وبعد أن يخرج النيل الأبيض من بحيرة ألبرت نيانزا يجري في خط الاستواء وهو الإقليم المصري الذي كان يتولى الحكم فيه أمين باشا حتى سنة 1889 ولكنهم سلبوه سلبا، وبعد أن يجري على مسافة 670 ميلا يلتقي ببحر الغزال، وهو نهر كبير، ويتغير بعد ذلك الاسم، ثم يلتقي بالنيل الأزرق عند الخرطوم بعد أن يجري من منبعه 1530 ميلا.
أما النيل الأزرق: فيخرج من بحيرة تسانا في بلاد الحبشة، ويجري شمالا إلى الغرب حتى يدخل سنار، وتصب فيه أنهر أخرى، ويصل إلى الخرطوم بعد جريه 846 ميلا، وكلنا يعرف مساعي الإنكليز في الحبشة؛ لتكون بحيرة تسانا في قبضتهم كما هي الآن بحيرة فيكتوريا نيانزا، وكما يطمحون إلى بحيرة رودلف.
ذانك هما النهران اللذان تعيش بهما مصر والسودان معا، وتلك سياسة الإنكليز في أن تكون في يدهم حياة مصر والسودان بالقبض على منابع النيل.
وإذا كان اللورد اللنبي قد أتم مهمته في العام الماضي مع مشائخ القبائل، فإنا لا ننسى أقوال صحف لندن وردها على صحف مصر «بأن هناك غير القبائل التي يدعي المصريون قرابتها ولحمة النسب بها ووحدة اللغة والدين معها قبائل السود وهي أكثر عددا وأوسع بلادا ولا تربطها بالمصريين أقل رابطة؟» فهل السلطان «جومص كيانجو» الذي أهداه اللورد اللنبي المدالية «التي ينعم بها على رؤساء القبائل ووجوه القوم في أفريقيا» ومشائخ العشائر «الذي أنعم عليهم الحاكم العام بالهدايا» - كما قالت صحف الإنكليز - يمثلون السود؟ فيكون اللورد اللنبي قد أتم الآن مهمته في سنتين: سنة مع رؤساء العشائر والقبائل العربية المسلمة، وسنة مع رؤساء القبائل والعشائر السوداء غير المسلمة؟ •••
أما مديرية بحر الغزال فإنه يفصلها عن دارفور وكردوفان شمالا بحر العرب وبحر الغزال، ويفصلها عن محافظة فاشودة بحر الجبل، وتفصلها الجبال غربا عن الكونغو الفرنساوية، وتتصل جنوبا بالكنغو البلجيكية، وجميع سكان بحر الغزال من السود، وهم يتعاملون بالخرز والحديد.
ثارت هذه المديرية بعد قيام المهدي، وكان لبتن بك مديرا لها، ومحمود المحلاوي مفتشا عاما لمنع تجارة الرقيق فتمكن محمود من إخماد الثورة، ومن إرسال المدد إلى أمين باشا في خط الاستواء، وانتهى الأمر بأن سلم لبتن لعامل المهدي. أما أمين باشا فثبت في خط الاستواء، وله حديث عجيب يدل على نيات الإنكليز منذ ذاك الحين.
أخلى الدراويش بحر الغزال سنة 1886، وفي 14 يوليو سنة 1894 عقد الفرنساويون اتفاقا مع حكومة الكونغو على أن تكون بلاد بحر الغزال في دائرة نفوذهم، وأنشأوا مواقع عسكرية في ديم الزبير وبحر العرب وأرمبيك وإياك ومشروع الريك، ثم تقدموا إلى فاشودة فاحتلوها إلى أن اتفقوا مع الإنكليز على الخروج منها ومن بحر الغزال في سنة 1898، وفي سنة 1900 أرسل السردار قوة احتلت بحر الغزال، وجعلت واو عاصمة لتلك البلاد. •••
أما خط الاستواء فتملكه المصريون سنة 1872 وطلب ولي عهد إنكلترا من الخديوي إسماعيل أن يكون غوردون حاكما لخط الاستواء فعينه من سنة 74 إلى 76 ثم تولاها أمين باشا، ولكن الإنكليز الذين أكرهوا حكومة مصر على الجلاء عن السودان أبوا أن تظل الجرثومة المصرية في خط الاستواء فملأوا الدنيا صياحا وعويلا لمصاب «أمين باشا» وأخذوا يستصرخون الإنسانية لإنقاذه حينما كان أمين باشا بكل راحة وسكون وأمان مع الجيش المصري والعمال والموظفين. على أن الإنكليز الذين أوفدوا ستانلي «لإنقاذ» أمين باشا سنة 89 كلفوا حكومة مصر أن تدفع له 12 ألف جنيه، وأن تصحبه بكتاب إلى أمين باشا ليغادر تلك البلاد؛ لأنه رفض مغادرتها بغير أمر الخديوي، ولما عاد أمين باشا إلى زنجبار مع ستانلي أبى فريق من الجيش المصري إخلاء تلك البلاد، وظل فضل المولى مع ذلك الفريق في واد لاي، وفي سنة 92 أدخل البلجيك فضل المولى وعساكره في خدمتهم، وقتل الدراويش فضل المولى في تلك السنة. •••
والآن اسمع قصة أمين باشا لتدرك سر السياسة الإنكليزية، أي تلك السياسة التي لا يزالون يعملون لتحقيقها حتى الآن، والتي نعد سفر اللورد اللنبي إلى واو شطرا منها أو تتمة لها.
ألف الإنكليز شركة سموها الشركة الأفريقية على مثال شركة الهند الشرقية التي أوصلتهم إلى تملك الهند، وجعلوا غرضها تجاريا كتلك، وهي مثلها سياسية كلفت بتمهيد الطريق لتأليف الإمبراطورية الأفريقية فلما أخذت هذه الشركة بالعمل أيقنت أن بقاء أمين باشا حاكما مصريا على خط الاستواء يحول دون مرماها فأطلقوا عليه لقب «سجين خط الاستواء» بعد إكراه مصر على إخلاء السودان، وأرسلوا إليه ستانلي فلما سلمه أمر الخديوي بالعودة عاد معه إلى زنجبار، وهناك كشف له القنصل الألماني عن وجه الحقيقة فأبى المجيء إلى مصر، وعزم على العودة إلى وادلاي مع فريق ممن أتوا معه من هناك، ودخل في المسألة عامل جديد وهو السياسة الألمانية التي طلبت من أمين باشا وهو من أصل ألماني أن يكون في عودته تحت ظل علمهم، وحملت صحف الألمان على الإنكليز، واتهمتهم بالخيانة والغدر، فرد عليهم الإنكليز بأشد من ذلك، وأظهروا عجز أمين باشا عن العودة؛ لأن الشركة الأفريقية رفعت العلم الإنكليزي على خط الاستواء بعد خروج المصريين، واضطرار فضل المولى إلى خدمة البلجيكيين، وحدث ستانلي أحد الكتاب الألمان فقال له: «إني لما وصلت إلى أمين باشا خيرته بين ثلاثة أمور: إما البقاء في ودالاي تحت السلطة الإنجليزية والعلم الإنكليزي براتب 1500 جنيه في السنة وإعانة 12 ألف جنيه تدفع له حالا - وهو المبلغ الذي أخذه ستانلي من خزانة الحكومة المصرية - وإما أن يرحل عن وادلاي إلى جهة أخرى لنرفع على خط الاستواء العلم الإنجليزي، وإما أن يرجع معي إلى القاهرة ويترك تلك البلاد وشأنها» فرد عليه أمين باشا بأن ستانلي عرض علي أن أترك منصبي في خدمة الحكومة المصرية فرفضت، وعرض علي أن أجمع له جيشا من السود يتولى هو قيادته ثم نذهب بالجيش لأوغندا فنجعلها مركزا ثم نرجع إلى وادلاي باسم الشركة الأفريقية لا باسم الحكومة المصرية فرفضت. فهددني بتجريدي من قوتي وسلاحي وذخيرتي فاضطررت أن أرافقه.
نامعلوم صفحہ