كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا، ثم قال ابن إسحق بعد ذكره خبر الحماس بن قيس: فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهر، وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بني منقذ، وكانا في خيل خالد بن الوليد ﵁ فشذا عنه، فسلكا طريقا غير طريقه، فقتلا، ثم قال ابن إسحق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر قالا: وأصيب من جهينة سلمة بن الميلا من خيل خالد، وأصيب ناس من المشركين قريبا من اثني عشر أو ثلاثة عشر ثم انهزموا ... انتهى.
فإن قيل: ما ذكره ابن إسحاق من جمع سهيل وصفوان وعكرمة أناسا لقتال المسلمين بمكة يوم فتحها لا يقتضي نسبة ذلك لغيرهم من قريش، ويكون ذلك مبينا لما وقع مجملا في حديث أبي هريرة من جمع قريش أوباشا لقتال المسلمين يومئذ كما سبق ذكره.
فالجواب أنه يبعد جدا أن يكون سهيل، وصفوان، وعكرمة، انفردوا بذلك عن قومهم مع كراهة قومهم لذلك، ولعل سبب نسبة ذلك إليهم دون من لم يذكر من قومهم كونهم الداعين إلى ذلك، ولو سلم كراهة غيرهم لذلك فلا يكفي ممن كره ذلك سكوته، بل لا بد من إنكاره بالقول والفعل بأن ينحاز عمن فعل ذلك ويعلم به الإمام، ولم يرد خبر تقوم به حجة تدل على أن أحدا من أهل مكة أنكر على سهيل، وصفوان، وعكرمة فعلهم هذا، ولا على التزام من كان بمكة من المشركين، ترك قتال المسلمين عند فتح مكة، ولو وقع ذلك لحفظ كما حفظ ما كان يشبه ذلك مما جرى في عام الحديبية، والله أعلم.
وإذا لم يقم دليل على التزام أهل مكة ترك قتال المسلمين يوم فتحها، وقام الدليل على فعلهم بخلاف ذلك من جمعهم لقتال المسلمين: تعين أن يكون فتح مكة عنوة، كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة، فمن ذلك قوله ﷺ في حديث أبي هريرة السابق: "ترون أوباش قريش وأتباعهم" ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى، ثم قال: "حتى توافوني بالصفا" قال: فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا، قال فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، ثم قال ﷺ: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" ١.
وقال مسلم في بعض طرق هذا الحديث: حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا بهز، حدثنا سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد، وزاد في الحديث، ثم قال بيديه بإحداهما على الأخرى: "احصدوهم حصدا".
_________
١ أخرجه مسلم "الجهاد: ١٧٨٠".
1 / 52