بل جعل ما هو أكبر شأنا وأشد خطرا بجعله القطرين منفصلين، فيباعد بين الأخوين مباعدة تدعو إلى النفور والشحناء والبغضاء كما نحن نرى الآن من الدعوة التي تنشر ومن والوسائل التي تتخذ، وإذا كان الإنكليز - كما قلنا قبل - قد نظروا منذ عهد إسماعيل إلى ما يجنون ثماره الآن فأطلق مستخدمو مصر منهم اسم ملكتهم والأمير زوجها وولي عهدها على منابع النيل؛ ليرسخ في التاريخ، وليرسخ في أذهان أبنائهم أن تلك المنابع لهم؛ لأنها تسمى بأسماء ملوكهم وأمرائهم. فكم يكون واجبا علينا بل لازما محتما أن نعمل على الأقل عملهم في إبقاء صلة الاتحاد والإخاء بيننا وبين إخوتنا الذين أبوا على عهد الخديوي سعيد باشا أن تجلى الجنود المصرية عن أرضهم وأن يستعيد الخديوي عماله من بلادهم، فكانوا بعيدي النظر، وكانوا على سياسة الإخاء بل على أحدث سياسة يجب الأخذ بها، وهذه السياسة يجب أن تكون سياستنا، أي سياسة الوحدة والاتحاد مع إخواننا بالسودان لا سياسة «ضمانة المياه» التي يتغنون بها الآن، وهي شديدة الخطر خطيرة النتائج على مصر والسودان معا؛ لأنها تتضمن في طياتها شرا كبيرا قوامه «فرق تسد». •••
إن بين مصر وإنكلترا عهدا وميثاقا أبرم سنة 1899 فهذا العهد والميثاق علله أحسن تعليل رئيس لجنة الدستور حسين رشدي باشا مستشهدا بأقوال اللورد كرومر الذي وضع ذلك الاتفاق، فلم يقل اللورد واضع الاتفاق أنه ينازع مصر في ملكية السودان أو بالأحرى في أن السودان ومصر واحد؛ بل قال: إن الغرض الوحيد من ذلك الاتفاق هو الحيلولة دون تسحب الامتيازات على السودان. فإذا كانت لإنكلترا منافع في السودان فإن المصريين لا ينكرونها وهم يحترمون تلك المنافع والمرافق كل الاحترام، وأما الملكية وأما فصل السودان عن مصر فصلا يؤدي في المستقبل حتما إلى النزاع والخصام فإنه لا يسلم به مصري مهما كان الأمر، والاتحاد في رأس برنامج كل حزب من الأحزاب المصرية وهو مطبوع على قلب كل مصري كبيرا كان أو صغيرا إلا الذين كفت بصيرتهم فلا يرون غدهم وهم عائشون ليومهم، وهؤلاء لا يؤخذ بقولهم ولا برأيهم في مصير أمتهم أو مستقبلها. •••
إذا كان الإنكليز والمصريون فريقين مختلفي الغاية والغرض في السودان فإن الفريق الطامع بذلك الملك الشاسع - وهو الفريق الإنكليزي - يعمل والقوة تؤيده لتنفيذ طمعه. أما الفريق الثاني صاحب الحق - وهو الفريق المصري - فإنه يستند إلى حقه فقط، وقد قال السياسيون: إن الحق قد تخلقه القوة وقد تستميله إليها. وقال الاجتماعيون: ما مات حق من ورائه مطالب. ومعنى قولهم أن كل حق لا يطالب به قد يموت.
هم يعملون ولا يكلون، وهم يعتمدون في عملهم على خلق فكرة الانفصال وتقويتها وإنمائها في نفوس السودانيين أنفسهم، وبتصوير المصريين لعيون السودانيين تصويرا ينفرهم منا ويبعدهم عنا.
فهلا رشد نفر منا فهب لزيادة أحكام الروابط والإخاء والمحبة والولاء بين مصر والسودان حتى لا تجد البذرة الفاسدة مكانا من أنفسهم وقلوبهم، وهلا قام نفر منا يختص بالدعاية السودانية فوق برامج الأحزاب وأكثر من مباحث الصحف والأقلام حينا بعد حين؟
لقد عابوا على الأمير الكبير عمر طوسون قوله في بعض رسائله: «إن لم نحكم السودان فليحكمنا السودانيون.»
وما كان في هذا القول عيب ولا عار إذا كان الغرض منه أن تكون الأمتان أمة واحدة، ومتى كانتا كذلك لا يسأل فيهما من هو الحاكم ومن هو المحكوم. ألا إن من السودانيين أبطالا في خدمة القضية المصرية وأبطالا بواسل في سبيل الاستقلال والفتح المصري، لا يمحى أثرهم من تاريخ مصر الخالدة، فكيف تنساهم مصر وكيف تنسى دماءهم التي سفكت كرما وجودا في سبيل مصر واستقلالها وتوسيع سلطانها وتوطيد أركانها.
إن بين السودان ومصر من أواصر النسب ووشائج القربى ما لا يقبل انفصالا ولا فكا.
إن بينه وبين مصر أفخاذ القبائل وبطون العشائر وروابط اللغة والدين والتاريخ.
إن بينهما روابط المنفعة الأدبية والمادية، فإذا عملت مصر وعمل المصريون لإحكام هذه الروابط، روابط الإخاء والمحبة والقربى ثم المنفعة، فقد عملت كل شيء يدفع عنها وعن السودان الغير، ويثمر الخير ويحقق الآمال، في كل مصير ومآل.
نامعلوم صفحہ