أقام خالد بالمذار، فسبى أبناء المقاتلة ومن أعانهم، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس، وكان أبو الحسن البصري بين الأسرى في هذه الموقعة، وحرص خالد بعد أن اطمأن له الأمر على تأمين مواصلاته إلى الخليج الفارسي، فأمر القواد على الجند الذين استبقاهم بالحفير وعلى الجسر الأعظم، وولى العمال على الجباية، وأقام مكانه يتنطس أخبار عدوه.
وما كان ليحسب أنه، وهو لا يزال على مقربة من خليج فارس، قد قضى على قوات كسرى بالعراق؛ فهو بعد من الحيرة على آماد غير قليلة؛ والحيرة تكاد تنتصف الطريق بين الخليج والمدائن، وإلى شمال المدائن من أرض الفرس ما يعج بالجند عجيجا، ولا يأمن المسلمون أن يستعين الفرس قبائل العرب بالعراق عليهم، وهذه القبائل منتشرة على تخوم العراق إلى البادية، منتشرة في جزيرة العراق بين النهرين، وأكثرها على النصرانية لم تزعجها فارس المجوسية عنها، فإذا جاء هؤلاء المسلمون فدعوها إلى الإسلام أو الجزية رأت أن الخير لها في أن تبقى كما هي متمتعة بحريتها، لا جرم إن رأت ذلك أن تنضم إلى الفرس وأن تعينهم، هذه كلها احتمالات دارت بخلد القائد العبقري، فقدرها، وحسب لها حسابها.
ولم يخطئ خالد فيما قدر؛ فإن الفرس ما لبثوا، حين رأوا ما أصابهم بالحفير والمذار، أن اتجه تفكيرهم إلى الاستعانة على العرب بالعرب، فإنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وكان كسرى يطمئن إلى ولاء قبائل عربية كثيرة بينها جماعات عظيمة من بني بكر بن وائل، لذلك دعاهم وجعل عليهم قائدا منهم ووجههم إلى الولجة ولكي لا يكون لهم كل فخار النصر أقام قائدا من أقدار قواده، هو بهمن جاذويه، على جيش من الفرس ووجهه في أثرهم، ولقد ازداد جيش القبائل العربية بمن انضم إليهم بين الحيرة والولجة من العرب والدهاقين الذين عسكروا إلى جانبهم، وبلغهم بهمن على رأس الجنود الفارسية وأعد معهم لقتال المسلمين عدته.
بلغت هذه الأنباء خالد بن الوليد وهو بالمذار، فأمر من خلف من قواده وجنوده على الحفير وكاظمة وسائر ما اطمأن له من أرض العراق أن يكونوا على حذر، وألا يغتروا بما فتح الله عليهم من النصر، وخرج في جنده إلى الولجة يقاتل جنود كسرى، وكان الفريقان في الغاية من قوة البأس والعزم، حتى لقد تردد النصر بينهما زمنا أي الفريقين يصاحب، وكان خالد في عبقرية قيادته قد أمر اثنين من أمراء جنده أن ينفصلوا أثناء السير عنه وأن يكمنوا وراء العدو فيأخذوه أثناء القتال على غرة، لكن هذا الكمين تأخر فلم يظهر على حين كانت صفوف المقاتلين من المسلمين ومن عدوهم تترجح متقدمة طورا متراجعة طورا آخر ... وظن الفريقان أن الصبر قد نفد وأن المعركة لن تنتهي إلى غاية. وإنهم لكذلك إذ خرج كمين من المسلمين في ناحيتين من وراء جيش كسرى في حين كان خالد يشتد في الضغط عليهم من أمامهم، هنالك انهزمت صفوف الأعاجم فولوا وقد أخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه، ولى الأعاجم وولى العرب الموالون لهم وسيوف المسلمين آخذه برقابهم، وجنود المسلمين يأسرون منهم من لم يترد قتيلا؛ وسبى خالد ذراري المقاتلة ومن أعانهم.
بلغت المغانم يومئذ مبلغا جعل خالدا يقوم في الجيش مشيرا إلى ثراء الأرض التي يقاتلون فيها ويقول: «ألا ترون إلى الطعام كرفع التراب!
5
وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله (عز وجل) ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه.» أفيضن مسلم بعد هذا الكلام بروحه؟! إنه ها هنا يجاهد في سبيل الله، وينفل المغانم، وتصبح السبايا ملك يمينه، أليس هذا نعيم الدنيا والآخرة؟! من ذا يزهد فيه؟! ومن ذا لا يسارع إلى لقاء الله عليه؟!
كان هذا شأن العرب؛ فماذا كان شأن فارس حامية الحضارة في عالم يومئذ، ومهد الترف والنعمة والعلم والفن؟ إن تعجب لأمر بعد الولجة فلأن الذين غلى الدم في عروقهم للهزيمة التي نزلت بهم لم يكونوا الفرس، بل كانوا بني بكر بن وائل من العرب، هؤلاء شق عليهم أن يغلبهم بنو عمومتهم من شبه الجزيرة، فغضبوا وغضب لهم نصارى قومهم، فكاتبوا الأعاجم وكاتبهم الأعاجم، فاجتمعوا جميعا بأليس على صلب الفرات في منتصف الطريق بين الحيرة والأبلة، وكتب كسرى أردشير إلى بهمن جاذويه أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب، ورأى بهمن أن يسير إلى أردشير ليحدث به عهدا وليتلقى أوامره، فقدم جابان أحد القواد وأمره أن يحث السير إلى أليس وقال له: «كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك.» وألفى بهمن أردشير مريضا فأقام إلى جانبه، وترك الأمر إلى جابان ولم يبعث له عن مقامه بنبأ ولم يحدث له منه ذكرا، وبلغ جابان أليس، فوقف إلى جانب عبد الأسود العجلي أمير الجند على بني بكر بن وائل ومن نفر من نصارى العرب، وجعل يدبر وإياه أمر القتال.
لم يقف خالد بن الوليد على نبأ من مسيرة جابان وجنود فارس، وإنما بلغه ما كان من تجمع العرب النصارى بأليس، فخرج في جيشه ومن انضم إليه من عرب العراق وكر راجعا إلى الحفير يؤمن مؤخرته، واطمأن إلى ما أراد، ثم انقلب مسرعا يلقى العدو حيث عسكر، ولم ينظر القوم حين بلغ أليس، بل دعاهم إلى القتال، وأسرع العرب إلى لقائه، فلم يمهلهم أن قتل قائدهم مالك بن قيس، ولما رأى جابان صفوفهم تضطرب تقدم بجنود فارس يعززهم، وهو وجنوده أشد ما يكونون بالفوز ثقة، أليس بهمن قد وعدهم أنه آت إليهم! فليصبروا للمسلمين وليصابروا حتى يجيئهم المدد، وليستميتوا في الدفاع عن مواقفهم، ورأى خالد صبرهم وقوة تجلدهم لبأسه، وإن لم يعرف باعثهم على هذا وذاك، وترجحت الموقعة حينا حار له خالد فتوجه إلى ربه يستنصره ويقول: «اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم.» وأنت تعرف معنى هذه الكلمة صادرة من أعماق سيف الله ومن صميم قلبه، هذا القلب الذي لا يعرف الخوف ولا يهاب الموت ولا يفزع لمرأى الدماء، وطال بالفرس وأنصارهم الصبر وبهمن لا يقبل، ولم يذر خالد أثناء ذلك لونا من ألوان المداورة التي تفيض بها عبقريته في القيادة إلا ضيق به الخناق على أعدائه، فلما عيل صبرهم وتداعت قوتهم ولم يبق لهم من الهزيمة مفر، تحطمت صفوفهم وانقبلوا على أعقابهم يسارعون إلى الهرب ولا مأرب لهم إلا النجاة، ورأى خالد فرارهم فمر مناديه فنادى في رجاله: «الأسر! الأسر! لا تقتلوا إلا من امتنع.» ولحق فوارس المسلمين بالفرس وأنصارهم من العرب، وجاءوا بهم أفواجا أسارى يساقون سوق النعم.
وكان الفرس قد أعدوا قبل المعركة طعام غدائهم فأعجلهم خالد عنه، فلما انهزموا وقف خالد على الطعام وقال لرجاله: «قد نفلتكموه فهو لكم.» وجلس المسلمون إلى الموائد يتناولون عشاء شهيا رأى الكثيرون منهم فيه عجبا، رأوا الرقاق ولم يكونوا يعرفونه، فجعلوا يقولون: ما هذه الرقاع البيض! وجعل من عرفها يجيبهم مازحا: هل سمعتم برقيق العيش؟! فهذا هو، ولذلك سمي الرقاق، أما العرب فكانت تسميه القرى.
نامعلوم صفحہ