143

ويتم الانتقال من الحالة التي يسودها الحق الطبيعي إلى حالة العقد الاجتماعي عن طريق تنازل الأفراد عن بعض حقوقهم لهيئة حاكمة في المجتمع الذي ينظمه القانون المدني؛ ذلك لأن الفرد، رغبة منه في حماية نفسه وتحقيق ما فيه صالحه بطريقة أفضل ، يقبل التنازل عن شريعة الطبيعة والخضوع لقانون العقل، والاتفاق مع غيره على العيش في وئام. وهكذا يحدث التنازل عن موضوعات بعض الرغبات استهدافا لخير أعظم، أو توقيا لشر أفدح، ويتم هذا التنازل للهيئة الحاكمة، التي ينبغي على الأفراد طاعتها، وإلا لما أمكن قيام الدولة، ويظل حق الحاكم قائما طالما كانت لديه القدرة على تنفيذه. وبعبارة أخرى: فإن نفس قاعدة الحق الخاضع للقوة تسري على الدولة بدورها، بحيث تحد سلطة الدولة بما لديها من القوة، ولكن لا بد أن تجد الدولة أيضا أن من مصلحتها، بدورها، أن تسترشد بالعقل، وأن تحفظ قدرتها بتوخي الصالح العام: أعني أن تحد من ذاتها، ولا تمارس قواها أكثر مما ينبغي حتى لا تقابل بالمقاومة. وحين تعترف الدولة بحكم العقل، تترك للأفراد قدرا غير قليل من الحقوق التي يمارسونها بحرية، ولا سيما حقهم في التفكير الحر، والتعبير عن آرائهم كما يشاءون، وهو الحق الذي أكد اسپينوزا أنه أساس في كل نظام سليم للحكم.

هذه الفكرة، التي كانت، بأشكالها المختلفة، تكون أساس المذاهب السياسية في القرن السابع عشر بوجه خاص، قد احتلت المركز الرئيسي في تفكير اسپينوزا السياسي بدوره. ومع ذلك فكلما أمعن المرء التفكير فيها، وجد أن موقعها في فلسفته شاذا إلى حد ما؛ فالمقدمات الفلسفية التي بنى عليها هبز مذهبه السياسي مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي بنى عليها اسپينوزا مذهبا مماثلا. ومن المؤكد أن السياق العام لتفكير اسپينوزا الفلسفي كان يقتضي نوعا من الخروج على هذه النظرية السياسية الشائعة، التي جعلت من القوة أساسا للحق - وهذا الاستنتاج هو بالفعل ما تؤدي إليه الدراسة المتعمقة لفلسفة اسپينوزا؛ إذ يشعر المرء بأن ثمة نوعا من «الفراغ» في نظريته السياسية المتعلقة بأساس تكوين الدولة.

ومع ذلك فهناك حقيقتان أساسيتان ينبغي ألا تغيبا عن الأذهان في هذا الصدد: الأولى هي أن فكرة الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي كانت تبدو من بديهيات الفلسفة السياسية في عصر اسپينوزا، ولم يكن في الإمكان عندئذ تصور طريقة أخرى لتطور التنظيم الاجتماعي البشري؛ فقد رأى المفكرون أن الحالة الاجتماعية الراهنة للبشر لا بد قد سبقتها حالة أخرى «طبيعية»، ولا بد أن تكون الشريعة السائدة في مثل هذه الحالة الطبيعية هي القوة. ولما كانت ممارسة القوة تقضي على ذاتها إذا ما ترك لها العنان؛ لأن القوى سوف تتضارب حتما؛ فقد كان من الطبيعي أن يتصور المفكرون عندئذ «عقدا اجتماعيا» يتفق فيه الناس بمحض إرادتهم على التنازل عن بعض سلطاتهم لهيئة حاكمة. هذا التسلسل لمراحل التنظيم الاجتماعي كان يبدو عندئذ أمرا مفروغا منه، وحقيقة لا تقبل المناقشة، وأية دراسة للفلسفات السياسية في تلك الفترة تثبت مدى تغلغل هذه الفكرة في النفوس على نحو مشابه لتغلغل نظرية التطور مثلا في التفكير العلمي الحالي. وكما أن العلماء البيولوجيين يبنون اليوم أبحاثهم بطريقة شبه إجماعية على أساس فرض التطور، مع وجود اختلافات فرعية في طريقة تطبيقهم له، ويرون أن الأخذ بهذا الفرض من أسس الروح العلمية في العصر الذي نعيش فيه، فكذلك كان الحال في موقف المفكرين السياسيين من نظرية الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي في ذلك العصر.

والحقيقة الأساسية الثانية هي أن اسپينوزا قد خفف كثيرا من غلواء النظرية في صورتها الأصلية كما تتبدى لدى فيلسوف مثل هبز، وحاول بقدر الإمكان أن يقرب بينها وبين مذهبه الفلسفي العام، وإن لم يكن قد أحرز في ذلك إلا نجاحا محدودا: (1)

فمن الممكن القول بوجود نوع من الموازاة بين فكرة الحق الطبيعي، كما صاغها اسپينوزا في ميدان السياسة، وبين أساس النظرية الأخلاقية عنده؛ ذلك لأنه أكد في مجال الأخلاق - كما رأينا - عدم وجود معنى مطلق لعبارات مثل الخير والشر، وبنى الأخلاق كلها على أساس علمي، وربما على أساس نظرة آلية إلى الطبيعة البشرية من خلال النزوع إلى حفظ الوجود واستمراره. وهذا هو ما فعله اسپينوزا في ميدان السياسة أيضا؛ فقد أزال قيم الخير والشر من هذا الميدان أيضا، ولم يقل بحق أو واجب مطلق، بل إن جميع هذه التعبيرات المعيارية ينبغي أن ترد إلى الأصل الموازي للنزوع إلى حفظ الوجود واستمراره؛ أعني إلى «القوة»؛ فالحق في السياسة يرتد إلى القوة، ولكن مثلما كان رد القيم الأخلاقية التي يفترض أن لها وجودا مطلقا، إلى أصلها الطبيعي، مؤديا إلى فهم علمي أفضل لمنشأ هذه القيم، فكذلك كان هذا التفسير الطبيعي لأصل الاجتماع البشري مؤديا في نظره إلى فهم أفضل لأسس السياسية، دون ضياع للالتزامات الحالية للأفراد تجاه الدولة. (2)

تتسم فكرة الحق الطبيعي عند اسپينوزا بأنها فرض نظري إلى حد ما؛ فهو يعترف بأن قوى الإنسان - التي تمتد بقدرها حقوقه - تقل طالما كان هناك أفراد آخرون يخشاهم، وطالما كان لكل من هؤلاء الأفراد حقوق مثله .

13

وأن مجرد اعترافه في مقدمة «البحث السياسي» بأن «الناس قد فطروا على ألا يستطيعوا العيش دون قانون عام ما.»

14

لينطوي ضمنا على تأكيد الحالة المدنية على حساب الحالة الطبيعية، وعلى أنه كان يؤمن بأن الحالة الطبيعية هي، إلى حد ما، نوع من الفرض النظري الذي يكمل بناء المذهب فحسب. (3)

نامعلوم صفحہ