4
وأمر المثنى بن حارثة أن يلاحق المنهزمين من جيش الفرس فطار في أثرهم وكأنما يريد ألا يفوتهم قبل أن يبلغ المدائن.
ومر المثنى أثناء مطاردته جيش الفرس بحصن تقيم فيه أميرة فارسية يطلق مؤرخو العرب عليه اسم حصن المرأة، وقد ترك أخاه المعنى بن حارثة على حصار هذا الحصن، وسار وهو فحاصر زوجها في حصنه، ففض الحصن على من فيه وقتلهم، واستفاء أموالهم، ثم استمر يطارد بقية الجيش، وعلمت المرأة بما أصاب زوجها فصالحت المعنى وأسلمت وتزوجته.
أطلق على هذه الغزاة الأولى الخالدة بالعراق اسم «ذات السلاسل» وعلة هذه التسمية، فيما يقولون، أن الفرس اقترنوا في السلاسل حتى لا يفروا، ويروى أن خالدا جمع ما خلف القوم وراءهم من هذه السلاسل فكانت وقر بعير ألف رطل ويرتاب بعضهم في هذه الرواية فيسمي هذه غزاة كاظمة، نسبة إلى أقرب قرية من المكان الذي وقعت فيه.
كان لهذه الغزوة الأولى أثر عظيم ألهب حمية المسلمين، فقد رأوا الفرس لا يثبتون أمامهم أكثر ما كان يثبت العرب في حروب الردة، ولقد قتل هرمز من يد خالد، فكان مقتله مرضاة للعرب جميعا أي مرضاة، هذا إلى جسامة ما غنموه فيها مما لم يكن لهم بمثله عهد؛ فقد بلغ نفل الفارس ألف درهم خلا السلاح.
وزاد نصر المسلمين في هذه المعركة جلال تنفيذ خالد للسياسة التي رسمها أبو بكر مع العرب الفلاحين بالعراق أدق تنفيذ فقد سبى أبناء المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، أما الفلاحون فتركهم لم يحركهم، وأقر من لم ينهض منهم وجعل له الذمة.
وبعث خالد خمس الغنائم إلى أبي بكر بالمدينة، وبعث معها قلنسوة هرمز وفيلا أخذه المسلمون في الموقعة، ولم يكن أهل المدينة قد رأوا فيلا في حياتهم، بل لم تر بلاد العرب كلها فيلا قبل ذلك إلا فيل أبرهة حين حاول هدم الكعبة، فلما طاف قائد الفيل به في المدينة عجب أهلها لمنظر الحيوان الضخم وتولى بعضهم الريب في أمره، بل لقد جعلت ضعيفات النساء يقلن: أمن خلق الله هذا؟! وخيل إلى بعضهم أنه من صناعة فارس! ورأى أبو بكر أنه لا نفع فيه فرده إلى العراق مع قائده.
ألهبت هذه الغزاة حمية المسلمين، حتى لقد استمر المثنى الشيباني يطارد الفرس المنهزمين وكأنما يريد ألا يفوتهم قبل أن يبلغ المدائن، وفيما يتعقبهم جاءته الأنباء بأن جيشا عظيما من الفرس أقبل من المدائن لملاقاة خالد وجنوده، ذلك أن الملك أردشير ما لبث حين جاءته رسالة هرمز أن دعا إليه قارن بن قريانس أحد الأمراء الذين تم شرفهم، وجعلهم على رأس قوة سارت مددا لجيش الثغور، ولقي قارون في طريقه إلى الجنوب قباذ وأنوشجان على رأس الفلال المنهزمين، فاستوقفهم وتحدث إليهم وبعث السكينة إلى نفوسهم وضمهم إلى جيشه وعسكر بهم في المذار على ضفاف قناة تصل دجلة بالفرات، وأيقن المثنى أن انفراد جيشه بلقاء هذه القوة العظيمة قد يجر عليه الهزيمة، فاختار مكانا قريبا من المذار أنزل جنده فيه، وكتب إلى ابن الوليد بتفصيل ما عنده، وخشي خالد أول ما بلغه النبأ أن يلقى قارن بن حارثة فيهزمه فيفت ذلك في أعضاد المسلمين، فطار بجيشه وبلغ المذار، وقارن يعد للقاء المثنى عدته، وجنود المثنى لا يعلمون ما الله صانع بهم.
كان للمثنى ولجنوده العذر أن تثور مخاوفهم، فقد بعثت هزيمة هرمز الحقد والحفيظة إلى نفوس الفرس، فأقبلوا وكلهم حب الانتقام، وحسبوا أنهم بالغون منه غايتهم بهزيمة المثنى وجنوده وهم بعيدون عن مركز القيادة، فلما بلغ خالد المذار أخاف الفرس وإن لم يخفف وصوله غلواء قارن ولم يضعف من عزمه، ورأى قباذ وأنوشجان فرصة الثأر لهزيمة الحفير سانحة، وأرادا أن يغسلا بفعالهما ما تجللاه ثم من ثياب الخزي والعار فاستنهضاهم الجند الذين كانوا معهما ودفعاهم إلى الميدان يغلي في عروقهم حرص على الثأر لا تهدأ ناره، وخيل إليهما وإلى قارن أنهم إن هاجموا خالدا قبل أن يتخذ للموقف عدته لم يفتهم الظفر بالمسلمين وأن يردوهم على أعقابهم إلى شبه الجزيرة منكسة رءوسهم، صريعا في أذهانهم كل أمل في قتال كسرى أو منازلة رجاله.
ورأى خالد تأهب جيوش الفرس فبقي على تعبئته التي جاء بها من الجسر الأعظم وشد بقواته عليهم، ورأى المثنى في مقدم خالد عليهم معجزة أمدهم الله بها لينصرهم، فانقلبوا من الخوف إلى اليقين بالنصر أسودا كاسرة لا تهاب الموت بل تلقاه باسمة، وهنا حقت كلمة خالد لهرمز: «إني جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون الحياة.» والتحم الجمعان، فإذا قارن وقباذ وأنوشجان يذبحون بأعين رجالهم، وإذا سيوف المسلمين تطيخ برءوس الفرس من كل جانب، وإذا الجيش الذي خيل إليه أن النصر بين يديه يفر أمام خالد وجنده إلى السفن يتخذونها مطاياهم للنجاة، وإذا المسلمون يغنمون مما تركوا ما شاء الله أن يغنموا، وحال الماء بين المسلمين وتعقبهم، فأقام خالد بالمذار وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفيء ونفل من الأخماس من أحسنوا البلاء.
نامعلوم صفحہ