السودان المصري والسياسة الإنجليزية
السودان المصري وماذا كان وماذا صار؟
كيف دفع السودان للثورة
محمد أحمد والثورة
التعليمات لغوردون
الزبير رحمة
التسابق إلى السودان
مصر هي النيل
من محمد علي إلى عباس الثاني
السودان مصري فقط
نامعلوم صفحہ
سلخ السودان وطريق المواصلات الإمبراطورية
إخلاء السودان ليس تركه نهبا مشاعا
فتح السودان واتفاق 1899
بعد الاتفاقين
أحرار ومحافظون
اتفاق السودان في نظر رجال السياسة والقانون
السودان مصري ومن مصر وجزء لا يتجزأ عن مصر
شركة الذئب والحمل
نظرة في المستقبل ومستقبل مصر في السودان وحده
مراقبة مياه النهرين الكبيرين
نامعلوم صفحہ
القبض على نواصي الأمم بالماء والبوليس
مشروعات الري الحديثة في وادي النيل والإيراد المائي اللازم لريه
مصر بعد 35 سنة والسودان بعد 53 سنة
مشروع ري الجزيرة
الجيش المصري والسودان
في بحر الغزال
الخاتمة
السودان المصري والسياسة الإنجليزية
السودان المصري وماذا كان وماذا صار؟
كيف دفع السودان للثورة
نامعلوم صفحہ
محمد أحمد والثورة
التعليمات لغوردون
الزبير رحمة
التسابق إلى السودان
مصر هي النيل
من محمد علي إلى عباس الثاني
السودان مصري فقط
سلخ السودان وطريق المواصلات الإمبراطورية
إخلاء السودان ليس تركه نهبا مشاعا
فتح السودان واتفاق 1899
نامعلوم صفحہ
بعد الاتفاقين
أحرار ومحافظون
اتفاق السودان في نظر رجال السياسة والقانون
السودان مصري ومن مصر وجزء لا يتجزأ عن مصر
شركة الذئب والحمل
نظرة في المستقبل ومستقبل مصر في السودان وحده
مراقبة مياه النهرين الكبيرين
القبض على نواصي الأمم بالماء والبوليس
مشروعات الري الحديثة في وادي النيل والإيراد المائي اللازم لريه
مصر بعد 35 سنة والسودان بعد 53 سنة
نامعلوم صفحہ
مشروع ري الجزيرة
الجيش المصري والسودان
في بحر الغزال
الخاتمة
السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية
السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية
تأليف
داود بركات
مقدمة
بقلم دواد بركات
نامعلوم صفحہ
هذه كلمات طلب إلي كثير من أصحابي الذين يشتغلون في المسألة المصرية نشرها، فأجبت طلبهم.
وليس القصد منها الاستفاضة في التاريخ والوقائع؛ بل بيان مساعي السياسة في السودان المصري بالاستناد إلى الوقائع التاريخية، وبيان حق مصر في السودان، وأن السودان جزء من مصر لا يجزأ، وأن مصر لا تستطيع أن تعيش سياسيا وماديا دون السودان.
25 مارس 1924
السودان المصري والسياسة الإنجليزية
في سنة 1881 قامت الدعوة المهدية في السودان والثورة العرابية في مصر في وقت واحد، كأنهما كانتا على موعد، وكانت للسياسة الإنكليزية في كلتيهما يد ظاهرة؛ لأن الإنكليز كانوا لمصر بالمرصاد يغنمون الفرص إن لم نقل يخلقونها، خطة قديمة وضعوها منذ نزل ناپوليون في مصر وهدد الهند سنة 1797 فمنذ ذاك اليوم خلقت عند الإنكليز كلمة «طريق مواصلات الإمبراطورية» فحاولوا - بعد إخراج ناپوليون، وإنكار معاهدة أميان (1802) بينهم وبين فرنسا على أن تظل حالة مصر بلا تغيير - الاستيلاء على مصر (1807) فصدهم محمد علي يساعده الفرنساويون على أن يكون الأمر بيده في مصر عندما ظهر لهم مقصد الإنكليز وهم عاجزون عن مقاومتهم، وظل الفرنساويون بعد طرد الإنكليز يؤيدون محمد علي وينظمون ملكه، حتى انتصر على تركيا، ومد الملك المصري إلى جبال طورس، وألف إمبراطورية ضخمة من مصر وسوريا والسودان، ولكن الإنكليز كانوا له بالمرصاد؛ فألبوا الدول على مصر، واعتبروا «الغالب مغلوبا» وأبقوا مصر ولاية تركية.
ثم اتخذوا عباس الأول آلة صماء في أيديهم فجعل طريق الهند في قلب مصر، وضمن لهم نقل البريد من الإسكندرية إلى السويس، وأنشأ لذلك طريقا معبدة، وأقفل المدارس، وتنازل عن كثير من الامتيازات، ولو طال ملكه لأرجع مصر بإرشادهم ولاية تركية.
ولما تولى سعيد باشا ونال دي لسپس منه امتياز حفر قناة السويس قاومه الإنكليز إلى أن عجزوا عن المقاومة فجعلوا نصب عيونهم امتلاك القناة.
وكان شعار سعيد «مصر للمصريين» فقوى الوطني وعززه بتولي شئون البلد، فلم تجد السياسة الإنكليزية طريقا إليه.
وخلفه إسماعيل، فعقد العزيمة على أن يتم عمل جده محمد علي وأبيه إبراهيم، لا بقوة الجند - وقوة الجند محرمة عليه باتفاق لندرة (1841) - بل بقوة المال، فنال من تركيا سبعة فرمانات بتوسيع سلطته حتى الاستقلال؛ فمد الفتح في السودان حتى الدرجة الثانية بعد خط الاستواء، وأدخل الأوغندا تحت حماية مصر بمعاهدة مع ملكها متيزا
1 (1874) وعين لينان دي بلفون مندوبا ساميا هناك، وهكذا صارت البحيرات وجميع منابع النيل مصرية، وولاه السلطان إقليم سواكن سنة 1865، ثم صار ذلك الإقليم قطعة من الأراضي المصرية بفرمان 17 مايو 1866، ومن أول يوليو 1875 أعطي بفرمان آخر إقليم زيلع، ثم وجه إسماعيل حملة مصرية استولت على سواحل البحر الأحمر من بربرة حتى الأقيانوس الهندي، ولكن عين الإنكليز كانت ساهرة يقظة يمهدون السبيل لتحقيق مطامعهم؛ فحملوا إسماعيل على أن يستخدم رجالهم في حكومة السودان، بعدما ابتاعوا منه أسهم القناة طريق المواصلات الإمبراطورية، وأوحوا إلى أولئك الرجال بمقاصدهم حتى إذا وقعت الأزمة المالية كتب مندوبهم في اللجنة الدولية السير ريفرس ويلسون «إنه لا ينقذ مصر ولا يصلح لحكمها سوى الإنكليز يتولون أمرها» وكتب الكولونل ستيوارت عن السودان «إن المصرين الذين لا يصلحون لحكم الدلتا كيف يصلحون لحكم السودان؟» هذا القول قاله الكولونل ستيوارت بعدما نشر السير صموئيل باكر سنة 1861 تقريرا عن السودان قال فيه: «يستطيع السائح الأوربي أن يتجول وحده في جميع أنحاء السودان كما يتجول الإنكليزي في حديقة هايد بارك عند غروب الشمس، فالشعب لين الطباع سهل الانقياد ليس أسهل من حكمه» فبعد خلع إسماعيل قامت الثورة العرابية والدعوة المهدية بوقت واحد تنشطهما السياسة بكل الطرق والأساليب إلى أن تسنى للإنكليز احتلال مصر سنة 1882، فوضعوا نصب عيونهم تفكيك الإمبراطورية المصرية وامتلاك السودان، وجعلوا حجتهم في البقاء بمصر «الاضطرابات السياسية والمالية بمصر وخطر المهدية بالسودان» أما المهدية فقد وصفها غوردون بقوله: إنها «حركة اليأس» بعدما شدد الإنكليز في إبطال النخاسة والرق تشديدا دفع الناس إلى اليأس، وبعدما ملأوا السودان بالحكام الأجانب وإقصاء المصريين والسودانيين، وبعد احتلالهم مصر وتسلطهم عليها ومنعهم حكومتها من إخماد الثورة إلى أن أكرهوها على الجلاء إكراها، وكانت حجة السير بارنغ (اللورد كرومر) أن ميزانية مصر تتحمل في كل عام 260 ألف جنيه هو عجز ميزانية السودان، فهي أضعف من أن تقوم بهذا الحمل، ولكن هذا الادعاء كان وسيلة لقطع السودان عن مصر؛ لأن حماية الحدود بعد ذلك كانت تتطلب أضعاف هذه النفقة، وحملوا خزانة مصر 400 ألف جنيه في العام نفقة جيش الاحتلال، ولما أرسلوا غوردون لإخلاء السودان فحصره الثوار أنفقوا هم من مالهم ومال مصر على حملة ولسلي لإنقاذه 11 مليون جنيه، ودفعت خزانة مصر من ديون غوردون إبان حصاره 996060 جنيها منها 657258 جنيها للأجانب، ناهيك بجيش مصر الذي ذاب في السودان بعد تركه، ومتاجر المصريين وأموالهم وأملاكهم، والقلاع والحصون والمراكب الحربية والتجارية، ثم بعد ذلك نفقات استعادة السودان، وقد أربت على سبعة ملايين جنيه. كل هذا المال دفع في 16 سنة اقتصادا لمئتي ألف جنيه تدفع في سنة أو سنتين، ولكنهم لم يريدوا الاقتصاد وإنما أرادوا فصل السودان ثم استعادته لأنفسهم لا لمصر.
نامعلوم صفحہ
هوامش
السودان المصري وماذا كان وماذا صار؟
وصف ستيوارت
1
باشا السودان المصري عام 1883 في تقرير قدمه لحكومة إنكلترا - حكومته - قال فيه:
إن البلاد التي يحتلها الآن المصريون ويطلقون عليها اسم «السودان» لهي بلاد كبيرة جدا مترامية الأطراف وطولها من الشمال إلى الجنوب - أي من أسوان إلى خط الاستواء
2 - نحو 24 درجة أو 1650 ميلا، وعرضها من مصوع إلي غربي دارفور نحو 22 درجة أو 1200 ميل إلى 1400 ميل، وإذا ابتدأنا من نقطة برانيس على ساحل البحر الأحمر شرقا على خط موازاة الدرجة 24 إلى نقطة غير معينة في صحراء ليبيا نفترضها الدرجة السابعة والعشرين شرقي غرنويتش، ومن هناك يتجه خط الحدود جنوبا إلى الغرب حتى نقطة الاتصال في شمالي إقليم دارفور إلى الغرب، ثم يتجه باستقامة على وجه التقريب نحو الجنوب إلى الدرجة 11 أو 12، ومن مبوتو يتجه من الجنوب الشرقي إلى بحيرة ألبرت نيانزا ويماس ڨكتوريا نيانزا ويصعد من هناك شمالا إلى الشرق فيشمل إقليم هرر، ثم يصل إلى المحيط الهندي عند رأس غردفوي، ويصير على ساحل البحر الأحمر حتى يرجع إلى برانيس.
وقد طبعت وزارة خارجية إنكلترا هذا التقرير، وألحقت به الخريطة التي وضعها مسداليا في الخرطوم وفيها مديرية خط الاستواء وشمالي الأوغندا ومديرية اللادو والمكلا وبحر الغزال وهي الأراضي المصرية التي أجرتها الحكومة الإنكليزية باتفاق 14 مايو 1894 لولاية الكونغو البلجيكية.
أما حدود السودان المصري الآن فهي: من جهة الشمال الخط 22 من خطوط العرض الشمالي إلى شمالي حلفا ، ومن الجنوب حدود بلاد أوغندا التابعة لإنكلترا على خط 5 من العرض الشمالي، ومن الشرق البحر الأحمر وبلاد الإريترة والحبشة، ومن الغرب والجنوب الغربي الصحراء الكبرى وبلاد واداي والجبال المتوسطة بين نهر الكونغو وبحر الغزال. فالطول الآن من الشمال إلى الجنوب نحو 1200 ميل، ومن الشرق إلى الغرب نحو 1000 ميل؛ لأن مديرية خط الاستواء التي ظل أمين باشا مديرا مصريا فيها ومعه ألفا جندي مصري والعمال والكتاب، اقتطعت من السودان وألحقت بالأوغندا التي كانت تحت حماية مصر، وبعد استعادة السودان جعلوا منجالا آخر حدود السودان المصري، وما بقي من الأراضي السودانية المصرية جنوبا ألحق بأوغندا، وأعطيت اللادو وما حولها لملك بلجيكا على أن تعود للإنكليز بعد وفاته، وبذلك اقتطعوا من السودان المصري 450 ميلا بالطول و400 ميل بالعرض، وأخرجوا منه البحيرات التي ينبع منها النيل وجعلوها ملكا لهم ليملكوا بها السودان ومصر معا، ولم يكفهم ذلك فإن البحر الأحمر وسواحله لازمة لطرق مواصلات الإمبراطورية فأخرجوا المصريين من تلك السواحل بعد أن صار زمام مصر بأيديهم، وهكذا هدموا «الإمبراطورية المصرية» بالسودان وأخذوا أنقاضها واقتسموا مع إيطاليا وبلجيكا الغنيمة.
كانت مساحة السودان المصري في سنة 1883 تعادل مساحة فرنسا وإسپانيا وألمانيا معا، فلم يبق منها الآن سوى الثلث، وهذا الثلث يدعي الإنكليز أنهم أصحابه دون مصر، وكانت تجارة مصر مع السودان تجارة كبيرة جدا، فالصادر من مصر بطريق أسوان وحدها كان مليوني جنيه والصادر من سواكن وقنا وأسيوط يعادل هذا المبلغ، أما واردات السودان إلى مصر وبطريق مصر فقد كانت نحوا من 11 مليون جنيه، أما الآن فإنه لم يبق لمصر من هذا الوارد التجاري والصادر إلا الجزء اليسير الذي لا يكاد يستحق الذكر، ولولا ورود المواشي السودانية في العهد الأخير لوصلت الصلات والعلائق التجارية بين مصر وسودانها إلى حيز العدم رغم زيادة العمران وعدد الأهالي فمبلغ المليون والنصف المحصورة به تجارة مصر والسودان الآن يدلنا على أن مصر لا تخسر بإضاعة السودان مصدر حياتها بل تجارتها ونتاج صناعتها؛ لذلك لم تحتج الحكومة المصرية برئاسة شريف باشا وحدها سنة 1884 على مسعى الإنكليز لإخلاء السودان، بل احتج أيضا على هذا المسعى التجار الوطنيون والأجانب بمذكرة رفعوها إلى الخديوي توفيق باشا ووزيره نوبار باشا ومعتمدي الدول قالوا فيها:
نامعلوم صفحہ
إن واردات السودان مليونا جنيه (بطريق أسوان) وصادراته 11 مليونا ونصف مليون جنيه، وإن الأملاك والعقارات تقدر بالملايين الكثيرة، وإن عدد التجار المسيحيين 15 ألفا وعدد التجار المصريين 40 ألفا، وعدد المحلات التجارية المصرية ثلاثة آلاف وعدد المحلات التجارية الأوربية نحو ألف، والمخزون من البضائع يقدر بنصف مليون جنيه.
ولكن ذلك كله لم يحل دون عزم إنكلترا على إخلاء السودان، بل إن ذلك هو الذي دعاها إلى إخلائه لتضع يدها عليه، وما كاد يصدر أمر الإخلاء حتى أنزل الأميرال هويت قوة إنكليزية بسواكن (24 فبراير 1884) وكانوا قبل ذلك أي في سنة 83 قد خططوا السكة الحديدية من سواكن إلى بربر ليحولوا طريق التجارة عن مصر إلى سواكن فيربحوا خيرات السودان وتجد مراكبهم مرتزقا من النقل دون مزاحم، وبعد احتلال سواكن أرسلوا الماجور هنتر لاحتلال زيلع وبربرة وما وراءهما، فكانت الجنود المصرية تلف علمها وفي الوقت ذاته كانت الجنود الإنكليزية ترفع علم دولتها فوق القلاع المصرية، وفي 3 يونيو 1884 عقد هنتر اتفاقا مع النجاشي يوحنا بشأن إقليم هرر دون استشارة الحكومة المصرية ودون رأيها، وألف هناك حكومة محلية برئاسة عبد الله محمد عبد الشكور. أما مصوع التي سلمتها تركيا للحكومة الخديوية في سنة 1866 مقابل 16 ألف جنيه تدفعها في كل سنة، فقد كانت محافظة تمتد من رأس قصار في البحر الأحمر حيث منتهى محافظة سواكن إلى حلة رهيطة عند بوغاز باب المندب، وتمتد بالبر إلى سيدرات بالقرب من كسله، ويطلق الطليان عليها الآن اسم الإريتره، فالبحر الأحمر كان بحرا مصريا صرفا مع خليج العقبة وقلعة الوجه التي بناها المصريون وأقاموا فيها حتى 89 وفي 6 فبراير 1885 أخرجت الحامية المصرية من زيلع وأعيدت إلى مصر ومنحت زيلع وبربر للإنكليز.
وأغرب من ذلك أن هذه البلاد التي أخذت من مصر لا تزال مصر تدفع إتاوتها لتركيا، وقد قرر مؤتمر لوزان أن تظل مصر تدفع هذه الإتاوة إلى سنة 1855. •••
أما القوة المصرية التي كانت في بلاد السودان حين قيام ثورة المهدي فهي حسب الإحصاء الرسمي 1950 في دنقلة و2170 في بربر و7480 في الخرطوم و2350 في سنار و1610 في القلابات و800 في الجيرة و200 في القضارف و3940 في كسله و920 في أمبديب و1900 في سنهيت و3470 في هرر و5830 في كردوفان و4863 في دارفور و886 في بحر الغزال و2631 في خط الاستواء. فجملة عدد الجيش المصري في السودان 40490 وفي خدمتها 12 وابورا حربيا، وعدد المتطوعة مع الجيش نحو 20 ألفا، وعدد الموظفين نحو 30 ألفا.
هوامش
كيف دفع السودان للثورة
دس الإنكليز رجالهم في خدمة الحكومة المصرية في السودان، وظن إسماعيل باشا - الذي كان يجيب طلبهم باستخدام رجالهم وبإعطائهم السلطة التي لا حد لها - أنه يرضيهم ويحول مطامع إنكلترا عن بلاده، فظن خطأ، وتولى الموظفون الإنكليز المناصب بطلب حكومتهم وإرشادها ليتمكنوا من هدم الإمبراطورية المصرية الواقعة على طريق الهند وتحويلها إلى مستعمرات إنكليزية فصموئيل بكر في خط الاستواء وغوردون في بحر الغزال وكلاهما وال مصري أعطيا السلطة التي لا حد لها فاستخدما قانون منع الرق لإغضاب السودانيين الذين كانوا يستخدمون العبيد في أعمالهم وينصرفون هم إلى التجارة والأعمال الكبيرة، فكانا ينكلان بالناس تنكيلا شديدا ويعاقبان بالقتل والسجن ومصادرة الأملاك بحجة تنفيذ المعاهدة المبرمة بين إسماعيل باشا وإنكلترا سنة 1877 لمنع الرقيق، مع أن الإنكليز في أملاكهم الأفريقية كانوا يتساهلون كل التساهل، فعد عمل الإنكليز فوق ما تقدم تعرضا للدين. ثم إنهم ميزوا قبيلة على أخرى فأعفوا قبائل الشايقية من الضرائب فأغضبوا القبائل الأخرى، كما فضلوا أصحاب الطريقة الميرغنية على أصحاب الطرق الأخرى فأوجدوا التحاسد بين أصحاب الطرق.
ويلي ذلك إهمال شأن محمد أحمد المهدي عند ظهوره، وظهور هؤلاء الذين يدعون المهدية في السودان كثير جدا، وقد ظهر من يوم استعادة السودان إلى اليوم 15 مهديا لو أهملوا لاستفحل أمرهم، وضاعف في الأمر الثورة العرابية التي كان ينشطها ويشجعها وكيلهم السياسي بمصر السير مالت وغيره من خدمة سياستهم فتحولت أنظار حكومة مصر عن السودان إلى أن احتل الإنكليز مصر.
محمد أحمد والثورة
أما محمد أحمد المهدي فهو ابن نجار تعلم العلوم الدينية بالخرطوم، واتبع الطريقة السمانية، وسكن مع إخوته النجارين في جزيرة أبا حيث كثر تلامذته وأتباعه، وفي سنة 81 جهر بدعوى المهدية، وحث أصحابه على القيام معه لنصرة الدين والجهاد في سبيل الله كما يفعل ذلك الكثيرون، ولما وصل خبره إلى رءوف باشا حكمدار السودان أرسل إليه يسأله عن منشوراته وادعائه فأجابه أنه المهدي المنتظر، فأوفد إليه محمد بك أبا السعود أحد معاونيه فدخل عليه في غاره وسأله عن دعواه. فأجابه: أنا المهدي أنا ولي الأمر.
نامعلوم صفحہ
فعاد أبو السعود إلى رءوف باشا وقص عليه حكاية محمد أحمد، فأرسل معه بلوكين للقبض عليه، وكان محمد أحمد قد جمع أتباعه فلما نزل الجنود إلى البر فتك بهم رجاله؛ لأن الجنود لم يكونوا على حذر، وخاف المهدي العاقبة ففر مع من معه إلى جبل قدير، وارتأى محمد سعيد باشا مدير كردوفان مطاردة محمد أحمد، ولكن رءوف باشا منعه وأرسله إلى جزيرة أبا ليحقق عن قتل الجند، ولما استقر محمد أحمد بجبل قدير استأذن مدير فاشودة راشد بك بأن يزحف عليه فمنعه رءوف باشا، ولكنه ذهب بأربعمائة جندي، وقبل وصوله إلى مقر المهدي جمع هذا ثمانية آلاف هجم بهم على راشد بك فقتله وأسر جماعته وفتك بالباقين؛ فعزلت الحكومة رءوف باشا وولت عبد القادر باشا، وقبل وصول عبد القادر باشا جهز جيكلر وكيل الحاكم قوة بقيادة يوسف باشا السلامي قابلها محمد أحمد بجيش عدده 15 ألفا، فانتصر على يوسف باشا وقتله (29 مايو 1882) ولما ذاع خبر انتصاره هابه الناس، وأخذوا بالهجرة إليه، وامتدت الثورة إلى سنار ومديرها حسين باشا شكري، ثم من هناك إلى جهة النيل الأزرق.
وفي 11 مايو 1882 وصل عبد القادر باشا إلى الخرطوم فأخذ بتحصينها، وتجنيد العساكر، وأتى بست أورط من السودان الشرقي، وأخمد فتنة سنار، وعزل الموظفين الذين خانوا، ثم سار هو ذاته بجيش نكل بزعماء الثورة في سنار واحدا فواحدا، وكاد يخمد الثورة في جميع الأنحاء عندما تلقى الأمر من القاهرة بعزله، كأنما الإنكليز ما كانوا يريدون إخماد الثورة بل زيادة اتقادها، فعينوا علاء الدين باشا خلفا له زاعمين أن عبد القادر باشا يريد الاستقلال بالسودان، ومن المعلوم أن الإنكليز عندما دخلوا القاهرة كان أول عمل عملوه أنهم حلوا الجيش في 20 ديسمبر 1882، ثم جمعوا ستة آلاف رجل، وعينوا السر أفلن وود سرادارا، وعينوا الضباط الإنكليز قوادا، وأرسلوا إلى السودان عشرة آلاف من فلول جيش عرابي بقيادة هكس باشا.
وصل علاء الدين باشا إلى الخرطوم في 20 فبراير 1883 وسلطته محصورة بالإدارة الملكية، وولوا سليمان باشا نيازي العسكرية، وهكس باشا رئيسا لأركان الحرب.
ولما وصل عبد القادر باشا إلى مصر ألح على الحكومة بأن تدع الجيش يحافظ على النيل الأبيض حتى لا تمتد الثورة إلى سنار، وأن تدع محمد أحمد وشأنه في كردوفان فهو يسقط من تلقاء نفسه فلم يسمعوا نصيحته، وجهز هكس باشا حملة كبيرة على كردوفان مؤلفة من 7000 من المشاة و500 من الفرسان النظاميين و500 من الفرسان المتطوعين وألفين من الأتباع و500 جمل و300 بغل و10 آلاف حمار وخمسة آلاف جواد و10 مدافع جبلية و4 كروب و6 نوردنفلت. سار هذا الجيش وضل الطريق، وفي 4 نوفمبر أخذ الدراويش يطوقون معسكر هيكس الذي دخل واديا كثير الغابات والأشواك طلبا للماء؛ لأن العطش برح بالجنود، فحمل عليهم رجال محمد أحمد من كل جانب فقتلوا الجيش، ولم يسلم منه سوى ضابطين و300 جندي أخذوا أسرى.
وحينئذ أرسل الكولونل ستيوارت تقريرا إلى حكومته بأن الوقت قد حان لإخلاء السودان، وألحوا على الخديوي توفيق باشا في ذلك فلم يوافقهم على هذا الطلب، وكانت حجة السير أفلن بارنغ أن في ميزانية السودان عجزا قدره 260 ألف جنيه، والخزانة المصرية لا تستطيع تحمل مثل هذا المبلغ في كل عام، والحكومة الإنكليزية لا ترضى بأن تقدم جنديا واحدا لتأييد سلطة مصر على السودان، وألحت على وزارة شريف باشا بإخلاء السودان، فأبى شريف باشا قبول طلبهم وقال كلمته المشهورة «إذا نحن تركنا السودان فهو لا يتركنا»، ولكنهم أكرهوه على الاستعفاء عملا بالقاعدة التي سنها اللورد غرنفل وهي: «إما أن يخضع الموظف المصري، أو يستقيل»، ولما استعفت وزارة شريف باشا خلفتها وزارة نوبار باشا التي قررت في الحال إخلاء السودان (8 يناير 1884).
أما وزارة شريف باشا فإنها قالت في كتاب استعفائها:
تطلب حكومة جلالة ملكة إنكلترا أن نترك السودان، فليس من حقنا أن نسلم بتركه؛ لأن هذه البلاد التي هي ملك الباب العالي قد سلمت لنا لنحافظ عليها.
وتقول حكومة جلالة الملكة إنه يجب على مصر اتباع مشورتها دون مناقشة، وفي ذلك مخالفة للأمر العالي الصادر في 23 أغسطس 1879 وفيه أن سمو الخديوي يحكم مع وزرائه وبواسطتهم.
فنحن نستعفي لأنا نمنع من الحكم حسب أحكام الدستور.
التعليمات لغوردون
نامعلوم صفحہ
وكلت حكومة إنكلترا إلى غوردون
1
إخلاء السودان دون استشارة الحكومة المصرية، ونشرت بلاغا قالت فيه: «إن حكومة جلالة الملكة سألت غوردون: هل هو مستعد لأن يذهب إلى الخرطوم ليقيم في السودان حكومة وطنية سودانية، ويبذل جهده لإعانة الحاميات المصرية الموجودة هناك؟ فسأل الجنرال: هل تناط به هذه المهمة باسم جلالة الملكة، أم باسم الخديوي؟ وبما أنه ضابط عظيم من جيش جلالة الملكة فهو ينفذ الأوامر التي يكون له شرف تلقيها من جلالتها، فهو لا يرضى بحال من الأحوال أن يذهب إلى السودان كممثل للخديوي، فالوزراء أجابوه بأنه سيكون بالسودان مندوب الحكومة البريطانية وليس له أقل شأن مع الخديوي، ولكي يكون ذلك أكثر وضوحا فهو يسافر إلى الخرطوم بطريق السويس إلى سواكن ويقابله في السويس السير بارنغ ويتفق معه على الجلاء وتسكين السودان.»
ذلك هو البلاغ الرسمي، أما التعليمات السرية التي تلقاها فإنها تضمنت أن هذا العمل هو البدء بتنفيذ برنامج اللورد دوفرين، وهذا البرنامج هو: (1)
إخلاء مصر للسودان. (2)
جلاء الجنود والموظفين المصريين. (3)
استعادة السودان لمصلحة إنكلترا وحدها.
ولما وصل غوردون إلى بورسعيد تحول عن عزمه وحضر إلى القاهرة وأخذ أمرا من الخديوي بإخلاء السودان.
كان هم غوردون قبل وصوله إلى الخرطوم أن يعلن مقاصده فأرسل من أسيوط إلى حسين باشا خليفة مدير بربر تلغرافا يأمره بأن يبلغ عمد البلاد وأعيانها أنه سمي واليا على السودان، وأنه عند وصوله سيعزل جميع الموظفين الترك والمصريين، ويولي حكاما من أهل البلاد؛ ليعيد الحكم إلى ما كان عليه قبل الفتح، وأنه أعفى أهل السودان من ضرائب 1883 وأباح تجارة الرقيق.
ولما وصل إلى كورسكو أرسل كتابا إلى المهدي بأنه عينه سلطانا على كردوفان ودارفور، وعندما وصل إلي بربر خطب بالأهالي بأنه جاء ليخرج الجنود المصرية من السودان ويعيد الحكم إلى السودانيين أنفسهم، ثم عين مجلس شورى لحكم تلك الجهة من السودانيين وفتح الطريق إلى محمد أحمد وكان مقفلا فأخذ الناس يهرعون إليه بعد منشور غوردون ويزيدون قوته إما خوفا منه وإما حبا به.
نامعلوم صفحہ
ولما وصل إلى الخرطوم فعل الفعل ذاته، ثم زاد على ذلك أنه جمع دفاتر المالية وأحرقها أمام الجمهور؛ ليزيد في ثقة السودانيين، وفي إضعاف قلوب المصريين.
ثم أخرج العساكر المصرية من الخرطوم، وألف مجلسا من السودانيين لحكم البلاد، وبعد ذلك أرسل ستيوارت باشا وكيله ليرى كيف كان وقع عمله في البلاد فوجد أن الثورة عامة وليس لها رأس، وأن المهدي لا يريد مخاطبة الإنكليز والاتفاق معهم كما كان يأمل حين نادى به سلطانا على دارفور وكردوفان فأخذ يبحث عن رجل قوي يوليه الحكم ويتفق معه، فطلب الزبير باشا من مصر ووعده بمنحه رتبة الفريق والنيشان العثماني، وراتبا سنويا قدره 6000 جنيه، وأن تعطيه الحكومة المصرية كل سنة مليونين ونصف جنيه لمدة سنتين، وأن تترك له سلاحها وذخائرها، وأن يكون له جمرك سواكن فلم يقبل الزبير، ولم يسلم الإنكليز مخافة أن يكون كالمهدي أو ينضم إليه، فقرروا ترك الفوضى تأكل السودان إلى أن يستعيدوه، ولكن مركز غوردون تحرج، ولم يستطع الخروج من السودان فذهب ضحية السياسة مع من ذهبوا مع الإمبراطورية المصرية السودانية التي هدموها.
ولما عثروا على مذكرات غوردون وأعادوها إلى أهله نزعوا منها التعليمات التي تفضح السياسة، فطبعت تلك المذكرات وفيها خمس صحائف بيضاء.
حاولت الحكومة الإنكليزية بعد حصار الخرطوم إنقاذ غوردون فألفت حملة بقيادة اللورد ولسلي، وقالت في الأوامر الصادرة إليه: «إن الغرض إنقاذ غوردون وستيوارت، فمتى تم ذلك لا يجوز القيام بأعمال أخرى» فاستخدم ولسلي الجيش المصري و9 آلاف من الجيش الإنكليزي و900 زورق نيلي، وقامت الحملة في 27 سبتمبر 1884 وسارت متقدمة، ولكن الخرطوم سقطت في 26 يناير 1885، ووصل السير تشارلس ويلسون إليها بوابورين عند ظهر 28 يناير، ولما عرف الخبر عاد راجعا إلى اللورد ولسلي الذي أقلع بحملته إلى مصر، وهكذا تم جلاء المصريين عن السودان، ولم يعش محمد أحمد بعد سقوط الخرطوم سوى 5 شهور فتوفي في 14 يونيو 1885، وخلفه عبد الله التعايشي الذي استعاد الجيش المصري السودان من يده سنة 1898 أي بعد 16 عاما لم ينقطع فيها القتال يوما واحدا بين المصريين وثوار السودان على الحدود، وما كان عبد القادر باشا يطلب منهم لإخماد الثورة نصف ما عرضوه على الزبير باشا ولا عشر معشار ما حملوا مصر من الأعباء بعد ذلك ليستعيدوه لأنفسهم لا لمصر؛ فقد كانت الوقائع الشديدة بين الجيش المصري وثوار السودان 24 واقعة، وكانت الوقائع لاستعادة السودان 11 واقعة، والإعانة التي تقدمها مصر للسودان بعد استعادته 460 ألف جنيه في السنة ما عدا الجيش والوابورات والموظفين الذين يتناولون رواتبهم من الخزانة المصرية.
ولكن مجلس الشورى يقرر عند دفع الأموال «من حيث إن السودان جزء من مصر لا يجزأ فهو يوافق على دفع مبلغ كذا، إلخ.»
هوامش
الزبير رحمة
من قبيلة الجميعاب (نسبة إلى جميع العباسي) وهي قبيلة مشهورة بالشجاعة عاهدت الأمير إسماعيل بن محمد علي يوم فتحه السودان، وثبتت على ولاء الأسرة العلوية، وقد كان للزبير شأن يذكر في تاريخ السودان، بدأ حياته بالتجارة ثم سافر مع ابن عمه إلى بحر الغزال في خدمة التاجر المصري علي أبي عموري من نجع حمادة سنة 1856 وكان التجار المصريون هناك كثيرين وكل تاجر منهم يبني زريبة من الشوك يخزن فيها بضائعه، فهاجم الأهالي هذه الزرائب لنهب البضاعة، فدافع الزبير عن زريبة علي أبي عموري فهابه الأهالي وذاع أمره فانفرد بتجارته وربح، وزاد طمعه فأوغل بالبلاد إلى حيث لم يصل التجار، ثم قصد إلى بلاد النمانم حيث تزوج من بنت سلطانها فزادت تجارته، وابتاع من ملك النمانم 500 شاب دربهم على حمل السلاح، وكان هؤلاء الشبان من المحكوم عليهم، وعادة أهل البلاد أن يذبحوهم ويأكلوا لحومهم، فخشي الملك حموه بطشه، فخرج الزبير إلى ملك آخر هو عدو حميه، فأرسل حموه رجاله للفتك به في الطريق فتغلب عليهم، ولما لجأ إلى الملك الثاني جهز حموه جيشا لقتاله، ففر هذا الملك من وجهه، واضطر الزبير أن يلجأ إلى بلاد قولو، وملكها يومئذ «عدوه شكو» الذي قتل أخا للزبير، فقامت الحرب بينهما فقتل الملك وابنه، وصار الزبير ملكا على تلك البلاد، وسمى عاصمة ملكه ديم الزبير. ثم عاهد عرب الزريقات، وفتح طريق التجارة بين بحر الغزال وكردفان، وفي سنة 1869 وصل إلى بحر الغزال الحاج محمد السلامي المغربي ومعه 200 جندي سوداني بقيادة محمد أفندي منيب و400 من الباشبوزق و600 من الخطرية فقاتلهم الزبير وانتصر عليهم، وكان والي السودان يومئذ جعفر باشا مظهر.
ولما رأى ملك النمانم اتساع ملك الزبير أرسل إليه يهدده إن لم يترك الملك ويعود إلى التجارة فأبى، فقامت بينهما الحرب التي انتهت بانتصار الزبير فضم بلاد النمانم، وكان الزريقات قد نقضوا العهد وقطعوا الطريق فاستنجد عليهم سنة 1873 بسلطان دارفور فلم ينجده فقاتلهم وكسرهم وأسر فقيههم عبد الله التعايشي فمنعه المشائخ من قتله، وعبد الله هذا هو الذي صار خليفة للمهدي وحاربه الجيش المصري وفر من أم درمان فأدركه الجيش المصري في مكان يسمى جديد في 24 نوفمبر 1899 وفتك بمن معه، أما هو وأصحابه فإنهم لما أيقنوا بالهلاك فرشوا فريهم وجلسوا ينتظرون الموت فلم يكن بعيدا منهم بل جاءهم مسرعا.
وبعد فتح كردوفان أرسل الزبير إلى إسماعيل باشا أيوب حكمدار السودان يطلب منه أن يرسل من يستلم البلاد التي فتحها، فجاءه الرد منه بأن سمو الخديوي أنعم عليه بالرتبة الثانية، وولاه تلك البلاد مقابل 15 ألف جنيه يدفعها كل سنة، ثم دارت الحرب بينه وبين سلطان دارفور، فأوتي النصر، وأرسل أولاد سلاطين دارفور إلى مصر، ثم حدث خلاف بين حكمدار السودان والزبير، فجاء الزبير مصر سنة 1875، ورافق الجيش المصري في حرب روسيا، وفي أثناء ذلك ثار ابنه سليمان على الحكومة، فأرسل غوردون جسي بك لقتاله فقتل سليمان، وفي سنة 83 انتدب لقتال عثمان دقنه في طوكر فبعد أن جمع ألايا من السودانيين بمصر عدل؛ لأنه أبى أن يكون تحت إمرة باكر باشا، وفي سنة 84 استدعاه غوردون لاستلام البلاد السودانية على ما مر فرفض؛ لأن الإنكليز أهانوه بوصفه أنه نخاس، وفي سنة 85 نفي إلى جبل طارق بتهمة مراسلة المهدي فظل هناك 30 شهرا، ثم أفرج عنه وعينت له الحكومة راتبا شهريا قدره 289 جنيها تناوله حتى وفاته، وكان يطالبها بمبلغ مليون جنيه، وبعد استعادة السودان أعيد إليه كثير من أملاكه.
نامعلوم صفحہ
التسابق إلى السودان
حملة مارشان وحملة كتشنر - حملة مكدونالد - حملة كافانديش فاشودة
لما فشلت المفاوضات بين إنكلترا والباب العالي سنة 89 لجلاء الإنكليز عن مصر أرسل الموسيو برونت العضو الفرنساوي في السكة الحديدية المصرية تقريرا إلى الموسيو كارنو رئيس جمهورية فرنسا وزميله في الدراسة يقترح عليه فيه احتلال نقطة من الأراضي المصرية تكره إنكلترا على الاحتجاج ودول أوربا على فتح المسألة المصرية، وارتأى أن تكون هذه النقطة فاشودة في السودان المصري: (1)
لأن وصول الفرنساويين إليها سهل من أملاكهم بأفريقيا. (2)
ولأنها مركز مديرية. (3)
ولأنها مفتاح مصر لوقوعها عند مصب نهر الصوبات بالنيل.
فرأى الموسيو كارنو صواب الرأي فسيرت حكومة الجمهورية الحملة سنة 94 ولكن إنكلترا كانت تنوي امتلاك السودان - بعد إكراه مصر على إخلائه - من جهة الأوغندا بعد أن أخرجت أمين باشا من خط الاستواء، وقال الكولونيل مونتايل: «إن إنكلترا لا تجلو عن مصر إلا بعد أن تمتلك السودان وطريق بربر إلى سواكن» وفي سنة 95 خلف مارشان مونتايل برئاسة حملة فاشودة، وأرسلت فرنسا الموسيو ليغران إلى بلاد الحبشة ليؤلف حملة تقابل مارشان فلم يفلح، ولما أحس الإنكليز بحملة الفرنساويين وبفشل حملتهم من الأوغندا سيروا الحملة المصرية، ولما احتل السردار أم درمان عرف أن مرشان يحتل فاشودة منذ 10 يوليو، أي قبل شهرين من وصول السردار إلى أم درمان، وكانت قوة مارشان 120 جنديا من العبيد و9 ضباط فرنساويين، فواصل اللورد كتشنر السير إلى فاشودة حيث قابل مارشان ورفع الراية المصرية على 500 ياردة من الراية الفرنساوية، وظل مارشان في فاشودة حتى 11 ديسمبر فغادرها بأمر حكومته بطريق الحبشة. •••
من مذاهب السياسة الإنكليزية توخي الربح الكبير بالنفقة القليلة، فهم كانوا يطمعون بالسودان لأنفسهم بعد أن أكرهوا المصريين على إخلائه، ولكنهم كانوا يضنون بأموالهم في هذا السبيل فبعد أن سيروا الحملة المصرية بقيادة كتشنر باشا أخذوا من احتياطي صندوق الدين للإنفاق على الحملة نصف مليون جنيه، وقال المستر كرزون في جلسة مجلس النواب في 19 مارس 1896 «إن تقدير الأموال اللازمة لهذه الحملة ليس بالإمكان، ولكني أؤكد للمجلس بأن الخزانة المصرية وحدها تتحمل هذه النفقات كلها.»
وأعلن المستر بلفور في مجلس العموم أن سفراء إنكلترا تلقوا التعليمات من حكومتهم بأن يبلغوا الدول أن هذه الحملة إنما هي جردت لمصلحة مصر، وأن نفقات هذه الحملة قد تتجاوز مقدرة الخزانة المصرية فعليهم أن يقنعوا الدول لتسمح بأخذ نصف مليون جنيه من احتياطي صندوق الدين لهذا الغرض؛ فوافقت ألمانيا والنمسا وإيطاليا، ورفضت فرنسا وروسيا. ثم قال المستر بلفور: «إنا لا نرجع عن عزمنا، وحيثما وضع الجندي الإنكليزي قدمه فهو يبقى ولا يتزحزح.»
رفع الفرنساويون حاملو الأسهم المصرية قضية أمام المحكمة المختلطة فحكمت محكمة الاستئناف بعد محكمة البداية في 6 ديسمبر 1896 بإعادة المبلغ إلى صندوق الدين، فقدمت إنجلترا لمصر في 6 فبراير مبلغ 798802ج بفائدة
نامعلوم صفحہ
بالمائة لا قرضا بل حسابا جاريا؛ لأنه لا يجوز لحكومة مصر الاقتراض دون موافقة الدول، وهذا المبلغ تنازلت عنه إنكلترا، وعلل هذا التنازل بأن المال خص أكثره بمشترى الأدوات اللازمة لسكة حديد حلفا وهي تعتبر جزءا من سكة حديد القاهرة إلى الكاپ، وكان سسل رود صاحب المشروع يومئذ في القاهرة يفاوض رئيس الوزارة مصطفى باشا فهمي في مشترى السكك الحديدية التي تفضي إلى السودان، فأذاعت جريدة «الأهرام» الخبر الذي كان له دوي عظيم في أوربا، فكتب الباب العالي إلى الخديوي يحرم عليه مثل هذا البيع.
في 2 سبتمبر 1898 دخل اللورد كتشنر أم درمان، وفي 19 سبتمبر وصل إلى فاشودة حيث قابل مارشان، وعرف أن الحملة الإنكليزية التي قامت من الأوغندا قاصدة الخرطوم بقيادة الماجور مكدونالد وقوامها بقية جيش أمين باشا في خط الاستواء ثارت على قائدها، وامتنعت في قلعتها عند مدخل ڨكتوريا نيانزا فلم يستطع مكدونالد التقدم، كذلك الحملة الأخرى التي ألفوها على ساحل بحر الهند بقيادة كافانديش فإنها لم تستطع الوصول إلى السودان المصري.
غضب الإنكليز لوجود مارشان في فاشودة، وأخذوا يهددون الفرنساويين حتى قال اللورد سالسبوري لسفير فرنسا كورسل: «إن عند السردار قوة كافية تمكنه من طرد مارشان ومن معه إلى حيث يريد» ففهم السفير بأن معنى ذلك استعداد إنكلترا لإعلان الحرب، وسألت فرنسا حليفتها روسيا عن خطتها، فأجابت حكومة القيصر بأن الأفضل تسوية هذه الأزمة سلميا مع حفظ كرامة فرنسا، ولزمت ألمانيا الحياد؛ لأن بينها وبين إنكلترا اتفاقا سريا على أفريقيا فاضطرت فرنسا إلى إعلان سحب جنودها من فاشودة في 4 نوفمبر بحجة أن هذه البلاد ملك لمصر، ومما كتبه اللورد سالسبوري إلى سفير إنكلترا في باريس في 5 أكتوبر 1898 «لا شك بأن حقوق مصر بامتلاك مجرى النيل قد كانت من جراء نجاح المهدي مهملة، ولكنها حقوق ثابتة لا تقبل جدلا، ولم يبق شك بها بعد انتصار الجنود المصرية على الدراويش. أولم تعلن إنكلترا هذه عمدا وجود حقوق الخديوي على تلك الأملاك بالاتفاق الإنكليزي الكونغي في 12 مايو 1894؟
وفي 12 أكتوبر قال اللورد سالسبوري لسفير فرنسا: «إن وادي النيل كان لمصر ولا يزال لها، ولكن عائقا كان قائما في وجه الملكية المصرية من جراء ثورة المهدي قد زال بانتصار الجنود المصرية والإنكليزية في معركة أم درمان.»
وهذا نص كتاب بطرس باشا غالي وزير خارجية مصر إلى اللورد كرومر ردا على مذكرته بشأن أزمة فاشودة بتاريخ 9 أكتوبر 1898:
إن حكومة سمو الخديوي كما تعلم سيادتكم لم يغب عنها في حين من الأحيان العود إلى احتلال مديريات السودان الذي لم تنسحب منه إلا عقيب ظروف قوة قاهرة؛ فاستعادة الخرطوم تكون عقيمة إذا لم يعد إلى مصر وادي النيل الذي ضحت مصر في سبيله في الزمن السابق ضحايا جسيمة، ولعلمي أن مسألة فاشودة هي الآن موضوع المباحثة بين إنكلترا وفرنسا؛ فإن الحكومة المصرية تكل إلي أن أطلب من سعادتكم إسعادنا بالوساطة الطيبة لدى اللورد سالسبوري حتى يعترف لمصر بحقوقها التي لا تقبل الجدل، وحتى تعاد إليها جميع الأراضي التي كانت تحتلها جنودها عند قيام ثورة محمد أحمد.
مصر هي النيل
خطب الموسيو برونت المهندس الفرنساوي الشهير الذي كان عضوا فرنساويا في مجلس إدارة السكك الحديدية المصرية - قبل حل هذا المجلس باتفاق 1904 - في المعهد العلمي المصري في 21 يناير 1893 فقال:
إن إقامة خزان للمياه على مجرى النيل يعرض مصر لأشد الأخطار؛ بل للموت، ويكفي للقضاء على مصر أن يقام سد عند فوهة بحيرة نيانزا بأعلى الشلال المسمى ريبون؛ فإن هذه البحيرة التي تعادل 50 مليار متر مكعب يرتفع مستوى الماء فيها 30 سنتمترا في السنة على الأكثر، فيلزم إذن أن تمر عشر سنين قبل أن تعلو المياه إلى قنة هذا السد، وعلى هذه الطريقة تحرم مصر في إبان الفيضان كمية قليلة من الماء وهي عشرة مليارات من الأمتار المكعبة، ومجموع ماء الفيضان في النيل 75 مليارا.
ولكن الضرر يظهر عند الانخفاض، فإن مصر تحرم 250 مترا مكعبا في الثانية من 455 مترا مكعبا، وهذا الماء محسوب على مقياس الخرطوم، ولكنه يضيع منه الكثير بالتبخير والرشح قبل أن يصل إلى القاهرة فمن 455 مترا مكعبا من الماء في الخرطوم يصل إلى القاهرة 200 متر مكعب. فإذا أنشئ السد يصل إلى القاهرة من الماء من 80 إلى 100 متر مكعب بالثانية فقط ويكون من وراء ذلك الخراب.
نامعلوم صفحہ
وفي أول أكتوبر 1895 قدم السير سكوت مونكريف الذي كان وكيلا لوزارة الأشغال المصرية تقريرا إلى المعهد العلمي الملكي الإنكليزي قال فيه:
إذا ملكت دولة متمدنة أعالي النيل أنشأت بلا شك المسارب في بحيرة ڨيكتوريا نيانزا لتنظيم خروج المياه من ذلك البحر كما تنظم مانشستر تيرلمر.
وهذا العمل في نفسه سهل فإذا تم صارت تغذية النيل من تلك المسارب بيد الدولة المالكة هناك، وإذا دفع سوء الحظ مصر التعسة إلى أن تكون في حرب مع الدولة النازلة على شاطئ بحيرة ڨيكتوريا فإنها تكون عرضة إما للشرق وإما للغرق كما يخطر لتلك العدوة.
وقال القومندان مونتيل في تقريره لوزارة خارجية فرنسا عن حملة فاشودة: «إن الإنكليز وضعوا نصب عيونهم منذ الساعة الأولى أن السودان الكبير الغني يجب أن يكون فدية مصر الصغيرة الفقيرة تقدمها لإنكلترا.»
وجاء في تقرير السير جيرالد بورتال - مندوب إنكلترا في الأوغندا - سنة 1894: «إذا نحن نظرنا إلى الأوغندا من الوجهة السياسية وجدنا أنها أقوى حكومة في أفريقيا الشرقية، وفي قبضة الأوغندا منابع النيل، فموقفنا في الأوغندا ومصر موقف واحد لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ لأن من ملك أعالي النيل يتصرف بمصر على هواه ومشيئته، ويكون باستطاعته أن يقضي على مصر.»
وقال رياض باشا في مذكرته بتاريخ 9 ديسمبر 1888 إلى السير أفلن بارنغ: «من الواضح الجلي أن النيل حياة مصر، والنيل هو السودان، ولا يشك أحد بأن الروابط التي تربط مصر بالسودان لهي روابط وثيقة لا انفصام لها كما ترتبط الروح بالجسم.»
فيكفي المصري أن يراجع هذه الأقوال وأمثالها ليعرف منزلة السودان وقيمته، وليستسهل كما استسهل آباؤه وأجداده كل ضحية غالية في سبيله.
من محمد علي إلى عباس الثاني
1812-1903
لما استتب الأمر لمحمد علي كان أول ما وجه إليه نظره فتح السودان، وقال مؤرخو ملكه المجيد بل عهده السعيد: إن من الأسباب التي حملته على الإسراع في ذلك يقينه بأن لا حياة لمصر بغير السودان، وأهمها الأسباب الآتية:
نامعلوم صفحہ
الأول:
الوصول إلى منابع النيل حتى تكون في قبضة المصريين.
والثاني:
حفر معادن الذهب؛ ليقرن ثروة مصر الزراعية بثروة معادن السودان.
والثالث:
تجنيد السودانيين؛ لأنهم أهل بأس وشدة، وقد اشتهروا بالحروب، وهو في ملكه الجديد بحاجة إلى الجيوش.
والرابع:
استئصال شأفة المماليك الذين لجأوا إلى دنقلة وسنار مخافة أن يؤلفوا جيشا سودانيا يغزون به مصر، ففعل ما فعل نابوليون قبله بإرساله ديسكس للقضاء على بقية المماليك في السودان بعد أن قهرهم في مصر.
والخامس:
التخلص من جيشه المتطوع من الأرناءوط والجركس والمغاربة والترك بإقطاعهم الإقطاع في السودان الواسع؛ لأن هذا الجيش المتطوع كان كجيش الإنكشارية في الأستانة مصدر تعب وخطر، فما كانوا يخضعون للنظام الذي نظم به جيشه المصري على أسلوب الجيش الفرنساوي.
نامعلوم صفحہ
والسادس:
تمهيد طريق التجارة بين مصر والسودان؛ لأن التجار المصريين كانوا يلقون مشقات عظيمة في معاملة بلاد السودان، بل كانوا عرضة للأخطار الشديدة.
والسابع:
إتمام تأليف المملكة المصرية بضم سوريا وبلاد العرب إليها بعد ضم السودان منبع النيل.
فبدأ عمله بإرسال وفد في سنة 1812 إلى ملك سنار يتودد إليه، ويطلب منه طرد المماليك الذين لجأوا إلى بلاده، وزود ذلك الوفد بالهدايا والتحف النفيسة، وأرسل مع الوفد أناسا من رجال الحرب والعلم فكتبوا له التقارير الضافية ووضعوا الخطط لفتح السودان، وفي سنة 1816 أرسل وفدا آخر برئاسة كايو الفرنساوي للوقوف على معادن الذهب في جبل زباره ومعه الفنيون لوضع خريطة البلاد، فلما أتم ذلك كله وجه ابنه الأمير إسماعيل على رأس جيش ضخم لفتح سنار وزوده بالهدايا، وأوصاه بأن يدخل في طاعته البلاد بلا حرب، وأرسل معه وفدا من العلماء؛ ليرشدوا الناس، ويحببوا إليهم هذه الطاعة، فنجح نجاحا كبيرا، فإن بلاد النوبة سلمت بلا قتال، ولم يقع فيها ما يستحق الذكر من سنة 1820 إلى 1885 سوى ثورة حسن وردي الكاشف فإنه بعد تقديم الطاعة للأمير الذي ولاه على بلاد السكوت بين حلفا ودنقلة قتل بعض رجال الحامية المصرية وامتنع بقلعة هناك مع عبيده فأرسل محمد علي قوة من مصر حصرته في القلعة ونسفتها بالبارود.
وكان ملوك تلك البلاد وزعماؤها يتقدمون إلى الأمير إسماعيل طائعين إلى أن وصل إلى كورتي فوجد أمامه ثلاثة من ملوك الشايقية يريدون قتاله فمزق شملهم، وواصل سيره وهو يتقبل طاعة الملوك، ويقرهم على بلادهم، ويعزز جيشه بقوة من رجالهم، وكانت تلك القوة السودانية أول نواة الجيش السوداني الذي ظل شطرا من الجيش المصري إلى اليوم، وفي 28 مايو 1821 دخل الأمير إسماعيل الخرطوم، وكان قد أرسل إلى الملك بادي ملك سنار يدعوه إلى الطاعة فأجابه جوابا جافا؛ لأن المماليك الذين فروا من مصر سلموا جيش ذلك الملك ستة مدافع أخذوها معهم، فزحف الأمير إسماعيل قاصدا سنار ، وقبل أن يصل قدم له ملكها الطاعة فدخل العاصمة في 12 أكتوبر 1821، وأعلن العفو العام، وبذلك تم فتح البلاد، وأحصى عدد السكان والعبيد والدور والمواشي؛ ليقف على موارد السودان من كل وجه، ولما وصل الخبر إلى محمد علي أرسل ابنه إبراهيم لمساعدة أخيه إسماعيل على تنظيم البلاد، وأمره بمواصلة الزحف حتى منابع النيل؛ لأن الوصول إليها وامتلاكها هو الغرض الأول والأسمى من امتلاك السودان، فاتفق الأميران على إعادة تنظيم الجيش وقسمه قسمين؛ قسما يواصل الزحف على النيل الأزرق لاكتشاف منبعه واكتشاف معادن الذهب في بلاد شنقول، وقسما يواصل الزحف على النيل الأبيض فسار الأمير إسماعيل قاصدا بلاد فازوغلي، وسار الأمير إبراهيم قاصدا بلاد الدنكا، وظل ديوان أفندي محافظا لسنار، ولما وصل إبراهيم إلى جبل القربين أصيب بالدوزنتاريا فعاد إلى مصر، وتولى القيادة سلاح داره طوسون حتى وصل إلى آخر بلاد الدنكا، وأتم الأمير إسماعيل فتح بلاد فازوغلي وبحث كايو عن معادن الذهب في شنقول فتبين له أنها قليلة التبر، وفي أثناء غياب الأمير إسماعيل عن سنار اتفق حاكمها ديوان أفندي وكاتبه المعلم حنا على ضرب الضرائب على الأهالي فهاجوا، ولما بلغ الأمير إسماعيل الخبر عاد مسرعا وأبطل الضرائب وعفا عن الثوار.
وكان محمد علي قد أعد في الوقت ذاته جيشا لفتح كردوفان بقيادة صهره محمد بك الدفتردار، وكانت كردوفان تابعة لسلطنة دارفور فقاتله حاكمها قتالا شديدا فكسره ودخل الأبيض عاصمتها، وتقدم إلى دارفور لفتحها، وقبل أن يصل إلى دارفور بلغ الأمير إسماعيل وهو في سنار أن الملك نمرا ملك السعداب في شندي يتحفز للثورة، فجاء شندي في ديسمبر سنة 1823 وأحضر الملك نمرا وتهدده وضرب عليه جزية، فأظهر الرجل الطاعة، ولما جن الليل جمع عبيده ووضعوا الهشيم حول المنزل الذي ينام فيه الأمير إسماعيل ورجاله وأضرموا فيها النار فماتوا جميعا وفر الغادر، فأخذ القواد يؤدبون الذين اشتركوا بهذه الجريمة، وأسرع الدفتردار من كردوفان للانتقام من الملك نمر ففر من وجهه فأدب شركاءه أشد تأديب، ولجأ الملك نمر إلى بلاد الحبشة حيث مكث إلى عهد سعيد باشا الذي عفا عنه.
وعاد الدفتردار إلى مصر فعين محمد علي الميرالاي عثمان بك أول حاكم على السودان في سنة 1825 وخلفه محو بك سنة 1826 ثم خورشد باشا الذي أمر ببناء الخرطوم والمدن الأخرى بالطوب، ووسع الفتح في جهات الحبشة، وجعل القلابات مركزا كبيرا للتجارة، وبنى المساجد والمدارس الابتدائية وعلم الناس لبس القماش وكانوا يلبسون الجلود، وفي سنة 1830 فتح بلاد الشلوك وفي سنة 1835 نظم المحاكم، وقرر أن تقدم كل قبيلة عددا من العبيد للخدمة في الجندية.
وفي سنة 1839 خلفه في حكم السودان أحمد باشا أبو ودان، وزار محمد علي تلك البلاد فسافر من القاهرة في 15 أكتوبر من تلك السنة فوصل إلى الخرطوم في 23 نوفمبر وأقام فيها 22 يوما، ثم ذهب إلى فازوغلي وكان قد شيد قصرا في فامكه فأقام فيه وهو ينظر في أمور تلك البلاد وينظمها وأعلن إبطال النخاسة، ثم عاد إلى مصر فوصل إلى القاهرة في 14 مارس سنة 1840، ودخلت كسله في حكم السودان الذي قسم إلى سبع مديريات، وخلف أحمد باشا أبو ودان أحمد باشا المناكلي سنة 1844 ثم خالد باشا من سنة 1846 إلى 1850 وكان إبراهيم باشا قائما بإدارة الملك مقام أبيه محمد علي فمات في 10 نوفمبر سنة 1848، وفي 2 أغسطس سنة 1849 مات محمد علي فأقيمت عليه المناحات في جميع أنحاء السودان، وفي سنة 1850 على عهد عباس باشا الأول عين عبد اللطيف باشا حاكما فأسس رفاعة بك وبيومي بك المدرسة الكبرى في الخرطوم، ثم عين رستم بك حاكما على السودان، وطلب قنصل إنكلترا من عباس باشا الذي خلف جده إرسال بعثة لدرس أحوال السودان فأرسلت البعثة برئاسة المستر مري، وكان هذا الرجل ذا نفوذ كبير على عباس الأول، وهذه البعثة هي أول بعثة إنكليزية للسودان، وفي سنة 1854 توفي عباس باشا وتولى سعيد باشا فعين حاكما على السودان علي چركس باشا، وزار السودان حليم باشا ابن محمد علي فأقام مدة طويلة، ثم زاره سعيد باشا ذاته فوصل إلى الخرطوم في 16 يناير سنة 1857 فنظم البلاد، ورتب البوستة بين مصر والسودان، وأنزل الضرائب، وحرم على الجند تحصيلها، وألف في الخرطوم مجلسا شوريا من أعيان البلاد يجتمع مرة في السنة للنظر في شئون البلاد وإصلاحها، وأعلن إبطال الرق، وكلف مونجل المهندس الفرنساوي برسم خط السكة الحديدية بين حلفا والخرطوم، وعلى عهده عاد الملك نمر وجماعته من بلاد الحبشة، وطلبوا الأمان فأمنهم سعيد باشا وأعاد إليهم أملاكهم.
وفي 17 يناير سنة 1863 توفي سعيد باشا وخلفه إسماعيل باشا فاهتم بالسودان اهتماما كبيرا، وعلى عهده تمت الفتوحات الكبيرة، ومد رواق مصر وسلطانها إلى ما وراء خط الاستواء، ودخلت زنجبار وأوغندا تحت حماية مصر، وبدأ بمد الخط الحديدي من حلفا وسواكن، وامتلك سواحل البحر الأحمر، واكتشف معادن البترول والرصاص والحديد، وفتح دارفور، وضرب المثل بشمول الأمن والراحة لبلاد السودان.
نامعلوم صفحہ
ومن ولاة السودان الذين يذكرون بحسن الإدارة موسى باشا حمدي، فإنه قدم تلك البلاد على عهد سعيد باشا وإسماعيل باشا (1863-1865) وقمع الثورات في كردوفان، وألف مجلسا من الأعيان والوجوه، ووضع نظاما لجمع الضرائب وجعلها ثلاثة أنجم في السنة، وعين من الأهالي نظار أقسام ومعاونين، وألبسهم الملابس التركية، وطرد الأحباش من القلابات، وفي أيامه وصل إلى الخرطوم صموئيل باكر وزوجته؛ لاكتشاف منابع النيل الأبيض، ولمقابلة غرانت وسبيك اللذين أرسلتهما الجمعية الجغرافية الإنكليزية للغرض ذاته سنة 1858 بطريق زنجبار، وكانت إحدى الحملات العلمية التي أرسلها محمد علي سنة 1841 وقد وصلت إلى غاندوكرو.
ولما تولى إسماعيل باشا في 18 يناير 1863 جاء موسى باشا إلى مصر فأطلع إسماعيل باشا على حالة البلاد فأنعم عليه برتبة الفريق وأبقاه في منصبه إلى أن توفي هناك في 6 مارس 1865.
وخلفه جعفر باشا صادق، وفي ولايته عصى الجهادية في كسلة وعددهم أربعة آلاف جندي من السودانيين وألف من الباشبوزق الترك والشايقية؛ لأنهم لم يتناولوا رواتبهم، فتوسط بالأمر السيد محمد المرغني مؤسس الطريقة المرغنية فأعطاهم رواتبهم وأعادهم إلى الطاعة وساروا للغزو الذي رفضوا القيام به عند صدور الأمر لهم بذلك، وحاكم جعفر باشا العصاة وأدبهم تأديبا شديدا جدا.
وتلاه جعفر باشا مظهر (1866-1871)، وعلى عهده ضمت سواكن ومصوع إلى السودان (1866) وأوفده إسماعيل باشا إلى سواحل البحر الأحمر، وفي سنة 69 أرسل البلالي إلى بحر الغزال لاحتلاله، ووصل السير صموئيل باكر من مصر لتولي إدارة خط الاستواء ولمنع تجارة الرقيق.
وبعد عزل جعفر باشا مظهر سنة 1871 ولي ممتاز باشا (1871-1873) فأدخل إلى السودان زراعة القطن المصري، ولكنه أكثر من طلب الرشوة فشكاه السودانيون إلى إسماعيل باشا، فأمر بالقبض عليه والتحقيق معه وعزله.
وبعد عزله ولي إسماعيل باشا أيوب (1873-1877) فكانت فاتحة أعماله إزالة السدود من النيل الأبيض حتى انطلقت فيه المراكب، وقسم البلاد إلى مديريات وجعل كل مدير مسئولا عن مديريته، وعلى عهده عاد باكر من خط الاستواء وخلفه غوردون بطلب ولي عهد إنكلترا، وفي عهد ولايته فتحت دارفور وضمت إلى السودان على يد الزبير باشا، وأرسل إسماعيل باشا هيئتين علميتين لدرس حالة دارفور، وأرسل يرسم طريق السكة الحديدية من مصوع إلى كسلة، واحتل سنهيت لهذا الغرض، وابتاع إقليم آيلت من صاحبه لوقوعه وسط الأملاك المصرية بين حماسيم ومصوع، فأغضب ملك الحبشة يوحنا الذي رفع الأمر إلى الدول ولا سيما إنكلترا، فلم يهتم له إسماعيل باشا، ووجه نظره إلى هرر، وهي سلطنة إسلامية منذ الفتح الإسلامي مات سلطانها أحمد فاستبد بالأهالي خلفه محمد، فطلبوا من إسماعيل باشا واليا عليهم فقبل أن يجيب طلبهم وابتاع بربر وزيلع ميناءي هرر من الباب العالي مقابل 13365 جنيها في السنة (يوليو 1875)، وفي شهر سبتمبر 1875 أرسل رءوف باشا بحملة إلى هرر فقبض على الأمير محمد وقتله، وظلت هرر مصرية إلى أن أخلوها مع أقاليم السودان.
وكانت حماسيم سبب الحرب مع الحبشة وانكسار المصريين في 11 نوفمبر 1875 وفي 8 مارس 1876.
وخلف غوردون باشا إسماعيل باشا أيوب (77-79) فملأ السودان بالموظفين الأجانب، وبدأت الثورات كثورة السلطان هارون في دارفور، وثورة سليمان بن الزبير، وثورة رابح مولى الزبير، وثورة الصباحي في دارفور.
وفي سنة 77 بدأ إسماعيل باشا بمد الخط الحديدي من حلفا إلى الخرطوم، ولكنه لم يمد منه سوى 50 ميلا.
ولما خلف توفيق باشا إسماعيل باشا على عرش مصر (25 يونيو 1879) كان غوردون حاكما على السودان فاستعفى (7 سبتمبر 1879) فعين رءوف باشا خلفا له، وفي سنة 1880 قامت الثورة في الصومال فأخمدها حاكم هرر، وتلتها الثورة العرابية بمصر، ثم ثورة محمد أحمد.
نامعلوم صفحہ
وخلف عبد القادر باشا حلمي رءوف باشا (82-83)، ثم علاء الدين باشا، ثم غوردون الذي كانت مهمته إخلاء تلك البلاد فقط.
فأنت ترى مما تقدم أن المصريين تقدموا الإنكليز في كل شيء في الأقطار السودانية؛ فتقدموهم بمد السكك الحديدية، وفتح السدود، وإنشاء المدارس، وزرع القطن، وإبطال الرقيق وتمدين الأهالي، وإنشاء طرق المواصلات، حتى إن إسماعيل باشا كان يشتغل بتمهيد الطريق من وادي جوبا القائم الخلاف عليها الآن بين الإنكليز والطليان، إلى خط الاستواء.
وبعد أن استعيد السودان وجعل شركة بين مصر وإنكلترا في سنة 98 زار عباس باشا الثاني الخرطوم في 3 ديسمبر 1901 فألقى خطابه الذي تضمن الشكر للذين أتموا السكة الحديدية ومحوا سلطة التعايشي، وأعادوا الراحة والعدل، وقال: «إن العلمين الإنكليزي والمصري اللذين يخفقان معا هما إشارة إلى الحكومة المشتركة التي أخذت على عاتقها حماية الأهالي» وما شاكل ذلك فكان الفرق بين زيارة سلفائه وزيارته عظيما جدا كالفرق بين الحالتين، وزار اللورد كرومر معتمد إنكلترا - الذي أكره حكومة مصر على ترك السودان - تلك البلاد ثلاث مرات الأولى سنة 1899 والثانية 1900 والثالثة 1903 فألقى الخطب ووعد بالإصلاحات ... إلخ؛ لأن الأمر في السودان صار أمره، وفي تلك الخطب وضع البرامج للأعمال القائمة هناك كأعمال الخزانات وسواها، وكانت خطبه تحقيق نبوءة غلادستون سنة 1877 بقوله: «إذا نزلنا في مصر ذهبنا إلى السودان، وإذا ذهبنا إلى السودان مددنا أيدينا من خط الاستواء إلى جنوب أفريقيا، وأتممنا تأليف إمبراطوريتنا الأفريقية.»
السودان مصري فقط
قبل أن تكره حكومة مصر على إخلاء السودان بأمر الحكومة الإنكليزية عرض على عبد القادر باشا حلمي وهو وزير الحربية سنة 1885 أن يعود إلى السودان فيسكن ثائرته. فاشترط لذلك شرطين؛ الأول: أن يعطى 15 ألف جندي، والثاني: أن تتحول الحكومة الإنكليزية عن طلب الجلاء. فارتضوا بالشرط الأول ولم يرتضوا بالشرط الثاني؛ لأن الغرض لم يكن إعادة السودان إلى أمه مصر، بل إخراج من كانوا في السودان وهم نحو 40 ألفا من المصريين وسواهم، فأبت نفسه قبول هذه المهمة، وعبد القادر باشا تولى حكم السودان من سنة 1882 إلى سنة 1883، وتمكن من كبح جماح العصاة وإخماد الفتنة في سنار رغم ضعف قوته، وكان كلما طلب نجدة أجابوه أن الإنكليز حلوا جيش عرابي وليس لمصر جيش ثان، ولكن هذا القول لم يثبط همته حتى رأى أن خلفه وصل إلى الخرطوم بينما هو مشتغل بإعادة تنظيم سنار.
ولعبد القادر باشا كلمة تفضح سر عزله وردت في كتاب السودان لمؤلفه نعوم بك شقير قال: «سألت عبد القادر باشا: لماذا استدعيت من السودان وأنت ناجح في تدويخ الثوار وإعادة السلام إلى ربوعه؟» فأجاب: «إنهم اتهموني بالطمع بالاستقلال» وهذه الكلمة لا ندرك مغزاها إلا إذا عدنا إلى الروح التي كانت سائدة يومئذ، وتلك الروح هي روح الخوف من بقاء الإنكليز في مصر حتى أخذ بعضهم يجهر باستخدام السودان وما فيه من قوة لطرد الإنكليز من وادي النيل، وكان جمال الدين الأفغاني يتظاهر بذلك وينادي به ويدعو الرسل ليذهبوا إلى تنشيط المهدي محمد أحمد وتنظيم قوته لهذا الغرض، وشعر عبد القادر ذاته بممالأة فريق من الموظفين للمهدي والثوار عملا بهذه الروح فعزلهم، ولما سأل اللورد سالسبوري منشئ الأهرام عن ثورة السودان قاله له: «إنها ثورة؛ أي فتنة محلية جعلتموها أنتم الإنكليز بخطتكم وسياستكم ثورة عامة، فاتركوا السلطة للخديوي يستعد السودان حالا، وتخضع له جميع القبائل» ولم يكن شيء من ذلك يغيب عن الإنكليز كما أنهم يعرفون أكثر من سواهم أن والي مصر محمد سعيد باشا زار السودان في سنة 1858 وجهر في الخرطوم بأنه ينوي سحب جيوشه ورجال حكومته من تلك البلاد؛ فجاء مشائخ القبائل وأعيان السودانيين من كل حدب وصوب يتوسلون إليه بألا يفعل، وأعادوه عن عزمه الذي لم يفصح لنا التاريخ عن سببه حتى الآن. أليس في ذلك دليل على ميل السودانيين وتمسكهم بولاية مصر عليهم؟
إن سعيدا ذاته عين وهو في الخرطوم بعد ذلك الطلب الذي طلبه المشايخ والأعيان والوجوه كاتبه الأرمني أراكيل أفندي واليا على تلك البلاد فهب أولئك الأعيان ذاتهم للشكوى والفتنة «لأن الوالي عين نصرانيا حاكما لبلادهم» فلم يفعل أراكيل ما فعله غوردون وسواه؛ بل قصد الجماهير الحاشدة للثورة عليه، ووقف في جمعهم، وقال لهم: «إذا كنتم قد نقمتم على حكومة الوالي لأنه عينني حاكما عليكم فهذا دمي أريقوه، وظلوا على الولاء لحكومة مصر» فانطفأت جذوة غضبهم، وتحولوا من الفتنة إلى الطاعة، وتقدموا لخدمة الحكومة في ضبط الأمن والراحة في أنحاء السودان كله.
وهذا المهدي الذي مثلوه غولا قامت الثورة في جميع أنحاء البلاد لقيامه إذا أخذنا تاريخه عرفنا أنه كان كهؤلاء الذين يدعون المهدية في هذا العهد، فمنذ دخول كتشنر السودان إلى اليوم قام 15 مهديا في تلك البلاد، والتف حول كل واحد منهم جماعة من الناس لسذاجتهم، ولكن بعض الجنود تمكنوا من أخذهم من نواصيهم، وحادثة أبي السعود الضابط الذي أرسله رءوف باشا حاكم السودان إلى محمد أحمد يوم قيامه ودعوته مشهورة؛ فإن أبا السعود وصل إلى الرجل وهو في غار مع أصحابه فاحتقر أمره وتركه، ولو أنه أراد تكبيله أو التنكيل به لما عز عليه الأمر ولا صعب، ولكن الفتنة التي بدأت على ما رأيناها وأنكرها علماء السودان ذاتهم تحولت بعد ذلك وشملتهم جميعا للأسباب التي ذكرناها، ويثبت ما تقدم منشور ونجت باشا إلى السودانيين يوم تعيينه حاكما على السودان وسردارا للجيش المصري، وونجت باشا أكبر خبير بأميال السودانيين وعواطفهم، ولخبرته بهذه الأميال والعواطف لم يقل لهم أنه معين لإدارة بلادهم من حكومة جلالة الملك والخديوي، ولكنه استهل منشوره بالعبارة الآتية:
فإن سمو الأمير خديوي مصر عباس باشا حلمي الثاني - حرسه الله - قد اختارني لأن أكون سردارا لجيشه وحاكما عاما للأقطار السودانية بعد اتفاقه مع دولة بريطانيا العظمى على ذلك إلخ.
وختم منشوره بقوله: «والله المسئول أن يكون لي عونا على تنفيذ إرادة سمو الخديوي المعظم.»
نامعلوم صفحہ
فقد جعل الاتفاق مع إنكلترا غامضا في التعبير عن تعيينه؛ ليفهم السودانيون أن الخديوي قد عينه منفردا بهذا التعيين كعادتهم في العبارات السياسية .
فأي قول فوق هذا القول يدحض مزاعم القائلين بنفور السودان من حكم مصر وعد السودانيين أمة منفصلة عن الأمة المصرية، ولولا وثوق الجنرال ونجت من ميول السودانيين وعواطفهم لافتتح منشوره باسم جلالة الملكة، ولأورد اسم حكومة مصر أو خديويها على الأسلوب الذي أورد فيه اسم «دولة بريطانيا العظمى».
وإذا نحن عدنا إلى كتاب الجنرال ونجت ذاته وإلى غيره من المؤلفين عرفنا أن الذين يعتد بهم في السودان ويعدون الأمة السودانية هم العرب الذين وفدوا على السودان من مصر، فهم الأسياد وهم أصحاب النفوذ وهم السودان.
فإذا أخذنا بقولهم هم وبقول علمائهم فليقل لنا أولئك الكتاب الذين يزعمون أن مصر أمة والسودانيين أمة كيف التوفيق بين أقوال المؤرخين الخبراء من الإنكليز ذاتهم وبين ادعائهم هم، ألا يحق لنا أن نقول إنه ادعاء لا يبرره سوى السياسة أو هو ادعاء لتبرير السياسة فقط. •••
لم يكن خروج الجيوش المصرية من السودان في سنة 1884 و1885 تخليا عن السودان حتى يصبح «ملكا لا مالك له» فيستبيح دخوله وامتلاكه كل من استطاع إلى ذلك سبيلا؛ بل عد إخلاء السودان عملا عسكريا فقط قضت به الضرورة العسكرية، والشاهد الأكبر على ذلك الأمر العالي الخديوي الصادر في 15 يناير 1884 فإن هذا الأمر نص صريحا على إلحاق إقليم السودان المصري بوزارة الحربية المصرية، وظل هذا الأمر نافذا، وظلت وزارة الحربية تتولى شئون السودان إلى أن انتهت الثورة واستعيدت البلاد، والشاهد الثاني: كتاب بطرس باشا غالي وزير الخارجية المصرية إلى اللورد كرومر في 9 أكتوبر سنة 1898 ردا على مذكرة منه، قال فيه ما نصه: «إن حكومة سمو الخديوي كما تعرف سيادتكم لم تهمل في وقت من الأوقات أمر العودة إلى احتلال أقاليمها في بلاد السودان، تلك الأقاليم التي هي منبع حياة مصر، وهي إذا كانت قد انسحبت منها مؤقتا فإنما كان ذلك عقيب ظروف بقوة قاهرة، فاستعادة الخرطوم لا توصل إلى الغرض المراد منها إذا لم يعد وادي النيل كله - الذي ضحت مصر في سبيله الضحايا العظيمة - إلى يدها وقبضتها، ولعلمي أن مسألة فاشودة هي الآن موضوع المكالمة بين بريطانيا العظمى وفرنسا، فالحكومة المصرية قد كلفتني أن أسأل سيادتكم أن تولينا وساطتكم الطيبة لدى اللورد سالسبوري حتى يعترف لمصر بحقوقها التي لا تقبل شكا، وحتى تعاد إلى مصر جميع الأقاليم التي كانت لها إلى يوم فتنة محمد أحمد.»
وإذا كان كتاب بطرس باشا غالي قد اتخذ يومئذ حجة على فرنسا في فاشودة فإنه يعد أيضا حجة قائمة على الإنكليز إلى الأبد؛ فالإنكليز اعتمدوا في مكالمة الفرنساويين في مسألة حدود السودان المصري على هذا الكتاب، وعلى الخريطة التي وضعها غوردون سنة 1879 وفي كتاب بطرس باشا ذكر «الأقاليم التي كانت تحكمها مصر حتى ثورة المهدي» ومعلوم أن أمين باشا كان يحكم إقليم خط الاستواء حتى 10 يناير 1889، وفي خريطة غوردون أن من إقليم لادو المنطقة الواقعة على الضفة اليسرى من النيل في سورمست، وهي المنطقة التي تصل بحيرة فيكتوريا نيانزا ببحيرة ألبرت نيانزا، وعلى هذه المنطقة يخفق الآن العالم الإنكليزي وحده، ولم يكن في سنة 1884 شريك للعلم المصري في تلك الأرجاء، وتدل خريطة غوردون أيضا على أن هرر وزيلع وبربره أراض مصرية، وقال غوردون: إن حاميتها كانت 3400 جندي، ونفقات بربره 17229 جنيها، ونفقات زيلع 5061 جنيها، ونفقات هرر 43229 جنيها، وأن مصوع كانت تابعة لسواكن.
وقد عرف القارئ من كلامنا السابق أن إنكلترا عاملت السودان معاملة «ملك لا مالك له» فظلت تأخذ منه وتعطي حتى سنة 1895 أي حتى اتفقت مع ألمانيا وإيطاليا، وشعرت بثبوت قدمها في مصر، فعادت إلى التمسك بحقوق مصر ولم يحسب لمصر في ذلك كله حساب حتى إن اتفاقها مع وزير خارجية مصر في 19 يناير 1899 لم تقره الأمة المصرية وهيئتها النيابية، وهو ذلك الاتفاق الذي يجعل إنكلترا شريكة مصر في السودان، وأجمع رجال القانون على أن هذا الاتفاق مخالف للشرائع والقوانين .
سلخ السودان وطريق المواصلات الإمبراطورية
مصر والسودان وقناة السويس وفلسطين والعراق وإيران لازمة لإنكلترا؛ لأنها طريق الهند كما يقول اللورد كرزون فيصفق النواب لقوله ولبلاغة حجته (؟) وإذا قالت مصر: السودان مني ولي وأنا له وهو حياتي ومني وحدي كانت حياته. صاح الكتاب الإنكليز يا لها من بدعة ويا للحق من الجور؟!
ظلت إنكلترا قرنا تنقض من قوة مصر وتأبى عليها النمو إلى أن غنمت فرصة ثورة عرابي على الحكومة بحجة تحويل الحكم إلى يد الشعب فاحتلت البلاد، فاختل حبل الأمن في السودان فكانت إذا قال لها العالم: مصر. تجيبه: السودان. إلى أن جعلته شركة بينها وبين مصر يحلل هذه الشركة التي أمرت بها إنكلترا أمرا ولم يراع فيه شرع ولا قانون «أن الدول لم تعترض عليها» كما قالت المانشستر غارديان، وتجاهلت أن تركيا احتجت وهي صاحبة الشأن على فصل مصر عن السودان.
نامعلوم صفحہ