بمائة ألف جندي إذا هاجمها أعداؤها.
وكان السلطان محمد الثاني يفكر في إخضاع إيطاليا، ولكنه كان دائما يؤجل ذلك المشروع؛ أولا لظروف العثمانيين الحربية في البلقان، ولعناد هونيادي وإسكندر بك، ولذا بعدما اختفى هذان الخصمان من المسرح السياسي في البلقان جهز السلطان محمد الفاتح الاستعدادات العظيمة البرية والبحرية، وأحب أن يمهد لذلك بالاستيلاء على جزيرة رودس حتى لا تصبح شوكة في جانب ممتلكاته العظيمة. وكانت في يد فرسان القديس يوحنا الذين وطدوا مركزهم فيها في أوائل القرن الرابع عشر، وأصبحوا قوة مستقلة لا يستهان بها، ولقد وصلت للسلطان معلومات عن هذه الجزيرة وعن حصونها، ولذا أرسل مسيح باشا في أبريل سنة 1480م بقوة كبيرة مكونة من مائة وثمانين سفينة وجيش قوي ومدفعية كبيرة، واستطاع الباشا أن ينزل في الجزيرة، واستولى على بعض الأماكن فيها، وحاصر المدينة، فدافعت عن نفسها دفاعا مشهودا، وكادت تسقط لولا جشع الإنكشارية وسوء سياسة القائد.
لقد استطاع الأتراك بمدفعيتهم القوية إحداث ثغرات في أسوار المدينة، ورفع العلم العثماني فعلا على الأسوار، وكادت المدينة تؤخذ لولا أن أعلن مسيح باشا في هذه اللحظة أن الغنائم كلها ستحفظ للسلطان، ففت ذلك في عضد المهاجمين وغضبت الجنود المهاجمة، ورفضوا مساعدة إخوانهم الذين اقتحموا الأسوار، وانتهز المدافعون ذلك الخلل فردوا الفرق الأولى المهاجمة على أعقابها، واضطر مسيح باشا إلى رفع الحصار والعودة، وأنقذت رودس لمدة نصف قرن من الزمان.
وفي نفس الوقت الذي هاجم فيه الأتراك رودس أنزلوا جنودهم بقيادة بطل القرم إلى إيطاليا، على شاطئ أبوليا، وساروا نحو تارنتو، وكانت تعتبر في ذلك الوقت مفتاح جنوب إيطاليا، فلم تستطع الوقوف طويلا أمام قوة الأتراك وسلمت في أغسطس سنة 1480م وقتل سكانها واستبيحت المدينة. فكانت هذه الحملة الحربية درسا قاسيا لإيطاليا لتدخلها في شئون البلقان، وتهديدا لمركز البابوية في إيطاليا ذاتها.
لقد وضع السلطان محمد الفاتح قدمه في إيطاليا واستولى على ميناء صالحة لتوغل جنوده في داخلها، وأخذ في تجهيز معدات عظيمة لإتمام مشروعه، ولم يكن يعرف وجهتها الحقيقية غيره، فلقد كان يحتفظ دائما بسرية مشاريعه لنفسه، ولكنه مات بغتة في وسط جيوشه في 3 مايو سنة 1481م، فأنقذت إيطاليا من الخطر العثماني.
عصر الفاتح وتنظيماته
أنشأ السلطان محمد الثاني الفاتح دولة عظيمة، هي غير منازعة أقوى الدول الكبرى في القرن الخامس عشر، ووحدها أرضا وشعوبا فأصبحت كتلة متماسكة تمتد من أعالي نهر الفرات إلى الأدرياتي، ومن البحر الأبيض إلى نهر الدانوب والقرم، وأزال بقايا الدول التي كانت تجهد بجيش ناصب في آسيا الصغرى، أو تناوئ الأتراك العثمانيين في البلقان، واتخذ للأتراك عاصمة جديدة عظيمة لها تاريخ مجيد، جميلة الموقع، متوسطة المركز بين بلادهم الآسيوية وممتلكاتهم الأوروبية، تشرف على البر والبحر، وتتفق مع ما أصبح للعثمانيين من مجد وقوة وجبروت، ولم يعد بعد عهد الفاتح للإغريق ولا للبنادقة ولا للجنويين أو الإغريق أو الصرب قوة ولا ذكر في البلقان إلى أن جاء القرن التاسع عشر، ومهدت فتوحات ذلك السلطان العظيم الطريق لفتوح العثمانيين التي سيقوم بها خلفاؤه في الشام ومصر والعراق والمجر وأواسط أوروبا.
كان السلطان الفاتح مصلحا كبيرا ومنظما من الطراز الأول، كما كان رجل حرب من العبقريات النادرة التي شهدها التاريخ.
وكان رجل ثقافة واسع الاطلاع في العلم والأدب، يتذوق الشعر ويستلهم الفن، كما كان طويل الباع في الإدارة والحكومة.
رتب السلطان الحكومة الجديدة لدولته العظيمة، واستفاد من كل الظروف المحيطة به، واستلهم كل الحضارات التي ترك تراثها للعثمانيين؛ فهو سلطان مسلم يحكم دولة واسعة الأطراف، إسلامية قبل كل شيء، ولكنه في نفس الوقت جلس على عرش الأباطرة البيزنطيين في مدينتهم وعاصمتهم فأصبح خليفة القياصرة، كما حل محل الأمراء الكثيرين الذين كانوا يحكمون في البلقان.
حكم السلطان الفاتح دولة تتكون من أجزاء مهمة في شرقي البحر الأبيض لها حضارات شرقي البحر الأبيض، حضارات امتزج فيها الشرق والغرب معا، وتقابلت فيها نظم سياسة مختلفة وقوانين وعادات متباينة، وديانتان عظيمتان هما المسيحية والإسلام، فكان لا بد من مراعاة هذه الحقائق جميعها والاستفادة منها في إقامة صرح دولته الجديدة العظيمة.
اهتم محمد الثاني بإصلاح النظام الداخلي للدولة، وعني قبل كل شيء بنشر الطمأنينة والسلام التركي في إمبراطوريته الواسعة التي تجمع عناصر كثيرة من خلائق يختلفون في الجنس واللغة والدين والعادات، فبجانب الأتراك المسلمين - وهم عمود الدولة الفقري - يوجد الإغريق والصقالبة على اختلاف أنواعهم، والبلغار والألبانيون، يوجد الأرثوذكس والكاثوليك، عاش هؤلاء جميعا قبل الحكم العثماني حياة اضطراب وفوضى لا يعرفون للأمن طعما، ونسوا من زمن بعيد كل شيء عن الطمأنينة والاستقرار، فلا بد إذن من وضع نظام قوي للحكم يعطي لهؤلاء ما فقدوه من حرية وراحة وسلام، ولا بد من وضع نظام خاص لسكان الدولة من غير المسلمين ينظم العلاقات بينهم وبين جيرانهم من المسلمين، بينهم وبين الدولة التي تحكمهم وترعاهم. •••
كان أول ما عنى السلطان محمد الثاني منذ أن تولى السلطنة العمل على استقرار العرش لأنه عرف من تجارب التاريخ العثماني أنه على استقرار مركز السلطان يتوقف كل شيء في الدولة، تتوقف قوتها ونظمها، رأى الخلل والاضطراب يلم بالدولة إذا ما برز المتنافسون على العرش وأوقدوا نيران الحرب الأهلية، ولم يخف عليه ما عانته الدولة من حروب أهلية كادت تودي بحياتها في عهد من سبقوه من السلاطين، كما قرأ بنفسه قصة الانقسام والتفرق في البلقان، وما آلت إليه حال أهلها من ضعف واضمحلال؛ ولذا عمل على استقرار مركز السلطان ولم يكن هناك قبل عهده قانون يحدد من يلي العرش العثماني بعد وفاة السلطان فوضع السلطان الفاتح سنة جديدة، وإن كانت تظهر للكثيرين سنة قاسية سيئة، وهي أن السلطان الذي يلي الحكم له الحق في قتل إخوته الباقين حتى لا ينازعه أحد منهم على العرش في المستقبل، فجعل بذلك قتل الإخوة سنة مشروعة، ولكنه بررها أمام نفسه وأمام الناس بأن غرضه منها هو «سلام الدنيا والعالم» فوجود الإخوة - كما فهم هو من التاريخ العثماني - من العوامل التي تثير الفتنة بين المسلمين فقتلهم أهون في نظره من إثارتها.
وكان يرى أن يكون مركز السلطان محترما بين رجال دولته، فكان من أعداء التبذل وإن كان من أنصار التبسط، لم يسمح لأحد من رجال دولته بالجلوس على مائدته، جعل ذلك قانونا، فوضع بذلك تقليدا هو ألا يكون للسلطان إلا صحبة ممتازة يأنس بها، زمرة من رجال الدين والعلماء والفلكيين والأطباء، فلم يكن للفاتح إذن اتصال برجال الدولة إلا حين تقضي بذلك أعمال الدولة وإلا إذا كان لهؤلاء الرجال صفات علمية أو أدبية أو فنية تتناسب وذوقه؛ ولذا كان رجال الدولة بلا استثناء يرهبونه ويخشون جانبه ويخافون بطشه.
وليس معنى ذلك أن فاتح القسطنطينية لم يكن يختلط برجاله أو بجنوده أو علمائه ففي أوقات الحرب أو الاستعداد لها كان دائم الاتصال بوزرائه وقواده وجنوده يشرف عليهم بنفسه، ويقوي من روحهم المعنوية ويعدهم ويمنيهم بكل ما يستطيع تنفيذه، وفي أوقات السلم في مجالسه الأدبية وحلقاته الشعرية كان يتبارى مع الأدباء والشعراء والعلماء في تذوق الأدب وقول الشعر ونقد الكتب.
ولقد وضع السلطان محمد الفاتح قوانين الإتيكيت والحفلات في الدولة العثمانية، وهو بلا شك متأثر بالحياة الاجتماعية للأباطرة البيزنطيين، وباتساع الدولة ودخول عناصر أجنبية غربية فيها، فوضع بذلك أساس التشريفات في القصر السلطان العثماني. •••
ووجه عنايته كذلك إلى قوانين الدولة، فحاول تقنين الشرع واختار لذلك من العلماء الأجلاء من يستطيع القيام بهذه المهمة العظيمة ووضع قانون نامه، وهذا القانون كما يقول هو: «هو قانون آبائي وأجدادي، سيعمل به خلفائي من بعدي، من جيل إلى جيل.» فحاول أن يقنن الأوامر والمراسيم التي أصدرها في أوقات مختلفة السلاطين ممن سبقوه. ولم يكن هذا التقنين كاملا بأي حال ولكنه وضع الأساس.
هذا القانون مكون من ثلاثة أبواب، وهو يتعلق بمناصب الموظفين وببعض التقاليد وما يجب أن يتخذ في التشريفات والاحتفالات، وهو يقرر كذلك العقوبات والغرامات.
ونظم السلطان الفاتح الحكومة الجديدة، وساعده في هذه الناحية الصدر الأعظم محمد القرماني. وهذه الحكومة حكومة إسلامية قبل كل شيء، قائمة على تفوق العنصر الإسلامي أيا كان أصله أو جنسه، ولقد جعلها السلطان ترتكز على دعائم أهمها الوزارة والقضاء والمال.
أما من حيث الوزارة فلقد جعل الفاتح عدد الوزراء أربعة، وجعل للصدر الأعظم قيادة الجيش ورياسة الديوان، وإن كان الفاتح قد اهتم بالإشراف على الأمور في كثير من الأحيان بنفسه. أما من حيث النظام الإداري فلقد أبقى السلطان النظام القديم بإدخال بعض تعديلات بسيطة فيه. وهذا النظام يقضي بتقسيم الدولة إلى ولايات للكبرى منها بايلربايات (جمع بايلرباي) وللصغرى البكوات الصناجق، وترك لبعض الإمارات الصقلبية في أول الأمر بعض مظاهر الاستقلال الداخلي، فكان يحكمها أمراء منها، ولكنهم تابعون للدولة ينفذون أوامر السلطان بكل دقة، وهو يعزلهم ويعاقبهم إذا خالفوا أوامره أو فكروا في الثورة على حكومته.
ولقد اهتم السلطان الفاتح اهتماما خاصا بالجيش، فالجيش في نظره أساس الدولة وركنها الأول، فعني بإعادة تنظيمه وبمسألة قيادته، فكان لكل فرقة آغا هو قائدها، وجعل لآغا الإنكشارية حق التقدم على القواد الآخرين؛ فهو يتلقى أوامره من الصدر الأعظم الذي جعل له السلطان القيادة العليا للجيش.
ونال عنصر الرقيق في الجيش عناية خاصة، فكما كتب إلى أوزون حسن يقول: «إن دولتنا هي منزل الإسلام، وإن سراج إمبراطوريتنا ليضيء من قلوب الكافرين.» كان السلطان محمد يشعر أن دولته أكبر دولة إسلامية؛ ولذا فهو يعمل على تجديد شبابها وقوتها متبعا سنة من مضى من السلاطين العثمانيين، وذلك بإدخال عناصر جديدة فيها، هذه العناصر التي أثبتت كفايتها وجدارتها. لقد كان مؤمنا بمهمته الإسلامية والعالمية، فهو يرى ضرورة الجهاد في سبيل الله، ويعتقد أن نظم الدولة يجب أن تخدم هذه الغاية النبيلة، هذه الغاية التي ترمي إلى ضم العناصر المسيحية النشيطة إلى هذه الدولة الناهضة القوية.
عني السلطان محمد الثاني بفرق المشاة عناية خاصة في الوقت الذي ظلت فيه أوروبا تعتمد على نظام الفرسان كأهم فرقة في جيوشها، ومن المقطوع به أن الدول التي اهتمت بنظام المشاة في ذلك الوقت كان لها قصب السبق في أوروبا؛ فتركيا من ناحية الشرق وإسبانيا من ناحية الغرب كانتا أقوى دول في أوروبا من الناحية الحربية، في النصف الثاني للقرن الخامس عشر وفي القرن السادس عشر. وإذا كان محمد الثاني قد اهتم بنظام الجيش، فلقد كان أهم عوامل استقرار النظام فيه الانتظام في دفع مرتباته، فوجه السلطان عنايته بصفة خاصة إلى هذه الناحية، بل واهتم بزيادتها من حين لآخر، ولقد أعاد تنظيم الإنكشارية، وناط برئيسها أعمال البوليس بمدينة إستامبول، فلا عجب إذا أصبح جيش الفاتح الجيش المنصور الذي لا يقهر.
ونبغ في عهد الفاتح عدد من القواد النابهين الذين عاونوه في حروبه وكان لهم ضلع كبير في انتصاراته، وربما كان أهمهم محمود باشا وأحمد باشا، وكل من هذين الرجلين تولى الوزارة والصدارة العظمى، وكل منهما من أصل مسيحي، وارتفع مكانا عليا في الدولة.
فأما محمود باشا فكان يطلق عليه ولي الدين محمود، ولد من أبوين صربيين، وكما تقول رواية من أب إغريقي وأم صربية، وأتي به إلى أدرنة إلى بلاط السلطان مراد الثاني حيث تثقف ثقافة إسلامية، ثم نبغ في الدولة، فعينه السلطان محمد الثاني صدرا أعظم في سنة 1543م بعد إعدام خليل باشا، وكان يصحب السلطان في كل غزواته، ثم كلفه السلطان بإخضاع الصرب، وهو الذي قاد الحملة البحرية إلى طرابزون وسينوب، بينما كان السلطان نفسه يقود الحملة البرية. واشترك كذلك معه في حروب المجر والبوسنة، وحكم صنجق غاليبولي، ولقد بنى هذا الرجل مسجدا ومدرسة في إستامبول، وكان محبا للعلم يتذوق الأدب ويقول الشعر، وله ديوان عدلي.
أما أحمد باشا كيديق فأصله جندي إنشكاري أوصلته كفايته ومقدرته إلى منصب القيادة، وتم على يديه زوال الحكم السلجوقي نهائيا من آسيا الصغرى، وهزيمة أوزون حسن وإخضاع كيليكيا للأتراك. وكصدر أعظم تم على يديه فتح القرم، وهو قائد الحملة الإيطالية التي استولت على تارنتو. ولقد اشترك ذلك الرجل في الأحداث السياسية في عهد السلطان بايزيد الثاني ابن الفاتح مما أدى إلى اضطهاده. •••
وكما اهتم السلطان الفاتح بالجيش اهتم بالمسائل المالية فهي أساس مهم من أسس الدولة. فدقق في تنظيم جمع الضرائب حتى تكون الحكومة مطمئنة إلى موارد دخلها ، وجعل السلطان محمد الثاني الإشراف على الأمور المالية للدفتردار، وهي وظيفة ترجع إلى أصل فارسي، وكان للدولة على عهد الفاتح دفتردار واحد لروميليا عين له السلطان مساعدا يختص بالشئون المالية لآسيا الصغرى.
وعني بالقضاء فهو من عمد الدولة، كما عني برجاله وتحديد وظائفهم ومناصبهم، وجعل الإشراف عليه لقضاة العسكر، فكان لهم مركز مهم في الدولة؛ فهم أعضاء في الديوان ويتقدمون على الوزراء، والسلطان الفاتح هو الذي أعطى المفتي لقب شيخ الإسلام فأصبح ذلك المركز - وخاصة بعد عهد الفاتح - من أعظم مراكز الدولة.
وكانت قوانين الدولة تختلف على حسب مللها، وإن كان القانون الأساسي للدولة هو الشرع؛ فهو قانون الحكومة الذي يحدد علاقات المسلمين وعلاقتهم بغيرهم من سكان الدولة؛ فهو يحدد علاقة المسلمين بالذميين.
ولقد ترك للذميين حق اتباع كنائسهم الخاصة وقوانين مللهم المختلفة وتقاليدهم فيما يتعلق بمسائل الحكم المحلي، وفيما يختص بمسائلهم الشخصية كالزواج والطلاق، وكذا المسائل الدينية، فهؤلاء الذميون تركوا ليتبعوا في حياتهم نظمهم وتقاليدهم القومية، فكان حكم الأتراك لهذه الرعية حكما غير مباشر، ولم تشترك هذه الرعية في حياة الدولة السياسية أو العلمية إلا بقدر صغير محدود، ولكنها تمتعت بسلام وأمن لم تعرف مثلهما قبل الحكم التركي.
وراعى الأتراك في القضاء العدالة التامة بين المسلمين والمسيحيين إلى حد أن إحدى الفتاوى قد صدرت تقول بأنه إذا قتل ألف من المسلمين مسيحيا واحدا مخلصا للسلطان دون حق يجب قتلهم، ولقد فرض النظام العثماني على المسيحيين ضريبة الرءوس وضريبة الأراضي ولم تكن حالهم سيئة في عهد الحكم العثماني في العصور الأول. بل كانت أمامهم الفرص للتعاون مع العثمانيين في مناصبهم وحروبهم.
ونظرا لأن معظم رعايا السلطان الفاتح المسيحيين كانوا من الأرثوذكس يجب أن نشير هنا إلى أن فتح القسطنطينية لم يضعف من مركز الكنيسة الإغريقية بأي حال، فلقد كان جورج سكولاريوس المسمى جناديوس والذي اختاره الفاتح بطريركا من أشد أعداء فكرة اتحاد الكنيستين الشرقية والغربية، بل لقد أعلن أن الخضوع للكنيسة الغربية اللاتينية نقمة على المسيحية ولعنة على الإمبراطورية، وسيعقبه حتما انتهاء الدولة البيزنطية، وفعلا تم ما تنبأ به.
كان السلطان الفاتح يرغب في أن تستمر للكنيسة الأرثوذكسية قوتها ونظامها حتى يستطيع أن يسترضي الرعايا الأرثوذكس، وان يسجل لهم قبول الحكم الإسلامي الجديد. ولذا احتفظ السلطان بنظم الكنيسة العتيقة، وأبقى لها الكثير من سيطرتها القديمة، فطلب من القساوسة الأرثوذكس الاجتماع لينتخبوا من بينهم بطريركا، واعتمد من اختاروه وهو جناديوس، واحتفل بانتخابه على النظام وبالأبهة التي كانت متبعة في مثل هذه الاحتفالات في عهد الأباطرة المسيحيين، وقال له: «لتكن بطريركا على صداقتي في كل وقت وظرف، ولتتمتع بكل الحقوق والامتيازات التي كانت لمن سبقك.» ولكي يرفع من مركز البطريرك في الدولة الجديدة أهداه فرسا جميلا، وجعل له حرسا خاصا من الإنكشارية، وصحبه باشاوات الدولة إلى المكان الذي أعد له، ثم اعترف بقوانين الكنيسة الأرثوذكسية ووضعها تحت حمايته، وأمرها بإقامة حفلاتها الدينية كالمعتاد، وجمعت واشتريت كل آثار القديسين ومخلفاتهم التي نهبت، وسلمت إلى الكنائس والأديرة.
ولكن كان على الكنيسة الجديدة أن تخضع للسلطان كبقية النظم الأخرى الموجودة في الدولة، ففي أي لحظة يستطيع السلطان عزل البطريرك أو كبار رجال الدين، لا راد لقضائه، ولكن من الناحية العملية ما كان السلطان يلجأ إلى اضطهاد الكنيسة أو رجالها، بل كانوا دائما موضع حمايته أو إكرامه. وكانت فكرة الاضطهاد الديني غير موجودة في ذهن الفاتح، وإذن نعمت الكنيسة الأرثوذكسية في عهده وعهد خلفائه بهدوء واستقلال لم تنعم بمثله قبلا حتى في عهد كثير من الأباطرة البيزنطيين أنفسهم، وأخلص القسس الطاعة لذلك السيد العظيم.
قوي إذن مركز الكنيسة الإغريقية، ورضي الإغريق عن ذلك الحكم الجديد الذي ترك لهم حرية المعتقد ومنحهم استقلالا دينيا غير منقوص، ولقد أبقى الفاتح بعض الكنائس على حالها، ولم يمنع المسيحيين من إقامة شعائر دينهم فيها، وأصبح حي الفنار المطل على القرن الذهبي حلقة الاتصال بين القسطنطينية الإسلامية والقسطنطينية المسيحية.
وفي حي الفنار المظلم هذا وفي منازله القاتمة عاشت العائلات الإغريقية العظيمة مثل الكومني والباليولوجي والدوكا، عاشت كآثار أرستقراطية عظيمة عريقة، عاشت لا أراضي لها ولا جاه إلا الأصل المجيد الذي تنتمي إليه.
لقد أصبحت البطريركية الإغريقية في إستامبول موئلا للمسيحية ومراكز للقومية الإغريقية إلى أن حان الوقت لظهور الإغريق كأمة لها كيانها الخاص حين ضعفت الدولة العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر.
وأما القسطنطينية فلقد أصبحت إستامبول في فم الأتراك، وأصبح هلال بيزنطة رمز القوة العثمانية، وعلما لعظمتها.
وأما من حيث إعادة الحياة والهدوء إلى هذه المدينة العظيمة فلقد أمر السلطان محمد الفاتح حين دخلها بوقف القتل، ولم يسمح باستباحتها بعد الأيام الثلاثة التي حددها والتي وعد بها جنوده، وكان قد قتل من سكان المدينة العدد الكثير، وشرد العدد الكثير، وأسر العدد الكثير، ولكن ما كان الفاتح يعمل على خراب المدينة العظيمة مطلقا، فهو رجل مقدر للجمال يتذوق الفن، وإنما كان عليه أن يعيد لها مركزها القديم وعظمتها السابقة بنشر الأمن والطمأنينة فيها وإنشاء حياتها الاجتماعية والاقتصادية من جديد؛ حتى تصبح صالحة لأن تكون عاصمة لأقوى دولة في أوروبا وآسيا معا. فأعاد إصلاح أسوارها، وبنى فيها حصنا منيعا له سبعة أبراج، وعمل على تشجيع من بقي من سكانها على الإقامة فيها والاستقرار، وطلب من كثير من العائلات التركية والإغريقية والألبانية سكناها، وعاد إليها عدد كبير من سكانها الذين كانوا هربوا منها، كما لجأ إليها عدد لا يستهان به من مهاجري الأرمن والفرس والعرب.
ولقد اهتم السلطان الفاتح بإنشاء المباني العظيمة في هذه المدينة، فبنيت فيها دار السعادة العتيقة بقرب الجامع الذي كان أنشأه السلطان بايزيد خان الأول، فكانت أول دار أنشأها السلاطين العثمانيون بعد فتح هذه المدينة، وكذلك أمر السلطان الفاتح ببناء جامعه المشهور باسمه، وهو واقع على التل الرابع في المدينة، بناه المهندس خرستو دولاس على أنقاض كنيسة سان أبوتر، وهذا الجامع يرى من البحر من مسافة بعيدة وله مئذنتان، وقد أصابته الزلازل فيما بعد، فأعاد بناءه السلطان مصطفى الثالث. ومن منشآت السلطان الأخرى جامع أبي أيوب الأنصاري، وجامع الشيخ البخاري بجانب باب أدرنة، وجامع الإنكشارية (أرطة جامعي). كما أنشأت السلطانة زوجته ستي خانوم جامعا في أدرنة، وكذا بنته السلطانة عائشة أنشأت جامعا في نفس هذه المدينة التي كانت تعتبر ثاني مدن الدولة العثمانية. وأمر السلطان ببناء ثماني مدارس حول جامعه الكبير، وشيد خلفها منازل للطلبة ومستشفى (دار الشفاء) وحمامات، وبقربها خانات لنزول المسافرين، كما أنشأ مدرسة للعلوم الشرعية، وبالجامع مكتبة هي الأولى من نوعها في إستامبول، وبقربها يوجد قبر عليمة هانم أم السلطان محمد الثاني، ويقول رامبرتي، الذي كتب في سنة 1734م: «بأن جامع السلطان له «إمارة» متصلة به يسمح لكل شخص بالنزول فيها حيث يستضاف ثلاثة أيام، فيعطى العسل والأرز واللحم والخبز وغرفة للنوم، وكان يهواها الآلاف من الناس، وبجانبها الحمامات والسبل الجميلة.»
وفي إستامبول ميدان سمي باسم الفاتح، وهو «فاتح ميداني» وآق ميدان، وهناك أيضا محلة تنسب إليه فيها جامع ومدرسة، ولها سوق خاصة شهيرة تعقد فيها، ويجد الناس فيها ما يحتاجون إليه بالأسعار المناسبة.
ومن المساجد التي أنشئت في العاصمة في عهده كتشوق أيا صوفيا على بحر مرمرة، وكانت في الأصل كنيسة القديس سرجيوس وباكوس، وجامع زيرق على القرن الذهبي، وكان كنيسة أيضا وحول جامعا وسمي على اسم ملا زيرق، وكذلك جامع محمد باشا وجامع مراد باشا سميا باسم وزيرين للسلطان الفاتح.
وأما قصر السلطان فكان كبيرا وإن امتاز بالبساطة، فقد كان السلطان الفاتح ميالا إلى الوحدة والتفكير، منصرفا إلى دراسة فنون الحرب والأدب والفن، وكان له حريمه الخاص، وإن لم يكن معروفا عنه حب الترف أو الانهماك في الملذات والشهوات، كان للحريم مقر خاص به، وبه الغرف اللازمة لأبناء السلطانة وأمهاتهم السلطانات، وكانت الكسوة تجري على الحريم عدة في الأعياد والمواسم والمناسبات. وبالقصر أماكن خاصة بالفتيات العذارى، وكلهن من أصل رقيق، جلبن عن طريق الشراء أو الأسر، وكان عدد كبير من نساء الحريم قد دربن لأعمال الخدمة والطهي وغيرها، وكان السلطان عادة يصطفي لنفسه من الحريم الخاص من يشاء، فيعطين عند ذلك حجرات منفصلة متميزة، ومن لم يحظين باختيار السلطان يزوجهن السلطان عادة لوزرائه وقواده، أو المقربين منه، ويحل محلهن غيرهن ممن سرن في نظام تعليمي معين. وكان ذلك النظام يعنى بتدريب الفتيات وتعليمهن إلى سن الخامسة والعشرين.
وأما العاصمة نفسها فلقد تغير وجهها بالفتح العثماني؛ فلقد تحولت كثير من الكنائس إلى مساجد، وجعلت المساجد العظيمة التي قام بتشييدها السلطان العثماني ووزراؤه للمدينة فخامة وبهاء فتانا، وروعة أخاذة بمآذنها العالية، وقبابها المستديرة، كما كانت مقابر السلاطين العثمانيين الذين خلفوا الفاتح قطعا رائعة من الفن، وفي هذه المباني الجديدة لم يندثر الفن البيزنطي بأي حال، وكثرت الحانات والتكايا والزوايا، ولم يمض نصف قرن على الفتح العثماني إلا وشيدت القصور العظيمة التي تزينها الحدائق الجميلة، وهاجر إلى المدينة تحت رعاية السلطان عدد كبير من عرب إسبانيا ويهودها الذين اضطهدتهم الكنيسة الكاثوليكية، وأذاقتهم أصناف العذاب، وقامت الأسواق العظيمة، وعاد إلى المدينة رونقها وحركتها، نتيجة للتسهيلات الكثيرة التي وضعها العثمانيون للمهاجرين والتجار.
ولقد بقي في المدينة الخالدة - كما يقول رامبرتي الذي زارها وكتب عنها في سنة 1534م - كثير من الآثار العظيمة القديمة التي ما زالت محتفظة برونقها، فقناطر المياه وأقواس النصر والأعمدة ما برحت تشهد بماضي هذه المدينة المجيد. وقرر رامبرتي أيضا أن هذه المدينة لا زالت متمتعة بجمالها وبهجتها، وهذا يدحض زعم هؤلاء الذين يقولون إن الأتراك خربوا المدينة، وقضوا على كثير من آيات الفن فيها، ولم ينته عهد الفاتح إلا والمدينة آهلة بالسكان، عامرة بالأسواق والمصانع الحربية وغيرها، فلقد أحياها الفتح العثماني، أصبح للمدينة حياة جديدة زاهرة بعد أن تفوق فيها العنصر التركي، وتركزت فيها الدولة الإسلامية الجديدة بقوتها وعظمتها.
ويدعي بعض المؤرخين الإفرنج أن القسطنطينية فقدت مركزها باستيلاء العثمانيين عليها، وهذا غير صحيح، ولا ينطبق على الواقع بل بالعكس لقد عظم مركز القسطنطينية بعد أن احتلها العثمانيون، فبعد أن كانت عاصمة لدولة منهارة مضمحلة أصبحت عاصمة لأقوى دولة في الشرق والغرب. لقد كانت القسطنطينية حين احتلها العثمانيون عاصمة بدون ممتلكات، عاصمة بدون دولة حقيقية. ولذا لم تفقد القسطنطينية مركزها في أوروبا ولا بالنسبة لآسيا. بل قوي مركزها في البلقان، ولم تفقد شرقيتها بأي حال ولا صبغتها الأرثوذكسية، فلقد حافظ السلطان محمد الفاتح على هذه الصبغة التي كادت تندثر بالاتحاد مع الكنيسة الغربية لو طالت حياة الدولة البيزنطية قليلا.
لقد ظلت القسطنطينية (إستامبول) عاصمة للشرق الأدنى غير منازعة لمدة تزيد على أربعة قرون، منها يستمد حياته وقوته ونشاطه السياسي، وينظر إليها كافة سكان الشرق الأدنى كمدينتهم العظيمة، تهفو إليها قلوبهم، وتحن إلى زيارتها والتمتع بجمالها ورونقها نفوسهم، لم تفقد المدينة جمالها ولا عظمتها بل زاد هذا الجمال وهذه العظمة، ولم تفقد مركزها الجغرافي أو الاستراتيجي أو الحربي أو السياسي، بل بالعكس زادت هذه الأهمية، فإستامبول ظلت مركزا أوروبيا سياسيا من الطراز الأول، لا يقل مركزها عن مراكز عواصم الدول الكبرى الحديثة، وظلت إلى الآن سيدة المضايق حتى بعد أن هجرها الأتراك إلى أنقرة، وسيظل اسمها ما بقيت مقرونا باسم منشئها قسطنطين الأكبر وفاتحها محمد الثاني العظيم. •••
ولم تكن ناحية السلطان الفاتح الثقافية أقل من النواحي السياسية أو الحربية أو التنظيمية.
كان السلطان الفاتح يحترم العلماء ورجال الدين، وفاق في ذلك كل من سبقه من السلاطين العثمانيين. لقد عمل على توطيد مركز العلماء، وعلى إكرامهم، وتوفير وسائل المعيشة والكرامة لهم، كان الفاتح يعتبرهم بحق ركنا هاما من الأركان الأربعة الأساسية التي تقوم عليها دولته العظيمة. كان يعتقد أن القوة الحربية وحدها لا تبني مجد أمة ولا تجعل لها استقرارا، فهو رجل عظيم الثقافة مستنير محب للعلم ويتذوق الأدب ويغشى نواديه ويحفظ الشعر، وكثيرا ما يتمثل به في الظروف المختلفة وخاصة الشعر الفارسي، وكان هو نفسه يحسن قول الشعر وله ديوان باللغة التركية مخطوط، كتبه عماد من أشهر خطاطي إيران في عهد السلطان سليم الأول، ثم طبع في برلين ولكنه ناقص كما يقول شهاب الدين سليمان بك - صاحب تاريخ يكي عثمانلي تاريخ أدبيات - وديوانه يسمى ديوان عوني وكله في الغزل.
ومن شعره:
ساقيا مي صوك كه بركون لاله زار ألدن كيدر
ابر يشور فصل خزان باغ وبهار ألدن كيدر
عزه أولما دلبرا حسن وجماله قبل وفا
باقي قالما زكيمسه به نقش ونكار ألدن كيدر •••
جكرم ياره لدى خنجر جو وستمك
صبرمك جامه سني درغرادي مقراص غمك
سجده كاه أيلر ايدي كعبه محراب كبي
كو بك ايجنده ملك كورسه نشان قدمك
يا ساقي الكأس أدر الراح قبل أن تذبل الخزامى
قبل حلول الخريف وانقضاء الربيع وزوال نضرة البستان
لا تمنعي الوصال أيتها الغانية المفتونة بحسنك وجمالك
فالزينة والحسن يوما زائلان •••
إن سيف دلالك قد نفذ بين ضلوعي
وإن سلاح تعذيبك قد قطع صدري
ولو رأت الملائكة آثار قدميك
لسجدوا فيها كأنها كعبة المحراب
كان الفاتح دائبا على تثقيف نفسه وزيادة معلوماته، فكان له معلمون اختارهم من بين العلماء البارزين، يقرأ عليهم الكتب المختلفة ويتلقى عنهم العلوم مثل خواجه زاده وابن الخطيب، وكان كثير النظر في الكتب والرسائل التي يصنفها علماء عصره يفحصها ويقارنها وينتقدها، وكانت له مكتبة خاصة عني بجمعها واختيار كتبها، وعين الملا لطفي أمينا لها مدة من الزمن.
وعني الفاتح بالعلم والتعليم والمتعلمين والمعلمين؛ فهو يعنى بالمتعلمين من حيث توفير سبل التعليم لهم والنفقة عليهم أثناء تعلمهم، فمن بين هؤلاء المتعلمين من سيتولون وظائف التدريس والإفتاء والتربية الإسلامية.
ولقد كلف السلطان الفاتح وزيره محمود باشا إصلاح النظم التعليمية، وكان ذلك الرجل خير من يقوم بهذه المهمة، فتربته إنسانية شرقية وهو أديب وعالم وشاعر ظاهر، في عهد الفاتح أنشئت المدارس العالية في المدن الكبرى إلى جانب المكاتب التي عممت في المدن والقرى، وكان الفاتح يختار بنفسه العلماء الذين يقومون فيها بالتدريس، وكان كثيرا ما يتباحث مع هؤلاء العلماء فيما يدرس ويسألهم عن أفاضل طلبتهم ليسرع إلى مكافأتهم وتعيينهم في وظائف التدريس، كما فعل مع ملا خسرو وتلميذه ابن مغنيسيا. ولقد وضع لهذه المدارس البرامج المنظمة من مواد دينية ولغوية، من لغات عربية وفارسية ورياضة وأدب وفلك، وكان يعطي للطلاب المتخرجين شهادات تسمح لهم بالقيام بالتدريس بعد هذه الدراسة المنظمة، فيمنح الطالب لقب معيد، ولكي يكون الطالب عالما (إماما) عليه أن ينبغ ويتعمق في دراسة الشرع الشريف والفقه، وعليه أن يجتاز امتحانات عديدة في علم الكلام والتوحيد والأصول والفقه والشريعة الإسلامية قبلما يصل إلى هذه المرتبة.
وإذا استطاع الطالب بعد خمسة عشر عاما على الأقل النجاح اكتسب المجد الكبير والشرف والامتيازات الكثيرة، فمن بين هؤلاء الطلاب والعلماء أساتذة المدارس العليا والقضاة الملات (ملا: رتبة علمية) والمفتون وإستامبول أفندي (قاضي الأستانة) وقضاة العسكر في أوروبا وآسيا والمفتي شيخ الإسلام، ولقد وضع السلطان الفاتح نظاما ماليا (كادرا) خاصا لهؤلاء العلماء.
كان عصر الفاتح عصرا حافلا بدراسة الشريعة والفقه الإسلامي نادر المثال في التاريخ العثماني، يدل على ذلك كثرة المؤلفين في هذه الدراسات، وكثرة الكتب التي وضعوها باللغة العربية. وكان العلماء كثيرا ما يجتمعون في حضرة السلطان ويتناقشون أمامه في المسائل الفقهية واللغوية، وكان كثيرا ما يشترك معهم ويحكم بينهم، وقلده في هذا وزراؤه وخاصة محمود باشا وسنان باشا الذي «كان من عادته إحضار العلماء ... وإحضار الأطعمة اللطيفة» تتلوها المناقشات العلمية.
وكان للعلماء في عصر الفاتح قوة روحية كبيرة ومقام سام لتقدير السلطان لهم ولمكانتهم عند الناس، وكانوا كبيري الاعتداد بكرامتهم فكانوا يحتجون إذا حدث تقصير في حق واحد منهم، وكانوا يهددون بالخروج من مملكة السلطان فكان لا يرد لهم طلب ولا شفاعة. وكان الفاتح يتبسط معهم إلى درجة يروي معها صاحب الشقائق النعمانية - ووالده عاصر الفاتح - في ترجمة المولى فخر الدين العجمي: «ربما يمر السلطان محمد قدام بيتنا (بيت فخر الدين) ذاهبا إلى زيارة أبي أيوب الأنصاري ... ويخرج أبي إلى الباب ويسلم عليه ويقدم له شربة، ويقول السلطان محمد والله أشرب هذه الشربة. ويناوله والدي بيده فيشرب منه ثم يسلم عليه ويذهب.»
كانت إستامبول في عهد الفاتح موئلا للعلماء من كل البقاع الإسلامية؛ فلقد كان السلطان يستقدمهم ويغالي في إكرام وفادتهم ويسهل لهم كل وسائل الإقامة، فعل ذلك مع القوشجي الذي أهداه رسالة في علم الحساب المسماة المحمدية ومع سراج الدين الخطيب وقطب الدين العجمي والشيرواني وغيرهم.
وأهم المدارس التي أنشأها الفاتح المدارس الثماني حول جامعه في إستامبول ومدرسة أيا صوفيا ومدرسة أبي أيوب الأنصاري، ونحن نعرف أن الفاتح حول ثماني كنائس في إستامبول إلى جوامع وألحق بكل منها مدرسة، كما أنشأ مدارس في بعض المدن المهمة الكبرى.
وكان العلماء البارزون في الفقه والشريعة في عهد الفاتح كثيرين، وقد ذكرهم وترجم لهم وعدد مناقبهم المولى أحمد بن مصطفى الشهير بطاش كبرى زاده في كتابه الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية.
وعلى رأس هؤلاء العلماء ملا خسرو محمد بن قراموز الرومي المتوفى سنة 1480م، وهو رومي اعتنق الإسلام، وتتلمذ على الشيخ حيدر الهروي الذي كان مفتيا في البلاد الرومية، وعين مدرسا في مدرسة أدرنة المسماة شاه ملك، وبعد فتح القسطنطينية عين قاضيا لإستامبول وللعسكر المنصور في نفس الوقت الذي قام فيه بالتدريس في مدرسة أيا صوفيا، وكان السلطان محمد الثاني يحبه ويحترمه ويفخر بوجوده في دولته، ووكل إليه تقنين الشرع الإسلامي، ولقد تولى ذلك الشيخ الجليل وظيفة الإفتاء، ولقد كتب عنه السيوطي وترجم له ابن العماد في شذرات الذهب، ولهذا العالم مؤلفات كثيرة في الشريعة الإسلامية والفقه منها مرقاة الأصول مع مرآة الوصول، وغرر الأحكام في شرح درر الحكام والرسالة الولائية وكاشفات الشبهات العلائية وجملة رسالات أخرى مثل رسالة في الاستخلاف للخطبة، وأخرى في أسرار الفاتحة.
ومنهم الشيخ أحمد بن إسماعيل الكوراني، تلقى تعليمه في القاهرة حيث كان موضع تقدير الأمير جقمق، وكان السلطان الغازي مراد الثاني يكرمه إكراما شديدا، وعينه مدرسا لولده محمد، ولقد عينه السلطان الفاتح مساعدا لقاضي عسكر، ثم عينه قاضيا في مدينة بورصه ثم ولي الإفتاء في آخر الأمر، ومات بعد عهد تلميذه العظيم، ولعظم قدره في الدولة حضر السلطان بايزيد الثاني صلاة الجنازة عليه في سنة 893ه. وقد ترجم له السخاوي في الضوء اللامع. وله غايات الأماني والبدور اللوامع، ولوامع الغرر في شرح فوائد الدرر، وكشف الأسرار عن قراءات الأئمة الأخيار، وغايات الزمان في تفسير الكلام الرباني.
ومنهم الشاعر والفقيه جلال زاده خضر بك كتب النونية في العقائد.
ومنهم مصلح الدين البروسوي كتب نقدا لتهافت الفلاسفة ورسالة في الحركة، ومنهم خطيب زاده بن تاج الدين، وملا خيالي، ومصطفى القسطلاني، وعلاء الدين عربي، وعلاء قوشجي الذي كتب الرسالة المفردية وعقود الجوهر والمعجز في الطب، ومنهم علي بن مجد الدين شاهرودي الهروي، وهو من أحفاد الفخر الرازي ومن تصانيفه شرح الإرشاد، وشرح المصباح في النحو، وشرح آداب البحث، وشرح العقيدة الروحية لابن سينا، وله تآليف أخرى بالفارسية. ومنهم ملا لطفي وهو صاحب رسالة في تاريخ الحكمة، وعبد الرحمن بن مؤيد الذي يقال إن له من المؤلفات سبعة آلاف مجلد، ومنهم تكساري وتاجي بك زاده وجعفر، وسعدي شلبي، وعلي جمالي، وابن كمال، والمفسر أبو السعود الذي عرف باسم كمال باشا زاده.
ولابن كمال آثار ومؤلفات في الفقه والتفسير وعلم الكلام والحكمة والتاريخ والمعاني، وكان ينظم الشعر باللغتين الفارسية والتركية. وأما أبو السعود فكان قاضيا ثم تولى المشيخة الإسلامية فأصبح شيخا للإسلام، ويقال إنه لما شاع خبر وفاته في الحرمين صليت عليه هناك صلاة الغائب، ويروى أنه كان يصدر في اليوم ألف فتوى، وتفسيره للقرآن مشهور وشرحه لبردة البوصيري يدل على قوة في اللغة العربية واطلاع واسع في الأدب العربي، وهو يتبع في أسلوبه السجع ويهتم بالصنعة اللفظية.
ومنهم محمد بن قطب الأزنيقي صاحب التعبير المنيف والتأويل الشريف، وشرح الأوراد ورسالة في المعرفة وفتح مفتاح الغيب، ولقد جمع هذا الرجل - كما يقول ابن العماد صاحب شذرات الذهب - بين الشريعة والطريقة والحقيقة. وظهر في الفلسفة كمال الدين مسعود الشرواني الرومي له رسالة في الأبحاث الثلاثة المتعلقة بالكلام والمنطقة والحكمة، وله شرح السمرقندية، وشرح المواقف ... ومنهم يوسف بن حسن القرمسطي، كتب رسالة في المواقف، والوجيز في أصول الدين، وزبدة الوصول إلى علم الأصول، ومنهم حاجي شلبي الفناري صاحب رسالة على المبدأ الأول وشرح المواقف. وظهر في اللغة السيد محمد بن السيد حسن بن علي وله جامع اللغة، ولطف الله شلبي وهو تلميذ التفتازاني، له متصرفات الأسماء ومقدمات العلماء.
ومن أجل العلماء قدرا في عهد الفاتح ممن توسلوا إلى الله بالتقوى صادقين الشيخ آق شمس الدين، ولقد دعاه السلطان إلى صحبته عند حصاره مدينة القسطنطينية، ولقد بشر ذلك الشيخ أحمد باشا، وهو أحد وزراء السلطان بالنصر وعين له وقت الفتح، كما يروي صاحب الشقائق النعمانية، وحمل الوزير هذه البشرى إلى السلطان، فلما قرب الوقت الموعود ولم تفتح المدينة خشي الوزير غضب السلطان، فأسرع إلى الشيخ فوجده يبكي ويتضرع إلى الله ويسأله أن يتم نصره، ثم أنزل الله نصره ودخل الأتراك المدينة في الوقت الذي عينه الشيخ فقال السلطان: ما فرحت بهذا الفتح مثل فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زماني.
وكان السلطان يرسل إليه ويقربه، ويروى أنه بعد إتمام فتح المدينة العظيمة التمس من هذا الشيخ الموهوب أن يريه قبر أبي أيوب الأنصاري، فتوجه الشيخ ساعة وكشف عن موضع القبر فبنى السلطان عليه القبة والجامع.
هذه القصص مهما كان نصيبها من الصحة إن دلت على شيء فهي تدل على مقدار تعلق السلطان برجال الدين وأولياء الله الصالحين.
وكان للسلطان محمد الفاتح روح اجتماعي طيب سمح، فله من أعمال الكرم والجود والبر الشيء الكثير، فلقد عين للأرامل والأيتام في كل سنة النفقة والكسوة ما يفي بحاجتهم، وبنى المستشفيات والسبل والحمامات المجانية.
وكان الفاتح يعلق أهمية كبيرة على كشف قبر أبي أيوب الأنصاري، وكذا كل الأتراك؛ لما لصاحبه من قدر جليل وسابقة في الإسلام ونصرة للرسول
صلى الله عليه وسلم ، وكان البيزنطيون أنفسهم يحترمون قبره ويستسقون به فلم يكن قبره مجهولا عندهم. ولقد أصبح جامع أبي أيوب الأنصاري أقدس جامع في الأستانة، وأصبحت الدولة العثمانية تقيم فيه حفلة السيف وهي حفلة تقام كلما ارتقى سلطان العرش فيذهب السلطان الجديد إلى هذا الجامع، ويقلد سيف عمر بن الخطاب في حفلة عظيمة تشبه حفلة التتويج في الغرب الأوروبي، وعندما يتقلد السلطان السيف يصلي ركعتين في ضريح أبي أيوب الأنصاري.
وأما من ناحية تذوق الأدب والفن، فلقد كان الفاتح مغرما بالشعر يحفظه ويقوله ويستمع إليه ويغشى نواديه، ويكرم أهله أيا كان موطنهم وجنسيتهم فكان يرسل بالهدايا والمنح إلى شعراء الهند وخاصة إلى الشاعر خوجايجهان، وقامت في عهده مدارس للشعر الغنائي في بروسة وقسطموني، وكان وزراؤه يحاكون سيدهم في هذه الناحية ويعضدون الحركة العلمية والأدبية.
وكان أربعة منهم ينظمون الشعر، ومنهم أحمد باشا الذي وضع أسلوب الشعر الغزلي في اللغة التركية، ومنهم خضر باي زاده سنان باشا صاحب تضرع نامه، وجزري قاسم الذي لقب في مجلس الأدب بصافي، وقرماني محمد باشا ولقب بنشائي، وأما السلطان نفسه فلقب بعوني.
وفي عهده نظم الشاعر حمدي قصة ليلى والمجنون باللغة التركية تقليدا للملاجائي، كما نظم قصة يوسف وزليخا. وأما الشهدي الشاعر فلقد حاول أن يكتب التاريخ العثماني نظما على طريقة الملاحم تقليدا للفردوسي في شاهنامته، لكنه توفي بعد أن نظم أربعة آلاف بيت، ومنهم جلشني الذي كتب عشرين ألف بيت على طراز مثنوي. ومن الشعراء آلهي الذي ألف زاد المشتاقين ونتائج الأرواح.
ومن السيدات الشاعرات مهرى وهي من بلدة أماسيا، وزينب وهي من قسطموني، ونالت هاتان الشاعرتان عطف السلطان، وهنا يجب ألا ننسى أن الأمير جم، فلقد كان شاعرا عظيم الشأن يحسن تذوق الفن.
وأما تقدير السلطان لنواحي الفن فيظهر في ولعه بالموسيقى، ويبدو واضحا في استدعائه لبليني إلى إستامبول حيث أكرمه إكراما عظيما، وكان يقدره ويعجب به ويتابع عمله ويتبسط معه. ولقد قام بليني برسم صور للسلطان الفاتح، منها صورة كبيرة لا تزال موجودة، ورسم صورة أخرى منها صورة كبيرة يبين فيها استقبال سفير في الأستانة، وعمل بليني للسلطان مداليات على بعضها صورة الفاتح كتب حولها باللاتينية ما ترجمته: «السلطان محمد الثاني الإمبراطور العظيم» وعلى ظهرها ثلاثة تيجان تمثل الإمبراطوريات التي يحكمها السلطان. ولقد أهداه الفاتح عند انتهائه من مهمته قلادة ذهبية وعطية سنوية ومنحه رتبة البكوية.
لقد كان عصر الفاتح عصرا زاخرا بالفتوحات، عصر تنظيم وبناء، عصرا ناضرا برجال العلم والدين والأدب والشعر.
ويقدر المسلمون في كافة أقطار الأرض أعمال الفاتح ويرون فيه بطلا من أبطال الإسلام وزعيما من زعمائه. وأما الأتراك فلقد تعلقوا بسلطانهم العظيم ، فهم يفخرون به ويمجدون أعماله العظيمة ويجلون ذكراه:
هركوشه سنده دهرك
نام بقا مدارك
شامسنه در دينلسه
عالم سنك مزارك
بيت خدايه قوتمش
جاهك مطاع إسلام
طورمش باشكده بكلر
برقوم تربه دارك
ميدان حربي فيلدك
سن تختكاه شوكت
توحيد إيدي مرامك
إسلام إيله انامي
بر مجمع سياست
بولدك عقول جسبان
دوران إيدي رقيبك
الله إيدي نكارك
إن اسمك الخالد لباق في كل ركن من أركان العالم
وجدير أن يقال إن العالم بأسره قبرك
وإن ضريحك المشيد في بيت الله مطاع للإسلام
ولقد وقف القوم كلهم (الأتراك) يحرسون ضريحك
جعلت ميدان الحرب مقرا لعرشك العظيم
كان غرضك توحيد الأنام بالإسلام
واجتمع لهذا الغرض علمك ومقدرتك
لبثت في الدهر لحظة وكل لحظة أصبحت عهدا
والدهر كان رقيبك والله كان حبيبك
1
نامعلوم صفحہ