أثمة لعنة قديمة مجهولة قضي عليه بأن يكفر عنها؟! كيف المخرج من هذه الحيرة التي تغشى حياته؟ حتى جليلة تفكر جادة في تغيير حياتها فلم لا يتخذ منها أسوة؟ لا بد للغريق من صخرة يلوذ بها أو فليغرق، وإذا لم يكن للحياة معنى فلم لا نخلق لها معنى؟! .. - ربما كان من الخطأ أن نبحث في هذه الدنيا عن معنى بينا أن مهمتنا الأولى أن نخلق هذا المعنى ..
وحدجته جليلة بنظرة غريبة فانتبه بعد فوات الوقت إلى ما بدر منه دون شعور. وضحكت جليلة متسائلة: سكرت بهذه السرعة؟
فدارى ارتباكه بضحكة عالية وقال: خمر الحرب كالسم، لا تؤاخذيني، ترى متى تأتي عطية؟!
36
غادر كمال بيت جليلة عند منتصف الساعة الثانية صباحا، كان كل شيء غارقا في الظلام، وكان الظلام غارقا في الصمت، وسار على مهل نحو السكة الجديدة ثم مال إلى الحسين - حتى متى يعيش في هذا الحي المقدس الذي لم يمت إليه بصلة؟ وابتسم ابتسامة فاترة. لم يكن بقي من الخمر إلا خمارها، أما الجسد فقد خمدت لواعجه، فنقل خطاه في إعياء وكسل. عادة في مثل هذه اللحظة الخامدة يصرخ شيء في أعماقه - لا هو التوبة ولا الندم - ناشدا التطهر، ملتمسا الخلاص من قبضة الشهوات إلى الأبد، كأن موجة شهواته تنحسر عن صخور تقشف كامنة. ورفع رأسه إلى السماء، كأنما ليستأنس بالنجوم فانطلقت في السكون صفارة الإنذار! ودق قلبه دقة عنيفة ثم حملقت عيناه النائمتان، ثم بدافع غريزي مال إلى أقرب جدار وسار بحذائه، ونظر إلى السماء مرة أخرى فرأى أضواء الكشافات الكهربائية تمسح صفحاتها في سرعة شديدة، تلتقي أحيانا ثم تتفرق في جنون. وحث خطاه دون أن يفارق الجدران وقد شعر شعورا موحشا بوحدته كأن وجه الأرض قد خلا إلا منه! وإذا بصفير مبحوح يتهاوى لم يطرق أذنه من قبل، يعقبه انفجار شديد ارتجت له الأرض تحت قدميه، قريب أم بعيد؟ ولم يتسع له الوقت لمراجعة معلوماته عن الغارات، إذ تتابعت الانفجارات بسرعة تكتم الأنفاس، وانطلقت المدافع المضادة جماعات جماعات، والتمع الجو بأضواء كالبرق لم يعرف مصدرها ولا كنهها فخيل إليه أن الأرض تتطاير. وانطلق يعدو بسرعة لا يلوي على شيء صوب درب قرمز ملتمسا في قبوها التاريخي مخبأ. وكانت المدافع تنطلق في غضب جنوني، والقنابل تدك مراميها دكا، والأرض تميد. وفي ثوان من الفزع بلغ القبو، وكان يكتظ بخلق كثيرين تكاثفت بهم ظلمته، فاندس بينهم وهو يلهث. وكان جوه يسوده الرعب ويمتلئ بهمهمات الفزع في ظلام دامس، أما مدخل القبو ومخرجه فيضيئان من آن لآخر بانعكاسات الاشعاعات المنطلقة في الفضاء. وقد توقف سقوط القنابل أو هذا ما خيل إليهم. أما المدافع فلم يخف جنونها ولم يكن رجعها في النفوس دون رجع القنابل، واختلطت أصوات صراخ وبكاء وزجر وانتهار صادرة عن نسوة وأطفال ورجال. - هذه غارة جديدة وليست كالسابقات .. - وهذا الحي القديم هل يتحمل الغارات الجديدة! - أعفونا من هذه الثرثرة وقولوا يا رب! - كلنا يقول يا رب .. - اسكتوا، اسكتوا يرحمكم الله!
وكان كمال يلاحظ الضوء الذي ينير مخرج القبو حين رأى جماعة جديدة قادمة فخيل إليه أنه لمح هيئة أبيه بينها، وخفق قلبه، أيكون حقا أباه؟ وكيف استطاع أن يقطع الطريق إلى القبو؟ بل كيف استطاع أن يغادر فراشه؟ وشق طريقا إلى نهاية القبو مخترقا الكتل البشرية المضطربة، فتبين على التماع الضوء أسرته جميعا، أباه وأمه وعائشة وأم حنفي! واتجه نحوهم حتى وقف بينهم وهو يهمس: أنا كمال! كلكم بخير؟
لم يجب أبوه، وكان ملقيا بظهره في إعياء إلى جدار القبو بين الأم وعائشة، أما الأم فقالت: كمال، الحمد لله، شيء فظيع يا بني، ليست ككل مرة، خيل إلينا أن البيت سينقض فوق رءوسنا، وربنا شد حيل أبيك فنهض وجاء بيننا، لا أدري كيف جاء ولا كيف جئنا ..
وغمغمت أم حنفي: عنده الرحمة، ما هذا الهول! ربنا يلطف بنا ..
وفجأة هتفت عائشة: متى تسكت هذه المدافع؟!
وخيل إلى كمال أن صوتها ينذر بانهيار عصبي فاقترب منها وأمسك بكفها بين يديه وكأنه قد استرد بعض وعيه المفقود عندما وجد نفسه حيال من هم في حاجة إلى تشجيعه. وكانت المدافع ما تزال تنطلق في غضبها الجنوني، غير أن وطأتها أخذت تخف بدرجة غير محسوسة، ومال كمال نحو أبيه وسأله: كيف حالك يا أبي؟
نامعلوم صفحہ