10
وإذا كنا قد تساءلنا من قبل، في مجال الأخلاق، عما إذا كان الاتجاه الغالب على تفكير اسپينوزا ديمقراطيا أم أرستقراطيا، فمن الواضح أن المشكلة تحل هنا، في مجال السياسة، حلا يترك لكل من النزعتين مجاله، ونستطيع أن نقول إن النظم الأرستقراطية في الحكم لا تتيح للأرستقراطية الصحيحة - أرستقراطية التفوق والامتياز العقلي - أن تظهر على حقيقتها. وهذا قول قد يبدو في ظاهره غريبا، ولكن الذي يحدث هو أن الأرستقراطية الحاكمة، في مثل هذا النظام، لا تسمح إلا لنفسها بالعمل، بينما تسلب غيرها جميع الحريات، فلا تتاح الفرصة لظهور المواهب الحقيقية في أية طبقة غير الطبقة الحاكمة ذاتها. فإذا ما أريد للتفوق الحقيقي أن يظهر، فلا بد من أن تبسط الحريات ظلالها على الجميع بمقدار متساو؛ حتى يتسنى تقدير الناس تبعا لقيمهم الحقيقية. وهكذا كان سعي اسپينوزا إلى كفالة الحريات للجميع، في واقع الأمر، تعبيرا عن رغبته في إتاحة كل الفرص أمام المواهب الحقيقية للظهور. وهذا الهدف، في رأيه، هو الغاية الحقيقية للتنظيم الاجتماعي الذي يتخذ شكل الدولة. (2) فكرة الحق الطبيعي وتكوين الدولة
عندما تحدث اسپينوزا عن العوامل المؤدية إلى تكوين الدولة، تأثر قطعا بكثير من الأفكار التي كانت سائدة في الفلسفة السياسية في عصره، ومن أهمها فكرة «الحق الطبيعي» والعقد الاجتماعي. وقد كانت الفكرتان متكاملتين في الفلسفة السياسية في ذلك العصر، وظهرتا بوضوح عند «هبز وجروتيوس
Grotius »، ثم عند روسو في القرن التالي، ومن الممكن تتبع أصلها إلى عهود أقدم من ذلك بكثير، وكذلك الاهتداء إلى صور لها أحدث كثيرا من القرن الثامن عشر. والفكرة تتلخص في أن حقوق كل فرد فيما يسمى «بالحالة الطبيعة»؛ أي الحالة السابقة على التنظيم الاجتماعي الذي يتخذ شكل الدولة، ترتكز على مقدار ما له من قوة. ثم تأتي عوامل مختلفة تحتم على الأفراد التنازل عن حقوقهم الطبيعية: قد تكون الخوف المتبادل؛ أي رغبة كل في اتقاء شر الآخر. وقد تكون السعي إلى المزيد من النفع. وقد تكون تحكيم العقل الذي يكشف عن عدم تعارض مصالح الأفراد بعضهم مع البعض في نهاية الأمر. وعلى أية حال فإن هذه العوامل - التي تختلف الأهمية النسبية لكل منها باختلاف المذاهب الفلسفية - تؤدي بالأفراد إلى الاتفاق في «عقد اجتماعي» على التنازل المتبادل عن بعض الحقوق الطبيعية، وتكوين مجتمع منظم، فيه «سلطة» حاكمة تشرف هي ذاتها على تنظيم ما تم التنازل عنه من الحقوق.
وقد تأثر اسپينوزا في كتاباته السياسية بهذه النظرية وأخذ بها، مع إدخال تعديلاته الخاصة عليها. ونستطيع أن نقول إن هذا الجزء من فلسفته كان من الأجزاء القليلة التي اتضح فيها تأثير النظريات المعاصرة له في تفكيره الخاص تأثيرا لا ينكر، بينما كان أهم ما يميز تفكيره في بقية الأجزاء هو الأصالة التي بلغت حد استباق اتجاهات لم تظهر إلا بعده بأجيال عديدة.
وقد عرف اسپينوزا «الحق الطبيعي» بقوله: «أعني بالحق الطبيعي نفس قوانين الطبيعة أو قواعدها التي يحدث كل شيء وفقا لها؛ أي بعبارة أخرى: قوة الطبيعة ذاتها ... وعلى ذلك فكل ما يفعله الإنسان وفقا لقوانين طبيعته، يفعله بحق طبيعي كامل، ويكون له من الحق على الطبيعة بقدر ما له من القوة.»
11
وهذا الحق الطبيعي واحد لدى جميع الأفراد، لا يختلف فيه شخص عن آخر؛ ففي هذا الميدان تتحكم الرغبة والقدرة، لا العقل. والطبيعة تتسع لكل شيء، لا للإنسان وحده، ولكن إذا كان المبدأ ذاته واحدا؛ أي إذا كان الأفراد جميعا يسري عليهم المبدأ القائل إن حق كل فرد يمتد بقدر ما تمتد قوته، فلا شك في أن نصيب كل فرد من هذا الحق يتفاوت تبعا لما لديه بالفعل من القوة. وهكذا تكون الغلبة في هذه الحياة للقوي، الذي لا يحد من قوته شيء إلا اصطدامها بالقوى الأخرى وتوقفها عند الحد الذي تبطلها فيه هذه القوى. هذا هو «القانون» الساري على الحالة الطبيعية، ولكن من المؤكد أن تسميته بالقانون فيها قدر كبير من التجاوز، وكما قال جيركه
Gierke : «فمثل هذا القانون ليس في واقع الأمر قانونا على الإطلاق، وهو لا يرفع راية القانون إلا كما ترفع سفينة راية مزيفة، تختفي من ورائها فكرة القوة التي لا تعدو أن تكون قرصنة بالمعنى الصحيح.»
12
نامعلوم صفحہ